ليس جديداً أن تكون الساحة الدبلوماسية الدولية قاصرة أمام جرائم الحرب وانتهاكات حقوق الإنسان، لكن مراجعة الشهر المنقضي منذ هجمة «طوفان الأقصى» التي شنّتها حماس على كيبوتزات ومواقع عسكرية في غلاف غزّة، وللحرب الانتقامية الشرسة التي تشنّها إسرائيل على القطاع، تشير إلى مستوىً جديد من الجمود الدبلوماسي العام، وإلى تخلّي أقطاب عالمية كبرى عن الرهان على الدبلوماسية والوساطات حتى على المستوى اللفظي، واحتضانها بشكل سافر لجرائم حرب موصوفة تُرتكَب أمام أعين مليارات البشر. شهرٌ كامل وما يزال السجال الدولي واقفاً عند الحديث عن «هدن إنسانية»، وسط تشنج دبلوماسي كبير عند مصطلحات «وقف إطلاق النار» أو «وقف العدوان»، وغياب تام لنقاش مسألة الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي وانتهاك حقوق الشعب الفلسطيني دون أي حساب.
الولايات المتحدة وبريطانيا
«منذ حصول العمليات الإرهابية رأينا كيف وُصِفت على أنها 11 أيلول (سبتمبر) الإسرائيلية، لكن وحدات القياس مختلفة بالنسبة لأمة بحجم إسرائيل، إذ كانت بحجم خمسة عشر 11 أيلول مجتمعة». يفيد هذا التصريح للرئيس جو بايدن، في مؤتمر صحفي عُقد في البيت الأبيض في 18 تشرين الأول (أكتوبر)، في تصوير مدى التماهي الأميركي مع الصدمة الإسرائيلية إثر عملية «طوفان الأقصى». قبلها بأسبوع كان الرئيس بايدن قد وصف هجوم حماس على مواقع عسكرية وكيبوتزات في غلاف غزة بأنه «الأعنف ضد اليهود منذ الهولوكوست» في اليوم ذاته الذي أوضح فيه وزير الخارجية أنطوني بلينكن لدى وصوله إلى إسرائيل أنه «قادمٌ كيهودي». تنفع هذه التصريحات كنموذج عن الموقف الأميركي خلال الحرب الإسرائيلية على غزّة: هذه ليست مجرد «جولة جديدة»، إذ أن هَول ما حصل على إسرائيل يقتضي خطوات أميركية إضافية من أجل خلق واقع جديد في قطاع غزّة. تُشير تقارير صحفية إلى وجود تباينات أميركية-إسرائيلية حول شكل هذا «الواقع الجديد» في غزة وفي الشرق الأوسط عموماً، لكن عنوان «هزيمة حماس» ما زال مشتركاً بينهما.
وضعت الولايات المتحدة دفعات عديدة من معدات عسكرية ومعونات مالية تحت تصرّف إسرائيل، وضمنت تقديم الدعم لها حتى تحقيق الأهداف من المعركة. وعدا ذلك، حرّكت الولايات المتحدة، بالتنسيق مع بريطانيا، جزءاً من أسطولها في المتوسط، بما فيه حاملة طائرات، بغية توجيه رسالة حازمة لإيران وحزب الله بعدم التصعيد ومدّ نطاق الحرب إقليمياً، كما عززت معداتها ومضاداتها الجوية في قواعدها في سوريا والعراق لحمايتها من هجمات الفصائل الموالية لإيران في البلدين، التي تضاعفت خلال الأسابيع الأخيرة.
وعدا العون العسكري والمالي المتدفق نحو إسرائيل، تولّت الولايات المتحدة مهمة صدّ الضغوطات لفرض وقف إطلاق نار، حتى لو كان مؤقتاً ولأسباب إنسانية في المحافل الدولية. وفي حين ليست هذه المهمة بالأمر الجديد على الإدارات الأميركية، إلا أن المدى الزمني والبشري للصلابة في رفض المساعي الدبلوماسية أكبر بكثير من أي جولة سابقة، كما أن عدد القوى الغربية المنضوية بوضوح حاسم تحت الجهود الأميركية لرفض وقف إطلاق النار غير مسبوق، فلطالما قامت الولايات المتحدة بهذه المهمة لوحدها لصالح إسرائيل خلال العقود الماضية.
ومع التقارير عن التباينات حول تفاصيل الأهداف العسكرية، تتالت في الأيام الأخيرة علامات خلافات ضمن الحزب الديمقراطي الحاكم حول التكتيكات والأهداف العسكرية والسياسية لإسرائيل، وانتقادات لطريقة الدعم الأميركي الحالي لها. وقد عبّرَ الرئيس السابق باراك أوباما في مناسبتين عن مواقف أقل حسماً في انحيازها لإسرائيل وأكثر تفهُّماً للواقع الفلسطيني من خطاب الإدارة الأميركية الحالي، الرافض لأي شرح سياقي لهجمة حماس في السابع من تشرين الأول. ورغم أن هذه السجالات مُرشّحة للنمو في الأيام والأسابيع المقبلة مع طول أمد الحرب وازدياد الكلفة الإنسانية لها، إلا أنها لا تبدو الآن قريبة من أن تحقق تحولاً في الدعم الأميركي الحاسم للأهداف الإسرائيلية العسكرية والسياسية.
وكما هو معتاد، تماهت المملكة المتحدة مع الولايات المتحدة بالكامل، أكان على صعيد الموقف السياسي، كما تبدّى في زيارة رئيس الوزراء البريطاني إلى إسرائيل بُعيد هجوم حماس؛ أو بالدعم اللوجستي والعسكري الذي قدّمته بريطانيا لإسرائيل. وعدا ذلك، تماهت أوساط حزب المحافظين مع النقد الذي وجَّهته إسرائيل على لسان رئيسها لشبكة بي بي سي لما اعتبره تغطية غير منصفة لإسرائيل. وثمة بُعدٌ محلّي في نهج حزب المحافظين خلال هذه الأزمة، إذ يسعى الحزب الحاكم، والذي يعيش أدنى درجات الدعم الشعبي حسب استطلاعات الرأي، للاستثمار في تصدّعات ممكنة ضمن الحزب العمّالي المنافس على خلفية الحرب على غزّة، فهو من جهة حزبٌ يساريٌ والتعاطف مع فلسطين ضمنه أعلى منه في الأوساط اليمينية، ومن جهة أخرى فهو يحوي في صفوفه أعداداً كبيرة من ذوي الأصول العربية والمسلمة، ومن ناحية ثالثة ما زال يعاني ارتدادات قضية «معاداة السامية» التي عصفت به خلال نصف العقد الأخير، وأضعفت زعيمه السابق جيرمي كوربن بشكل كبير. لم يحد كير ستريمر، زعيم الحزب العمالي، عن خطّ الحكومة البريطانية الداعم لإسرائيل، واستنكر الدعوات لوقف إطلاق النار، لكن السجال داخل حزبه بات علنياً، وتتالت أخبار الاستقالات في صفوفه احتجاجاً على موقف الحزب من الحرب على غزة.
الاتحاد الأوروبي: شأن داخلي
ثمة سجالات سياسية داخلية كثيرة حول الموقف من الحرب الإسرائيلية على غزّة ضمن الاتحاد الأوروبي كمؤسسات، وضمن دوله الأعضاء كذلك. لكن تَغيُّرَ نبرة الخطاب وحدّته ضمن الاتحاد الأوروبي مقارنةً بمواجهات عسكرية سابقة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، أو مع حزب الله في حرب عام 2006، هو الأكبر ضمن الطيف الغربي. قسمٌ كبيرٌ من هذه التحوّلات ناتجٌ عن موقف غير مسبوق في قسوته من ألمانيا، كبرى دول الاتحاد الأوروبي، أكان عبر مواقف وتصريحات المستشار أولاف شولتز في البرلمان الاتحادي أو خلال زيارته إلى إسرائيل. وقد تُرجم هذا الموقف الحاد في تضامنه مع إسرائيل داخلياً عبر تضييق على الاحتجاجات المُتضامنة مع فلسطين، ومداولات بقيادة الحزب المسيحي الديمقراطي المعارض تطالب بتشديد قوانين اللجوء والهجرة والجنسية لتحوي مواداً تُطالب بالاعتراف بإسرائيل من أجل «مكافحة العداء للسامية». وفي وقتٍ يشهد التحالف الحاكم أزمة في دعمه الشعبي، ويصعد حزب البديل من أجل ألمانيا في استطلاعات الرأي إلى المرتبة الثانية بعد المسيحي الديمقراطي وقبل أحزاب التحالف الحاكم الثلاثة، باتت هناك أوانٍ مستطرقة واضحة ما بين الموقف الرسمي المنحاز لإسرائيل وتبنّي خطاب عدائي ومتشكك تجاه المهاجرين العرب-المسلمين من قبل التحالف الحاكم والحزب المسيحي الديمقراطي بطريقة أوضح وأكثر حدّية مما قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر). نجد أمثلة على ذلك في تصريحات شولتز نفسه عن الحاجة لـ«توسيع نطاقات الترحيل»، وفي خطاب نائبه روبرت هابك، من حزب الخضر، والذي خصَّصَ خطاباته وتصريحاته في الأيام الماضية لمُساءلة الجمعيات الإسلامية ولإدانة «المظاهرات الإسلامية» في برلين وغيرها، والتي تقتضي «إجراءات حازمة»، حسب قوله. بدورها، أصدرت فرنسا مواقف رسمية حازمة في انحيازها لإسرائيل، إلى درجة مطالبة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بمدّ صلاحيات التحالف الدولي لمحاربة داعش ليكون قادراً على تقديم الدعم لإسرائيل في حربها ضد حماس. وقد تزامن هذا الموقف الدولي لفرنسا مع هجومٍ قاسٍ لوزير الداخلية الفرنسي، جيرالد دارمانين على كريم بنزيمة، على خلفية موقف اللاعب الفرنسي ذو الأصول الجزائرية الداعم لفلسطين. وبنزيمة، بمظهره وسيرته وتديّنه ومواقفه السياسية، هو هدف معتاد لهجمات اليمين الفرنسي المعادي للهجرة. وقد امتدت مفاعيل الحرب الإسرائيلية على غزّة في السياسة الفرنسية لتصل إلى أزمة كبرى داخل التحالف اليساري المناهض لماكرون، بقيادة جان لوك ميلانشون. وفي ديناميكية مشابهة من الربط بين الانحياز التام لإسرائيل والقسوة تجاه المهاجرين العرب-المسلمين، تنشط جورجيا ميلوني رئيسة الوزراء الإيطالية على الساحة الدولية في سعيها للاستثمار داخلياً وأوروبياً في الانحياز لإسرائيل للتخلص من أشباح الأصول الفاشيّة لحزبها، ولبناء تحالفات أوروبية تتجاوز أسرة اليمين المتطرف الأوروبي نحو أجزاء من اليمين المحافظ التقليدي إزاء الانتخابات الأوروبية العام المقبل. وفي حين تأخذ دول مثل إسبانيا وإيرلندا ولوكسمبورغ مواقفاً متمايزة عن ثلاثي ألمانيا وفرنسا وإيطاليا، تقود هنغاريا الانحياز الأوروبي الشرقي لحكومة نتنياهو، في استمرار لعلاقة توثّقت خلال السنوات السابقة.
وثمة أربعة أمثلة توضح مدى التباينات بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي حول السياسة المتّبعة حيال الحرب على غزّة. وقد ظهر أولها مع إلغاء قرارٍ بوقف تمويل المؤسسات الفلسطينية أصدره مفوّض التوسّع والجوار، الهنغاري أوليفر فارهيلي، بعد اجتماع لمجلس وزراء خارجية الدول الأعضاء؛ وثانيها مع استياءات متعددة المستوى صدرت ضمن مؤسسات الاتحاد للمواقف الحادّة والمنفردة التي قدّمتها أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، وظهرت للعلن وبوضوح غير معتاد ضمن السياسة الاتحادية خلال جلسة في البرلمان الأوروبي على لسان المفوض السامي للسياسة الخارجية، الإسباني جوزيب بوريل؛ وثالثها في الاستعصاء الكبير الذي عاشه المجلس الأوروبي (مجلس قادة الدول الأعضاء) للخروج بموقف موحّد، ما أخّرَ 19 يوماً صدور «موقف حدود دنيا ومتجنّب للعبارات الإشكالية» (مثل المطالبة بوقف إطلاق النار)؛ ورابع الأمثلة نجده في تباين تصويتات الدول الأعضاء على قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة المُطالب بهدنة إنسانية في القطاع، فمع أنه لا توجد أعراف تُجبر الدول الأعضاء على التصويت باتجاهٍ واحد في المحافل الدولية، إلا أن المعتاد هو التصويت كمجموعة واحدة، ويندر أن يُكسَر هذا الإجماع، وخصوصاً بالشكل الذي تم في السادس والعشرين من تشرين الأول (أكتوبر)، يوم التصويت على القرار.
ليست الخلافات الأوروبية الداخلية، وعطالة المؤسسات الاتحادية عند حصولها، بالأمر الجديد، لكن قلّما أبدت المؤسسات الاتحادية ومجموع الدول الأعضاء هذا القدر من التخبّط والتناقض. والجديد أيضاً هو هذا القدر من رفض الدبلوماسية والحلول التفاوضية، والإصرار على أولوية الحسم العسكري الكامل ضمن أوساط أوروبية معاصرة، بُني خطابها وبنكُ مفرداتها في فترة ما بعد انهيار جدار برلين على أولوية «خفض التصعيد» دوماً لصالح «المسارات التفاوضية»، واعتبار المواجهات العسكرية «فشلاً» بالتعريف. قد يكون استفظاعُ ما حصل في كيبوتزات غلاف غزّة والتماهي مع الضحايا والمخطوفين، ذو العتبة المنخفضة مقارنةً بالتماهي مع الضحايا الفلسطينيين، سبباً أساسياً في هذا الموقف الحازم والقاسي، ولكن لا شك أن ثمة دوراً كبيراً للحرب الروسية على أوكرانيا في إدخال المنطق العسكريتاري التعبوي في الخطاب الأوروبي. الحرب الإسرائيلية الحالية على غزّة هي أول أزمة كبرى تحصل في المجال الحيوي الأوروبي بُعيدَ الغزو الروسي لأوكرانيا، وثمة ضرورة لفحص ارتدادات هذه الحرب على طريقة تعاطي الأوروبيين مع أزمات أخرى، أكان مع الأزمة نفسها، أو ارتداداتها داخل السياسة الاتحادية أو سياسة الدول الأعضاء نفسها.
الدول العربية
عربياً كان الموقفان المصري والأردني حاسمَين لجهة رفض أي طروحات ومشاريع لتهجير الفلسطينيين من غزة إلى سيناء، ويبدو أن هذا الموقف الحاسم نجح في إخراج المسألة من النقاش، لكنه لم ينجح حتى الآن في فرض المعادلة التي توقف تمهيد الأرض أمام مشروع الإبادة والتهجير الإسرائيلي، بمعنى أنه لم ينجح في تقديم مشروع أو خطة يمكن أن تقود فعلاً إلى وقف المذبحة، ولا في فرض إدخال المساعدات الإنسانية اللازمة إلى غزة.
إلا أنه تكوّنَ حولَ هذا الموقف المصري الأردني موقفٌ عربيٌ يحمل لواء المطالبة بوقف النار، ويرفض نقاش «مستقبل غزة بعد القضاء من حماس» على نحو ما طرحَ وزير الخارجية الأميركية مؤخراً في عمّان، عندما رفض الجانبان المصري والأردني نقاش هذه المسألة، وكرّرا إصرارهما على تنفيذ مطلب وقف إطلاق النار قبل نقاش أي شيء آخر. تبدو المواقف العربية إجمالاً داعمة لهذا الخط رغم وجود تباينات مرتبطة أساساً بالموقف من حماس والموقف من التطبيع مع إسرائيل، وإن كانت هذه المواقف لا تزال غير فعّالة لجهة وقف المذبحة حتى الآن، إلّا أنها تتكون حولها عودة إلى «محور اعتدال عربي» أكثر تصادماً مع الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل مما كانت عليه نسخة محور الاعتدال القديمة.
تنعقد قمة عربية طارئة في الحادي عشر من شهر تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري من أجل غزة، وستكون هذه القمة استحقاقاً مهماً لأن نتائجها ستحدّد ما إذا كانت الفعالية السياسية العربية ستتجاوز رفض تهجير الفلسطينيين من ديارهم مجدداً.
روسيا: إبعاد الأنظار عن أوكرانيا
بُعيد زيارة إلى موسكو أجراها وفد من حركة حماس، يرأسه موسى أبو مرزوق عضو المكتب السياسي للحركة، قال وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف إنّ القضاء على حركة حماس سيؤدي إلى دمار قطاع غزة وقتل معظم من فيه من المدنيين، وحثَّ الإسرائيليين على التفاوض لوقف إطلاق النار، مذكراً بأنّ حل الدولتين أصبح اليوم أبعد مما كان سابقاً.
لم تلتفت موسكو للاحتجاجات الإسرائيلية على استقبال وفد حركة حماس، وتابعت انتقادها للقصف الإسرائيلي على غزة، كما كانت قد تقدمت في الأيام الأولى للحرب بمشروع قرار إلى مجلس الأمن لوقف إطلاق النار، علمت بأنّه سيواجَه بفيتو أميركي.
لم تؤيد موسكو سابقاً العمليات العسكرية التي تقوم بها إسرائيل في غزة، وسبق أن وجهت انتقادات لها في الحروب التي جرت سابقاً، لكنّ حضور نائب وزير الخارجية الإيراني خلال زيارة وفد حماس، والحديث عن تنسيق ثلاثي بين الأطراف، يخرق على ما يبدو خطَّاً لم ترغب روسيا بتجاوزه سابقاً بهدف الحفاظ على علاقات مع إسرائيل، وهي علاقات وصلت إلى مستويات عالية من التنسيق بعد فوز بنيامين نتنياهو مجدداً في انتخابات عام 2015 وبدء التدخل الروسي في سوريا في ذات العام، لكنّ موقف تل أبيب الرافض للحرب على أوكرانيا، وإن بتحفظ وبحرارة أقل بكثير من الموقف الغربي، أدَّى تدريجياً إلى تراجع مستوى هذه العلاقة بين الطرفين.
بالمقابل، فإنّ القطيعة الغربية مع موسكو والعقوبات الاقتصادية عليها بعد غزو أوكرانيا كانت أحد الأسباب التي جعلتها تعتمد بشكل كامل على تحالفاتها مع دول مثل إيران والصين، وهو ما يجعل موقفها ينزاح بشكل تلقائي نحو دعمٍ أكبر لحلفاء هذه الدول في المنطقة. وقبل كل شيء فإنّ فلاديمير بوتين، الذي يحلم باستعادة أمجاد الاتحاد السوفييتي في المنطقة، عليه أن يخطو خطوات أكبر تجاه ما يسمى بحلف المقاومة في المنطقة للحصول على فرصة للمشاركة أكثر في صناعة سياسة المنطقة.
كما أنّ موسكو ستستفيد بلا شك من التصعيد في غزة، إذ ستُبعد هذه الحربُ الأنظار عن أوكرانيا وما يجري فيها، سواءً من انتهاكات تقوم بها قواتها أو أي تطورات عسكرية لصالحها أو بالعكس، وهو ما يفيد في تخفيف الضغط السياسي على قواتها هناك.
تركيا الحائرة
لعلّ أحسن ما يُوصف به الموقف التركي من الحرب في غزة هو الحيرة والتردد، خاصةً خلال الأيام الأولى من الحرب، حيث فضَّلت أنقرة اتخاذ موقفٍ مناهض للعملية بحياء، مقابل عدم الانخراط بالتضامن الغربي مع إسرائيل تماماً. لكنّ هذا الموقف الذي لم يفِ بالغرض مع الإسرائيليين أضرّ بموقف أنقرة بين حلفائها في المنطقة، والتي كانت حركة حماس ولسنوات طويلة تُعَدُّ جزءاً منهم.
وأمام اقتراب استحقاق الانتخابات البلدية التي يعول فيها حزب العدالة والتنمية على استرجاع بلديات رئيسية خسرها سابقاً مثل بلديات أنقرة وإسطنبول، وتصاعد الغضب الشعبي في الشارع التركي ضد الانتهاكات الإسرائيلية في غزة، أصبح التحول التام نحو الموقف الناقد لإسرائيل لا بد منه بالنسبة لرئيس شعبوي مثل أردوغان.
وعلى الرغم من أنّ هذا الموقف قد يعود عليه بنتائج إيجابية سريعة من حيث ارتفاع شعبيته بين الأتراك، إلا أنّه قد يقود إلى خسارة تركيا فرصة توقيع اتفاقية مستقبلية مع إسرائيل لإيصال غازها إلى أوروبا عبر تركيا، وهو ما يعني خسارة اقتصادية كبيرة بالنسبة لأنقرة.
قد يكون أردوغان مدركاً لذلك، لكنّ الاصطفاف الحدي والعنيف للمواقف الدولية بخصوص هذه الحرب وعملية «طوفان الأقصى» لم يترك مجالاً كبيراً لتركيا لاتخاذ موقفٍ وسطي، وما كان يمكن الاستمرار فيه دون خسارة الكثير في الداخل والمنطقة، في الوقت الذي لم تكن مكاسب مثل هذا الموقف مؤكدةً أبداً.
إيران وميليشياتها
سارعت طهران بعد عملية «طوفان الأقصى» إلى نفي علمها بمخطط حماس لتنفيذ هذه العملية، على أنّ بعثتها إلى الأمم المتحدة أصدرت بياناً في التاسع من شهر تشرين الأول (أكتوبر) الماضي أشارت فيه إلى أن عملية حماس «تشكل دفاعاً مشروعاً تماماً في مواجهة 7 عقود من الاحتلال القمعي والجرائم البشعة التي ارتكبها النظام الصهيوني غير الشرعي».
وعقب التحذيرات الغربية، وخصوصاً الأميركية، لإيران من «محاولة توسيع الصراع»، وبعد وصول تعزيزات عسكرية أميركية تشمل مقاتلين وحاملات طائرات وأخيراً غواصة نووية إلى منطقة الشرق الأوسط، قال وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان إن بلاده «لا تسعى لتوسيع دائرة الحرب في المنطقة، لكن مواصلة قتل النساء والأطفال ستؤدي إلى نفاد صبر قوات المقاومة وشعوب المنطقة».
من جهتها، قالت الولايات المتحدة الأميركية على لسان وزير خارجيتها أنتوني بلينكن إنه «لا دليل على وقوف إيران وراء الهجوم الذي شنته كتائب القسام التابعة لحركة حماس على إسرائيل، رغم وجود علاقات بين حماس وطهران».
وبموازاة ذلك، تقوم ميليشيات تتبع لإيران أو تتلقي الأوامر والتمويل منها بعمليات استهدافٍ محدودة ضد قواعد أميركية في العراق وسوريا بشكلٍ متكرر، كما أطلقت ميليشيا الحوثي في اليمن عدداً من الصواريخ البالستية والطائرات المُسيَّرة نحو ما وصفتها «بالأهداف الأميركية والإسرائيلية» دون أن تتسبب بأضرار.
وتتركّز الجبهة الأكثر سخونةً لأتباع طهران في الجنوب اللبناني، إذ تشهد المنطقة عمليات قصف متبادلة محدودة النطاق ضمن ما يُعرف بـ«قواعد الاشتباك»، على أن هذه القواعد باتت أعلى سقفاً من تلك التي سادت منذ حرب تموز (يوليو) 2006، إذ سقط 11 ضحية من المدنيين اللبنانيين وإسرائيلي واحد نتيجةً لذلك، بالإضافة إلى قتلى وجرحى من عناصر ميليشيا حزب الله ومن جيش الاحتلال الإسرائيلي. كما سمح حزب الله لكتائب القسام-لبنان التابعة لحماس بإطلاق عددٍ من الصواريخ باتجاه المستوطنات الإسرائيلية في الجليل.
ويوم الجمعة الفائت، ألقى حسن نصر الله زعيم ميليشيا حزب الله كلمةً في تعليقٍ أول له على العدوان الإسرائيلي على غزة، لم تحمل أكثر من قراءة تحليلية لما يحصل على الجبهتين الفلسطينية واللبنانية، متوعداً إسرائيل «بردٍّ لم تشهد مثله في تاريخها في حال شنّت حرباً على لبنان»، نافياً هو الآخر أية صلةٍ أو معرفة بمخطط كتائب القسام لاقتحام مستوطنات غلاف غزة في السابع من تشرين الأول (أكتوبر).
وبالرغم من حِدّة التصريحات الصادرة عن المؤسسات الإيرانية الرسمية وقيادات الميليشيات العربية التابعة لها، فمن الواضح عدم وجود نية لدخول الحرب أو توسيع ساحتها، في حين يبقى النظام السوري حليف إيران الوحيد الذي لم يصدر عنه أي تصرفٍ لافت طوال شهر من الحرب الإسرائيلية على غزة.
«الجنوب العالمي»
حافظت الصين خلال هذه الأزمة على مقاربتها الحذرة للصراع العربي-الإسرائيلي، مكتفية بإشارات عامة للقوانين الدولية والسبل التفاوضية، ومعبّرة عن استعدادها للعب دور إيجابي للوصول إلى حلول سياسية على غرار وساطتها في المصالحة السعودية- الإيرانية. وقد صوّتت الصين لصالح قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة بخصوص الهُدن الإنسانية في السادس والعشرين من الشهر الماضي. وعلى القرار ذاته، امتنعت الهند عن التصويت في موقفٍ بدا أكثر وسطية مما تُظهره السياسة الهندية خلال الأسابيع الأخيرة، فقد شهدت الهند خلال فترة حكم نارندرا مودي تحوّلاً كبيراً باتجاه الانحياز لإسرائيل في أوانٍ مستطرقة، هنا أيضاً، مع السياسة الداخلية المعادية للمسلمين في الأوساط القومية الهندوسية التي يتزعّمها مودي. ويتجاوز أثر الهند في الصراع موقفها السياسي كدولة كبرى، نحو دور فاعل وضخم للنشطاء القوميين الهندوس في حرب الفضاء الافتراضي لصالح إسرائيل.
أما في أميركا اللاتينية فقد صعَّدَت غالبية الدول من انتقاداتها لإسرائيل، إذ صدرت مواقف تدينُ للعدوان على غزة وتطالب بوقف لإطلاق النار من المكسيك والبرازيل والأرجنتين، وصولاً لسحب دبلوماسييها وقطع العلاقات، كما فعلت تشيلي وبوليفيا بالترتيب. وفي حين حافظت إسرائيل على دعم الباراغواي، خسرت في هذه الجولة كولومبيا، حليفتها التاريخية الوثيقة في القارة، التي استدعت سفيرها للتشاور.
أفريقياً، صوّتت غالبية دول الاتحاد الأفريقي لصالح قرار الجمعية العمومية لصالح الهُدن الإنسانية، وأصدر الاتحاد الأفريقي بياناً مشتركة مع جامعة الدول العربية، أدان فيه بشدّة القصف الإسرائيلي على قطاع غزّة. وقد أعلنت جنوب أفريقيا والتشاد يوم أمس استدعاء سفرائها في إسرائيل «للتشاور».
الأمم المتحدة
منذ اللحظات الأولى للحرب، عبّرت إسرائيل عن تبرّم من تصريحات الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيرش، حين عبّر عن «ذعره» من مخططات تطويق غزّة التي عبّرت عنها القوات الإسرائيلية حينها، ليتحول هذا إلى غضب شديد ومطالبة بالاستقالة وتهديد باتخاذ إجراءات ضد الأمم المتحدة إثر تعبير غوتيرش عن أن «هجمات حماس لم تحصل في فراغ»، وإشارته إلى سياق الاحتلال والاستيطان والاعتداءات المتواصلة على الفلسطينيين طوال عقود.
وقد صعّدت الأمم المتحدة ووكالاتها الإنسانية من حِدّة انتقاداتها لإسرائيل خلال أسابيع الحرب، وصولاً إلى بيان مشترك غير مُعتاد لرؤساء الوكالات تطالب إسرائيل بوقف حربها، تزامنت مع تصريحات أكثر حزماً من المعتاد لمارتن غريفيث، وكيل الأمين العام للشؤون الإنسانية. ورغم علو صوت التصريحات والبيانات ورسائل الاستقالة احتجاجاً على الحرب الإسرائيلية على غزّة، إلا أن الأمم المتحدة عاجزة على إحداث تغيير حقيقي على الأرض، بل إنها عجزت حتى عن حماية الأبنية التابعة لها في القطاع، وعن تحقيق أدنى قدر من الحصانة لكوادرها، فالحرب الإسرائيلية الحالية هي الأكثر حصداً لأرواح كوادر الأمم المتحدة حتى الآن، وذلك خلال شهر واحد فقط.
تتوالى المواقف الدولية المستنكرة للفظائع التي ترتكبها إسرائيل في غزة، آتية بشكل أساسي نتيجة ضغط الرأي العام الذي يشاهد الموت اليوم لمدنيي غزّة، وخصوصاً الأطفال، بذعر، حتى ضمن الأوساط التي استهولت عملية حماس والفصائل والجماعات الأخرى في غلاف غزّة. وثمة تساؤلات عن مدى مقدرة حلفاء إسرائيل على الصمود في موقفهم المتصلّب مع توالي المجازر والفظائع وازدياد الضغوطات لوقف المذبحة. يرى إيهود باراك، رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، في حوار مع بوليتيكو أن لدى إسرائيل أسابيع فحسب قبل أن تضطر للرضوخ للضغوط الدولية، ويزيد بعض المحللين من هذه المدّة أو ينقصون منها حسب معطياتهم وزوايا تحليلهم. ما لا شك فيه أن العطالة الأممية في هذه الجولة، بعجزها عن إنجاز هُدن إنسانية أو إدخال مساعدات غذائية ودوائية ومياه، أو حتى الحفاظ على حد أدنى من الرهان على الدبلوماسية، حتى لو كان رهاناً لفظياً، كانت أشد وطأة وأكثر عنفاً من العطالة المزمنة أمام أي جولة سابقة، وبشكلٍ يبدو أنه تأسيسيٌ لمرحلة جديدة من الاحتضان الدولي للفظاعة.