«حسم خاص للعائلات»، «جواز سفر بسعر التكلفة»، «تخفيضات على جوازات السفر»؛ تنتشر هذه العينة من الإعلانات على صفحات فيسبوك السورية منذ شهور بهدف التسويق للسمسرة على استصدار جوازات السفر، وتعود هذه الإعلانات لأشخاص يستخدمون حسابات حقيقية أغلب الأحيان، وأسماء مستعارة في بعض الأحيان.
ليست السمسرة مشكلة جديدة في خدمات القطاع الحكومي السوري، إلّا أنها مؤخراً باتت علنية ومنتشرة على صفحات التواصل الاجتماعي، وتقدّمها مكاتب ومحلات تجارية مختلفة في مناطق سيطرة النظام، وتتكثّف اليوم خصوصاً مع أزمة الحصول على جواز السفر.
سنتان على أزمة جوازات السفر
مع استمرار أزمة استصدار جواز السفر السوري للعام الثاني على التوالي بذرائع مختلفة، والتي بدأت مع ادعاءاتٍ بتأثير انتشار فيروس كورونا؛ ثم تحميل العقوبات المفروضة على النظام السوري سبب تأخير الجوازات؛ وأخيراً اكتفاء وزير الداخلية محمد الرحمون بالقول إن «التأخير يعود إلى أسباب فنية خارجة عن إرادة الوزارة»، انتشرت أقاويل مؤخراً وعدت بحلّ هذه المشكلة، كان أبرزها لقاء معاون مدير الهجرة والجوازات العميد إبراهيم ونوس في الإدارة العامة فرع الزبلطاني مع الممثل باسم ياخور في فيديو انتشر مطلع الشهر الفائت بعنوان «رحلة العذاب للحصول على جواز السفر السوري».
يفتتح ياخور بمشهد درامي يتوسط غرفة مليئة بجوازات السفر، ويبدأ بتوبيخ كل شخص تأخَّرَ في استلام جواز السفر، ويلي ذلك مقاطع تشويقية ولقطات من ازدحام فرع الهجرة قبل أن يبدأ مقابلته مع ونوس، الذي قال: «متوفر حالياً ما لا يقلّ عن مليوني جواز سفر جاهز للطباعة، وكل يوم تطبع الفروع داخل القطر نحو 7000 جواز سفر»، متعهّداً بانتهاء الأزمة خلال يوم أو يومين، شهر أو شهرين، دون أن يُلزم نفسه بموعدٍ محدد.
هل سرّعت المنصة الإلكترونية استصدار الجوازات؟
في تموز (يوليو) 2022، أطلقت وزارة الداخلية بالتعاون مع وزارة الاتصالات والتقانة خدمة منح جواز سفر جديد وتجديد جواز سفر سابق عبر بوابة مركز خدمة المواطن الإلكتروني. حملت هذه البوابة شكلاً منظماً أكثر من المنصة السابقة، وهي تُقدِّم أربعين خدمة لاستصدار وثائق حكومية منها الحجز على جواز السفر.
وفي شهر آب (أغسطس) الماضي، أصدرت إدارة الهجرة والجوازات في وزارة داخلية النظام تعميماً موجهاً إلى رؤساء فروع وأقسام الهجرة والجوازات في المحافظات، طلبت فيه: «عدم قبول طلبات الحصول على جواز سفر للمواطنين داخل القطر (فوري أو مستعجل أو عادي) إلا عن طريق مركز خدمة المواطن الإلكتروني (المنصة) حصراً».
تُضافُ آلية منح جواز السفر الفوري حديثة العهد هذه إلى آليّتين: جواز السفر العادي وفق نظام الدور وجواز السفر المستعجل. وتتماثل الأنواع الثلاث في صعوبة استصدارها، ولكنها تختلف في مدة انتظار الحصول على الجواز والرسوم المفروضة بالطبع. وهي من حيث المبدأ ثلاثة إلى أربعة أشهر وفق نظام الدور العادي، وخلال يومين للفوري (داخل القطر حصراً)، والمستعجل من أسبوعين إلى ثلاثة لكنه غير فعّال حالياً.
وتبلغ رسوم استصدار جواز السفر أو تجديده للمقيمين داخل سوريا 70660 ليرة سورية للجواز العادي (5.1 دولار أميركي وفق آخر سعر صرف في السوق السوداء)، و99860 ليرة للجواز المستعجل (7.2 دولار أميركي)، وللفوري 1009970 (73.7 دولار أميركي).
تزيد مدة الانتظار في حقيقة الأمر أكثر من المتوقع بكثير، إذ تصل لغاية سنة ونصف لجواز السفر العادي، ونحو أسبوع أو أكثر للفوري، في حين يُضاف على الرسوم تكلفة السمسار لأنه يكاد يكون من المستحيل حجز موعد بشكل فردي على المنصة.
سوق السمسرة على جوازات السفر
تَحدَّثنا إلى فراس الذي أنشأ حساباً على الموقع منذ شهرين وأدخل بياناته الشخصية ووصل إلى شاشة حجز موعد على المنصة. في أغلب المحاولات يكتب له الموقع: «لا يوجد خدمة حجز جواز فوري حالياً». ووفق متابعته لسلوك المنصة خلال شهر أيلول (سبتمبر)، يُفتح التسجيل من السبت إلى الأربعاء عند منتصف الليل بشكل ثابت، وفي أوقات متقطعة من الممكن افتتاح التسجيل بين الساعة الرابعة والسابعة عصراً، إلّا أن افتتاح الموقع لا يضمن التسجيل وفقاً لتجربته، فبعد أقل من ساعة من المحاولات تنتهي حصة المركز من استقبال طلبات التسجيل لتظهر شاشة: «حاول غداً».
خلال الأسبوع الماضي أعلن مدير مديرية تقانة خدمة المواطن ماجد مرتضى أن «الحجز على الجواز الفوري أصبح مُتاحاً على المنصة على مدار 24 ساعة»، وخلال إعداد هذا التقرير حاولنا التسجيل على المنصة في أوقات مختلفة، ولكنّ ذلك كان مُتعذِّراً.
بعكس فراس، اختار حمزة الطريق القصير، لأنه لم يبقَ كثيرٌ من الوقت أمامه قبل تعميم اسمه وطلبه للخدمة الإلزامية. سمعَ عن أحد السماسرة من خلال زميله في الجامعة، فترك له رسالة على تطبيق واتساب تضمنت اسمه وعبارة «فلان أعطاني رقمك». بدأت المحادثة بالتأكّد من شبكة العلاقات للحفاظ على أمان الطرفين، وانتهت في أقل من 24 ساعة.
عند منتصف الليل اتفقا على المبلغ، يقول حمزة: «فقط مليون ليرة! التسعيرة رائعة. دفعَ عمي مقابل الجواز في الأسبوع الماضي خمسة ملايين ليرة سورية». وهذا الرقم يُدفَع فقط لحجز موعد على المنصة، ويختلف بحسب علاقات الشخص ووصوله. مثلاً، تقدم مكتبات بيع القرطاسية واللوازم المدرسية ومحلات بيع أجهزة الهواتف المحمولة في جرمانا خدمة الحجز على المنصة، وتصل تكلفة الحجز حتى خمسة ملايين، والرقم نفسه في محافظتَي الحسكة وحمص، لكن في حال تمت مراقبة عروض سماسرة فيسبوك يمكن الحصول على عرض «بسعر رمزي».
يعتمد السماسرة على طريقتين: الأولى اختراق المنصة، والتي لا تُعتبر مهمة مستحيلة وغريبة على مواقع النظام السوري، ففي نيسان (أبريل) الماضي اختُرِقَ حساب وزارة الدفاع على تطبيق تلغرام؛ أمّا الطريقة الثانية، وهي الأشيع والتي تسمح للسماسرة «بكسر سعر السوق»، فتعتمد على العلاقات داخل فروع الهجرة والجوازات، إمّا من خلال فتح الحجز في أوقات غير المُتعارَف عليها وإعلام السماسرة فقط بالتوقيت، أو التلاعب بالمنصة.
اعتمد السمسار الذي تعرَّفَ عليه حمزة الطريقة الثانية، فمن خلال علاقاته يُسهّل المعاملات حتى داخل الفرع بعد حجز موعد على المنصة. ورغم كل التسهيلات التي وفّرها حمزة لنفسه بدفع مليون ليرة إضافية، إلّا أنه تفاجأ في فرع الهجرة والجوازات بريف دمشق بأن المنصة تعرقل الآلية فحسب، وما زالت آلية استصدار جواز السفر تشابه تماماً ما عاينه قبل خمس سنين. فبعدما رفعَ جميع الأوراق المطلوبة على المنصة، بالإضافة لصوره الشخصية وصورة دفتر التجنيد، تَوقَّعَ أن يصل إلى الفرع ليستلم جوازه مطبوعاً، لكن ما حصل هو أنه وقف على الطابور لثلاث ساعات قبل أن يستلم استمارة ويعيد تعبئتها بالبيانات نفسها ثم يتوجه إلى مكتب الترجمة لكتابة اسمه باللغة الإنكليزية مقابل عشرة آلاف ليرة سورية.
وبعد كل ذلك، انتظر ثلاثة أيام للحصول على جواز السفر، لتصبح المدة الحقيقية للحصول على جواز السفر الفوري يومين أو ثلاثة في أحسن الأحوال بعد الحجز على المنصة لمراجعة الفرع وملء الاستمارة، ثم ثلاثة أيام بعدها للحصول على الجواز.
يقول حمزة للجمهورية.نت: «تَظهرُ على الموظفين في الفرع ممانعة هذا التغيير واستعمال التقانة، وهو أمرٌ طبيعي في ظل وجود جهازَي كمبيوتر فقط داخل فرع ريف دمشق. فحتى الحجز على المنصة غير مؤتمت، إذ يطلبُ الموظف طباعةَ رسالة الحجز على ورقة، وهو يبحث عن الاسم بعد ذلك في جداول مطبوعة، لتكون المنصة بالفعل غير مُجدية».
طبقات من التعقيدات والإهانة
لا تقتصر تعقيدات استصدار جواز السفر على الحصول على موافقة أمنية للشبان، أو حجز موعد المنصة، بل تتجاوز ذلك إلى عملية دفع الرسوم، التي تتم حصراً عن طريق الدفع الإلكتروني. وانطلقت خدمة الدفع الإلكتروني في سوريا منذ سنتين ونصف، وحتى الآن لا تستخدمها شريحة واسعة من السوريين رغم محاولات حكومية لكي تشمل مختلف القطاعات. وقد أكّدَ عضو مجلس إدارة غرفة تجارة دمشق محمد الحلاق في حديث لجريدة الوطن «محدودية انتشار هذه الخدمة»، وعزا ذلك إلى أن إيداع وسحب الأموال من المصارف أصبح اليوم مشكلةً بحدّ ذاته، مضيفاً أن انخفاض قيمة الليرة السورية أدى إلى عدم تفاعل المواطن مع هذه الخدمة.
وتتطلب عملية حجز موعد جواز السفر الفوري مرحلتين للدفع، الأولى دفع رسم المعاملة ومدتها ساعة، وإلا يفقد صاحب الطلب دوره، وتليها مرحلة دفع رسم الاستصدار والمدة الممنوحة أربع ساعات، وأيضاً يفقد صاحب المعاملة دوره في حال تخلَّفَ عن موعد الدفع، وهنا يأتي دور السماسرة الذين يوفّرون حسابات بنكية جاهزة لتقديم هذه الخدمة. ويتقاضى السمسار في صباح اليوم التالي المبلغ كاملاً، أي قبل استلام جواز السفر، وهو قادر على ضمان عدم تلاعب صاحب الجواز معه لأنه يمتلك كلمة مرور حسابه وبإمكانه حذف المعاملة كاملةً بكبسة زر.
حمزة وكثرٌ غيره، ممن يَعتبرون أنفسهم محظوظين لقدرتهم على دفع التكلفة، كانوا يظنون أن المنصة والتعامل مع السمسار سيجنّبهم التعامل مع عناصر الأمن في فروع الهجرة والجوازات، لكن الآلية هي ذاتها ولا بد من التعامل معهم.
زرتُ مؤخراً أحد أفرع الهجرة والجوازات لأجد عشرات النساء ينتظرنَ دورهنّ لطلب جواز سفر لهنّ ولأزواجهنّ المقيمين خارج سوريا ولأبنائهن، وبذلك يكون كل شخص في الطابور سيجري معاملات عن خمسة أشخاص أو أكثر. يسأل الموظف على الشباك: «كيف حجزت على المنصة»، فينكر الجميع دفع الرشوة واللجوء للسماسرة. كما يطلّ العناصر على المراجعين والمراجعات بشكلٍ متقطع، فينظر أحدهم ساخراً من قرابة مئة وخمسين شخصاً مجتمعين في غرفتين، فيرمي تعليقات مهينة ويسخر من أشكالهم وملابسهم، ومن نساء جلبنَ أولادهنَّ معهنَّ فأزعجه ضجيجهم.
تنفي مديرية تقانة خدمة المواطن إمكانية اختراق أو إغراق المنصة، وتؤكد أن 95 بالمئة من مكاتب السمسرة توقفت، وأن هناك ملاحقة لهذه المكاتب، ولكن ببحثٍ لا يتطلب أكثر من خمس دقائق على فيسبوك نستطيعُ العثور على عشرات السماسرة في مختلف مناطق سيطرة النظام. ومن الساخر لحظة الانتهاء من إعداد التقرير أننا أعدنا التواصل مع فراس، ليخبرنا أن قريباً له افتتح مكتباً لاستصدار جوازات سفر، وأنه سيُساعده على «تحصيل جواز بسعر التكلفة».