نحن الآن في السابع والعشرين من تشرين الأول (أكتوبر). لا شيء هنا يستحق الذكر؛ الأبواب في مكانها، والسماء في مداها، والأصوات تنطلق من حناجرها مُقتضَبة متكسِّرة، قناة الجزيرة، والمذيع وائل الدحودح مازال يتكلم بلغته الشعرية عن مآسٍ بحجم الكون والسماء رغم فقدانه أسرته، وإحدى المطربات تُسائلُ الله على حسابها في تويترقائلة له: «عاجبك كل ده؟». في خضّم كل ذلك، نسمع صوت أشخاص يصرخون في الشوارع مع صوت زمامير سيارات كثيرة، نهرع للشرفات فنجد شباباً صغاراً في السادسة عشر والسابعة عشر يرفعون أعلام حزب الله وعلماً صغيراً لفلسطين وهم يتضاحكون. تبرد النخوة فينا ونعود إلى أرائكنا ونحن نتابع ما يجري باكين حَزانى، ضائعين، مبتسمين، نعم مبتسمين، ابتسامة المهزوم طبعاً، لأننا مررنا بما يشبه ذلك وعشنا ما يشبه ذلك، ولدينا توقعاتنا المسبقة عمّا سيجري، ولدينا تصوراتنا الحزينة الكئيبة عمّا سيكون، مع رغبة دفينة، وحقيقية، وصادقة، بأن نكون مخطئين. لكننا نمضي ونتابع ما تقوله الأخبار على الجزيرة، نتابع فايز الدويري وكارمن جوخدار، وعوني بلال، وقناة العربية، ونقلب القناة حينما تظهر لنا نظارات أفيخاي أدرعي، وأقول نظاراته لأننا لن نمنحَ له حتى الوقت لنسمع صوته. نتوجه إلى هواتفنا فنقرأ أخباراً متنوعة متفجّعة وساخرة ومحلية، ونقرأ مُجدداً إحدى المطربات وهي تُسائل الله قائلة: عاجبك كل ده؟

«ورأى الرب ذلك غير حسن»أمل دنقل، سفر التكوين

في الحادي عشر من أكتوبر قالت زميلتي في العمل (التي نخشاها جميعاً) وهي ترتجف فعلياً: إنّ الإسرائيليين مجرمون. وافقناها جميعاً بكل صدق وإخلاص. قالت الثانية إنها لم تستطع النوم لدقيقة واحدة ليلة أمس بسبب صور الأشلاء التي تُلاحقها، وقال زميلنا إنه بات يخشى على زوجته الحامل من شدة تأثُّرها بما يحصل، وهتفَ آخر بأن إسرائيل قصفت مطار دمشق ما جعل الوزير الإيراني يغير مسار زيارته إلينا ويعود أدراجه، وقالت زميلتنا التي نخشاها جميعاً: هذا أفضل و«ان شالله ما بيرجع». توقفّتْ صورة وجوهنا لثوانٍ وتابعنا حديثنا وكأننا لم نسمع ما قالت، لكننا في الواقع شعرنا جميعاً بمشاعر متضاربة بخصوص أن نكون قادرين على تقريع إسرائيل لفظياً وغيابياً على أفعالها الإرهابية بالغزاويين، لكننا خَرِسون صامتون غافلون مُتهرِّبون من كل ما حصل ويحصل بنا.

«ورأى الرب ذلك غير حسن»

في الخامس من أكتوبر كان شابٌ أسمر، بمُثبّت شعرٍ كثيف وبنطال ضيّق جداً من أسفل ركبتيه، يترجى ضابطا لبنانياً أن يسمح له بالعبور، ويحلف له أغلظ الأيمان بأن أوراق السفر التي بين يديه صادقة وغير مزورة، ولشدة حزن الشاب ترقرقت دمعة صافية في طرف عينيه، ولشدة تعاطُف السائق تدخَّلَ وقال للضابط النَعِس الغاضب: «والله الأوراق ما مزورة يا سيدي»، لكنّ الضابط وكأنه انتبه فجأة إلى هذا الرجل الذي يلبس بنطالا خاكي رسمياً ويضع سيجارة حمراً على أذنه، فصرخَ به وطلب منه الخروج فوراً. أثناء ذلك سمعنا أنا وشخصان بجانبي الضابطَ ذاته يقول عن الشاب الباكي: «شكله مش عاجبني.. مَنّي مصدقه.. مش رح دخله».

«ورأى الرب ذلك غير حسن»

في الثالث من أكتوبر وقف الجميع مثل القلم على باب إحدى الدوائر الحكومية، منتظرين إحدى الموظفات أن تنتهي من محاضرتها للموظفين المتحلقين حولها وهي تصرخ عليهم بملء صوتها وتُقرِّعهم لتقصيرهم في عملهم  وسوء معاملتهم للمراجعين، مُعطيةً لهم أمثلة حقيقية عمّا جرى في دوائر أخرى مع موظفي إحدى القرى نتيجة التخبط في العمل، إذ جرى فرزهم في قرى بعيدة عن قراهم وكان عددهنّ 200 موظفة، ونتيجة لذلك قرّرَ عدد منهنّ الدعوة لاعتصام أمام إحدى المديريات المسؤولة عن فرزهنّ. ثم تابعت بالحرف: «وإنتو بتعرفوا إنه إذا اعتصموا 200 رح يلحقهم ألف، والألف رح يلحقهم آلاف، يعني رح نرجع لـ 2011، وهادا تهديد للأمن الوطني»، وتابعت بلهجة مرعبة فعلاً: «تهديد للأمن الوطني يعني تهديد للأمن القومي، يعني أنّ المسألة خطيرة جداً وما فيها مزح». صمت الموظفون وهم يُقلِّبون كلمات الموظفة الحكومية  على وجهها وقفاها. كانت الموظفة زوجة لإحدى الضباط المعروفين على مستوى المدينة وكانت تتمتع بسطوة كبيرة، لكن الشيء المعروف عنها أنها كانت تُغيِّرُ لهجتها الحمصية العادية إلى لهجة ساحلية قوية، ما جعل الكثيرين والكثيرين جداً يكرهونها ويتهمونها علناً بالطائفية، لاسيما حين تقول للمذكر والمؤنث في نهاية كل جملة باستهزاء غالباً كلمة «يا غالي». في الاجتماع الأخير صرخَتْ بأحد الموظفين ما جعله يتوعدها بالطرد، لكنها ردّت قائلة بلهجتها الساحلية المعوجة «منشوف يا غالي»، لكن بالفعل تم طرد الموظفة، لا سيما حين وصلَ إلى أذن الوزير، ولا أعرف أي وزير، أنها متهمة بالطائفية.

«ورأى الرب ذلك غير حسن»

في الثاني من أكتوبر تحلَّقَ الموظفون حول المدير في اجتماع لتوزيع المهام. ختم المدير قائلاً لإحدى الموظفات: «مهمتك ستكون في تلبيسة». امتقعَ وجه الموظفة وصالبت يديها على حُضنها ممتعضة، وقالت وهي ترفع إصبعها في وجه المدير: «لو سمحت أستاذ، أنا ما بروح على تلبيسة». ابتسم المدير وقال لها: «ما في شي يخوِّف»، ثم تابع: «رح إتغدّى عندكم بالزهرة اليوم، معقول تدبحوني يعني؟»، ابتسمت الموظفة ابتسامة صفراء وقالت للمدير:«بتشرّفنا أستاذ، بس نحنا ما مندبح، إنتو اللي بتدبحو».

«ورأى الرب ذلك غير حسن»

في الثلاثين من أكتوبر، في حوالي الساعة السابعة والنص مساء، سمعَ الجميعُ صوت انفجار جعل الأبواب والنوافذ عند كثيرين تهتز؛ هزة أرضية، قالوا، بل صاروخ عند الحدود السورية اللبنانية، بل هي سيّارة مُفخَّخة عند مبنى الأمن السياسي. فجأةً اختفى المارة تقريباً من الشوارع، فجأة، اختفت السيارات تقريباً من الشوارع، هزّة أم صاروخ أم مفخخة؟ تناقلَ الجميع على الواتساب صورة سيارتين مُتفحِّمتين، «بلّشنا»، قال أحد الجيران الذي لطالما توقَّعَ هكذا حوادث. بعد ساعة أخرى، تناقلت الصفحات خبراً ينفي الهزة، ثم خبراً ينفي السيارة المُتفحِّمة إذ قيل إنّ الصورة التُقطت قبل الانفجار الغامض بساعات، ثم خبراً ينفي الصاروخ، ما الذي سمعناه إذن؟ لن نعرف أبداً، لا يهمّ، جاءت الكهرباء، قناة الجزيرة، وائل الدحدوح مجدداً، عتمةُ شوارع غزة، أضواءُ القذائف، الانفجارات، الشهداء، الأشلاء، مجلس الأمن، الوجوه الكالحة ذاتها، الكذب ذاته، أطفئوا التلفاز، أطفئوا الكهرباء، أطفئوا كلّ شيء واسكتوا جميعاً..

«ورأى الرب ذلك غير حسن»

في عصر الواحد والثلاثين من أكتوبر أخذتُ وقتاً لا بأس به لأتذكر الاسم الأول للشاعر درويش (سميح، يحيى، مالك…)، ولم يكن نسياني ناتجاً عن غيابه عن الذاكرة، لكني لأني رأيتُ صورة نصف وجهه بغتةً على جدار مسرح الزهراوي، وبجانبه كُتبَ جزءٌ من قصيدته وهو يأمر«هم» أن يخرجوا من برنا من بحرنا من ملحنا من جرحنا من كل شيء، وحتى من مفردات الذاكرة، (والـ«هم» هنا ضميرٌ متصلٌ يعود على الجرح منصوباً). كانت الكلمات تبدو كما لو أنني أقرؤها للمرة الأولى، كان الناس أيضاً يقفون ليتفرّجوا عليها وعلى بقية الصور التي تُناصر فلسطين على الجدران بتوقيع مدرسة النُخبة التي لم يعرف أحدٌ شيئاً عنها إلى الآن. كانت تلك واحدة من الأنشطة الأهلية التي حدثت بعد أخذ مئة موافقة أمنية عليها، أما التي لم يؤخذ موافقة أمنية عليه، فكانت عبارات صادقة كتبها طلاب ثانوية هاشم أتاسي على جدران مدرستهم، ومن ورائهم كان هناك من يحاول أن يغطيها بطبقة من الدهان وكأن الأمر مُسابقة مضحكة والرابح فيها الكلمات البذيئة، البذيئة؟ «ك*م إسرائيل» شبه ممحية، «وطن واحد قضية واحد» لم تُمحَ بعد، والأهم من كل تلك الرسومات والكلمات هو ما رأيته عند مدخل حي المُخيّم الفلسطيني، حيث بحروف شبه مكسورة كُتبت عبارة «على هذه الأرض ما يستحق الحياة»، والحياة هنا كانت بحبر غامق، والكلمة تتجه حروفها المكسرة نحو الأسفل، وكأنها معكوس الحياة، وكأنها الموت ساخراً.

«ورأى

الرب

ذلك

غير

…..»