وجوهٌ مسمّرة على شاشات الهواتف، متأهبة وخائفة. أغطية نوم في كل مكان، فُرْشُ نومٍ متناثرة هنا وهناك، حمامات مشتركة. نستطيعُ تخيُّلَ المكان كمدرسة لها ساحة كبيرة بقدرة استيعابية لا تتجاوز الـ300 إنسان، لكن الموجودين أكثر من ذلك بكثير. هكذا يبدو مُجمَّع رام الله الترويحي الذي يعيش فيه العمال الغزيون داخل الخط الأخضر، والذين طردتهم إسرائيل إلى الضفة الغربية عقب «طوفان الأقصى».
فرصة العمل المنتظرة
حسب وزير العمل الفلسطيني نصري أبو جيش، فإن 18200 عامل فلسطيني من قطاع غزة كانوا يعملون في مناطق الـ48 قبل السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، عاد 9000 منهم إلى قطاع غزة خلال الأعياد اليهودية ظناً منهم أنها إجازة ليس أكثر، ليتبقى 9200 في مناطق 48 يمارسون عملهم بشكل طبيعي.
يعيش قطاع غزة حصاراً مطبقاً منذ أكثر من 17 عاماً؛ فبعد انتخابات 2006 التي فازت فيها حماس، وبعد سيطرة حماس عسكرياً على قطاع غزة عام 2007، اعتبرت إسرائيل قطاع غزة كياناً معادياً وفرضت عليها عقوبات تمسُّ احتياجات السكان الأساسية، ما رسَّخَ سياسة عزل قطاع غزة عن الأراضي الفلسطينية في الضفة إلى جانب التحكُّم في كل ما يدخُل إلى غزة، الأمر الذي نتج عنه وضعٌ اقتصاديٌ سيئٌ للغاية، وارتفاعٌ في معدلات الفقر والبطالة.
وحسب الجهاز المركزي الفلسطيني للإحصاء، فإن معدل البطالة في قطاع غزة للعام 2022 بلغ 45 بالمئة، بينما كان في الضفة 13 بالمئة. ونسبة البطالة في غزة معرضةٌ للارتفاع بشكل كبير على خلفية الحرب.
وعلى مدار سنوات من الحصار الإسرائيلي لقطاع غزة، ومن الحروب المتتالية التي نتج عنها فقدانٌ للوظائف وارتفاعٌ في معدل البطالة والفقر، لم تَجِدْ محاولات إعادة الإعمار فرصاً حقيقية لها، فيما تضرّرَ القطاع الاقتصادي بشكل كبير نتيجة تدمير المصانع والمنشآت وغيرها من المصالح التي كانت تستوعب آلاف العمال.
قبل العام 2007، أي قبل سيطرة حماس على قطاع غزة، كانت أعداد العمال الغزيين الذين يعملون في مناطق 48 تقدر بعشرات الآلاف، لكن بعد 2007 تغيّرَ الحال ومُنِعَ أهل غزة من العمل في تلك المناطق، لتعود المفاوضات حول السماح للعمال الغزيين بالعمل فيها بعد آيار (مايو) 2021. جاء ذلك بعد «معركة سيف القدس» التي وجَّهت خلالها المقاومة الفلسطينية ضربات صاروخية إثرَ اقتحامات المسجد الأقصى ومخططات تهجير سكان حي الشيخ جراح في القدس. استمرت تلك الجولة عشرة أيام، ونجمت عنها مفاوضات عديدة من ضمنها السماح لعمال غزة في العمل في داخل الخط الأخضر مجدداً.
برزت ظاهرة عمل الفلسطينيين في مناطق الـ48 عقب احتلال إسرائيل لأراضي الضفة الغربية وقطاع غزة عام 67، واستمرت حتى الآن وفق الاعتبارات الأمنية والاقتصادية لإسرائيل. وبحسب الجهاز المركزي الفلسطيني للإحصاء، فإن نسبة العاملين من الضفة الغربية في مناطق الـ48 والمستوطنات شكلت 18.8 بالمئة من حجم قوة العمل الفلسطينية في الضفة عام 2021. بينما في غزة، ومع واقع أن العمال الفلسطينيين منها لم يسمح لهم بالعمل في أراضي 48 منذ سنة 2007 حتى نهاية 2019، فنسبتهم لم تتجاوز 0.1 بالمئة من قوة العمل الغزّية، حتى أن الذين كان لديهم تصريح عمل من غزة في عامي 2018 و2019 تجّارٌ يُقدَّرُ عددهم بـ 5 آلاف فقط. ويتركز عمل الفلسطينيين هناك في قطاعات محددة، مثل الزراعة والصناعة وأعمال التشييد والبناء.
سنة 1970 أصدر الحاكم العسكري تصريحاً عاماً يستطيع من خلاله كل العمال في الضفة وغزة دخول مناطق 48 للعمل فيها، ولاحقاً تم إلغاء هذا التصريح بموجب قانون العمالة الأجنبية لعام 1991، وأصبح على العامل أن يُصدر تصريحاً فردياً ليتمكن من العمل في تلك المناطق.
لا يمكن تجاوز أن فتح سوق العمل في مناطق 48 بالنسبة لإسرائيل مرتبط بأهداف عديدة، أهمها السيطرة على الاقتصاد الفلسطيني والتحكم فيه، وتلبية حاجة الاقتصاد الإسرائيلي، والهدف الأهم أمني بالطبع، ويتمثل في الحفاظ على راهنية الأوضاع في الضفة وامتصاص أي غضب محتمل لدى شريحة واسعة من الفلسطينيين؛ تُرسِّخُ إسرائيل في ذهن العامل أن هناك ما يمكن أن يخسره، فتُعزِّزُ تقييد الفلسطينيين اقتصادياً في ظل اقتصاد فلسطيني غير حر تحت حكم السلطة الفلسطينية.
جاء قرار عودة عمّال من غزة إلى مناطق 48 بعد خلافات عديدة بين الشاباك وجيش الاحتلال حسب تقارير منشورة، لكنه في الوقت نفسه قرارٌ يهدف بشكل ضمني إلى تطبيق الواقع نفسه الذي يُعايشه عمال الضفة من تقييد اقتصادي، لكنه كان قراراً حذراً وتدريجياً، حيث سُمح للعمال من غزة أن يتقدموا بطلباتهم من خلال مكتب الشؤون المدنية التابع للسلطة في غزة للحصول على تصاريح تحت اسم «احتياجات اقتصادية». لكن في تشرين الثاني (نوفمبر) 2021 تسلّمت وزارة العمل في غزة الأمر، وأصبحت تتابع ملف التصاريح لعمّال غزة لكن بأعداد محدود جداً. والحقيقة أنه لا حصة واضحة لغزة في التصاريح؛ ففي البداية كان الحديث عن 12 ألف تصريح ثم عادت الأرقام لتنخفض، حتى ارتفعت مرة أخرى ووصلت إلى 18500 تصريح. كانت المفاوضات المتعلقة بتصاريح العمال جزءاً من تفاهمات غير مباشرة بين حماس وإسرائيل بعد أيار (مايو) 2021.
ماذا يتبقى للعمّال بعد الحرب؟
بعد السابع من أكتوبر، طرد الاحتلال الإسرائيلي مئات العمال الغزيين الذين يعملون في مناطق 48، وألقى بهم على حواجز الضفة الغربية، وهم يتوزّعون اليوم في عدة محافظات في الضفة الغربية. وقد انتشرت فيديوهات عدة خلال الأيام الماضية تُظهر استياء العديد منهم جرّاء المعاملة التي يتعرضون لها من قبل السلطة الفلسطينية خلال وجودهم في رام الله، في الوقت نفسه الذي انتشرت فيه رسائل صوتية وفيديوهات أخرى تشير إلى أنهم مرتاحون ويتلقون معاملة جيدة.
وحسب المتطوعين الموجودين في مجمع رام الله الترويحي، فإن «الظروف المعيشية التي تم توفيرها بهذه السرعة جيدة جداً. المشكلة أن الضفة الغربية لم تكن مجهزة لواقع مشابه يحتاج تعاملاً معيناً يستوعب احتياجات العمّال المختلفة».
يقول نضال أبو الجديان (30 عاماً)، متزوج ولديه 3 أطفال: «يوم 7 أكتوبر كان عادياً بالنسبة لي، كنت على رأس عملي في الباقة الغربية. بعد عدة ساعات تم اعتقالي كأني متهم، لم يسمحوا لي بأخذ أي شيء، ولم أدرك إلى أين سأذهب أو ماذا حدث؟».
نضال من سكان مخيم جباليا في غزة، المخيم الذي تعرض لدمار كبير في الأيام الماضية، وقد استشهد عمه وابن عمته نتيجة القصف الإسرائيلي قبل يوم من المقابلة. قبل أسبوعين فقط من 7 أكتوبر، كان نضال في إجازة لمدة 3 أيام في غزة وبين عائلته؛ يقول: «ما بعرف إذا بيتي لسا موجود. بعرف إنه كل مكان حوالين البيت راح، وما بنقدر نبعت حدا يشوف البيت إذا لسا واقف لأنو ممكن يروح يموت».
حالُ نضال مثل حال عُمّال كثيرين لا يستطيعون التواصل مع عائلاتهم بسبب انقطاع الكهرباء في غزة، حتى أنه يحتاج إلى يومين أو ثلاثة حتى يسمع صوت أحد أفراد عائلته. المكالمة الأخيرة مع طفلته التي تبلغ 4 سنوات كانت لمدة ثوانٍ، قالت له فيها: «تعال عنا يا بابا».
حسب شهادات عمّال كثيرين فإن جزءاً كبيراً منهم تعرض للاعتقال عدة ساعات، وتم التنكيل بهم وضربهم وطردهم دون أن يُسمَح لهم بحمل شيء من أموالهم أو ممتلكاتهم. كثيرون من العمال كانوا مستقرين في مناطق 48 لدواعي عملهم، ولا يعودون إلى غزة إلّا إجازة مرة كل شهر أو شهرين لمدة يومين أو ثلاثة، وفجأة وجدوا أنفسهم في الشارع.
يفيد أحد العمال أنه تعرَّضَ للاعتقال والتحقيق لمدة يومين، وتم تعريضه لإجراءات قاسية جداً، حيث وُضِعَ في مكان شبيه بالقفص وتم تكبيل يديه وتغطية عينيه، ثم أُطلق سراحه وذهب إلى الضفة الغربية ليجد ملاذاً قد يبدو آمنا.
إبراهيم أسعد (60 عاماً)، وهو اسم مستعار لعامل فضّلَ إخفاء هويته، لديه 10 أبناء وبنات، يقول إنه كان في مكان آمن عند وقوع عملية طوفان الأقصى، لكن في الأيام الماضية أصبح يشعر بخطر على حياته، فاختار أن يخرج من مناطق 48 إلى مُجمَّع رام الله الترويحي. قصفَ الاحتلال الإسرائيلي بيت إبراهيم، وقتل أخاه وابن أخيه. يقول إبراهيم: «يا إحنا يا هُمّا، بكفي، يمكن أنا ما ألحق أعيش إشي، بس على الأقل خلي الأجيال الجاية تعيش بدون احتلال».
حسب جهات حقوقية، فإن عائلات كثيرة تتواصل معهم من أجل معرفة أي معلومة عن حال أبنائها من العمال، وحسب تصريحات لوزير العمل فإنه من المُرجَّح أنه تم اعتقال أكثر من 2000 عامل في مناطق 48، فيما قد يكون البعض ما زال على رأس عمله.
يصل عمّال جدد إلى أماكن استقبال العمال الفلسطينيين الغزّيين في محافظات الضفة بشكل يومي. جزءٌ منهم تقطَّعت بهم السبل ولم يستطيعوا استئجار منزل، وجزء آخر يبحث عن المواساة في أن يكون متواجداً مع أبناء مدينته الذين يشاركونه محنته.
أسامة موسى (43 سنة)، وهو اسمٌ مستعار لعامل فضّلَ إخفاء هويته، لديه 7 أولاد في غزة، يتواصل مع عائلته بصعوبة بالغة. في يوم إجراء المقابلة قصفَ الاحتلال الإسرائيلي المخبز الذي تشتري منه عائلته الخبز، وفي المكالمة الأخيرة بينه وبين ابنه الصغير لم يستطيع الرد عليه وهو ينادي عليه «بابا، بابا» إذ انقطع الاتصال. منذ ذاك الوقت وهو يحاول الاتصال، لكن الشبكة لم تسعفه. يقول أسامة: «طول ما همّا عايشين في غزة أنا بتنفس، إذا راحوا ما بظن يكون ألي وجود بعد هيك، رح أنتهي بنهايتهم».
انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي مستمرة في الضفة الغربية بتصاعد ملحوظ، وحسب نادي الأسير الفلسطيني فإن حملات الاعتقال الليلية شملت الكثير من عمال غزة المتواجدين في مدن الضفة المختلفة، لكن لا معلومات كافية عن تفاصيل اعتقالهم وأماكن تواجدهم.
المطلب المشترك عند كل العمال الذين قابلتهم هو حاجتهم للعودة إلى غزة بأي شكل من الأشكال، فرغم الظروف الصعبة المحيطة بهم، إلا أنهم لا يريدون سوى العودة والتواجد مع عائلاتهم. ويقول أحد موظفي وزارة العمل، الذي رفض الإفصاح عن اسمه، إنه يتعامل مع أمزجة مختلفة للعمال، فالبعض مزاجه حادٌّ جداً ويمكن أن يفتعل مشكلة لأقل الأشياء، والبعض الآخر غير مهتم بشيء إطلاقاً، فيما تحدَّثَ كثيرون منهم عن حاجتهم لتدخل نفسي يساندهم في هذه الفترة.
الخوف والقلق الذي يحمله العمال مُركَّب، والغضب موجه إلى عدة سلطات. بعضهم يرى أن السلطة الفلسطينية تركتهم طوال سنوات الحصار كلّها ولم تلتفت لهم، ولكن ما هي حُجَّتها اليوم؟ أمام واقع وجودهم في الضفة الغربية في أماكن غير مجهزة ولا تليق بعمال تعرضوا لانتهاكات إسرائيلية بهذا الحجم، وحرب إبادة يواجهها أهاليهم في قطاع غزة. لكن بعضهم الآخر يفكر في المستقبل، وفي إمكانية العمل مرة أخرى في مناطق 48.
في لحظة كتابة هذا التقرير، أرسلَ لي أحد العمال رسالة مفادها أن عائلته استشهدت، وأنه لا يستطيع الوصول لأي أحد من الجيران ليعرف من تبقى من عائلته، يسألني: لمن سأعود الآن؟