في وقتٍ أثار فيه انقطاعُ الاتصال مع سكان غزة القلقَ عربياً يوم 28 تشرين الأول (أكتوبر)، ظهرت المذيعة الألمانية من أصول لبنانية إلين عبود كمقدمة للنشرة المسائية على القناة الألمانية الأولى، وقدمت تقريراً لزميلها أوليفر ماير-روت، الذي رافق الجيش الإسرائيلي في جولة نظّمها للصحفيين في كيبوتس يبعدُ كيلومترات قليلة عن قطاع غزة. وبعد أن تحدّثَ المراسل في التقرير عن مجريات الجولة وبعد تشبيه الناطق الصحفي الإسرائيلي ما قامت به حماس بالهولوكوست، قال المراسل «فيما تحاول إسرائيل التذكير بفظائع 7 أكتوبر، تسعى منظمة حماس الإرهابية في غزة لإقناع الرأي العام الدولي بأن الفلسطينيين هم الضحايا في الحقيقة، مع أنها لا تتورّع عن التحصُّن خلف المدنيين والرهائن»، ورافق هذا الكلام عرضُ مشاهدَ لنقل مصابين من حطام مبنى في غزة، بينما تحدّثَ حساب القناة على إنستغرام عن «انقطاع اتصال الإنترنت والهاتف في غزة».
هذا المشهد مثالٌ نموذجي عن مستوى التغطية الإخبارية إن كنت في ألمانيا وتتابع إعلامها.
لكي يفهم المرء لِمَ تبدو التغطية على هذا النحو، عليه العودة إلى العام 2008 حينما زارت المستشارة السابقة أنجيلا ميركل إسرائيل، وألقت خطاباً أمام الكنيست كررت فيه تعهداً حيال أمن إسرائيل قائلة إن «هذه المسؤولية التاريخية لألمانيا (حيال أمن إسرائيل) جزءٌ من المصلحة الوطنية لبلادي. ما يعني أن أمن إسرائيل غير قابل للتفاوض بالنسبة لي كمستشارة لألمانيا. وعندما يكون هكذا هو الحال، ينبغي ألا نبقى عند الكلمات الفارغة في ساعات الامتحان». مُذّاك، بات هذا كلاماً مُنزَلَاً يهتدي به الساسة خلال تعاملهم مع الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي.
وقد كانت ترجمة مصطلح «مصلحة وطنية»، الذي لم يفهم معناه عملياً حتى الباحثون السياسيون يوم قالته ميركل، إلى سياسات ومواقف هي ما يشغل الطبقة السياسية يوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر) قبل أي شيء آخر. لقد حانت «ساعة الامتحان». المستشار شولتز ترجم «المصلحة الوطنية» في كلمته في البوندستاغ تضامناً غير محدود مع إسرائيل، فيما هناك حديثٌ عن إمداد البحرية الإسرائيلية بذخيرة ألمانية.
وقد انعكس هذا التضامن غير المحدود بشكل غير مفهوم على كل مجالات الحياة العامة في البلاد، ومنها الإعلام الذي بدا وكأنه جزءٌ من إعلام إسرائيلي حكومي يغطي حرباً داخلية. بل بات مثيراً للانتباه إمكانية مشاهدة تغطية صحفية ناقدة حيال حكومة نتنياهو في وسائل إعلام إسرائيلية كـ هآرتس، دون أن تجد ما يُماثلها في الإعلام الألماني. ولهذا تمنّت سوسن شبلي، وهي سياسية برلينية من الحزب الاشتراكي الديمقراطي من أصول فلسطينية، في الأيام الأولى من الحرب لو كان لديهم في ألمانيا قنوات مثل CNN أو نيويورك تايمز.
وفي ظل اعتبار الحكومة الإسرائيلية، ومعها كبار الساسة الألمان، أن ذكرَ أي سياق للحرب هو تقليلٌ من جرائم حماس، تخلَّى الإعلام الألماني السائد عن إحدى أهم بديهيات الإعلام وأُسسه.
تغييب مُضلِّل
عند النظر في تغطية القنوات الألمانية العامة، التي أُسِّسَت بعد الحرب العالمية الثانية وفقاً لنموذج بي بي سي (وتبلغ ميزانيتها السنوية قرابة 8.5 مليار يورو)، بين السابع وحتى الثامن والعشرين من أكتوبر، سنجدُ في البرامج الحوارية الرئيسية (مايشبرغر ومايبريت إلنر وماركوس لانز وآنه فيل وهارت آبر فير) غياباً تاماً تقريباً لأي صوت فلسطيني يُعبِّر عن مئات الآلاف من الفلسطينيين-ات أو الألمان من أصول فلسطينية في البلاد. هكذا توجَّبَ على الفلسطينيين-ات دفعُ ضريبة التلفزيون الشهرية دون أن يشاهدوا وجهة نظرهم تُعرَض، وبل ليشاهدوا تقديم مظاهراتهم، التي يُرفض منحها ترخيصاً في الغالب، على أنها مظاهرات أشخاص «كارهين لإسرائيل»، يصيح المشاركون فيها بشعارات «معادية لإسرائيل» و«معادية للسامية» و«مؤيدة لحماس»، لا على أنّها في الحقيقة تضم غالباً متعاطفين-ات مع المدنيين في غزة ومع القضية الفلسطينية.
وقد غَيّبت هذه السردية التعميمية والتغطية السلبية التعامل العنيف للشرطة مع المتظاهرين، خاصة في برلين، وجعلت من قمعهم العنيف وحظر مظاهراتهم مقبولاً لدى العامة إلى حين، رغم كون الأمر متعلقاً بأحد الحقوق الدستورية المُقدَّسة في البلاد.
سيجد المراقب أيضاً كيف يحرص مقدمو النشرات على إرفاق أي تقرير عن معاناة أهل غزة بالإشارة إلى مسؤولية حماس وحدها عن هذه المعاناة، وعلى التساؤل عمّا عسى إسرائيل -التي يحق لها، بل من واجبها، الدفاع عن نفسها- أن تفعله لتقضي على حماس التي تتخذ الناس دروعاً بشرية. يُسمَع بكل وضوح تبرير لقتل المدنيين-ات، يصرَّح به ساسة ألمان محافظون لهذه القنوات دون أي اعتراض أو مقاطعة.
وسط هذا التغييب، بدت صحفية ألمانية خبيرة في شؤون الشرق الأوسط الوحيدة القادرة على تقديم ما يفيد بين مجموعة من أصحاب المداخلات، والتصحيح لصحفي ألماني من أصول باكستانية (بلغت خبرته في الشرق الأوسط حدَّ قوله أن إسرائيل ليست دولة احتلال) بأن كراهية إسرائيل، أو اليهود كما أسماها هو، غير مبنية على تلقين حكومي كحالة إيران فحسب، بل هي مبنية أيضاً على صراع سياسي في المنطقة رغم وجود أسباب دينية أحياناً، وهكذا يتحدث الناس في سوريا وغيرها من دول المنطقة عن «يهودي» كمُرادف للحكومة الإسرائيلية أو الجيش الإسرائيلي، دون أن يقصدوا العداء لليهود في الواقع. وفي برنامج نادي الصحافة التلفزيوني العام، أوضحت هذه الصحفية أيضاً أن غضباً سياسياً هو من يحرك الاحتجاجات الفلسطينية الحالية ضد إسرائيل، وأنه أمرٌ يمارسه الكثير من المهاجرين-ات الفلسطينيين-ات ككفاح شخصي لأن لديهم سيرة ذاتية مختلفة، وليس لديهم «جدٌّ نازي» هجّرَ اليهودَ وقتل ملايين منهم، بل جداً أكبر هُجِّرَ خلال تأسيس دولة إسرائيل في العام 1948، ما يعني أن الغضب مرتبط بالوضع السياسي، وليس بالضرورة بكراهية يهود نابعة من الإسلام، مع إقرارها بوجود تعبيرات كُره ديني هنا وهناك.
ولا يعود هذا التغييب فقط إلى عدم الرغبة في سماع أصوات فلسطينية مُشوِّشة للخطاب العام الموحَّد فحسب، فعندما تفقد مريم صمدزاده، وكيلة وزارة لشؤون الاندماج في ولاية شليسفيغ هولشتاين، وظيفتها لمجرد مشاركتها منشوراً ناقداً لإسرائيل على إنستغرام رغم أنه ضمَّ إدانة لهجوم حماس، سيخاف أي ضيف-ة فلسطيني مُحتمَل من تلبية الدعوة للنقاش الإعلامي، إن وُجِدت. وعندما يضطر ممثل ألمانيا السابق في الأمم المتحدة ومستشار ميركل، كريستوف هويسنغن، للاعتذار بعد مقابلة تلفزيونية إن كان قد جرح مشاعر الضحايا الإسرائيليين، ويكاد يفقد منصبه الحالي كرئيس لمؤتمر ميونيخ للأمن جراء تسميته ما قامت به حماس بـ«عمل» عوضاً عن «إرهاب»، وموافقته الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش على آرائه بأن ما جرى في 7 تشرين الأول (أكتوبر) لم يحصل من فراغ، وعلى إشارته إلى 56 عاماً من الاحتلال، فكيف سيكون حال شخص مشكوك بأنه متعاطفٌ مع الفلسطينيين؟
في 22 تشرين الأول (أكتوبر)، شكَّل ظهور الباحثة السياسية المصرية هدى صالح في جامعة كيل استثناءً في نشاز التغطية المنحازة على القنوات العامة، عندما استضافها أهم برنامج حواري سياسي في ألمانيا «آنه فيل». كان من بين الضيوف أيضاً ياسين مشربش، وهو صحفي ألماني من أصول أردنية، والسفير الإسرائيلي في ألمانيا رون بروسر، والناطق باسم الجيش الإسرائيلي آريه شالوز شاليكر الذي ولدَ وترعرعَ في برلين. فعندما تحدثت هدى صالح عن ارتكاب الجيش الإسرائيلي لجرائم حرب، وعن «عقاب جماعي» تقوم به إسرائيل مشيرة إلى إدانة من الرؤساء العرب لقتل المدنيين الإسرائيليين، تدخَّلَ السفير الإسرائيلي مُقرِّعاً الصحفيين القادمين من المنطقة العربية، قائلاً إن هدى مخطئة وياسين يقول نصف الحقيقة، متحدثاً عن محاولات التهوين من الجرائم وعدم إدانتها، ومقاطعاً ياسين فيما كان يحاول الشرح سائلاً «ما الذي دهاك؟». من جهته، اعتبر المتحدث الإسرائيلي بأنه من «المحزن والمشين» سماع تحميل إسرائيل مسؤولية ما يجري في غزة، مُتحدِّثاً عن عدم قيام حماس بـ«إجلاء» الناس واتخاذهم دروعاً، مستنكراً الحديث عن عقاب جماعي تمارسه إسرائيل رغم دعوتهم الناس للذهاب إلى جنوبي قطاع غزة حيث الماء والمساعدات. وكمن يحاول عدم إغضاب الآخر، رجت مديرة الحوار الألمانية المتحدث ألا يفهم سؤالها كاتهام، عندما سألته عمّا إذا كان الجيش يقوم بهجمات على جنوب القطاع أيضاً كما تقول حماس، وعن أنه لا يوجد مساعدات أو ماء كما يُقال، فقال إن حماس تطلق صواريخ من هناك أيضاً مُخاطِرةً بالمدنيين. وفي نهاية الحلقة، تحدثت هدى صالح عن رفض الكثير من الباحثين-ات القدوم إلى برامج حوارية كهذه يُتَّهم المرء فيها فوراً بأنه معادٍ للسامية، مشيرة إلى أن أصدقاءها أخبروها ألّا تُشارك في البرنانج لأنه بمثابة «انتحار» باعتبار أن الحوار سيكون «جلسة لمجموعة من دعاة الحرب»، وأنها لن تحظَ بأي فرصة. ثم بدأت بسرد ما بدا تَعهُّداً تقي به نفسها من تبعات ما قالته، داعية إلى أن يعيش كل يهودي-ة بسلام في ألمانيا ومؤكِّدةً أنه لا مكان لمعاداة السامية وأنها خائفة على الشعوب وحتى على الجنود الإسرائيليين. فيما ردَّت مديرة الحوار بأن هدى صالح أخبرتهم قبل ذلك بأنها خائفة من ألا يُرى ما يشغلها، وهي سعيدة بأنها قد «نجت».
وحتى عندما دعا برنامج هارت آبر فير أخيراً ضيفة ألمانية فلسطينية، جوانا حسّون التي تدير مؤسسة تربوية في برلين تنفذ مشاريع من بينها مشاريع لمكافحة معاداة السامية، بدا وكأن مُعِدَّ الحلقة قد أحضرها فقط لكي تُدينَ «معاداة السامية» في الشارع، وتستنكرَ مشهداً صورّته قناة عامة لسيدة محجبة في هامبورغ تبدي فرحها بهجوم حماس، مشهدٌ أُعيد بثّه مراراً وتكراراً كدليل على وجود معاداة للسامية بين المسلمين وضرورة مكافحة ذلك. وفتحت هذه السرديةُ المجال أمام ساسة من الحزب الديمقراطي المسيحي للتحريض دون حساب أو حدود ضد اللاجئين، إذ تحدَّثَ رئيس الحزب، فريدريش ميرتز، عن ضرورة أن يذهب لاجئون محتملون من غزة إلى دول الجوار، لا إلى ألمانيا التي لا تستطيع استقبال المزيد: «لدينا ما يكفي من الشبان المُعادين للسامية في البلاد».
لم يغب الفلسطينيون-ات وحدهم عن البرامج الحوارية العامة فحسب، إذ غُيّبَ كذلك أي صوت من حركة السلام الإسرائيلية، ليقتصر الظهور على إسرائيليين يُقدِّمون خطاباً قريباً من الحكومة الإسرائيلية، مثل العربي الإسرائيلي أحمد منصور المُقرَّب من دوائر المحافظين المعادية للمهاجرين؛ أو ميلودي سوخاريفتز الناطقة السابقة باسم وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتز.
وقد كتب الكوميديان الإسرائيلي شاهاك شابيرا على منصة إكس: «لو تعلمون فقط كم دعوة تلقيتها من وسائل إعلام ألمانية لبرامجها، ثم أُلغيت عندما أخبرتُهُم بأنني أريد الحديث عن إسرائيل لا أن ألعب دورَ ضحية معاداة السامية في ألمانيا». وأضاف في تغريدة لاحقة: «الألمان يصنعون برامج حوارية عن إسرائيل وفلسطين، ولا يدعون الإسرائيليين والفلسطينيين… أين وجهة النظر الفلسطينية؟ لا يمكنكم الحديث عن صراع عندما يغيب جانبٌ كلياً».
وفي حين باتت القنوات العامة مؤخراً تغطي جرائم قتل مستوطنين لفلسطينيين في الضفة الغربية، في محاولة لخلق توازن في التغطية، وتمنحُ المجال لبعض الأصوات العربية والفلسطينية على مواقعها الإلكترونية، إلا أن التغطية الميالة لمصادر عسكرية إسرائيلية ما زالت هي السائدة.
ويجدر ذكر أنه عندما غطَّى موقع القناة الألمانية الأولى خبر قصف مخيم جباليا ليلة الأول من تشرين الثاني (نوفمبر)، بدا عنوان الخبر غريباً: «كثيرون خلال هجوم على مخيم لاجئين في غزة». يبدو أن المُحرِّرَ حذف كلمة قتلى من العنوان واحتار فيما سيختار كبديل تجميلي، ثم نشر الخبر بعنوان ناقص. لا مكان ولا أهمية للضحايا الفلسطينيين في التغطية الصحفية الألمانية.
«سفير الحقيقة»
لم يكن أداء السفير الإسرائيلي في برلين رون بروسور، والذي شغلَ أيضاً منصب السفير الإسرائيلي في الأمم المتحدة سابقاً، في برنامج آنه فيل الذي سبق الحديث عنه، إلا حلقة في سلسلة من مداخلاته على مختلف وسائل الإعلام، حاول فيها إلزامها باتّباع خط حكومته وتقديم بياناتها وتصريحاتها ونفي جيشها للاتهامات بحقة على أنها حقائق دامغة لا تحتاج إثباتاً، دون ذكر أي رواية مقابلة، مستفيداً بالطبع من دعم سياسي غير محدود أبدته حكومة شولتز وغالبية أحزاب المعارضة، خاصة المحافظين.
فعندما تحدَّثَ مع برنامج تاغزشاو في اليوم الأول للهجوم، أبدى انزعاجه من تلقيب المذيعة عناصر حماس بـ«مقاتلين»، داعياً إياها إلى تسميتهم بـ«إرهابيين».
وقد أظهر تسريبُ مَسرَد* توجيهي لشبكة القنوات الألمانية العامة عن الصراع، حُدِّثَ آخر مرة في 18 تشرين الأول (أكتوبر)، أن على محرريها وصحفييها عدم وصف عناصر حماس بـ «مقاتلين» من باب التخفيف، بل «إرهابيين»، حسبما أقرّت رئاسة التحرير. يشير المَسرَد إلى جواز تلقيبهم بـ «إسلامويين ميليشياويين» أو «فلسطينيين ميليشياويين»، أو «ميليشيا إرهاب» أو ما شابه.
وكأي حرب يحاول الطرفان العسكريان تسويق روايتهما فيها، وجدت وسائل الإعلام الألمانية والقنوات العامة على وجه الخصوص نفسها أمام معضلة الالتزام بالمهنية والموضوعية التي لطالما تحدَّثت عن التزامها بها. هكذا، عندما ظهر السفير الإسرائيلي مجدداً على قناة فونيكس الإخبارية العامة، وقال المذيع، بعد أن أكمل بروسر سرديته النافية لقصف إسرائيل للمستشفى الأهلي، إن حماس تقول ما يخالف ذلك، اعترض السفير بشدة على الحديث عن طرفين، ومساواة إسرائيل بـ «منظمة إرهابية».
وقد فتح هذا الجدل التلفزيوني -الذي اعتبره الموالون لإسرائيل في ألمانيا درساً في الإعلام لقنه السفير للمذيع- النقاش بجدية عمّا إذا كان ينبغي اتخاذ حماس كمصدر إخباري، وكأن وسائل الإعلام تقتبس ممّن تحب من المصادر فحسب. فتحدث موقع دويتشه فونك عن كون حماس مصدراً إخبارياً أيضاً، وعن عدم جواز حجب المواقف الإشكالية عن الجمهور، بل وجوب طلب التوضيحات من المتحدثين. وقد وجّه المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي رسالة بالألمانية لوسائل الإعلام الألمانية قائلاً إنه من غير المقبول البتة اتخاذ حماس مصدراً.
من الواضح إن إسرائيل تسعى إلى كسب المعركة الإعلامية بشراسة، وإلى الضغط على التغطية الدولية عموماً، كما حصل مع بي بي سي ونيويورك تايمز مثلاً، لكن التضامن الألماني الرسمي غير المحدود مع إسرائيل جعل إعلام ألمانيا العام متأثراً بشكل خاص.
وقد احتجَّ الصحفي الألماني من أصول فلسطينية عارف حجاج على حسابه في موقع فيسبوك على عدم بث مساهمته في مجلة بانوراما على قناة إن دي إر العامة، دون أن تستطيع هيئة التحرير تقديم ما يمكن تسميته تبريراً: «يبدو أنني ألماني ذو جذور فلسطينية غير مرغوب فيه»، قال حجاج؛ مُشيراً إلى أن القرار جاء رغم إدانته هجوم 7 أكتوبر بشدة ووضوح، وجادل بموضوعية كالعادة، مُتسائلاً إن كانت هذه «رقابة أو حتى قمع لحرية التعبير»، متحسراً: «مسكينة يا ألمانيا. يهم هنا ما هو سائد فقط. مع أن ساستنا وأقطاب إعلامنا يتبخترون دوماً حول الديمقراطية ودولة القانون السائدة. متى سيتغير هذا الفصام أخيراً؟!!».
وعندما ظهر حجاج أخيراً في 30 تشرين الأول (أكتوبر) ضيفاً على برنامج هارت آبر فير، قدَّمَ في مداخلاته القليلة أفكاراً من النادر أن تسمعها في الإعلام الألماني، كالدعوة للتفاوض مع حماس أخيراً بعد تحرير الرهائن حتى لو اعتبروها شيطاناً، مُعتبِراً أن الهجوم الإسرائيلي انتقاميٌ ونوعٌ من العقاب الجماعي، داعياً إلى استخدام مرن لاعتبار أمن إسرائيل جزءاً من المصلحة الوطنية الألمانية، وإلى عدم موافقة حكومة نتنياهو على كل ما تصبو له. وعندما حاول الإدلاء بتعليق أخير، متجاوزاً محاولات إسكات مذيعٍ بدا خائفاً من كلام حجاج الذي لا يعي أبعاده، أوقفه المذيع وقال إنه هو من يعطي الدور للضيوف. وفي حين أبدى سفير إسرائيلي سابق قبوله لأن يبدأ حجاج بالحديث، إلا أن المذيع رفض مجدداً وطلب من السفير الحديث أولاً. بدا ذلك مُعبِّراً عن الحال في البلاد، ألماني يُصرّ على منح إسرائيلي الأولوية على حساب فلسطيني-ألماني، علماني، حتى لو أدان هجوم حماس.
وقد دفعت هذه التغطية البعيدة عن المهنية أيضاً مُقدِّمَ برامج يعمل عادة مع قناة إن دي إر العامة، يُدعى ميشيل عبدالله، لكسر صمته مُتسائلاً باستنكار: «لماذا هذه التغطية المتحيزة لإسرائيل في كل مكان، وغياب النظرة الناقدة لإسرائيل التي تملك جماعة ضغط في ألمانيا على عكس الفلسطينيين».
تبدو تغطية الإعلام الألماني العام في الأسابيع الأخيرة، مقارنة بتلك الحاصلة في وسائل الإعلام في دول أخرى، وكأنها تجري في عالمٍ موازٍ، فنرى مثلاً مذيعة من القناة الألمانية الثانية تستغربُ من خروج مظاهرات موالية للفلسطينيين حول العالم رغم «مجزرة حماس المريعة».
المحلل السياسي الخبير في شؤون الشرق الأوسط دانييل غيرلاخ تحدث في رده عليها عن عودته من تركيا، حيث شاهد هناك باستغراب شديد كيف يتم الحديث في كل القنوات الرسمية عن إبادة جماعية في غزة، مُوضِحاً أن العالم الإسلامي يراها على هذا النحو، يرى أنها ليست ردّاً على عمل إرهابي بل جزءٌ من خطة كبرى لتهجير الفلسطينيين.
الإعلام الخاص
لا يمكن تَوقُّع تغطية إعلامية متوازنة من وسائل إعلام أكسل شبرنغر، أكبر دار نشر في أوروبا، كـ بيلد ودي فيلت، بسبب ولائها المعروف لليمين الإسرائيلي. عندما سُرِّبَت محادثات خاصة لرئيس مجلس إدارتها ماتياس دوبفنر قبل أشهر، تبيَّنَ أنه كتب في إحداها «وطبعاً إسرائيل بلدي والصهيونية فوق كل شيء». يكفي أن نُشير إلى كيفية شيطنة الصحيفة صبية ألمانية من أصول فلسطينية، لا تتوافق مع تصوراتها حيال المسلمين والعرب وشاركت في مظاهرة في دوسلدورف، لندرك مستوى التغطية. تحدثت بيلد عن ظهور «إسلامويين جدد»، شباب «يرتدون ثياباً من ماركات مشهورة وحلياً غالية الثمن ويحكون لغة ألمانية دون لكنة»، مُتسائلة لماذا لا تذهب المتظاهرة المذكورة للعيش في غزة «إن كانت تكره إسرائيل وألمانيا على هذا النحو»، وفقاً لتوصيفها.
استقبل دوبفنر السفيرَ الإسرائيلي بروسر في دار النشر في برلين ليقدم لصحفييها إحاطة حول رحلته مع المستشار شولتز إلى إسرائيل، والحرب التي قال إنهم سيربحونها. ومرَّ بروسر أيضاً على وسيلة إعلام أخرى، ذه بيونر، تملك شبرنغر أسهماً فيها، ليُخبرهم أن عليهم عدم اتّخاذ حماس مصدراً. دار شبرنغر، المالكة لأكبر تطبيق لتجميع الأخبار «أبداي»، اتُّهمت أيضاً بالإيعاز لمحرري التطبيق بمنح الأولوية لوجهة النظر الإسرائيلية، والتقليل من شأن الضحايا الفلسطينيين.
عندما أجرى السفير بروسر مقابلة مع بولتيكو، المملوكة من قبل شبرنغر أيضاً، تحدَّثَ عن كون حماس «حيوانات متعطشة للدماء». وعندما سُئل عن تأثر الفلسطينيين الذين لا يدعمون حماس بالهجوم الإسرائيلي، لم يتكلَّف في اختيار الألفاظ، ودون أي اعتراض قال: «الأناس الذين تراهم يغتصبون ويقتلون ويطلقون النار على العائلات والأطفال الصغار ويحرقون الناس في بيوتهم وهم أحياء. هؤلاء هم أهل غزة (…) لذا في الجوهر محاولة التفريق هي مشكلة حقيقية».
مع ذلك، لا يمكن إطلاق حكم شامل على تغطية باقي وسائل الإعلام السائدة الخاصة في ألمانيا. فعلى الرغم من ميلها للرواية الإسرائيلية، وجدت بعض المقالات الناقدة طريقها للنشر. نجد في دير شبيغل، على سبيل المثال، تغطية للضحايا الفلسطينيين، ومقالات ناقدة لضعف التعاطف مع الفلسطينيين في ألمانيا، وحديثاً عن تنافُس على دعم إسرائيل، لكن في الوقت نفسه نجد بعضاً من أضعف المقالات مهنيةً، مثل مادة لكاترين إيلغر بعنوان كراهية في شوارع برلين.. أنا لا أحب حماس في الحقيقة ولكن، تزعم فيها أنه ليس من غير المعتاد رؤية معاداة سامية علنية في شوارع حي نويكولن. زَعمٌ اعتبره كاتب يهودي يقيم قرب زونن آليه («شارع العرب» البرليني) كذبة عنصرية هدفها إشاعة الخوف.
ميلاني آمان، نائبة رئيسة تحرير دير شبيغل، كتبت في نشرة المجلة البريدية عن مدى «تَعوُّد» النخبة الدبلوماسية على إرهابيي حماس، منتقدة هوسينغن رئيس مؤتمر ميونيخ للأمن الذي وضع «غزو حماس» في سياق صراع الشرق الأوسط ككل على نحو «كأنه يمكن وضع ذبح الأطفال الرضع في نفس تصنيف سرقة الأراضي من قبل المستوطنين الإسرائيليين الراديكاليين».
وقد بدت صحيفة تاتز اليسارية وحدها مَن توفر تغطية متوازنة نسبياً، مُقدِّمة وجهات نظر مختلفة حول مبررات منع المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين، ورسالة مفتوحة من مثقفين يهود في ألمانيا دعوا لتوفير حرية التعبير لمن يفكرون بطريقة مختلفة. كذلك مقالات رأي مثلَ التي كتبها محررٌ لديها، يتساءل «هل المعاناة الفلسطينية أقل قيمة من غيرها؟ عدم المبالاة الألمانية حيال مصير الفلسطينيين-ات مخيفة».
صحوة «مهنية» متأخرة
بعد قصف المستشفى الأهلي في غزة، وتَرَكُّز الاهتمام العالمي على الضحايا من المدنيين في القطاع، بدا وكأن مذيعي-ات القنوات العامة تَذكَّروا أخيراً واجبهم الصحفي في مجادلة الضيف وعدم أخذ كل ما يُقال على أنه حقيقة كما هو الحال عند استضافة مسؤولين إسرائيليين. فبعد تقرير عن ضحايا القصف الإسرائيلي والتذكير بمسؤولية حماس، طلب مذيع نشرة مسائية على القناة الأولى الألمانية من ضيفه الألماني الذي سبق وأن عمل مع الأونروا في غزة، «قبل أن يُطردوا من قبل حماس» كما زعم، أن يُحدِّثه عن معاناة السكان من حماس، فذكَّره الضيفُ بأن المعاناة الأساسية الآن هي من القصف الإسرائيلي الذي لا يتوقف، مُتطرِّقاً لأعداد الضحايا وبينهم ألفا طفل، قائلاً إنها أعدادٌ لا يمكن تبريرها. هنا، شكك المذيع في أرقام صادرة من مؤسسات صحية تابعة لحماس، فأكد الضيف الألماني أنه يعلم من خلال خبرة 4 سنوات أن قيادة هذه المؤسسات قد تكون من حماس، لكن كثيرين ممّن يعملون هناك هم «أناس طبيعيون مثلي ومثلك»، وغالبيتهم ليسوا مناصرين لحماس، بل يحاولون أداء عملهم على النحو المطلوب، كما يمكن للصحفيين والمؤسسات التأكد من الأرقام. عندها، أشار المذيع إلى أنهم حاولوا، لكن لا يمكن التحقق من أرقام ضحايا هجوم المستشفى الأهلي. كان هذا قبل أن تزود المؤسسة الصحية في غزة وسائل إعلام دولية بقائمة مُفصَّلة بأسماء الضحايا.
في البرنامج الصباحي على القناة الألمانية الثانية، أجرت دنيا حيالي، الألمانية من أصل عراقي، مقابلة مع السفير الفلسطيني في فيينا صلاح عبد الشافي، جادلته فيها كما لم تفعل هي أو غيرها من زملائها مع أي ضيف إسرائيلي، بسؤاله مراراً إن كان «ينأى بنفسه من منظمة حماس الإرهابية وإرهاب حماس». استنكر السفير انحياز القناة لصالح إسرائيل وعدم ذكر إسرائيل عند التحدُّث عن الإرهاب، مُشيراً إلى أنهم يقولون إنهم سيتحققون مما جرى في المستشفى، لكنهم كرروا مراراً «كذبة إسرائيل عن الأطفال الرضع المقطوعة رؤوسهم» دون تَحقُّق. حيالي زعمت أنهم ليسوا منحازين، وأنه ليس هناك «حقائق» بخصوص المستشفى، وأنّ عليهم التمسُّك َبالحقائق. وعندما كرر السفير سؤالها عن قصة الأطفال الرضع، دعته حيالي للتحدث عن 1300 قتيل-ة يهودي-ة. ورغم إيضاح السفير لموقف السلطة الفلسطينية، بخصوص أنّها تعتبرُ قتل المدنيين من أي طرف انتهاكاً للقانون الدولي، وأمراً مُداناً وينبغي ملاحقة منفذيه، إلّا أن المذيعة تساءلت عندما وضعَ هجوم حماس ضمن سياق معين عن لماذا يصعب عليه هكذا إدانة الهجوم بوضوح. وعندما أرادت حيالي تذكير السفير بأن كل ما يرونه بدأ بهجوم حماس الإرهابية وحق إسرائيل في معاقبتهم ومحوهم ربما، اتَّهمها السفير بتجاهل التاريخ، تجاهل 56 عاماً من الاحتلال و15 عاماً من الحصار، مُتسائلاً: «ما الذي تنتظرينه، أن يرمي الناس إسرائيل بالورود عندما يكونون محاصرين ويحصلون على حصص من الماء؟»، مشيراً إلى عدم الاعتراض على نعت وزير دفاع دولة تسمي نفسها ديمقراطية الفلسطينيين بـ«حيوانات بشرية». عندما عادت حيالي للاعتراض بالقول إنه تم انتقاد هذه التصريحات، وإن هناك مياهاً مجدداً في غزة بعد ضغوط أميركية، متهمةً السفير بقول مزاعم غير صحيحة، أكَّدَ عبد الشافي أن ذلك ليس صحيحاً وأنها تصدق الجانب الإسرائيلي، متسائلاً إن كانت قد تحققت من وجود مياه في غزة كما تود التحقق الآن من هجوم المستشفى. عادت حيالي للتهرب مجدداً والإشارة فحسب لوجود فريقهم على الأرض، وأنهم يُفرِّقون بين «حماس» الإرهابية والفلسطينيين.
بعد أيام، وخلال حفل تسليم حيالي جائزة «تلفزيون بافاريا» التي منحها إياها رئيس وزراء الولاية المنتمي للمحافظين، وُضع مَشهدُ سؤالها السفير الفلسطيني إن كان ينأى بنفسه عن جرائم حماس ضمن شريط ترويجي لعملها.
*****