ليس جديداً أن تكون الضفة مُقطَّعة ومعزولة؛ المكعبات الإسمنتية والسواتر الترابية وحواجز الاحتلال الإسرائيلي جزء حيٌّ ويومي من حياة الفلسطينيين في الضفة الغربية. الضفة المُقطَّعة بأكثر من 500 حاجز ونقطة تفتيش مقسمة إلى ثلاث مناطق كبيرة، الشمال والوسط والجنوب، وما بين هذه المناطق ينمو التغوُّل الإسرائيلي مُستفيداً من كل الإمكانيات المتاحة، بما فيها المنظومة التكنولوجية التي تجثم على قلب الضفة وأطرافها كعين كبيرة ترصد كل شيء وتمسحه.

منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، نستطيع ضرب كل شيء بعشرة لتقدير حجمه وأثره، بدءاً من إغلاق الطرقات بين المدن والقرى وصولاً لانفلات المستوطنين بشكل مُكثَّف، ما جعل من حركة الناس معقدة جداً، إذ تعتمد على طرق التفافية خطرة بعض الشيء وطويلة جداً. نستطيع القول إن إسرائيل بهذه الطريقة شلَّت حركة المواطنين، الأمر الذي جعل كثيرين للتحوّل إلى العمل عن بعد إن أمكن ذلك، وبهذا أفرغت إسرائيل الضفة الغربية من الحركة التي كانت تُشكّل غطاءً لعمليات المقاومة الفردية.

غليان مع وقف التنفيذ

تشهد الضفة الغربية اليوم حالة من الغليان تجاه الحرب على غزة، تُعبِّرُ عنها المظاهرات والمَسيرات التي تكثَّفت بعد قصف المستشفى المعمداني في غزة، ويصاحبها اعتقادٌ بأنها لا تؤثر على مجرى الأحداث. الدكتور بلال الشوبكي هو رئيس قسم العلوم السياسية في جامعة الخليل، يشرح للجمهورية.نت الأسباب التي تحول دون تنفيذ تحرك شعبي واسع في الضفة: «السبب الأساسي يتمثل في أن القائمين على كبرى الفصائل الفلسطينية، التي يُفترض أن لديها مساحة واسعة للعمل في الضفة مثل حركة فتح، لا يبدو أنهم معنيون بتغيير الأوضاع بصورة جوهرية في الضفة، لأنهم يؤمنون أن السماح بأعمال شعبية قد يؤدي إلى تراكم يُفضي إلى تغيير البنية الأمنية الموجودة في الضفة. أيضاً، هناك إحساس فلسطيني بأن التحرك الشعبي داخل مناطق السيطرة الفلسطينية في الضفة لا يؤثر على الحياة اليومية للإسرائيلي».

منذ قصف المستشفى المعمداني بدأت المظاهرات الفلسطينية في المدن المركزية تبرز بشكل واضح، تحديداً في رام الله التي تتمركز فيها القيادة الفلسطينية. خرجت تلك المظاهرات الغاضبة دعماً للمقاومة وكتائب القسّام، وفي الوقت نفسه كانت تطالب بإسقاط النظام وتتوجه بالشتائم لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس. تشير الهتافات إلى مزاج عام مُلتفّ حول المقاومة في الضفة الغربية، ورغم أن هذا المزاج لا يُترجَم على الأرض بشكل عملي يتجاوز المظاهرات، إلا أنه قد يشير إلى احتمالات انطلاق مقاومة واسعة في الضفة لاحقاً. وهي لن تكون المرة الأولى طبعاً، فبعد مباحثات كامب ديفيد انطلقت الانتفاضة الثانية وكانت الضفة الغربية جزءاً أساسياً منها، ولكن ربما يكون الذهاب في هذا الاتجاه صعباً اليوم بفعل ممارسات الاحتلال من جهة، وممارسات السلطة الفلسطينية من جهة أخرى.

وتشير الهتافات المناهضة للسلطة الفلسطينية إلى اعتقاد كثيرين في الضفة بأن السلطة تتحمل مسؤولية ما يحدث، حتى وإن كان بطريقة غير مباشرة، وأنها كذلك تتحمّل مسؤولية عدم طرح بدائل جديدة في ظل إعدام إسرائيل لحلّ الدولتين عبر الاستيطان. يقول الدكتور الشوبكي في هذا الشأن: «إسرائيل لا ترى أن هناك سلطة يمكن أن تكون بذرة دولة، والمؤكد أن إسرائيل خلقت حالة فريدة في الضفة، عبر تحويل السلطة من بذرة دولة يمكن أن تتولى المسؤولية في الأراضي المحتلة عام 67 إلى مؤسسة تؤدي مهام محدودة، جزءٌ منها أمني وجزءٌ منها خدماتي يتعلق بالصحة والتعليم وغيرها، دون أن تتجاوز إلى ملفات سياسية أو سيادية، وهو الأمر الذي أصبح يعيه الشارع الفلسطيني. على قيادة السلطة أن تفهم أن هتافات الفلسطينيين ليست مُناكفة من جهات معارضة، بل هي تُمثلُ شريحة واسعة غير مُسيَّسة أو لا تنتمي لأحزاب سياسية، لكنها تؤمن بأن هناك تقصيراً رسمياً في آليات مواجهة الاحتلال».

رغم تضييق الخناق على الضفة الغربية، إلا أنه كان من المتوقع أن تشهد الضفة عمليات فردية تُخفّف عن جبهة غزة. على الأقل، كان هذا جزءاً من التوقعات التي يحملها الغزّيون تجاه جبهة الضفة، لكن لم تحدث أي عملية نوعية منذ السابع من أكتوبر. عن هذا الجانب، يقول للجمهورية.نت الدكتور إبراهيم ربايعة، الباحث والأكاديمي في العلوم السياسية في جامعة بيرزيت في رام الله، إن إسرائيل «ذهبت إلى إجراءات الحرب، وهذه الإجراءات خَوَّلت جيشها وأجهزتها الأمنية تصعيد إجراءاتها دون رقيب، وبالتالي فَعَّلَ الاحتلال منظومة ردع على عدة مستويات، حيث قام باعتقال الأهداف المحتملة ما أثَّرَ على الفعل الشعبي المتصل بمساندة حركة حماس. كما استهدف الاحتلال معاقل المقاومة في الضفة وعلى رأسها المخيمات، وأعتقدُ أن الاحتلال سيستغلّ هذه الحرب من أجل محاولة القضاء على تجارب كتائب المقاومة في المخيمات، والتي لا يتجاوز عمر أغلبها سنتين».

سياسات التحكم والسيطرة

تُحكِمُ إسرائيل قبضتها على الضفة الغربية بشكل كامل ومباشر، فالسلطة الفلسطينية لا تستطيع تحريك آلية من جنين إلى رام الله دون تنسيق، وبالتالي فإن سيطرتها واهية جداً. ذلك بينما يفرض الاحتلال الإسرائيلي سيطرته بنفسه، إذ لديه أنظمة مراقبة سيبرانية وأنظمة رقابة في الشوارع وتَحكُّمٌ بالكاميرات، ولديه وصولٌ إلى السجلّ المدني الفلسطيني ونظام فحص أمني يسمح للفلسطيني من خلاله بالعمل في الأراضي المحتلة أو لا يسمح. هذه المنظومة متراكمة منذ احتلال الضفة عام 67، ويتم تطويرها طوال الوقت. بفي المقابل، يقول ربايعة إن «هامش عمل السلطة الفلسطينية في مجال التحكُّم والسيطرة محدودٌ أصلاً ومتّصل بالانقسام الفلسطيني، وحدوده هي اعتقالاتٌ سياسية ورفض خروج مسيرات تدعم حماس أو إقامة مهرجانات لها. ومع ذلك، فإن هذا الهامش تقلّصَ اليوم بعد دخولنا في الأسبوع الرابع من الحرب على غزة، وذلك نتيجة أن الشارع هو من يحكم، الأمر الذي رصدناه من خلال عدم حدوث أي مواجهة فعلية بين أجهزة الأمن والمتظاهرين الأسبوع الفائت، على عكس الأسبوع الذي سبقه».

وهكذا فإنه رغم وجود سلطة فلسطينية، تبقى إسرائيل هي المتحكم الأول والأساسي، وهذه السيطرة لا تقتصر على إغلاق الضفة أو تقييد الحركة وإغلاق معبر الكرامة الذي يُعتبَر الطريق الوحيد بالنسبة للفلسطينيين في الضفة من أجل السفر إلى الخارج، لكن هناك سياسات أكثر عُمقاً وتَجذُّراً في الوعي، من شأنها أن تخلق حالة من إعادة تشكيل الوعي الفلسطيني حول نفسه، أبرزها النمط الاقتصادي في الضفة الغربية. يوضح لنا الشوبكي: «تُطبّق إسرائيل استراتيجية مرتبطة بتغيير الأنماط الاقتصادية في الضفة، بحيث أنها تُخرِجُ شريحة واسعة من الفلسطينيين في فئة الشباب من دائرة إمكانية الانخراط في أعمال ضد الاحتلال الإسرائيلي، بمعنى أن مصادر الدخل في الضفة مُتحكَّمٌ بها إسرائيلياً، فالجزء الأكبر منها إما رواتب موظفي السلطة الفلسطينية (وإسرائيل تتحكم فيها)، أو معاشات العاملين في مناطق 48 والذين تتحكم إسرائيل بإصدار التصاريح لهم، بالإضافة إلى حركة الاستيراد والتصدير من خلال الموانئ الإسرائيلية. بالتالي، يخلق كل هذا نوعاً من أنواع الاستقرار المعيشي أو الرفاهية الوهمية التي قد تُشعِر الفلسطيني أنَّ لديه مكتسبات يريد الحفاظ عليها».

تَضعُنا هذه السيطرة الاقتصادية اليوم أمام مشهد منعت فيه إسرائيل أكثر من 130 ألف عامل فلسطيني من دخول مناطق 48 لممارسة عملهم، الأمر الذي يضعهم أمام مخاوف فقدان التصاريح التي تسمح لهم بالعمل هناك، وبالتالي تخشى فئة كبيرة من العمال الانخراط حتى في المظاهرات. يقول الشوبكي: «إن هذه الآلية من الضبط والسيطرة محدودة التأثير، تحديداً لو استمرت إسرائيل في حربها على غزة، ذلك أن حرمان العمال من عملهم سينتج عنه فئة كبيرة ليس لديها ما تخسره وهذا ما تخشاه إسرائيل. لذلك، رسَّخَت إسرائيل على مدى سنوات عملية تقييد الفلسطيني بهذه القيود الذهبية المتمثلة في مصادر الدخل».

منذ السابع من أكتوبر، استشهد 130 فلسطينياً في الضفة الغربية، وجُرح 2050 حسب وزارة الصحة الفلسطينية، ووصل عدد حالات الاعتقال إلى 1830 معتقل ومعتقلة حسب نادي الأسير الفلسطيني، وهذا جزء من سياسة إسرائيل الدائمة في الضفة الغربية، ولكن ليس بهذه الكثافة التي حفّزتها عملية طوفان الأقصى، حيث رفعت إسرائيل عمليات الاعتقال إلى مستوى اعتقال أي شخص يُتوقَّع منه تحفيز الشارع الفلسطيني باتجاه أي أعمال ضد السياسات الإسرائيلية، حتى أن غالبية من تم اعتقالهم هم من كوادر حركة حماس في الضفة.

يقول الشوبكي: «إن إسرائيل غير معنية بأي مواجهة في الضفة الغربية، فمنذ بداية العملية حافظت على أن تكون المسيرات الفلسطينية محدودة، بمعنى أن المسيرات في السابق كانت تتجه إلى نقاط التماس، واليوم أغلقت إسرائيل كل مداخل المدن والقرى الفلسطينية من خلال نقل الحواجز الإسمنتية عشرات الأمتار إلى داخل المدن الفلسطينية، بمعنى أنها تحاول امتصاص المسيرات بإبقائها داخل الحيّز الفلسطيني دون أن تصل إلى مناطق تشتبك فيها مع القوات الإسرائيلية، بحيث لا تضطر إسرائيل للاعتماد على قوات عسكرية كبيرة لتأمين جبهتي الشمال والجنوب، بل تعتمد على القنّاصة لتشكيل حالة ردع بإطلاق النار بهدف القتل، وعلى استخدام الطائرات المسيرة لإلقاء قنابل الغاز. ما تريده إسرائيل هو وأد تجربة المقاومة الفلسطينية دون أن تسمح لها باشتباكات تُوسّع دائرة المواجهة».

ولا يمكن الحديث عن أدوات التحكم والسيطرة دون الإشارة إلى تسليح المستوطنين المتصاعد منذ بداية العملية، وهي إشارة واضحة لاحتمالية تحييد أي فلسطيني على اعتبار أنه مشتبه به، ما يشكل حالة إرهاب عامة للفلسطينيين، وهو الأمر الذي دفع البعض إلى البقاء في المنازل وانتقال كثيرين إلى العمل عن بعد. هذه استجابة سلبية لدى كثير من الشرائح، تختلف تماماً عمّا كنا نشهده في الانتفاضة الثانية حين كان الإغلاق قائماً ومع ذلك كانت هناك محاولات حثيثة لاختراق هذه الحواجز وعدم الاستسلام لها. يوضح الشوبكي: «ما تريده إسرائيل أن يبقى الناس في منازلهم يشاهدون الصور من قطاع غزة، وأن يتم تعزيز حالة الإرهاب للمجتمع الفلسطيني، وخلق حالة تخوّف من إمكانية نقل التجربة إلى الضفة بدل أن يتحول الحدثُ إلى حافز لتغيير الوضع الحالي في الضفة. أعتقد أن ما يجري في الضفة هو ترجمة لنجاح سياسات كثيرة مورست ضد الفلسطينيين، لكن هذه الممارسات لم تنجح في المطلق بدليل بؤر المقاومة العسكرية في غالبية مدن الضفة الغربية».

مستقبل الضفة الغربية

من الواضح أن إسرائيل لا تملك مشكلة مع الوضع الراهن في الضفة، وأن هذا الوضع لن يؤثر على سياساتها في غزة ما دامت تحافظ عليه في هذه الوتيرة، لكن الأمر يمكن أن يتغيَّرَ في حال تفعيل المقاومة الشعبية في الضفة الغربية بما فيها القدس، خاصةً في حال الانتقال إلى تحرُّكات على غرار هبة أيار (مايو) 2021، لكن حسب الشوبكي: «فإن القائمين على الأمر في الضفة الغربية ليس لديهم استعداد لإتاحة المساحة لحركة واسعة النطاق في الضفة، تُغيّر من حسابات الجانب الإٍسرائيلي».

اليوم، لا ينفصل سؤال مستقبل الضفة عن مخرجات الحرب على قطاع غزة. يقول الشوبكي: «إن مؤشرات الحرب تشير إلى انكسار في المجتمع الإسرائيلي، وهو الأمر الذي سيجعله يبحث عن انتصارات جديدة في الضفة، وربما يؤجج حالة الصراع فيها بإطلاق المستوطنين كمحاولة لاسترضاء اليمين المتطرف. على المؤسسة الرسمية الفلسطينية أن تدرك أن عدم انخراط الضفة في مواجهة الاحتلال للتخفيف عن غزة لا يعني شيئاً سوى تأخير المواجهة في الضفة، لأنه حين تحدث المواجهة لاحقاً في الضفة سيكون ذلك بناء على إرادة إسرائيلية للاستفراد بالضفة ومواجهتها بشكل أكثر قسوة مما هو عليه الآن». 

يقول ربايعة في هذا الشأن: «ما يحدث في غزة اليوم يهدف إلى حسم الصراع، بمعنى أن هناك رؤية تتبلور على إنشاء دولة فلسطينية مركزها قطاع غزة الجديد، وليس الحالي، انطلاقاً من المعطيات الميدانية. لا أعتقد أن الأمر يسير إلى ضمّ أجزاء من قطاع غزة وإعادة تشكيله إما على حساب مصر أو على حساب أجزاء من النقب، ولكن الاتجاه هو إعادة تشكيله خلافاً للوضع الحالي، لتحقيق أهداف سياسية واقتصادية وأمنية وما إلى ذلك. وبالتالي فإن قطاع غزة الجديد سيكون مركز للدولة الفلسطينية التي يتحدثون عنها، وتضاف إليه هذه الأجزاء من الضفة التي ستكون جزءاً رمزياً من هذه الدولة، ما يشير إلى أن مستقبل الدولة الفلسطينية التي يتم الإعداد لها، وفق المعطيات الميدانية ووفق كل الخطط السابقة، هو مستقبل لا يصل حتى إلى مستوى صفقة القرن، بل هو أقل بكثير منها».