لعقود طويلة اعتمدت الأمهات السوريات على المؤن والتفريز، وهو ما أنقذ عائلات كثيرة عندما فرض نظام الأسد الحصار على مدن بأكملها، إذ نجت البيوت الممتلئة بالبرغل والجبن والسمن وزيت الزيتون والمكدوس، وكذلك أنواع الخضار المجمدة المختلفة لأنها أرخص في مواسمها. اليوم، تخلو البيوت السورية من كل هذه الأصناف بسبب ارتفاع تكلُفتها وعدم القدرة على التخزين في البرّادات، لذلك يلجأ من يستطيع دفع أثمان المعلبات والبقوليات لتخزينها ما يجعلها مواد ملحوظة الاستهلاك، فذاكرة الحرب وانقطاع الأساسيات حاضرة في الأذهان.

يمكننا في هذه الأيام ملاحظة شكل جديد للتسوق، وهو ذاك الناتج عن التوجُّس من الحرب وإن كان بكميات خجولة. في إحدى صالات البيع بنصف الجملة صادفتُ إحدى السيدات التي همّت بشراء البقوليات والمعلبات بكميات كبيرة، بدأت حديثها بجملة: «الوضع ما بيطمّن».

لم يكن الوضع مطمئناً منذ سنوات، فآخر تدهور شهدته الليرة السورية كان قبل الحرب على غزة بثلاثة أشهر، حيث هبطت قيمتها إلى نحو 15000 ليرة مقابل الدولار الأميركي الواحد، وقد حقّقت الليرة بعض المكاسب بعد انخفاضها (نحو 13500 مقابل الدولار الواحد اليوم)، إلّا أن هذا لم ينعكس على الوضع المعيشي بل ما يزال المسار العام للتضخم وتراجع القدرة الشرائية تصاعدياً.

هيكلة ارتفاع الأسعار


منتصف شهر آب (أغسطس) الماضي، أصدر بشار الأسد مرسوماً بزيادة الرواتب والأجور المقطوعة للعاملين المدنيين والعسكريين وزيادة المعاشات التقاعدية بنسبة مئة بالمئة، ليصبح سقف الأجر الشهري لموظف الفئة الأولى 312 ألف ليرة سورية. تزامنَ المرسومُ مع إصدار وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك نشرة أسعار جديدة للمازوت والبنزين والفيول، ضاعفت فيه الأسعار ليصل سعر البنزين المدعوم إلى ثمانية آلاف ليرة سورية بدلاً من ألفين ليرة سورية، وبإجراء عملية حسابية بسيطة خسر راتب الموظف نحو نصف قدرته الشرائية نسبة إلى البنزين في لحظة الزيادة.

بشكل متسلسل جرفت موجة ارتفاع الأسعار مختلف المجالات الخدمية بدايةً مع المياه؛ حيث شملت الزيادة المواطنينَ من أصحاب الاستهلاك «فوق المنطقي» وفقاً لما نشرته صحيفة الوطن شبه الحكومية، وحددت النسبة المنطقية للعائلة بحدود (125-150) ليتراً في اليوم، وربما لا يعرف مصدر الوطن إقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بحق الإنسان في الحصول على كفايته من المياه للاستخدام الشخصي والمنزلي، والذي حددته بين 50 و100 لتر لكل فرد يومياً.

وبعد وزارة الموارد المائية أقرّت وزارة الكهرباء زيادة فاقت الضعف لفئة الاستهلاك التي تزيد عن 1500 كيلو واط، فأصبحت 200 ليرة سورية بدلاً من 90 ليرة، ولفئة الاستهلاك فوق 2500 كيلو واط التي أصبحت 460 ليرة سورية بدلاً من 150 ليرة. ثم انضمَّت إليهما وزارة التعليم العالي، التي رفعت بدورها الرسوم الجامعية لمرحلتي الإجازة والدراسات العليا، وضاعفت أجور التعليم الموازي، بالإضافة إلى رفع رسوم الإقامة في السكن الجامعي.

بالإضافة لكل ذلك، انعكس ارتفاع أسعار المحروقات على النقل والمواصلات ومختلف المواد التموينية والإسمنت والسلع، وكان آخر من لحق بركب هذه الارتفاعات حتى اللحظة ما قرّرته الهيئة الناظمة للاتصالات والبريد، التي أصدرت بياناً وافقت فيه على زيادة بين 25%-35% على التعرفة الأساسية لخدمات الاتصالات الخلوية، و30% زيادة على خدمات الاتصالات الثابتة والإنترنت.

وجاءت هذه المتغيرات بعد تبدُّد الأحلام المُعلَّقة على مسار التطبيع العربي مع نظام الأسد، بعد شهورٍ من الوعود بتحسين الوضع المعيشي والسعي لاستقرار الليرة السورية مقابل القطع الأجنبي، الأمر الذي كانت نتيجته اعتراف المصرف المركزي بالفشل ورفع سعر الصرف في نشرة السوق الرسمية إلى 11500 ليرة، وبدورها وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك صرّحت بإصدار نشرة أسعار جديدة للمشتقات النفطية كل أسبوعين، لدلالة واضحة تشي بعجز الحكومة على ضبط المسار الاقتصادي.

قائمة «الكماليات» المفتوحة

لا يأخذ عموم السوريين الوعود الحكومية على محمل الجدّ، بل يتوجسون خوفاً قبل أي وعود بتحسين الأوضاع المعيشية، فمع كل قرار اقتصادي تنحدر سلعة جديدة من قائمة الاحتياجات إلى قائمة الكماليات والرفاهية، لتقتصر لائحة الاحتياجات الأساسية على الأكل والشرب، وتشمل الطبابة في أحسن الأحوال.

ألغت أم محمد كل احتياجاتها الشخصية من قائمتها ومنها الطبابة، فهي تشعر بألم شخّصته لنفسها كألم بحصة في الكلية، لكنها تعالجه بمسكنات مختلفة كلما وقعت تحت يدها، وتُفضّلُ توفير كل ليرة لحياة أفضل لأولادها وتأمين كل احتياجاتهم، لكنها مع الأسف استغنت في هذا العام استغنت عن كسوة الشتاء.

اختفى زوج أم محمد منذ العام 2014، تاركاً لها خمسة أولاد كان أصغرهم رضيعاً حينها. خلال سنة الاختفاء الأولى صرفت مدخراتها، وفي الثانية بدأت تبيع مصاغ عرسها قطعة تلو الأخرى لتُعيل نفسها وأولادها، إلى حين بدأت تتنقل من عمل لآخر براتب شهري وصل مؤخَّراً لنصف مليون ليرة (ما يعادل 36 دولار في السوق الموازية). تعتمد على التسوق من البالة (سوق الثياب المستعملة)، ومثل أغلب الأمهات على مداورة الملابس بين أولادها للتقنين في مصاريف الملبس. ومنذ سنوات هجرت أسواق دمشق بسبب غلاء الأسعار رغم تدني الجودة. تحكي أم محمد للجمهورية. نت: «سعر الجاكيت بالسوق وصل للمليون، وبالبالة نص راتبي. اليوم كل قرش بكسبه بشتري فيه أكل لولادي، والله بزعل عليهم كنت لبّسهم أحسن لبس، وطعميهم أحسن أكل».

بالنسبة لباسل الأمر مُعقد أكثر من ذلك، فيجد أن معظم السوريين يعيشون حياة متشابهة مع فروقات تتجلى على موائدهم فقط، ويعتبر أن مدخوله الشهري «مُحترم» فهو يقبض عشرة أضعاف أجر الموظف الحكومي، ومع ذلك يعجز عن شراء مواد غير استهلاكية. يقول باسل: «اليوم تُقطَع الكهرباء في منطقة سكني عشرين ساعة أو أكثر، هل نستطيع اعتبار بدائل الطاقة رفاهية؟ ومع ذلك لا أستطيع دفع مبالغ طائلة لتكاليف ألواح طاقة شمسية براتبي المحترم».

ترتبط منتجات بدائل الطاقة بسعر الصرف بشكل أساسي، فهي تعتمد على الاستيراد بالدرجة الأولى ويُسعِّرُ الباعة قيمتها بشكل شبه أسبوعي مع هامش فرق عن سعر الشاشة لتفادي الخسارة، ما يجعل من الصعب تَحمُّل تكاليفها على أي شخص يتقاضى دخله بالليرة السورية. وتُقدَّر تكلفة منظومة الطاقة الشمسية الأساسية (ما يكفي لتشغيل البراد والإضاءة) ما بين نحو 1500 حتى 2200 دولار أميركي.

يلمس باسل ارتباط المواد كلها بسعر الصرف الذي ينعكس على انحدار أجره كل شهر، فيقول: «أُدرِّبُ نفسي بشكل يومي على تذكّر مقومات الحياة الأساسية، حتى لا أعتبر وجبة العشاء رفاهية».

توجّس دائم والخوف مما هو قادم

الخوف سمةُ عيش أساسية في دمشق. لا ينعزل الخوف من الحرب عن الخوف من المجهول، ومن ارتفاع الأسعار أو انقطاع المواد، أو من الخوف المرتبط بالمواسم وعودة المدارس وشهر رمضان والأعياد، والآن الخوف من الشتاء. يختبر السوري الخوف على عدة مستويات، وتكاد تكون عبارة «ما حدا بيعرف شو ممكن يصير» الأكثر استخداماً، إذ هناك احتمالات موت إضافي وتهجير متجدد تحملها احتمالات اتساع الحرب، أمّا معيشياً فكل يوم أصعب من الذي قبله مع التدهور المستمر، ومن استطاع العام الفائت شراء مازوت للتدفئة قد يعجز عن دفع ثمنه الذي تضاعف هذا العام، وحربٌ أوسع في المنطقة ستزيد الأوضاع المتردية تردياً.

وسائل التدفئة اليوم تحتاج إلى رأسمال وخطة اقتصادية، إلّا في حال الاعتماد مثل العديد من السوريين على بقايا الملابس والأحذية والخشب، فالمدفئة وحدها تتراوح قيمتها بين مليون ومليون ونصف المليون، يضاف إليها ملايين الليرات لتغطية تكاليف المازوت أو الحطب أو بدائل عضوية قابلة للاشتعال.

توّزع وزارة التجارة الداخلية في حكومة النظام المازوت عبر البطاقة الذكية، وتبلغ حصة العائلة خمسين لتراً بالسعر المدعوم (2000 ليرة سورية للتر)، وخمسين لتراً بالسعر الحر (11985 سورية للتر) وهذا الرقم قابل للتغيُّر وفقاً لنشرة صباح الغد، وبحسب متابعة نشرتها جريدة الوطن فإن نصف العائلات لن تحصل على مخصصاتها قبل انقضاء فصل الشتاء.

ويتوفر المازوت في السوق السوداء بصعوبة بسعر 15000 ليرة سورية للتر، وفي هذا الشتاء لن يكون الحطب بديلاً رخيصاً إذ تضاعفَ سعر طن الحطب عن العام الفائت ليبلغ وسطياً ثلاثة ملايين ومئتي ألف ليرة سورية، وهو ما تحتاجه العائلة على الأقل.

تُنذر النشرات الجوية بشتاء قارس لهذه السنة بعد موجات حرارة شديدة لهذا الصيف، ومن جهتها حكومة النظام تُنذر بانهيار مشؤوم أقسى من برد الشتاء، ذلك أن أبرز مساعيها لكبح عجلة الانهيار مؤخراً كانت قرار تشكيل لجنة مؤلفة من معاوني وزراء الإدارة المحلية والبيئة والتجارة الداخلية وحماية المستهلك والعدل والمالية والداخلية والاقتصاد والتجارة الخارجية. مهمة اللجنة دراسة آلية تسعير السلع والتكاليف الحقيقية لها، وتقديم تقارير دورية تتناول مدى انعكاس الإجراءات على توافر المواد بأسعار مناسبة. يبقى السؤال هنا: مناسبة لمن؟ فبحسب نشرة وزارة التموين في الأسبوع الماضي لأسعار الدجاج والبيض، سعَّرت كيلو الشاورما بمئة ألف ليرة سورية، أي أن راتب الموظف السوري من الفئة الأولى يعادل ثلاثة كيلوغرامات من الشاورما، ويبقى بحوزته بعدها دولارٌ واحد.

ثمان وزارات لثلاثة كيلوغرامات شاورما دجاج هي أمل الاقتصاد السوري!

الإنكار

على وسائل التواصل الاجتماعي بالتحديد، ينشر مؤثرون على تطبيق إنستغرام بشكل دائم صور دمشق الرائعة المزدحمة في مطاعمها، المنتعشة بأسواقها، رافضين فكرة الحرب التي لم تنتهِ. ولا أحد طبعاً يُنكر ازدحام مقاهي المالكي وأبو رمانة التي تبلغ فاتورة العشاء فيها لشخصين نصف مليون ليرة سورية على الأقل، لكن للازدحام في الأسواق وجهاً آخر.

منذ سنوات أدى الانهيار الاقتصادي المستمر وزيادة ساعات التقنين الكهربائي بما قد تصل إلى عشرين ساعة يومياً إلى انتشار ظاهرة «البيع باللقمة»، وهو نوعٌ من البيع يعتمد على حاجة الشاري بالضبط من المادة  في الوجبة التي سيتناولها، أي عدد اللقيمات التي يحتاجها من الجبن أو اللحم أو المواد التي يحتاج تخزينُها إلى التبريد.

تُكذِّب شكاوي الباعة المستمرة من ركود السوق سرديةَ «دمشق الرائعة»، إذ يحتاج البائع حوالي عشرة زبائن في اليوم لبيع كيلوغرام واحدٍ من لحم الخروف، خاصةً مع ارتفاع سعره الذي يبدأ من مئة ألف ويصل لمئتى ألف حسب موقعه في دمشق، أي ما يعادل تقريباً الراتب الشهري لموظف الحكومي.

ولم يسلم سوق الخضار من هذه الظاهرة. يقول أحد الباعة للجمهورية.نت: «يعني بيجي الزبون وطلبه حبة موز لأن ابنه اشتهى، إيه بدي أعطيه، بتسوالها ألفين ليرة، عدم المؤاخذة العالم مو قدرتها».

ليس شراء زبون لحبة فاكهة واحدة انعكاساً لعلاقة مباشرة بين الحرب على غزة والاقتصاد السوري، بل هو نتيجة سياسات اقتصادية فاشلة اتبعتها حكومة النظام، جنباً إلى جنب مع حربه التي شنّها على بلاده. تنفي المعطيات الراهنة احتمالات إقحام النظام نفسه في الحرب الدائرة اليوم، لكن من الصعب أن يغفل أحد تأثير الحرب على المنطقة بأكملها، واحتمالات اتساعها. ورغم ما حققته الليرة السورية من مكاسب خلال شهر أيلول (سبتمبر)، عاودت الهبوط خلال الأيام الفائتة ما يؤشر إلى هشاشة الاقتصاد السوري الرهيبة أمام أي متغيرات.