الوجوه المذهولة قادمةٌ من أمام الشاشات بعيون ممتلئة بالحزن، لتلبي الدعوات التي انتشرت للتظاهر والاحتجاج في الشوارع الرئيسية والساحات العامة لوسط بيروت ومداخل المخيمات الفلسطينية، وإدانة الإبادة الجماعية التي يتعرض لها أهالي قطاع غزة المحاصر. مئات النساء والرجال يهتفون بأعلى أصواتهم، يدينون الجريمة المستمرة والتطبيع العربي والصمت العالمي، يطالبون بفتح معبر رفح، ويحيون فلسطين وأهلها. 

المشهد يتكرر منذ بداية العدوان على غزة، المظاهرات والوقفات الاحتجاجية ورسائل الإدانة الرسمية، لتشملَ حالةُ الغضب والتضامن أشكالاً ومستويات جديدة للاحتجاج لم تشهد بيروت مثلها منذ سنوات نصرةً للقضية الفلسطينية، وذلك بالتزامن مع جدال أدى لانقسام الشارع حول احتمالات دخول حزب الله في المعركة.

القصف مستمر على غزة، والاحتجاجات أيضاً

في اليوم الخامس من العدوان على غزة، انطلقت أولى الدعوات من الناشطين للتوجه نحو السفارة المصرية، وتلاه في اليوم التالي تجمعٌ أمام مدخل مخيم مار الياس للتظاهر. 

الأعداد كانت تزداد أمام السفارة المصرية، بينما أحاول أنا وأصدقائي إجراء اتصالات في محاولات متكررة للاطمئنان على أصدقائنا وعائلاتهم في غزة. محاولات فاشلة للاتصال مع القطاع المحاصر، بينما أصوات الهتاف تعلو من حولنا، تطالب بفتح معبر رفح وفك الحصار عن القطاع الذي قطعت إسرائيل عنه الماء والكهرباء والمساعدات، لتبدأ بعدها جولات من القصف الوحشي.

ارتبطت وتيرة التظاهر بشكل أساسي بتصاعُد الأحداث في غزة، وبمدى تفاعل المجتمع الدولي والعربي معها، لتنفجر على شكل غضب عارم في شوارع بيروت ومخيماتها بعد ساعات من مجزرة المشفى المعمداني في قلب مدينة غزة، والتي راح ضحيتها 500 شهيد. لم تكن المجزرة نقطة تَحوُّل في مسار العدوان على غزة فقط، بل أيضاً في المزاج الشعبي المتضامن وقدرته على التفاعل مع الأحداث. لم تهدأ الهتافات المنددة بالاحتلال والداعمة لفلسطين وغزة حتى ساعات متأخرة من الليل في ساحات وشوارع وسط بيروت، وفي شارع رياض الصلح وبشارة الخوري حتى كورنيش المزرعة ومحلة البربير وبرج أبي حيدر، وكذلك طريق الجديدة التي دعت لتجمع فوري أمام الملعب البلدي. 

انتهت تلك التحركات بمواجهات مع قوى الأمن اللبناني أمام السفارتين الأميركية والفرنسية، الدولتان الداعمتان لإسرائيل في حربها على قطاع غزة. تقول مريم، المشاركة في المظاهرات والناشطة في المجتمع المدني اللبناني، للجمهورية نت: «هاد مش بس تضامنّا، هذا غضبنا كمان. بالتأكيد لازم نتضامن ولكن من واجبنا كمان نراكم هاد الغضب، مش بس على إسرائيل بل على مين بيدعمها وبيحميها وبيغطي جرائمها. وغضبي الشخصي الأكبر، على كل مين قسَّمنا وتركنا بهشاشتنا ما فينا نقدم لفلسطين أكثر من التنديد بعد استشهاد أصدقاءنا بغزة». 

أينما ذهبتَ اليوم في بيروت، الحمرا، الجميزة، مار مخايل، كورنيش المزرعة، لا يكاد يخلو المشهد من الكوفيات الملفوفة على عجل حول الأكتاف. متظاهرون عائدون إلى بيوتهم، أو ذاهبون نحو تحرُّك جديد. إنه غضبٌ جعل من المخيمات الفلسطينية والساحات العامة والشوارع الرئيسية للعاصمة نقاطاً للتجمُّع والتظاهر، بعضها بناءً على دعوات متعددة من ناشطين وجمعيات وأحزاب وحركات شعبية، متفقة بشكل أساسي على التنديد بالجريمة والتضامن الكامل مع أهالي غزة، وأخرى شعبية باتت معتادة نسبياً لعشرات الشبان على دراجات نارية يحملون الأعلام الفلسطينية. 

كرَّسَ لبنان الرسمي الأيام التي تلت المجزرة للتضامن مع غزة والتنديد بالجريمة، مع إقفال لجميع الجامعات والمدارس ودعوات من البلديات لوقفات احتجاجية، كما أصدرت نقابات ومؤسسات أهلية ومدنية دعوات للمشاركة في الإضراب العالمي من أجل فلسطين، ودعا وزير الصحة فراس أبيض إلى وقفة احتجاجية أمام وزارة الصحة، شارك فيها الأطباء والممرضون، وكذلك رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي الذي قال: «أصبحنا اليوم في شريعة الغاب فالقوي يأكل الضعيف والمجتمع الدولي يقف مع الجلاد ورسالتنا نقولها من باب الإنسانية». بينما تجمّعت النقابات الفنية أمام مقر الإسكوا (لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا)، بالإضافة إلى نقابات التعليم والعمل والمهن الحرة. 

كذلك خرجت مظاهرات حاشدة من أغلب مساجد بيروت للمشاركة في «جمعة الغضب» التي أعلن عنها خالد مشعل، الرئيس السابق للمكتب السياسي لحركة حماس، والتي تقاطعت من دعوة «حركة الأمة» التي انطلقت مظاهرتها من مسجد أحمد كفتارو في منطقة المصيطبة. في حين شارك المئات في دعوة منظمة التحرير الفلسطينية للتجمع أمام الملعب البلدي، ونظَّمَ طلاب الجامعات والناشطون العديد من المظاهرات، وأغلقت بعض المقاهي والمطاعم والمحال أبوابها للمشاركة في الإضراب. كما أدانَ مجلس كنائس الشرق الأوسط في بيانه الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني، معتبراً أنه «لم يَعُد خافياً على القاصي والداني أن ما يتعرض له الشعب الفلسطيني في غزة ليس رد فعل عسكري على فعل عسكري، وإنما إبادة جماعية وتطهير عرقي».

حتى الآن لم تتوقف دعوات الناشطين للتظاهر أمام السفارة المصرية للمطالبة بفتح معبر رفح، وكذلك أمام السفارتين الفرنسية والألمانية رداً على دعمهما المستمر للاحتلال الإسرائيلي، ومحاولات السلطات في البلدين قمع التحركات الداعمة لفلسطين على أراضيهما. 

أدّى القصف الوحشي المتصاعد على قطاع غزة إلى استمرار التظاهر، وإلى تجاوز الخلافات الإيديولوجية والسياسية والدينية بين التوجهات المتعددة للمتظاهرين والناشطين والمنظمات والحركات والتيارات الفلسطينية واللبنانية، وذلك نظراً للوضع الإنساني الصعب في قطاع غزة. جاء الهتافات منددة بـ«التطبيع العربي» مع إسرائيل و«التنسيق الأمني الذي تقوم به السلطة الفلسطينية»، معلنة كامل التضامن مع غزة وأهلها وداعية لإنهاء الاحتلال ومؤكدة على حق المقاومة الشعبية ضده. وعلى عكس المعتاد في العاصمة بيروت، سهَّلت القوى الأمنية حركة المتظاهرين، لكنها نصبت حواجز أمنية تمنع دخول مسيرات الدراجات النارية إلى مناطق في العاصمة يُحتمل أن تشهد توترات أمنية نتيجتها. 

وقالت منّصة أخبار الساحة، التي تعمل على تغطية وأرشفة  التحركات والاحتجاجات، للجمهورية نت: «الاحتجاجات كثيفة جداً وتجاوزت الناشطين لتشمل جميع أطياف المجتمع، واعتمدت أشكالاً جديدة مثل التوجه للسفارة الفرنسية والألمانية، والاحتجاج أمام السفارة المصرية، وأمام بعثة الاتحاد الأوروبي والإسكوا، وتنوعت الأساليب مثل الإضراب الذي شارك به التجار والجمعيات والنقابات». 

منذ بداية التصعيد، كانت المخيمات الفلسطينية ومداخلها الرئيسية في حالة تظاهر مستمر، في فعل سياسي شعبي يُعبِّر عن تكاتف عفوي ولحظي، دعا من خلاله المتظاهرون إلى فك الحصار عن غزة، موجهين نداءات تطالب بالتحرك الدولي وتندد بالتطبيع العربي وتهتف ضد الاحتلال. وقد كانت المظاهرات في المخيمات مساحة للاجئين السوريين للتعبير عن غضبهم، إذ أصبحت ملجأهم بعد حملات الترحيل والتضييق والعنصرية الأخيرة. 

«مو نحن مثلهم شفنا موت»؛ بهذه الكلمات بدأت أم محمد كلماتها عندما سألتُها عن سبب مشاركتها في إحدى المظاهرات المتضامنة مع غزة: «مو هوي ما في أصعب من أنو تموت وما حدا يسأل عنك. يلّي عم يصير إجرام، صعب الموت تحت القصف، والله صعب، كنت عم شوف الفيديوهات على موبايلي وأتذكر أهلي يلي ماتوا بسوريا، وأبكي. أجيت عالمظاهرة لأنو بعرف أديه صعب يلي عم يصير بغزة».

الحرب التي لا ينتظرها أحد 

منذ الأيام الأولى للعدوان على غزة لم يغب السؤال السياسي والعسكري بشأن احتمالية فتح الجبهة الشمالية لإسرائيل من قبل حزب الله. ما زالت وتيرة القصف المتبادل منضبطة، لكنها لا تُلغي احتمالات الحرب المفتوحة خاصة في حال الاجتياح البري لغزة، وهو ما زاد من وتيرة التصريحات الرسمية والتحركات الداخلية والخارجية التي أعلن عنها رئيس الحكومة اللبنانية نجيب ميقاتي في بيان قال فيه: «الاتصالات الدبلوماسية التي نقوم بها دولياً وعربياً واللقاءات المحلية مستمرة، في سبيل وقف الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان وجنوبه تحديداً ومنع تمدد الحرب الدائرة في غزة إلى لبنان»، وذلك بالتزامن مع تهديدات مستمرة من الجيش الإسرائيلي حول مدى خطورة تورط لبنان في حرب مُدمِّرة. 

ورغم التعاطف والتضامن الواسع والإدانة المستمرة للوحشية الإسرائيلية ضد أهالي قطاع غزة، لكن أسئلة تورط حزب الله في حرب مع إسرائيل قسمت الشارع بشكل جذري، وهو ما بدا واضحاً إعلامياً في التقارير التلفزيونية والصحفية. يبدو واضحاً أنها الحرب التي لا ينتظرها أحدٌ في لبنان، ورغم التأكيد الدائم من جمهور حزب الله على استعدادهم نفسياً واجتماعياً واقتصادياً، إلا أن الجميع يدركون أن نتائج المعركة ستكون كارثية، خاصة أنها سوف تأتي في حال اندلاعها ضمن ظروف اقتصادية وسياسية معقدة جداً، بينما الانهيار الاقتصادي أثَّرَ بشكل مباشر على واقع الخدمات والقطاعات الصحية والمديريات العامة للدفاع المدني. ولعلّ هذا ما دفع وزير الخارجية اللبنانية عبدالله بو حبيب إلى إبلاغ دول غربية برغبته في أن «تعلن إسرائيل وقفاً لإطلاق النار خلال 48 ساعة للنظر في إمكانية احتواء التصعيد مع المقاومة في جنوب لبنان».

بعض المظاهرات يدعو لها ناشطون مناهضون للنظام الطائفي في لبنان، ومظاهراتهم هذه تخلو من هتافات التأييد أو النقد لحزب الله على حد سواء، ولكن في الحلقات التي تتشكل قبل وبعد انتهاء المظاهرات، لا تختلف آراؤهم كثيراً بشأن الموقف من حزب الله. يقول أحد هؤلاء الناشطين، وقد فضّل عدم ذكر اسمه: «معارك حزب الله تخضع لمصالح وحسابات إيرانية بالدرجة الأولى، لذلك من الصعب أن أتوقع، بعد كل ما فعله الحزب في العشر سنوات الأخيرة في المنطقة، أنه سيخوض معركة من أجل الشعب الفلسطيني، فالتحرك الوحيد للحزب كما أراه سيكون في حال تعرضت مصالحه أو مصالح إيران للخطر المباشر». 

تعيش الفئات المهمشة والهشة في المخيمات خوفاً متراكماً من الحرب، التي تقترب احتمالاتها بدون أي استعدادات رسمية من المنظمات أو الفصائل الفلسطينية، وهذا ما يُنذر بوضع كارثي على جميع الأصعدة قد تعيشه المخيمات الفلسطينية التي تضم اليوم لاجئين سوريين أيضاً، خاصة بعد موجة الترحيلات الأخيرة والحملة العنصرية ضدهم. 

رغم المظاهرات والوقفات التضامنية ورسائل الاحتجاج المستمرة، إلا أن أهالي المخيمات يعيشون غضبهم وحماستهم الشخصية وسط أسئلة كبيرة حول أوضاعهم الإنسانية ومدى جاهزيتهم الاقتصادية والخدماتية في حال اشتعال جبهة الجنوب وتعرض المخيمات الفلسطينية لقصف إسرائيلي بحجة ضرب الفصائل الفلسطينية، خاصة بعد التقليصات الأخيرة للدعم من الأونروا والأمم المتحدة، وشح دعم المؤسسات غير الحكومية. 

عن أوضاع المخيمات واستعداداتها في حال المواجهة مع إسرائيل، تحدّثت الجمهورية.نت إلى الوليد يحيى، المحرر المختص بشؤون المخيمات الفلسطينية في موقع بوابة اللاجئين الفلسطينيين: «تعاني المخيمات اليوم من أزمة بنى تحتية حقيقية تعيق حياة اللاجئين. ينهار القطاع الصحي مع التقليصات المستمرة للدعم، ولا نملك اليوم إلّا عيادات صغيرة. الدفاع المدني مُهدَّد بالإغلاق حتى الآن، ونحن غير جاهزين لمواجهة كارثة حرب حالياً. حتى لو لم تُقصَف المخيمات، سيكون لدينا أزمة غذائية كارثية على الأهالي فيها لأنها تعيش على المعونات، وإذا اندلعت الحرب وانسحبت المؤسسات غير الحكومية سوف نواجه فراغاً هائلاً. سوف تكون النتائج كارثية؟». 

«جاهزين لشو!! أنا من دون حرب مش ضامن أضل مع ولادي لآخر الشهر»؛ لم يكن ردّ أبو خالد هذا على سؤالنا بشأن احتمالات الحرب منفرداً أو معزولاً، بل هو يعبر أيضاً عن مئات العائلات السورية التي تعيش في المخيمات الفلسطينية. أبو خالد أحد اللاجئين السوريين الذين لجؤوا إلى مخيم شاتيلا للاجئين الفلسطينيين تجنباً للحملة التي تشنها السلطة اللبنانية.

مازال الغضب مستمراً في شوارع بيروت حتى وقت كتابة هذا التقرير. عشرات المظاهرات على دراجات نارية تمرّ من أمامنا أنا وأبو خالد الجالسَين على طرف مقهى شعبي صغير. يُلقي أبو خالد التحية عليهم من بعيد، بينما أحاول أن أسأله: «ماذا سوف يحدث لو اندلعت الحرب وتم قصف المخيمات التي تأويكم؟»، لم يتردد أبو خالد وهو يقول: «رح نموت، إذا مو من القصف من الجوع، متل ما عم يصير بغزة هلأ ومتل ما صار معنا بسوريا، وبالنهاية رح يقول إعلامنا أنو انتصرنا، ورح تروح علينا وعلى ولادنا».