قبل سنوات مضت، لجأتُ من سوريا إلى إحدى ضيع أقصى الجنوب اللبناني للعيش فيها. قال لي أحدهم آنذاك إنّ البناء الذي سكنتُ فيه كان قد دُمّر بالكامل في حرب تموز عام 2006. لا أذكر أنّني انفعلتُ بعدما علمت، لم يَعنِ لي شيئاً أن أعيش مثلاً على أنقاض خرابٍ ما لأنّني وصلت لاجئة آتية من حربٍ قاسية وأبحثُ عمّا يُرمّم جرحي. أردتُ منزلاً بجدارٍ غير مثقوب وحمّاماً بمياه ساخنة وسريراً مريحاً وأرضاً ثابتة، هذا كل شيء.
قضيتُ نحو خمس سنوات في هذا المكان، الذي يبعد عن الحدود الجنوبية للبنان بضعة كيلومترات، وأنا أشاهد بشكلٍ مستمر مركبات اليونيفيل (قوّة الأمم المتحدة لحفظ السلام) التي انتشرت بعد وقف القتال بين حزب الله واسرائيل، وأطأ بقدميّ على أرضٍ ما زالت ذاكرتها مع الحرب طازجة وحيّة، كلّ جزءٍ منها يقول إنّ ثمّة دماء كثيرة انسكبت هنا. عانى الجنوب اللبناني كثيراً؛ تُمثّل الأضرار التي أصابته نحو نصف حجم الأضرار المُقدّرة خلال الحرب بأكملها، تمّ تدمير 8000 منزل وتضرّر نحو 45000 منزلٍ آخر، أُزهقت أرواح الآلاف ونزح مئات الآلاف عن منازلهم.
كنتُ أستمعُ آنذاك لحكايات النساء الجنوبيّات عن الحرب والنزوح إلى بيروت وسوريا، أُدقّق في تفاصيلهنّ حيث يتجمّد الزمن وتنكمش أجسادهن وهنّ يروين عن النزوح والإقامة في مدارس دمشق وريفها، وعن صداقة ما تزال بينهن وبين عائلات سورية عرفوها أثناء النزوح إلى سوريا. كثيراً ما ازدريتُ إعجاب بعضهنّ بنظام الأسد الحليف لحزب الله، لكننا جميعاً تشاركنا ألم الحروب، وأنا بحثتُ في أحاديثي عن أي تفصيل يمكنه أن يُبقي على إنسانيتنا حيّة فقط.
عقب «طوفان الأقصى» في السابع من تشرين الأول ( أكتوبر)، والأحداث الدموية والجرائم الوحشيّة التي اُرتكبت وما تزال في غزة، توجّهت الأنظار نحو الجنوب اللبناني على اِعتبار حزب الله مكوّناً أساسيّاً من «محور المقاومة والممانعة». هاجم حزب الله مواقع إسرائيلية في مزارع شبعا، ردّت إسرائيل بقصفِ مصدر الهجوم، ومنذ ذاك الوقت لا يغيب ذكر حرب تموز عن المجالس، يستعيدها اللبنانيون وكأنّها البارحة. أنا لا أتحدّث هنا عن السياسة، بل أتحدث عن حياة هؤلاء الأشخاص الذين سلبتهم الحرب أرواح أحبائهم، وسلبتهم منازلهم وسعادتهم ومستقبلهم؛ الذاكرة آلة تفتك بالإنسان.
قبل أيام وضّبتُ أوراقي المهمّة وحقيبة صغيرة و«لابتوبي» الذي أعمل عليه، هذا كلّ ما أملك، وصعدتُ في باص كبير يقلّني من الجنوب نحو بيروت. تذكرتُ المرّة الأولى التي حطّت فيها قدمي على هذه الأرض منهكة وحزينة حالمةً بالخلاص، وكأنّ السنين الماضية كلّها أصبحت لحظة واحدة. لقد انقضى نصف عمري وأنا أرتحل من مكان إلى آخر للأسباب ذاتها، إنّها الحرب.
أتجنّب الردّ على جميع الاتصالات من عائلتي، أخجل من إخبار والدتي بالحقائق، أخجل من الكذب وأخشى من حزنها عليّ، أتنصّل من عبء الإجابات وأتحجّج بضغوط العمل وانقطاع الإنترنت.
اتصلتُ بإحدى شريكاتي في السكن الذي كنت أقيم فيه في الجنوب لأطمئن على أهلها المقيمين قريباً من كفر شوبا، قالت لي إنّهم رحلوا ولم يبقَ أحد. فرغت الشوارع من أهلها في كفر شوبا والخيام والمطلّة، وتفرّقت العائلات عن بعضها.
نزوح لبناني سوري
تشهد القرى الجنوبية المتاخمة للخطّ الأزرق نزوحاً مُتزايداً إلى المدن الأكبر والأكثر أماناً بسبب تمدد رقعة الاشتباكات. قالت الأمم المتحدة إنّه حتى الثالث والعشرين من الشهر الحالي نزح 21118 من مناطق غير آمنة، غادر النازحون 108 نقطة وقصدوا 173 نقطة جديدة وتركّزوا في صور وصيدا وجبل لبنان وبيروت.
توزّعت أكثر من 1500 عائلة لبنانيّة وسوريّة على عدد من مراكز الإيواء في المدارس الرسمية والخاصة في مدينة صور، أعدّتها وحدة إدارة الكوارث في اتحاد بلديّات صور مُعلنةً بشكلٍ واضح ضعف الإمكانيّات لتأمين حاجات النازحين.
اللاجئون السوريون اليوم هم جزء أساسي من هذا المشهد. يُخشى على مئات الآلاف من منهم ممّا قد تؤول إليه الأوضاع، ومن العيش تحت وطأة حرب قد تقضي على ما تبقى لديهم من أمل بالنجاة. تُخبِرنا الأوضاع الإنسانية والظروف السياسية بأنّهم محاصرون وقد لا يكون هناك ملجأ لهم في حال توسّع نطاق الحرب، سوى السماء والأرصفة، إذ يُقيم في الجنوب اللبناني نحو 89168 لاجئ-ة وفي البقاع نحو 302253 لاجئ-ة.
رفضَ كاهن بلدة رميش التي تقع في أقصى الجنوب استقبال لاجئين سوريين فرّوا من بلدة عيتا الشعب الحدوديّة مع إسرائيل عقب العدوان الإسرائيلي على المنطقة، وهذا مُؤشّر واضح عن ملامح المرحلة القادمة في حال اندلعت الحرب.
أخبرني غياث (اسم مستعار)، وهو أحد اللاجئين السوريين الذين أُجبِروا على النزوح من الجنوب، أنه بعد اشتداد وتيرة الاشتباكات في عيتا الشعب رحل من الضيعة بصحبة عائلة سورية ثانية قاصداً بلدة الصرفند الواقعة على الساحل اللبناني الجنوبي، مضيفاً: «بعدما سمعنا الأصوات قوية بدأ أطفالي بالصراخ، ولم يبقَ أحدٌ في الضيعة، لكن أنا إلى أين أذهب؟».
أما العائلات السورية التي لا تملك وسيلة نقل، فاضطرت إلى الذهاب مشياً على الأقدام من عيتا الشعب نحو رميش بمسافة تُقدر بنحو 5.5 كم. تفاجأت العائلات حينها بوجود حاجزٍ على مدخل الضيعة لمنعهم من الدخول بحجة «لن نتمكّن من إخراجهم لاحقاً»، وذلك بحسب ما أشار نجيب العميل كاهن البلدة.
يُكمل غياث: «كنّا نريدُ فقط أن ’نتآوى‘. يومها هطلَ المطر، صدّقيني هناك عائلات لم تجد ملجأً فنامت في إحدى البراري بين الضيعتين. وصلتُ بعد ذلك إلى أحد معارفي في منطقة البابلية، لكن ظروفه صعبة حيث يسكن مع عائلته في ’كونتينر‘. اضطررنا إلى المكوث عنده نحو ثلاثة أيام حيث بقينا نحن الرجال خارج الكونتينر ونمنا على ’صبّة باطون‘ إلى جانبها، وباتت النساء والأطفال في الداخل».
بعد رحلةٍ طويلة وصل غياث إلى بيروت، يبحث عن منزلٍ كي يستأجره دون جدوى بسبب ارتفاع الإيجارات والعقبات التي تضعها البلديات عائقاً في وجه السوريين.
أمّا عمار (اسم مستعار) فهو يقيم في قضاء مرجعيون، وهو عامل بناء اختبر رحلة نزوح مؤلمة إذ يُقيم في منطقة اشتباك: «لديّ أربعة أطفال لم يعتادوا على سماعِ أصوات كهذه، حينها ركضوا باتجاهي، قاموا باحتضاني وبكوا، حملتهم واتجهت بهم نحو قضاء زحلة، رفضوا استقبالنا، وصلتُ إلى منزل أخي في بلدة إيعات في قضاء بعلبك، أنذرتنا البلدية أنّه يتوجب عليّ بحلول الغد المغادرة».
ما زال عمار يتنقّلُ من منطقة إلى أخرى ومن بلدية إلى ثانية دون جدوى، وفي ظروف معيشية سيئة بعدما فقد عمله، وأنهى كلامه بأنّه في حال بقيَ الوضع هكذا «سيعود إلى منزله ولوكان مُدمراً».
نزحت بعض العائلات إلى بيروت. يشتكي اللبنانيون والسوريون من ارتفاع إيجارات المنازل، وبحسب أحد مالكي العقارات أنه وبسبب النزوح بدأ المؤجّرون والمكاتب العقارية باستغلال هذه الأزمة، فارتفعت الإيجارات نحو 7 بالمئة، وآخرون يقولون إن الزايدة وصلت إلى نحو 30 بالمئة حتى في مناطق نائية وغير مُخدَّمة. بالتأكيد تختلف الظروف بالنسبة إلى ميسوري الحال، لكن هذا واقع حال الطبقة العاملة والمُفقَرة من النازحين؛ لبنانيين وسوريين.
بيروت مظلمة في هذه الأيّام وناسها حزينون، يتعامل بعضهم مع ما يحدث بسخرية حيث أنهم فقدوا ثقتهم بقدرة الدولة اللبنانية على حمايتهم. أما السوريون فقد فقدوا كل شيء؛ هذه ليست الكارثة الأولى، إذ رحّلت الأجهزة الأمنية والعسكريّة بين أيلول (سبتمبر) والسادس من تشرين الأول (أكتوبر) 2023 5025 لاجئ-ة، وسلّمت إلى الأمن العام 172 لاجئ-ة. كما أُقفلت الآلاف من المحلات التجارية والمراكز التي يستثمرها سوريّون على امتداد الأراضي اللبنانيّة، فيما دعت البلديّات كافة، وبخاصة في بيروت والبقاع شمال البلاد والنبطية وبرجا في الجنوب، المحافظين والمخاتير إلى وجوب تنظيم «الغرباء»، وتلك القرارات ما تزال تُطبَّق حتى على هؤلاء «الغرباء» الذين فرّوا من جحيم الضربات الإسرائيلية في الجنوب اللبناني.
الآن، ما من أحد يُخبّئ قلقه من أن تتسع رقعة الحرب، ذلك أنهم جميعاً مُستنزَفون، لأنهم أبناء الحرب ولم يعرفوا غيرها، ولأنهم أساساً متروكون لوحدهم منذ أن حطّت أقدامهم هذه البلاد.
احتمالية نشوب الحرب ما زالت قائمة، وفضلاً عن الجنون والإحباط الذي يلفُّنا ويمزّق قلوبنا بسبب الصور الآتية من غزة، ثمّة شعور بالإنكار نعيش فيه، ربّما إنكار في وجه الحقيقة التي لا نريد أن ندركها أو حتى نصدقها بأنّ هناك حرباً قد تُفرض وعلينا أن نقبل ذلك. أمّا النتائج، فيصعب علينا تَخيُّلها الآن.