في اليوم الخامس من العدوان الإسرائيلي على غزة، قصفت الطائرات الإسرائيلية مطاري دمشق وحلب وأخرجتهما عن الخدمة للمرة الأولى بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر)، لينضم هذا الهجوم المزدوج إلى أكثر من خمس هجمات على الأقل نفذتها إسرائيل على المطارات السورية قبل هذا التاريخ خلال عام 2023، إلّا أن وقعهُ هذه المرة كان مختلفاً في سياق التوتر الذي تشهده المنطقة.

وبعد أربعة أيام على الهجوم، أعلنت وزارة الدفاع في حكومة النظام تجريب صفارات الإنذار المركزية في دمشق واللاذقية، ومع أنها لم تُسمع وسط دمشق، إلا أنها خلقت رعباً وتساؤلاً عن الخطوة اللاحقة في حال سماعها، وعن إمكانية وقوع حربٍ مفتوحة وحقيقة وجود ملاجئ مهيأة لاستقبال المدنيين.

في اللاذقية، ردَّ مدير الدفاع المدني العميد جلال داود على هذه التساؤلات بالقول إن هنالك ثلاثة ملاجئ في اللاذقية وجبلة بسعة 500 شخص لكلٍّ منها، بالإضافة إلى ملجأ بسعة 3000 شخص لكنه خارج عن الخدمة.
هذا الإجراء لم يمرّ مرور الكرام، إذ سرعان ما تحول إلى مادة للسخرية لمستخدمي فيسبوك، في حين كان كافياً لاستشعار الحرب عند آخرين، وكانت أبرز التعليقات التي طالعناها: «في كهرباء لتشتغل الصفارة؟»، «في ملاجئ أصلاً نروح عليها؟»، «عيدوها ما سمعنا»، عدا عن الكثير من الدعوات وتوسل لطف الله بأحوال الناس.

مع ذلك اعتمدت وكالات الأنباء الحكومية والمحسوبة عليها ترسيخ فكرة وجود النظام السوري كلاعب رئيسي في المنطقة، وخلق وهم «استرداد هيبة الأسد» من خلال تغطية محادثاته واتصالاته ومواقف نظامه الثابتة تجاه القضية الفلسطينية.

غزة تحت القصف: ما يعرفه السوريون جيداً

ما يتداوله إعلام النظام لم يُطمئن جارتي في دمشق التي أخبرتني أنها «جهّزت بيتهم في الضيعة» وزودته بالمؤن لتكون بالقرب من عائلتها، وحضّرت الحقيبة نفسها التي استخدمتها بداية الثورة السورية قبيل قصف النظام على حي جوبر شمال شرقي العاصمة. بات السوريون يعرفون طبيعة القصف جيداً وتبعات الحرب الكارثية، ويميّز كثيرٌ منهم صوت القذيفة من القصف الصاروخي، وهذا ما دفع شطراً منهم إلى التخوُّف من الحرب أو الاستعداد لها كما لو أنها ستقع بالفعل، وكذلك دفع بغيرهم لإنكارها، أو متابعتها على الشاشات والانخراط بالنشاط الرقمي لدعم الحق الفلسطيني.

لُجين، إحدى الناشطات على مواقع التواصل الاجتماعي، وظّفت جميع حساباتها لنقل أخبار غزة، وتقول للجمهورية.نت: «من وقت الطوفان ما قدرت نام، ولمّا سكر عيوني أسمع الأصوات. أقلّ شيء ممكن هو أن نشارك الحقيقية، وبالحقيقة قلبي مات مع ما يحصل في إدلب». أخبرتنا أنها اتفقت مع صديقةٍ تعمل في ألمانيا تخشى أن تُفصَل من عملها في حال أظهرت أي نوعٍ من أنواع التعاطف قد يُحسب عليها «معاداة للسامية». تقول لُجين: «أنا أنشر كل ما يتعلق بفلسطين وهي تنشر عن إدلب، نحن نتبادل الأدوار ولكننا جميعاً في جحيم».
بالتزامن مع الحرب على غزة، تشهد مناطق شمال غربي سوريا تصعيداً عسكرياً منذ بداية تشرين الأول (أكتوبر) الحالي، استجابت خلاله فرق الدفاع المدني لما يزيد على 194 هجوماً خلال النصف الأول من الشهر.

وقفات تضامنية محمية

يُحدد النظام السوري سقف المسموح به في المناطق الواقعة تحت قبضته، إذ سمح بالتضامن مع الفلسطينيين في غزة وأعلنت حكومته الحداد ثلاثة أيام على ضحايا المشفى الأهلي المعمداني في القطاع، ما أتاح إمكانية النزول إلى الشارع والهتاف تحت رايته لمن يوافق على ذلك. لكن هذا الضوء الأخضر نفسه كان العقبة بالنسبة لكثيرين، ومنهم لجين التي وجدت منصات التواصل الاجتماعي مكانها الوحيد لإيصال صوتها دون اضطرارها لحمل صور الأسد خلال التظاهرات المتضامنة مع أهالي غزة.
كان من المتوقع نزول حشود جماهيرية كبيرة في دمشق إزاء هذا النوع من الاحتجاجات، لكن الوقفات التضامنية مع غزة اقتصرت على مقرات بعض النقابات الذي أخذ أعضاؤها صوراً إلى جانب صور الأسد الأب والابن، وعلى وقفات متفرقة في ساحات دمشق نظمتها مؤسسات حكومية وأحزاب موالية لها.

بعد إحدى هذه الوقفات تحدثنا مع شابين وسط دمشق. الأول هو باسم، الذي كان غاضباً من هتافات طالبت  بفتح الحدود أو إعلان الحرب مع إسرائيل. برر غضبه قائلاً: «الرئيس في حواره مع سكاي نيوز قال إن المعارك داخل سوريا هي الأولوية»، فقاطعه صديقه وائل الذي فضّل مراقبة الوقفة من بعيد ليحوّل الحديث إلى هتاف: «الاحتلال يطلع برا». يقول وائل للجمهورية.نت: «من المضحك مطالبة الاحتلال الإسرائيلي بالرحيل عن فلسطين من ساحة المحافظة وسط العاصمة السورية، في حين أننا سنواجه بالرصاص لو صرخنا ضد القوات الروسية أو الإيرانية بالهتاف نفسه».

يجد وائل هذه الوقفات مرعيةً من النظام السوري بشكلٍ فاقع، ويستخدمها لتلميع صورته وإقحام نفسه داخل المشهد الدولي رغم أنه مستبعد بوضوح، ويخشى على الفلسطينيين «من الأمل به» حسب تعبيره: «أشاهد صدمة مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي من مواقف جامعة الدول العربية والأمم المتحدة ودول العالم. نحن أيضاً كنا في موقعٍ مشابه وخذلنا العالم كله. إغلاق معبر رفح يُعيدنا إلى إغلاق المعبر الإنساني في وجه إدلب بعد الزلزال». ويضيف وائل عن آمال البعض بموقفٍ مختلف عن ذلك من النظام السوري: «بشار الأسد عاجز تماماً عن التدخل، أولاً: لأنه جبان، ويصوّر لنا في مقابلاته أنه يرد في الوقت والمكان المناسب ولكنه يقصد أنه سيقصف إدلب. ثانياً: لأنه يحكم دولة منهارة اقتصادياً بفضله والحرب بحاجة تمويل لا يمتلكه».

المقاومة كحقل ألغام

منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، تغيب في دمشق أي نقاشات سياسية لا تتعلق بغزة، وقد يغيب النقاش السياسي كليّاً لصالح الانشغال بالوضع المعيشي أو للهروب من استحضار ذاكرة الحرب القريبة، لكن الارتباط الشعبي بالحق الفلسطيني يبدو جلياً وسهلَ الالتقاط. في المقهى شبانٌ يضعون الكوفية حول أعناقهم في يومٍ «عادي»، وفي صالونات الحلاقة أو المحلات التجارية نشاهد بثّ قنواتٍ «مُغرضة» تغطي ما يحصل في غزة.

يلاحظ هذا حمزة، العامل في المجال الحقوقي، ويعزوهُ إلى ارتباطٍ بين حياة ومصير السوريين والقضية الفلسطينية على المستوى الإنساني والتحرري من القمع والاضطهاد: «لم يعد الأمر مجرد ارتباطٍ قومي أو ديني أو سياسي، ولا يُفسّر على أنه رواسب تربية بعثية؛ لأن جيلاً جديداً كبر خلال الثورة السورية ولا يعرف إلا همومها، وبالطبع هذا الجيل والأكبر منه، والذي عاش صراعات الثورة السورية لا تنطلق دوافعه من دعم محور المقاومة».

يضيف حمزة: «تورُّطُ محور الممانعة المتمثل بإيران وحزب الله بالدم السوري، عدا عن مواقف الفصائل الفلسطينية الداعمة للأسد، جعل التضامن السوري مع القضية الفلسطينية من مُنطلق المقاومة العسكرية شائكاً ومعقداً على السوريين. ولكن في الوقت الذي يحاول البعض حلّ هذه العُقد إلّا أنها بالتأكيد بالغة الصعوبة لمَن راكم الخسارات».
يختلف السوريون ربما بالآلية وطبيعة الانسياق حول دعم أطراف سياسية وعسكرية، إلا أن جميع من تحدثنا معهم أجمعوا على فكرةٍ واحدة تؤرقهم جميعاً، وهي تكرار سيناريوهات عشناها كسوريين وعاشها قبلنا فلسطينيون: تدمير المكان وتهجير أهله وتغيير ديموغرافيته.