تُعتبَر فرنسا من أوائل الدول الغربية التي اعترفت بحق الفلسطينيين في إنشاء دولتهم، إذ صوتت في 22 تشرين الثاني (نوفمبر) 1974 لصالح الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية داخل الأمم المتحدة كعضو مراقب، وتلاحقت بعدها المواقف الفرنسية الداعمة للقضية الفلسطينية، فكان فرانسوا ميتران أول رئيس فرنسي يتحدث عن حق الفلسطينيين في إنشاء دولة لهم داخل الكنيست الإسرائيلي عام 1982. ولم تتوقف التحركات الفرنسية هنا، بل أيضاً قامت فرنسا بترقية وضع البعثة الفلسطينية في فرنسا لتصبح برئاسة سفير، وتَشغلُ المنصبَ حالياً السفيرة هالة أبو حصيرة. حوَّلَ ذلك القضية الفلسطينية إلى مثابة «الإرث» بالنسبة لرؤساء الجمهورية الخامسة في فرنسا، لكن يبدو أن هذا الإرث سيضيع بعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، وسيصبح التضامنُ مع الفلسطينيين في فرنسا جريمةً يُعاقب عليها القانون.

اضطلعت فرنسا بدورٍ كبير بعد عملية «طوفان الأقصى» التي نفذتها حركة حماس في السابع من الشهر الحالي. دور فرنسا كان مُستعجلاً وعلى جميع المستويات، بدأ بإدانة الهجوم مثلما فعلت غالبية دول العالم، قبل أن ينتقل إلى مستويات عالية من التنسيق والدعم الإعلامي واللوجستي والسياسي والأمني لصالح إسرائيل، وصلَ حدَّ تقديم معلومات استخباراتية بحسب ما أعلن وزير الدفاع الفرنسي سيباستيان لوكورنو في 16 تشرين الأول (أكتوبر).

لكن الدعم الأهم الذي قدمته فرنسا لإسرائيل، كان تهيئة الرأي العام الفرنسي لقصة جديدة عن الصراع الفلسطيني الإسرائيلي والتخلّي عن إرث كثير من رؤساء الجمهورية الخامسة الذين رفضوا ممارسات إسرائيل. والمعروف عن جزء كبير من الرأي العام في فرنسا منذ عهد الجنرال دو غول، أنه دوماً ما يحرص أن ينظر إلى هذا الصراع بعينين، الأولى لإسرائيل والثانية للقضية الفلسطينية، التي تُعتبر واحدةً من القضايا الخارجية النادرة التي تُخرِجُ أعدداً هائلة من الفرنسيين إلى الشارع. في حرب عام 2008-2009، شارك نحو 50 ألف شخص في تظاهرات رافضة للعدوان الإسرائيلي على غزة آنذاك. لكن هذا الرأي تعرّضَ إلى شكلٍ من أشكال التلاعب بالذاكرة والعاطفة بعد عملية «طوفان الأقصى»، من خلال جعل كل المقارنات مع هجوم حماس تنطلق من هجوم باتاكلان الذي نفَّذه تنظيم الدولة الإسلامية عام 2015 في باريس، فتسابق النابشون في الذاكرة الفرنسية على الشاشات للقول إن حماس هاجمت أشخاصاً كانوا يرقصون ويغنون بسلام، مثلما فعل تنظيم داعش في مسرح باتاكلان.

المقارنة بين عملية «طوفان الأقصى» وهجوم باتاكلان كانت رابحةً على كل الصُعُد؛ بدأت إعلامياً ثم اتَّضحَ لاحقاً أنها ستصبح راحة اليد التي ستمنع عين الفرنسيين الثانية من إلقاء نظرةٍ على فلسطين، من خلال تبني المقارنة سياسياً في مجلسي النواب والشيوخ، الذي قال رئيسه اليميني جيرار لارشيه أمام الأعضاء إن «مذبحة باتاكلان لها صدى فريد في مذبحة الشباب الإسرائيليين». وما ساعد أيضاً على اقتياد الرأي العام الفرنسي إلى معسكر الرواية الإسرائيلية، أن صلاح عبد السلام أحد العقول المدبرة لهجوم باتاكلان ما يزال على قيد الحياة، وهو لا يبعد سوى 300 كيلومتر عن باريس حيث هو محتجزٌ في العاصمة البلجيكية بروكسل، وبالنسبة لكثيرٍ من الفرنسيين ما يزال ذلك الوحش الحر القادر على إخافتهم، خصوصاً وأنه للتو حقق «انتصاراً قضائياً» برفض القضاء البلجيكي طلباً فرنسياً لتسليمه إلى باريس قبل نحو ثلاثة أسابيع من «طوفان الأقصى». يضاف إلى ذلك، أن لفرنسا 28 قتيلاً سقطوا خلال هجوم حماس الأخير، وهؤلاء على الرغم من تحفظ السلطات عن كشف أسمائهم، إلا أن بعض المعلومات القليلة المتوفرة تشير إلى أنهم مواطنون يحملون الجنسية الإسرائيلية ولا يعيشون في فرنسا أصلاً وبينهم عدد من الجنود في الخدمة رسمياً أو من جنود الاحتياط، مثل دان بنحامو، وأفيدان تورغمان أحد منظمي الحفل الموسيقي الذي هاجمته حماس، وهُما من جنود الاحتياط في الجيش الإسرائيلي ويعيشان في إسرائيل منذ أن كان عمرهما لا يتجاوز الأربعة أشهر، فضلاً عن بنيامين لوب، الذي قُتل أثناء خدمته كجندي في الجيش الإسرائيلي خلال المواجهات مع حماس، وهو من «الوحدة 202، المظليين الدينيين» بحسب شهادة والدته، وفالنتان غناسيا الذي قتل بدوره أثناء مواجهته لمقاتلي حماس كجندي خلال أوقات الخدمة.

على هذا المنوال، نجحت سياسة استحضار الذكريات المخيفة التي عاشها الفرنسيون في خلق طقس من التأييد الأعمى لإسرائيل، وجعلت ضحايا القصف الإسرائيلي على غزة غير مرئيين؛ ترافقَ ذلك مع قرارات سياسية اتخذها وزيرا الداخلية والعدل بحظر أي تحركاتٍ مؤيدة للفلسطينيين في فرنسا، مع فرض عقوباتٍ على المخالفين بالسجن ودفع غرامات مالية حتى لمجرد «إظهار التعاطف مع حماس» أو تبرير هجومها على إسرائيل. وهذه العقوبة كانت فضفاضة وشملت في كثير من الحالات حيازة العلم الفلسطيني في الأماكن العامة، أو ارتداء الكوفية الفلسطينية.

في 14 تشرين الأول (أكتوبر)، دعا فرنسيون لتظاهرةٍ في ساحة الجمهورية في باريس تضامناً مع غزة وتنديداً بالعملية العسكرية الإسرائيلية على القطاع. التظاهرة تم حظرها من قبل قيادة شرطة باريس بناءً على طلب وزير الداخلية «حظر أي تحركٍ فلسطيني في فرنسا بشكلٍ منهجي». لكن برغم الحظر، تجمع المئات في ساحة الجمهورية في تحدٍّ لقرار وزير الداخلية، إلا أن وحدات من الشرطة الفرنسية والجندرما وقوات التدخل السريع، نجحت في محاصرة المتظاهرين واعتقال كل المشاركين تقريباً وتحرير غرامات بحقهم بلغت 135 يورو لكل مشارك قبل الإفراج عنهم. قيادة شرطة باريس أعلنت أن عدد من تم اعتقالهم ومخالفتهم بلغ 752 شخصاً.

يأتي ذلك مع تصاعد الخطاب العنصري ضد فرنسيين من أصول عربية، ونواب من كتلة حزب «فرنسا غير الخاضعة» اليساري الراديكالي الذي أسسه جان لوك ميلانشون. التحريض وصل إلى حد الدعوة لتصفية هؤلاء النواب سياسياً وجسدياً كما جاء على لسان الفنان إنريكو ماسياس خلال استضافته على قناة سي نيوز اليمينية المتطرفة. والقناة عينها، من بين الأكثر متابعةً في فرنسا، اضطلعت بدورٍ كبير في التعتيم على ما يحصل في غزة وبثّ خطاب الكراهية، حتى أنها أعادت نشر ادعاء قطع رؤوس 40 طفلاً إسرائيلياً من قبل مقاتلي حماس في كفار عزة بكثافة.

خبرُ قطع رؤوس الأطفال بُثَّ بشكلٍ مكثّف في وسائل الإعلام الفرنسية، وخصوصاً قناة بي إف إم. مصدر الخبر في البداية كان قناة I24 News المملوكة من قبل رجل الأعمال والملياردير الفرنسي المغربي اليهودي باتريك دراحي، المالك أيضاً لقناة بي إف إم الفرنسية، وهو ما يعطي صورةً واضحةً إلى حدٍّ كبير عن سبب السياسة التي انتهجتها القناة في تغطية ما حدث من جانبٍ واحد. وبرغم محاولة I24 News التنصُّلَ من خبر قطع رؤوس الأطفال الإسرائيليين الأربعين، من خلال نَسبِ الخبر إلى مصدرٍ في الجيش الإسرائيلي لاحقاً، استمر تكرار الادعاء في وسائل الإعلام الفرنسية، وخصوصاً بي إف إم من خلال الضيوف الذين استضافتهم، كما أنها لم تنقل شهادات نشرها مراسلون لوسائل إعلام فرنسية أخرى، أبرزهم صامويل فوري، مراسل صحيفة لوموند الذي قال في تغريدةٍ على موقع إكس: «كنت أمس (10 أكتوبر) في كفار عزة. لم يُبلغني أيُّ شخص عن حوادث قطعٍ للرؤوس، ولا عن أطفال قُطعت رؤوسهم. ولا حتى عن 40 طفلاً قُطعت رؤوسهم». الصحفي، وتحت وابلٍ من الانتقادات والاتهامات بـ«التغطية على جرائم حماس»، قام بحذف التغريدة في اليوم التالي.

بعد هذا اللغط الذي تسبّبت به القناة المملوكة للملياردير الفرنسي، بدأت وسائل الإعلام الفرنسية الممولة من قبل دافعي الضرائب، تتخذ نهجاً مختلفاً في طريقة تغطيتها للحرب. فأصبح خبر الضحايا الفلسطينيين في غزة حاضراً، كما أن نوعية الضيوف في البرامج الحوارية اختلفت عن تلك التي حرصت بي إف إم وقنوات أخرى مقربة من اليمين واليمين المتطرف على فتح الهواء لهم.

على إذاعة فرانس إنتر، المملوكة من قبل مجموعة «راديو فرنسا» والممولة من قبل دافعي الضرائب، استضافت ليا سلامة ونيكولا ديموراند في 12 تشرين الأول (أكتوبر) دومينيك دو فيلبان، أحد أبرز رؤساء الحكومات في فرنسا ووزراء الخارجية. دو فيلبان كان أول سياسي فرنسي رفيع المستوى يتحدث عن مسؤولية إسرائيل والمجتمع الدولي تجاه ما حصل. رئيس الوزراء الأسبق قال، في صباح اليوم الذي ألقى فيه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خطاباً للفرنسيين أعلن فيه دعم فرنسا الكامل لإسرائيل وحقها في «رد قوي وعادل» على حماس: «إن حق الدفاع عن النفس لا يعطي الحق بالانتقام العشوائي»، مضيفاً: «لا أستغرب من هذه الكراهية التي تم التعبير عنها (هجوم حماس)، عندما نتذكر ما قلناه جميعاً عن هذا السجن المفتوح»؛ أي قطاع غزة.

على غرار فرانس إنتر، استضافت قناة LCI صوتاً معارضاً للحرب الإسرائيلية على غزة، لكن هذه المرة كان عوفير برونشتاين، المستشار السابق لرئيس الوزراء الإسرائيلي الراحل إسحق رابين، والمستشار الحالي للرئيس الفرنسي حول ملف التقارب الإسرائيلي الفلسطيني. برونشتاين، والذي يرأسُ كذلك المنتدى الدولي للسلام، حملَ خطاباً مختلفاً عن خطاب الرئيس الفرنسي الذي تجاهل الحديث عن المدنيين الذين قتلتهم إسرائيل في غزة، وقال إن «المجتمع الإسرائيلي بعد موت رابين اتجه أكثر نحو اليمين، حتى وصلنا اليوم إلى اليمين المتطرف الفاشي المؤيد للإرهاب اليهودي كذلك». وأضاف: «بفضل اتفاق أوسلو الذي توصَّلَ إليه رابين وياسر عرفات، وُلِدَت سلطة فلسطينية  (..) لا أقول إن هذا كان أمراً مثالياً، فأنا أريد أن أشهد ولادة دولةٍ فلسطينية حرة. لا أريد مشاهدة الفلسطينيين يتعرضون للإذلال من قبل مستوطنين ومتطرفين. أريد سلاماً بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لكننا للأسف منذ ذلك الحين فقدنا جيلاً كاملاً من الفلسطينيين والإسرائيليين».

لكن هذه المحاولات الخجولة في إبراز صوت مختلف عن دعوات الانتقام الفرنسية الرسمية، الصادرة عن رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء والخارجية الفرنسية، لم تُغيّر من المشهد المسيطر على الموقف الفرنسي. فحثُّ إسرائيل على مواصلة عمليتها العسكرية لم يتوقف، وخطاب الكراهية ظلَّ حاضراً بقوة في وسائل الإعلام، فيما انتقلت الإجراءات الحكومية إلى مستويات أخرى من التضييق على المتعاطفين مع القضية الفلسطينية، مع تهديد وزير العدل إريك دوبون موريتي بعقوبة السجن ما بين خمس إلى ست سنوات بحق من يُظهر «تعاطفاً مع حركة حماس»، فيما أعلن وزير الداخلية الفرنسي جيرالد درمانان أنه تلقى تعليمات من الرئيس الفرنسي حول ضرورة رفع مستوى التأهب الأمني وتشديد الحراسة حول مدارس اليهود وأماكن تَجمُّعهم في فرنسا. وأعلن في مؤتمر صحفي أنّه منذ هجوم حماس على إسرائيل تم اعتقال «102 شخصاً لارتكابهم أفعالاً معادية للسامية»، معلناً أن إجراءات أخرى ستُتخذ بحق من يُبدي تعاطفاً أو تواصلاً مع «منظمات إرهابية مثل حماس» تشمل سحب الإقامة أو حتى إلغاء قرار اللجوء إذا كانوا حاصلين عليه، وذلك تمهيداً لترحيلهم من فرنسا.

كلّ ذلك يأتي وسط سياسة الكيل بمكيالين. فبرغم أن الحوادث التي أشار إليها دارمانان وقال إنها مرتبطة بمعاداة السامية لم يتم توثيقها إعلامياً، إلا أن حوادث أخرى كان ضحيتها فرنسيون من أصول عربية لم يُعلَّق عليها. ففي العاصمة باريس، وفي 13 تشرين الأول (أكتوبر)، تعرّضت سيدةٌ فرنسية مسلمة للاعتقال على يد الشرطة في المنطقة الباريسية الثانية بعد تقدّم جارتها بشكوى للشرطة كان مفادها أن المتهمة «قالت للعمال في البناية التي تقطن فيها: السلام عليكم». وبحسب محامي السيدة نبيل بودي، برّرت الشرطة القضائية قرار الاعتقال بالقول إنه «في ظل المناخ الحالي (حرب اسرائيل‬⁩ على ⁧‫غزة‬⁩) لا يمكننا المخاطرة وتجاهل الشكوى»، قبل أن يتم الإفراج عن السيدة لاحقاً. أيضاً في حادثة كراهية مشابهة، تعرّضَ فرنسيٌّ من أصول مغاربية في منطقة كانيه بالقرب من مدينة كان جنوبي فرنسا، في 15 تشرين الأول (أكتوبر)، إلى اعتداءٍ بالضرب المبرح من قبل شخصين، أحدهما كان يحمل مطرقة والآخر يرتدي القلنسوة اليهودية. بحسب مكتب المحاماة الذي تولى القضية، فإن أحد الشخصين وجَّه كلاماً عنصرياً بحق الضحية، وقال له: «سأقطّعك إلى أشلاء وأرسلك إلى القدس يا عربي يا قذر».

في السياق أيضاً، أعلن معهد العالم العربي بشكلٍ مفاجىء إرجاء معرض «فلسطين وما تحمله للعالم»، الذي كان مقرراً من 12 إلى 15 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري. واكتفى المعهد أمام سيلٍ من الأسئلة والانتقادات بالقول إن قرار التأجيل «جاء في سياق الوضع الحالي في إسرائيل وفلسطين». وقبل ذلك، أصدرت رئيسة مجلس النواب الفرنسي قراراً بمنع عضو المكتب السياسي في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين مريم أبودقة من دخول المجلس بمناسبة «مؤتمر حول ظروف حياة الفلسطينيين في غزة»، كان مُقرَّراً قبل الأحداث الأخيرة. وقالت رئيسة المجلس في بيان: «إن وجود السيدة أبو دقة سيكون بمثابة استفزازٍ لا يُوصَف ضد جميع ضحايا معاداة السامية في جميع أنحاء العالم». كان ذلك قبل أن يُصدر وزير الداخلية في 16 تشرين الأول (أكتوبر) قراراً بتوقيف أبودقة وترحيلها من فرنسا.محاولة فرنسا منع الفرنسيين من التضامن مع الفلسطينيين في غزة، تبدو وكأنها تستورد الصراع إلى داخل الأراضي الفرنسية، وهو الأمر الذي قال ماكرون ووزير داخليته إنهما لا يريدانه، لكن في نظرة سريعة على الإجراءات المُقيِّدة لحرية التعبير، وعلى التضييق الذي تمارسه السلطات الأمنية على النشاطات الفلسطينية وتصاعُد خطاب الكراهية ضد العرب والمسلمين، يمكن القول إن الصراع أصبح بالفعل داخل الأراضي الفرنسية، خصوصاً وأن نواباً من مجلسي الشيوخ والنواب طلبوا رسمياً سحب الجنسية الفرنسية والكرة الذهبية من النجم الفرنسي كريم بنزيمة، استناداً إلى ادعاءات من وزير الداخلية حول وجود رابط بين بنزيمة وجماعة الإخوان المسلمين، وهو ما دفع اللاعب الدولي إلى إعلان نيته مقاضاة وزير الداخلية.