في مساء يوم الجمعة السادس من تشرين الأول (أكتوبر) الحالي، خرجت عبير (اسم مستعار، 28 عاماً) بصحبة والدتها من منزلها في بلدة ترمانين الإدلبية بقصد زيارة بعض الأقارب. وأثناء زيارتهما كانت أصوات القصف القادمة من بلدة دارة عزة القريبة تُسمَع بوضوح. عند الساعة التاسعة مساءً، سقطت أول قذيفة على ترمانين، تحديداً بالقرب من سوق البلدة.
دبَّ الرعب في قلب عبير، إذ كانت قد تركت أخاها وأختها (19 و13 عاماً) في المنزل وحدهما. اتصلت عبير بأخيها وسمعت صوته المرتجف من الخوف وبكاء أخته. وبعد خمس دقائق سقطت القذيفة الثانية على البلدة، وسُمعت أصوات الرجال في الشارع منادين بألّا يتحرك أحد من مكانه سوى فريق الدفاع المدني، فهناك مصابون.
انقطعت الكهرباء وشبكة الإنترنت في ترمانين. ولم يعد أهالي البلدة يسمعون إلّا أصوات سيارات الدفاع المدني والإسعاف. عاودت عبير الاتصال بأخيها، وطلبت منه أن يأخذ أخته وينزل إلى الطابق الأرضي من المنزل، ليجلسوا في زاوية محددة من أحد غرفه، وذلك لكي تستطيع فرق إنقاذ الدفاع المدني إيجادهم في حال تَعرَّضَ المنزل للقصف.
جولة جحيمية غير مسبوقة منذ سنوات
في ذلك الحين، كان قد مضى يومان على (إعادة) فتح النظام السوري وحلفائه بوابة الجحيم على مناطق وقرى وبلدات ريف إدلب وريف حلب الغربي، عبرَ أكثر من 198 هجمة على أكثر من 61 مدينة وبلدة وقرية، مع مساهمة الطائرات الحربية بأكثر من 35 غارة جوية خلال أيام التصعيد الخمس. استهدفت الهجمات الأحياء السكنية والأراضي الزراعية وعشرات المنشآت الخدمية في المنطقة، مُسبِّبة سقوط عشرات الضحايا والإصابات بين المدنيين، وتدميراً واسعاً في الأحياء السكنية والمنشآت الموجودة في المنطقة، وذلك بحسب بيان «منسقو استجابة سوريا».
فُسِّرت حملة القصف العنيفة تلك من قبل بعض الموالين والمعارضين، سواءً في الإعلام أو على مواقع التواصل الاجتماعي، على أنها «انتقامٌ» لضحايا الهجوم الذي تعرضت له الكلية الحربية في حمص في الخامس من الشهر الجاري، والذي استهدف بالمُسيَّرات حفل تَخرُّج دفعة طلاب ضباط من الكلية أودت بحياة 123 شخصاً، ما بين طلاب ضباط متخرجين ومدنيين من ذويهم بينهم أطفال، إضافة إلى عشرات المصابين. ورغم عدم إعلان أي جهة أو تنظيم مسؤوليته عن استهداف الكلية الحربية، وعدم فتح أي تحقيق جدّي لكشف ملابسات الاستهداف، اتَّهمت وزارة الخارجية السورية في بيان لها «التنظيمات الإرهابية المدعومة من الاحتلال الأميركي وأطراف دولية أخرى شريكة لها في سفك دماء السوريين». ومنذ الخامس من تشرين الأول (أكتوبر)، كثَّفَ النظام السوري وحلفاؤه القصف على إدلب وقرى وبلدات في ريفها وريف حلب الغربي، لكن القصف كان قد بدأ قبل هجوم الكلية الحربية بيوم، مُسبِّباً وفاة طفلة وإصابة ستة مدنيين آخرين في سرمين، حسب خبر نشرته صفحة الدفاع المدني السوري على الفيسبوك بتاريخ 4 تشرين الأول.
«كنا قاعدين عم ننتظر دورنا»
اتصلت عبير بخالها كي يوصلها وأمها بسيارته إلى منزلهم. وتروي لـ الجمهورية.نت: «استطاع خالي الوصول إلينا بعد مرور ساعة واحدة على سقوط أول قذيفتين في البلدة. ركبنا السيارة وقادها بنا بأقصى سرعة، من دون أن يشعل أضواءها خوفاً من أن ترصدها طائرات الاستطلاع». حين وصلت عبير وأمها إلى المنزل، وجدتا أخاها وأختها باكيَين من شدة الرعب والخوف، يُضيئان الغرفة بـ«فلاش» الموبايل بسبب انقطاع الكهرباء عن المنطقة.
بعد أن هدأ القصف قليلاً، سقطت قذيفة أخرى، ثم تلتها أربعة قذائف متتالية، كما تروي عبير، وتكمل: «بعد أن هدأت أصوات القذائف مجدداً، قرَّرنا أن نخرج من المنزل لمدّ شريط من ضوء الليدّات. صعد أخي إلى الطابق الثاني من البيت ليوصل الشريط، وعدنا نحن إلى الداخل. وأثناء وقوفه على الشرفة، قُصِفَت المنطقة بقنبلة عنقودية. ومن شدة خوفه كان على وشك أن يرمي نفسه من شرفة المنزل».
عاد أخو عبير من محاولة إضاءة البيت الفاشلة حافيَ القدمين وبوجه مصفرّ إلى الطابق الأرضي، حيث تجلس عائلته في العتمة. ارتدى الجميع أحذيتهم وثيابهم كاملة، تَحسُّباً لأي خروج اضطراري سريع في حال هبطت قذيفة بالقرب منهم. تقول عبير: «لم نستطع النوم طوال الليل في ذلك اليوم، لم تَغفُ أعيننا ولو للحظة جرّاء أصوات القصف العنيف الذي لا يمكن وصفه، وسماع أصوات القذائف التي تسقط في بلدتنا وبلدتَي الدانا ودارة عزة. كانت أختي الصغيرة تصرخ وتقول: ’يا رب موتني وخدني عند أبي بس لارتاح من الخوف وأصوات القصف‘. قضينا وقتنا جالسين في العتمة، ولا نعلم، بشكل دقيق، أين تسقط تلك الصواريخ والقذائف». ثم تكمل: «كنا قاعدين عم ننتظر دورنا».
لم تَشهد محافظة إدلب وقرى وبلدات ريفها وريف حلب الغربي استهدافاً عسكرياً بهذا العنف منذ ربيع 2020. وقد حضرت مجريات ذاك العام في ذهن عبير وهي جالسة مع عائلتها في عتمة منزلهم في بلدة ترمانين الواقعة في ناحية الدانا، إذ تعرَّضَ منزلهم عام 2020 لقصف عنيف أدى إلى مقتل أخيها الذي كان يبلغ من العمر 20 عاماً وقتها في منتصف شهر شباط (فبراير)، ودمار جزء من منزلهم؛ ثم قُتِلَ والدها في بداية شهر نيسان (أبريل) عن 55 عاماً.
أمضت عبير وعائلتها ليلة السادس من تشرين الأول دون نوم، ساهرين على صوت عشرات القذائف التي انهمرت على المنطقة حتى الساعة الرابعة فجراً، كما تروي لنا. وفي صباح اليوم التالي أتى خالها إلى منزلهم مجدداً وطلب منهم أن يستعدوا لمغادرة المنزل. تقول عبير: «رفضَت أمي الخروج من المنزل. تخاف من مغادرة المنزل والنزوح، إذ جرَّبناه قبل ذلك، وهو أشبه بكابوس يلاحقنا، وطوال الوقت نتمنى ألا يتكرر. لكني ضغطتُ مع خالي عليها بسبب خوف أختي الصغيرة وأخي الوحيد، وعند حوالي الساعة الثانية عشر ظهراً توجهنا إلى أطمة، التي تعتبر آمنة قليلاً، كونها منطقة حدودية مع تركيا».
توقفت الخدمات العامة والمدارس عن العمل في ترمانين، ما دفع أهالي البلدة للنزوح إلى أماكن تعتبر أكثر أماناً، خاصة المناطق التي تقع على الحدود السورية التركية، إضافة إلى مناطق «غصن الزيتون» و«درع الفرات»، الخاضعة للسيطرة التركية شمال غرب سوريا. يشرح الصحفي زين يوسف لـ الجمهورية.نت الوضع في ترمانين خلال الأيام الماضية: «هدأت وتيرة القصف صباح الإثنين، التاسع من تشرين الأول، لكن غالبية سكان ترمانين لم يعودوا مجدداً إلى منازلهم، وفي الوقت الحالي لا يتواجد في البلدة سوى 3 آلاف شخص تقريباً، غالبيتهم من الذكور الذين استطاعوا إخراج عائلاتهم من البلدة ومن ثم العودة إليها». وعن وضع البلدة قبل الجولة الأخيرة يضيف اليوسف: «كانت بلدة ترمانين من المناطق ’شبه‘ الآمنة في شمال غربي سوريا، وكان يقطنها حوالي 45 ألف نسمة، ثلثهم من مهجّري المناطق التي سيطرت عليها قوات النظام السوري خلال السنوات الماضية». ويعود اليوسف إلى وقائع الأيام الأخيرة شارحاً: «عمليات القصف كانت ممنهجة، إذ استهدفت صواريخ النظام وحلفائه مُجمَّعاً طبياً بالقنابل العنقودية من نوع سميرتش الروسية. وأدى قصف وسط البلدة إلى استشهاد 5 أشخاص وإصابة 17 آخرين، ثلاثة منهم أصاباتهم خطرة».
جسر الشغور مدينة أشباح
أدى القصف العنيف على مدينة جسر الشغور إلى نزوح كبير من المنطقة، وأُفرِغَت الشوارع من المارَّة، ونزح جزء كبير من أهالي المدينة إلى المخيمات، أو إلى بيوت أقربائهم أو معارفهم، بحسب الصحفي والناشط محمد خضير.
يقول خضير لـ الجمهورية.نت: «تعمَّدَ النظام السوري، منذ البداية، استهداف الأحياء السكنية والمساجد والمدارس والأسواق الشعبية، وتسبب بمقتل عدة أشخاص وإصابة العشرات في جسر الشغور. وعلى عكس الضربات السابقة التي كان يستهدف بها المدينة على فترات متباعدة، كان القصف هذه المرة مُكثَّفاً، ضرب المدينة بأكثر من 15 صاروخ وقذيفة، والفارق الزمني ما بين ضربة وأخرى يتراوح ما بين 10 و30 دقيقة». وأضاف خضير: «بعد يومين من القصف ونزوح الأهالي من المنطقة، تحوَّلت جسر الشغور إلى مدينة أشباح، إذ لم يبقَ أحد فيها سوى القليل من الناس الذين لا يملكون مكاناً آخر يلجأون إليه. وتوجَّهت أغلب عائلات جسر الشغور إلى المناطق المجاورة، مثل خربة الزوف والملند وزرزور ودركوش، وأغلبها يوجد فيها مخيمات قديمة، إضافة إلى استحداث أربعة مراكز إيواء جديدة، وتحديداً في منطقة عيون عارة ومنطقة مزري في زرزور، والدرّية بدركوش والزوف».
وكان فريق الدفاع المدني قد نشر مقطع فيديو وثق فيه آثار القصف الذي تعرضت له جسر الشغور بصواريخ حارقة محرمة دولياً.
أما منطقة أريحا، الواقعة شرق مدينة جسر الشغور، فقد تعرَّضت هي الأخرى لقصف عنيف من قبل النظام السوري خلّفَ دماراً هائلاً في البنى السكنية وضحايا كثر وخسائر مادية كبيرة، بحسب الصحفي مهند اليماني: «رغم أن التصعيد على المنطقة انخفضَ منذ صباح يوم الإثنين 9 تشرين الأول (أكتوبر)، لكن أهالي منطقة أريحا ما زالوا متخوفين من أن يعاود النظام قصف المنطقة مرة أخرى، لذلك يتحرك الناس بحذر شديد في الشوارع».
لم تشهد أريحا حركة نزوح كبيرة، إذ كان الأهالي يخرجون من بيوتهم في النهار إلى الأراضي المحيطة بمنطقة أريحا، أو يقصدون منازل أقربائهم في مناطق أخرى أكثر أمناً، كما يوضح اليماني. وجزء من أهالي المنطقة توجّهوا إلى مراكز الإيواء المؤقتة التي انشأتها وزارة التنمية التابعة لحكومة الإنقاذ في معرة مصرين شمالي إدلب.
وبعد الهدوء النسبي التي شهدته مناطق في إدلب وقرى وبلدات ريف إدلب وريف حلب الغربي بتاريخ 9 تشرين الأول، استهدف الطيران الحربي الروسي وطيران النظام المنطقة مجدداً مساء يوم الجمعة 13 تشرين الأول، تحديداً في منطقة جبل الأربعين قرب أريحا في ريف إدلب الجنوبي. وقد أدت هذه الغارات إلى مقتل سيدة وإصابة زوجها، وهما والدا الشاب المتطوع في فريق الدفاع المدني السوري أحمد مهدي أحمدو. كما أصيب مدنيٌ بجروح إثر الغارات الجوية الروسية التي استهدفت قرية بلشون في ريف إدلب الجنوبي، ومحيط قرى أحسم وجوزف وجنوبي بليون في الريف نفسه دون وجود إصابات، بحسب تقرير الدفاع المدني السوري.
تختلط الأنقاض الناتجة عن الجولة العنيفة الأخيرة من قصف النظام وحليفه الروسي في إدلب وريف حلب الغربي مع أنقاض زلزال السادس من شباط (فبراير) الماضي، وأنقاض العقد الماضي بكامله. وبين الركام، يترقّبُ أهالي المنطقة بحذر ما ستحمله الأيام المقبلة: هل جاءت جولة القصف هذه ردّاً على هجوم الكلية الحربية فحسب، أم أنها جزءٌ من مخطط عسكري مُقبل أكبر؟ سؤالٌ صعبٌ يجول أيام الخريف المتقدّمة نحو شتاءٍ معيشيّ بدأت تظهر ملامح قسوته.