«كانوا يحملوني ويضربوني بالأرض في نظارة مشفى تشرين العسكري. استمر هذا ربع ساعة توقعوا بعدها أنني انتهيت فوضعوني مع الموتى. كانت الجثث توضع فوق بعضها فجاء نصيبي فوق جثتين، ثم وضعوا عليّ اثنتين أخريين تمت تصفيتهما بعدي. بعد حوالي نصف ساعة أخذت أصحو. سرت قشعريرة مؤلمة في جسدي تبدأ من أصابع قدمي وكانت تمتد تدريجياً إلى باقي أعضاء جسدي. تحركت قليلاً فوقعت الجثتان من فوقي. صرت أصيح بشكل لا أدري من أين أتى. أظن أن المشفى كله سمعني يومها. 

شعر الشاويشية الشبيحة بالخوف، فهرعوا إلي ثانية. يضربونني على رأسي وبطني وكليتي، على كل مكان، وأنا لا أتوقف عن الصراخ. صار أحدهم يبكي ويقول: مشان الله سكتوه. وهم مستمرون بضربي. كنت شبه عار، بالسروال الداخلي، وكنت قد تبولت وتبرزت لا إرادياً. بعد خروجي حياً من المعتقل، رويت لأحد الأطباء ما حدث معي بخصوص القشعريرة فشرح لي أن قلبي توقف ثم عاد إلى الحياة وبدأ يضخ الدم مجدداً»  

***** 

بعد عام على صدور تقريرها عن هيكلية سجن صيدنايا، أصدرت رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا يوم أمس تقريراً بالغ الأهمية حول مستشفى تشرين العسكري بعنوان «دفنوهم بصمت..آليات القتل والإخفاء في مستشفى تشرين العسكري»، والذي يُقدِّم للمرة الأولى معلوماتٍ تكشف عن هيكلية وآليات إدارة المستشفى الذي تحوَّلَ بعد انطلاق الثورة السورية إلى أحد مراكز القتل والإخفاء القسري الرئيسية في البلاد، وذلك من خلال عملية بحث وتقصٍّ شملت عشرات المقابلات مع عاملين سابقين في المستشفى وناجين من الاعتقال مروا خلال اعتقالهم على هذا المكان الرهيب، عملية دامت لأكثر من عامين وأدت في نهايتها إلى خروج هذا التقرير الذي يصف بدقة كل المراحل التي يمر بها المعتقلين، وكذلك المسؤولين عن الجرائم المُرتكَبة فيها.

يتكون التقرير من ستّة أقسام، يتحدَّث أولها عن مستشفى تشرين وأهميته ضمن البنية العسكرية والإدارية للنظام السوري، فيما خُصِّصَ القسم الثاني لعرض دور الشرطة العسكرية والمخابرات العسكرية في عمليات الإخفاء والقتل. يتوقف القسمان الثالث والرابع عند الأقسام الطبية والإدارية وطريقة تعاملها مع المعتقلين، والجرائم المرتكبة في هذا السياق والآليات المتبعة. أما القسم الخامس فيتحدث عن مصير جثامين المعتقلين القتلى وطرق التعامل معها، كاشفاً الإجراءات الإدارية وهيكلية المسؤوليات عن عملية إخفاء مصير المعتقلين. ويختم القسم الأخير من التقرير بشرح الفروق بين معاملة كادر المستشفى للمعتقلين، ومعاملتهم المقربين من السلطة والمصابين من عناصر جيش النظام، والتمييز الممنهج الذي يُفضي بشكل مقصود إلى قتل المعتقلين أو وفاتهم نتيجة الإهمال المتعمَّد.

تُحاول هذه المادة تتبُّعَ عملية البحث التي أجراها الفريق، ورواية قصة هؤلاء الذين صنعوا هذا التقرير.

 ***** 

«لعلك قرأت تقرير وكالة الصحافة الفرنسية عن غرف الملح في سجن صيدنايا وما تبعه من معلومات في تقرير رابطة صيدنايا. لقد كنتُ أنا الشاهد، أنا من وضعوني في تلك الغرفة» يقول معتصم عبد الساتر، المُعتقَل السابق في سجن صيدنايا وعضو الفريق البحثي في رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا، الذي عمل على إنجاز التقرير عن مستشفى تشرين العسكري.

يصف معتصم تلك اللحظات الرهيبة التي كانت جزءاً من تجربة السجن في صيدنايا، باعتبارها سبباً رئيسياً دَفَعهُ للتفكير في مصير المعتقلين الذين جرى قتلُهم أو إخفاؤهم: «لا يجب أن ننسى من بقي هناك».

خلال إعداد الفريق البحثي في رابطة معتقلي صيدنايا، للتقرير عن هيكلية السجن سيء السمعة، كان من غير الواضح تماماً بالنسبة لهم الآلية التي تتبعها أجهزة النظام الإدارية والأمنية في التخلص من جثامين المعتقلين، الذين قضوا نتيجة التعذيب أو ظروف السجن شديدة السوء.

يقول دياب سرية المدير التنفيذي لرابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا: «كنا نعلم بأنّ النظام يوثق هذه العملية بفضل صور قيصر، وكنا نعلم مآل جثامين القتلى في السجون والمعتقلات، لكنّ المسؤوليات التفصيلية والإجراءات المتبعة لم تكن واضحة»، وهو ما دفع الرابطة للبدء بالعمل على بحثٍ جديد حول مستشفى تشرين العسكري.

وقعَ الاختيار على مستشفى تشرين العسكري قبل عامين من الآن، لعدد من الأسباب بحسب الفريق البحثي في الرابطة، أولها كان ارتباط هذا المستشفى بشكل وثيق مع سجن صيدنايا وعمليات التعذيب والقتل فيه، إذ كان المعتقلون المرضى في صيدنايا يُحوَّلون إليه، ونادراً ما كانوا يعودون إلى السجن، إذ قضت الغالبية العظمى منهم في أروقة المستشفى.

يقع مستشفى تشرين العسكري بالقرب من حي برزة شرق العاصمة دمشق، ويُعتبر هذا المستشفى الذي تأسس عام 1982 من أكبر المؤسسات الطبية التابعة للجيش في سوريا، وهو يتبع وفق تلك الهيكلية إدارة الخدمات الطبية التابعة بدورها لهيئة الإمداد والتموين المرتبطة مباشرةً برئاسة أركان الجيش.

تطلّ المباني الإسمنتية الضخمة للمستشفى على عشوائيات وأحياء متواضعة محيطة بها، مثل حي تشرين والقابون وبرزة البلد، بما يجعلُ من مبنى المستشفى أشبه بالقلعة في محيط من المساكن المتواضعة. وعلى العكس من تلك المساكن، كان مستشفى تشرين يعتبر الصرحَ الطبي العسكري الأهم في البلاد، والذي لا يضاهيه سوى المستشفى الجامعي. وخصِّصت فيه أجنحة خاصة لكبار الضباط وأُسَرهم، كانت تضاهي مستشفيات الأغنياء مثل مستشفى الشامي في دمشق.

تحوَّلَت مستشفى تشرين إلى ثكنة عسكرية مدججة بالأسلحة بعد انطلاق الثورة السورية في آذار 2011، خاصةً مع اقتراب فصائل المعارضة منها بعد سيطرتها على بلدات في ريف دمشق وأجزاء من حي برزة الدمشقي. يذكر التقرير حجم القوات العسكرية التي أُلحقت بالمستشفى وأنواعها، والتي شارك بعضها في قصف الأحياء المحيطة، بالإضافة إلى الإجراءات التي اتُّخذت لتأمين محيط المستشفى مثل تفجير المباني القريبة وقطع الأشجار.

حالات القتل في مستشفى تشرين بدأت، بحسب ما وثّق التقرير، عندما حُوِّلَ إليه عددٌ من المصابين في استعصاء سجن صيدنايا عام 2008، وجرى تصفية عدد منهم على يد عناصر الحراسة والممرضين، لكنّ هذه الجرائم اكتسبت طابعاً مُمنهجاً وأكثر تعقيداً بعد الثورة وبدء استخدام هذا المستشفى في عمليات الاعتقال والاختفاء القسري المرتبطة بسجن صيدنايا، وغيره من معتقلات الأفرع الأمنية التابعة للنظام السوري.

مع هذا القرار الذي اتخذه الفريق في رابطة صيدنايا، بدأت عملية صعبة ومضنية للبحث عن أي مصدرٍ للمعلومات يستطيع كشف آليات التصفية والإخفاء في المستشفى، خاصةً وأنّ عدداً من الأبحاث والدراسات والتقارير الحقوقية، قامت بتقديم معلومات مهمة حول مشافٍ عسكرية أخرى مثل المستشفى العسكري في حمص، ليبقى مستشفى تشرين العسكري المكان الأكثر غموضاً بالنسبة لمن يعمل في توثيق الانتهاكات في سوريا.

***** 

بعد حصولي على نسخة أولية من تقرير مستشفى تشرين، قررتُ البدء في العمل على تقرير يحكي أيضاً قصة الفريق الصغير الذين عملَ على إنجازه، وهم جميعاً من المعتقلين السابقين في سجن صيدنايا، وبلغ مجموع سنوات سجنهم ما يقارب العشرين عاماً. البداية كانت مع دياب سرية. اعتُقلَ دياب منتصف العقد الأول من القرن الحالي، وانتقل للعمل الحقوقي بعد خروجه من سوريا خوفاً من الاعتقال مرة ثانية في العام 2012. في العام 2017، بدأت تتبلور فكرة إنشاء الرابطة التي أسَّسها مع شركاء آخرين كانوا معتقلين في هذا السجن، وكان كشفُ آليات عمل النظام على إخفاء وقتل المعتقلين هدفاً أساسياً بالنسبة له.

ثاني من قابلتُهم من أجل إنجاز هذا التحقيق كان شادي هارون، وشادي الذي درس العلوم الاقتصادية ومارس عمله في قطاع البنوك السورية قبل انطلاق الثورة في البلاد، اعتُقل في العام 2011 بسبب مشاركته في الحراك، وقضى تسع سنوات جلُّها كانت في سجن صيدنايا. خرج شادي من المعتقل عام 2020، لينتقل إلى تركيا بعد أقل من عام ويعمل في قطاع المنظمات الإنسانية، حتى عَرضَ عليه رياض أولر، المعتقل السابق في سجن صيدنايا والشريك في تأسيس الرابطة، العمل في الرابطة على مشروع توثيق كان تقرير المشافي العسكرية آخر إنتاجاته.

الباحثان الميدانيان، أو المحققان اللذان عَمِلا على جمع المعلومات والبحث عن المصادر المتاحة داخل سوريا وخارجها، كانا بدورهما مُعتقلَين سابقَين في سجن صيدنايا؛ معتصم عبد الساتر وأبو يامن (اسم مستعار) احتجز كلٌّ منهما لسنوات في سجن صيدنايا بعد انطلاق الثورة في سوريا، وحملا معهما ذاكرة وتجارب كانت دافعاً رئيسياً للبحث عن حقيقة ما يجري وعن المسؤولين المباشرين عن تلك الفظائع التي كانا شاهدَين عليها.

 ***** 

لم تكن بداية العمل سهلةً أبداً: «بقينا نعمل لمدة عشرة شهور حتى استطعنا الوصول إلى الهيكلية الإدارية لمستشفى تشرين العسكري» يقول دياب سرية. كان الوصول إلى المصادر أمراً شديد الصعوبة كما وصف كل من شادي ومعتصم، فالناجون من الاعتقال والذي مروا خلال فترة اعتقالهم على مستشفى تشرين العسكري، لم يكونوا على إطلاع على آليات اتخاذ القرار والبنية الإدارية لتلك المؤسسة على سبيل المثال، أما الشهود من العسكريين المنشقين والعاملين السابقين في المستشفى فكانوا حذرين للغاية في إعطاء أي معلومات «قد تؤدي لإدانتهم، خاصةً في وجود محاكمات في أوروبا» بحسب شادي، الذي أكّدَ أنّه حتى هؤلاء لم يكونوا مطلعين على الصورة الكبيرة أو جميع مراحل آليات الإخفاء القسري التي يتّبعها النظام بعد تحويل المعتقلين المرضى أو القتلى إلى مستشفى تشرين العسكري.

«كان كل شخص منهم يعلم المهام الملقاة عليه، ولم يكونوا يعلمون ما هي المرحلة السابقة أو التالية. في إحدى المقابلات، عندما سألنا محققاً سابقاً في الشرطة العسكرية عن مصير التقرير الذي يُعدِّه حول حالة الوفاة، لم يكن يعلم. عرفنا بأنّه يُحوَّلُ إلى قاضي تحقيق عسكري، لكنّ المحقق لم يكن يعلم تلك المعلومة»؛ يذكر دياب سرية هذه الواقعة كمثال على صعوبة جمع المعلومات خلال العمل على هذا التقرير.

 وقبل ذلك، لم يكن البحث عن المنشقين والعاملين السابقين في المستشفى أمراً سهلاً، حاول فريق التحقيق الميداني الوصول إلى بعضهم ممن استقروا في الشمال السوري، كما استفادوا من عملهم على تقرير هيكلية سجن صيدنايا، لكنّ اقناعهم بالحديث لاحقاً والحصول على معلومات دقيقة منهم كان مهمةً صعبة بدورها.

«بدأنا من الصفر تماماً. حاولتُ الوصول إلى ممرضين سابقين في مستشفى تشرين العسكري من خلال البحث مع الفرق الطبية في الشمال السوري. كان الأمر مثل البحث عن إبرة في كومة قش، وحتى عندما نجدهم فإنّ بناء الثقة معهم وإقناعهم بالحديث كان مسألة في غاية الصعوبة»؛ يقول معتصم خلال حديثه عن عملية البحث التي أجراها للوصول إلى مصادر ذات مصداقية تمتلك معلومات حول المستشفى.

كان من الضروري أيضاً الحصول معلومات دقيقة من تلك المصادر: «في بعض الأحيان أعدنا المقابلة اثنتي عشر مرة على أوقات مختلفة ومتباعدة، للتأكّد من أن المعلومات التي حصلنا عليها من المصدر كانت حقيقية»؛ يقول شادي خلال شرحه منهجية العمل على التقرير.

اعتمد الفريق أيضاً على مصدرٍ مهم آخر، وهو البيانات التي يُوفّرها مشروع التوثيق القانوني ضمن رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا، وهو مشروعٌ يقوم بتوثيق شهادات الناجين من الاعتقال، ما يعطي الجزء الآخر من الصورة التي يبحثون عنها.

أجرى الباحثون من أجل إنجاز هذا التقرير 154 مقابلة مع 32 شخصاً، يتوزعون بين عاملين سابقين في المستشفى وعناصر منشقة من الشرطة العسكرية والأفرع الأمنية ذات الصلة ومعتقلين سابقين، وذلك من أجل الوصول إلى الصورة الكاملة، التي كما قُلنا لم تكن واضحةً حتى للكثير من العاملين فيها قبل صدور هذا التقرير.

 ***** 

تخضع المستشفى لتراتبية عسكرية واضحة، وتضم في هيكليتها مختلف الشعب الطبية اللازمة، ويشرح التقرير التغييرات في هيكلية وإدارة العمليات في المستشفى بعد انطلاق الثورة، وكيف جرى تكييفها من أجل تعذيب وتصفية المُعتقَلين القادمين إليها، وكذلك البنية الطائفية التي هيمنت على التعيينات الأمنية فيها بعد انطلاق الثورة، ودور الأطباء والممرضين في عمليات القتل وتزوير شهادات الوفاة، التي كانت تضع أسباب الوفاة للمعتقلين القتلى تحت التعذيب على أنّها أزمات قلبية أو فشل كلوي أو هبوط دوراني، لتكون هي الأسباب المُسجَّلة التي يتم ذكرها في وثائق السجلّ المدني لاحقاً.

تمتلك الشرطة العسكرية مفارزَ في كل المستشفيات العسكرية، ويحدد التقرير موقع المفرزة والنظارة التابعة لها في مستشفى تشرين، التي تكون المحطة الأولى لوصول المعتقلين، حيث يتم وضع جثامين المعتقلين القتلى المُرسَلين إلى المستشفى أو من قضوا خلال الرحلة إليها أمام النظارة من أجل تجميعهم، و«يُجبَر المعتقلون على حمل جثث زملائهم ووضعها في الآليات المعدة لنقلها إلى المقابر. وأحياناً يكون بين الجثث مرضى يراوحون بين الحياة والموت، فيقوم المساعد في النظارة بتصفيتهم».

بعد النظارة يتحدث التقرير عن نقل الناجين من المعتقلين إلى قسم الإسعاف الخاص بالمعتقلين، والذي افتُتحَ عام 2008 أثناء استعصاء سجن صيدنايا، وجرى تفعيله مجدداً بعد انطلاق الثورة عام 2011، ويجري انتقاء العاملين في هذا القسم بعناية من الموالين للنظام بحسب ما كشف التقرير.

في مقابل قسم الإسعاف الخاص بالمعتقلين يقع مكتب الطبابة الشرعية في المستشفى، وهو الذي يلعب دوراً وسيطاً كما يقول التقرير بين مهام الشرطة العسكرية والمخابرات العسكرية، حيث يتم نظرياً تشريح الجثة لكشف أسباب الوفاة، لكنّ التقرير كشفَ كيف تتم كتابة تلك التقارير بشكل آلي في مكتب الأطباء دون الكشف على جثامين المعتقلين، حيث يتم توقيع شهادة الوفاة أيضاً من قبل رئيس قسم الطب الشرعي في المشفى بناءً على تقرير التشريح الذي تمّ إعداده.

تضم المستشفى أيضاً مفرزةً للمخابرات العسكرية تابعة للفرع 227 المعروف باسم فرع المنطقة، والذين بالإضافة إلى مُراقبتهم الدقيقة لجميع الكوادر في مستشفى تشرين، كانوا مسؤولين عن عمليات تحميل ونقل جثث المعتقلين المتوفين من مشفى تشرين العسكري إلى المقابر الجماعية في نجها والقطيفة وجسر بغداد في محيط دمشق، بحسب التقرير.

وعلى الرغم من أنّ الإجراءات المذكورة ذاتها تُتبَّع بعد مقتل عسكريين تابعين للنظام السوري، لكنّ أمراً مهماً يحصل هنا، إذ يقوم الطبيب الشرعي بفحص الجثمان حقاً وتتم كتابة سبب الوفاة الحقيقي، والأهم من ذلك أنّ جثمان العسكري يجري تسليمه لأهله على عكس ما يجري مع جثامين المعتقلين القتلى الذين نادراً ما سُلِّموا لأهاليهم، وفي الحالات النادرة التي حصل فيها الأهل على جثمان ابنهم الذي قضى في المعتقل وحُوِّلَ إلى مستشفى تشرين العسكري، فإنّ ذلك كان نتيجة مبالغ كبيرة من الرشاوى دُفعت لهذا السبب.

يشرح الشكل رقم (9) في التقرير مراحل توثيق الوفاة، والأشخاص المسؤولين عن تزييف تقرير الطب الشرعي، والإجراءات المرتبطة بتوثيق تلك الحادثة لدى الشرطة والقضاء العسكري، ومن ثمّ عملية نقل الجثمان ودفنه. يشرح التقرير أيضاً كيفية استخدام تلك الإجراءات، لا لتوثيق الحقائق المرتبطة بحدث الوفاة، بل للتعمية على الجريمة المُرتكَبة والتخلُّص من كل الأدلة التي يمكن أن تدين النظام، والتي تنتهي بدفن الجثامين في مقابر جماعية. 

الشكل رقم 9 من التقرير

اليوم، بعد صدور تقرير «دفنوهم بصمت..آليات القتل والإخفاء في مستشفى تشرين العسكري»، أصبحت  المعلومات واضحة حول الجرائم المرتكبة هناك وآليات الإخفاء والمسؤوليات عنها.

*****

يذكر معتصم وأبو يامن قصصاً لن تفارقهما أبداً، سمعاها من ناجين من أروقة تلك المستشفى، كانت وعلى الرغم من التجارب التي عاشاها بنفسهما تجارب لا يمكن تخيلها: «لن أنسى ما حييت القصة التي حكاها لنا أحد الشهود من الناجين، وكيف كان وهو بحالة مرضية خطيرة جداً مُجبَراً على لف زملائه من المعتقلين القتلى بأكياس النايلون وربطها ونقلها في نظارة الشرطة العسكرية»؛ يقول معتصم خلال حديثه.

التقرير يذكر أيضاً قصة أحد الناجين، الذي رُمِيَ جسده بين جثامين المعتقلين القتلى، وكيف تعرَّضَ للضرب الشديد على رأسه وبطنه عندما علم عناصر الشرطة العسكرية بأنّه ما يزال حياً.

شهادات رهيبة وَثَّقَت انخراط فرق التمريض والأطباء في عمليات التعذيب، التي شملت الضربَ المُفضي إلى الموت، والتجويع ومنع الأدوية، أو إعطاء أدوية خاطئة عمداً بدافع القتل، وممارسات لا يمكن تَخيُّلها حصلت في مستشفى تشرين العسكري، جرائم كان يجب أن تودي بمرتكبيها إلى السجون، لكنّها في سوريا تحت حكم الأسد أفضت بهم إلى مزيد من الترقيات والتقرُّب من رأس النظام.

عمار سليمان مدير المستشفى الذي تم ترفيعه إلى رتبة لواء وأصبح من الشخصيات المقربة من بشار الأسد شخصياً، ومفيد درويش رئيس الأطباء في المستشفى الذي حظي أيضاً بترقيات عسكرية ووضعٍ خاصٍ للغاية، وأكرم شعار رئيس الطبابة الشرعية: هؤلاء وغيرهم كثيرون من المسؤولين عن الجرائم في مستشفى تشرين العسكري، لم ينجوا من العقاب فقط، بل أصبحت لهم مكانة خاصة في النظام السوري بسبب تلك الجرائم تحديداً.

مُفرَّقين بين سوريا وتركيا وأوروبا، لا يشعر أحد من فريق العمل على البحث بأنّ مهمتهم انتهت، فالوصول إلى الحقيقة، وسرد قصة المعتقلين الذي لم تُكتَب لهم النجاة من تلك المأساة المستمرة إلى اليوم، هو الدافع الأساسي بالنسبة لهم، ليس فقط أثناء عملهم على تلك التقارير بل في حياتهم اليومية أيضاً، وذلك على الرغم مما يمكن أن يواجهوه من صدمات: «نحن معرضون بشكل دائم لاستعادة الصدمات النفسية خلال عملنا، لكن البحث عن الحقيقة يعطي معنىً لنجاتنا من ذلك الجحيم»؛ يقول شادي قبل أن ننهي حديثنا عن التقرير الذي أنجزه برفقة زملائه.