باجتماع أعمالٍ من مختلف الفنون البصرية لاثنتي عشرة فنانة وفناناً سورياً، قدّم معرض لحظات الوجود الذي أُقيم في بيروت بين الثامن والخامس عشر من شهر أيلول (سبتمبر) الحالي، فرصةً لتأمّل الروابط بين هذه الأعمال على اختلاف وسائطها وتقنياتها، وتتبّع الخيوط الشفيفة الممتدة بين مواضيع الأعمال، التي تركز على موضوعات أسئلة الهوية والتجربة الذاتية والاجتماعية، والمكان الحاضر والمُلتبِس، والحياة اليومية في تحولات النزوح واللجوء، والسلوكيات الحياتية في تجربة المنفى، والذاكرة الفردية والجمعية. كتبت مُنظِّمة المعرض، لين دبوس في نصه التعريفي: «الأشياء والممارسات الروتينية التي تبدو عاديّة، وعادةً ما نتجاهلها باعتبارها مألوفة وبسيطة، تحمل في طياتها اكتشافاتٍ عميقةً تتجاوز الحدود الجغرافية. هذه الأشياء اليومية، الزاخرة بالذكريات الجماعية، هي بمثابة مرايا تعكس لنا الجوانب المتنوعة لوجودنا. وعندما يوظف الفنانون تركيباتٍ بصريةً للأشياء العادية البسيطة، تصبح أعمالهم وسائل لتجارب إنسانية حقيقية مباشرة».

نُظّم المعرض بالمشاركة بين مكتب المملكة المتحدة لسوريا والمجلس الثقافي البريطاني لسوريا، وأُقيم في صالة ماتوسيان بجامعة هايكازيان، وشملت الأعمال الفنية المُشارِكة التصوير الضوئي والنحت والفيديو آرت.

الوجود مُفسَّراً عبر المكان

بدايةً، تُستحضر موضوعةُ مكان الاعتقال في عملين من فن الحفر، اللوح 13 واللوح 26، للفنانة عزة أبو ربعية. يعود هذان العملان إلى معرضها أثر (2018) والذي تناولت أعماله بشكلٍ مُركّز موضوعة المكان في المعتقل، بين الحيز الخاص وحيز الاعتقال، وتناولت علاقة الجسد المعتقل بمكان الاعتقال. في اللوح 26، يقف المتلقي قبالة امرأةٍ مستلقيةٍ على سريرٍ علوي داخل زنزانة، وينقل له الأسلوبُ الفني حميميةً مرتبطة بالمكان المثالي المفقود، فوضعية الجسد النائم المستلقي بحالته الرحمية يوحي بالطمأنينة، إلا أن الذاكرة السجنية ما تلبث أن تحضر في ذهن المتلقي، ليشعر بأن العمل الفني أمامه يحاول التعبير عن المكان المفقود في حيز المعتقل، المكان الآمن للحالم. كذلك الأمر، يلعب اللوح 13 على غياب الجسد الإنساني عن المكان، وقد صرحت الفنانة في أكثر من موضع أن هذا اللوح يقدم تنويعاً تراه أساسياً على موضوعة المكان في المعتقل، وهي تنويعة غياب الجسد الإنساني عن الرسم، ليبقى الفضاء الفني لتجسيد المكان بكتلته الشعورية وبإيحائه الوجداني، حيث يظهر في هذا اللوح سريراً طابقياً فارغاً غارقاً في عالمٍ من الرمادي والأبيض الشفيف. إنه مكانٌ موجود في خيال المتلقي، حيث العزلة والوحدة وغياب الحيوية الإنسانية.

ينقلنا العملان التاليان للفنانة عزة أبو ربعية إلى المكان البيولوجي أو الطبيعي، والعملان ينتميان إلى معرض الفنانة بعنوان تحولات (2022) الذي قدم الفضاء البيولوجوي أو الطبيعي كفضاء مُحتمَل للتعبير عن عديد التجارب الإنسانية، سواء الذهنية أم الشعورية. يحمل العمل الأول عنوان انتظار، ويُجسّد لحظة الولادة أو لحظة الموت حيث يتداخل الجسد الإنساني بجسد الأرض الذي يتشكل عبر الطبقات اللونية المتدرجة على كامل مساحة اللوحة، بينما يخرج منه بألوان حارة تهويمات جسدٍ إنساني في حالةٍ بين الانتظار والنهوض. والعمل الثاني الذي حمل عنوان مَن أنا؟ يجسد عبر سؤال الذات تحولات الهوية المتعددة عند الفراشة، لكن أيضاً على مستوى الأعضاء الإنسانية. لا يُحدّد المتلقي المعروضَ أمامه في هذا العمل الفني في انتمائه إلى العالم العضوي كالفراشة أو إلى الجسد الإنساني. فالتحول يحدث في هذه الرسمة على عدة مستويات، وبينما تعتقد عين المتلقي أنها تراقب تحولاً طبيعياً، فإذا بإيحاءات الكتل اللونية تعيد التأمل إلى عالم الأعضاء البشرية. تستمر موضوعة المكان الطبيعي في حضورها في الأعمال الفنية للفنانة غالية القلعجي مع لوحتين بعنوان صيف 1، وصيف 2،(2023) تقدمان تخيلاً فنياً شفافاً لانطباع ألوان الصيف في ذاكرة المتلقي. لا تجسّد اللوحتان مكاناً فيزيائياً محدداً، رغم وجود الأشجار، بمقدار ما تجسّدان أثر الصيف على الطبيعة، وعلى الذاكرة اللونية، وعلى حيوية المشاعر. إنه الصيف القادم من خفّة الأصفر، وجمال الأخضر، وفرح الأبيض، وهي الألوان المستعملة في اللوحتين.

بالمقابل، تدخل لوحة الفنان إلياس أيوب بعنوان جنة الياسمين (2023) في فضاء التعبير عن المكان-البلدة. إنه العمران الإنساني بشحنته التعبيرية ما يدخل إلى أعمال الفنان. تُصنّف اللوحة ضمن الأعمال الفنية التي يقدمها الفن في التعبير عن وداعة، جمال، خصوصية البلدات، المدن، أو التجمعات العمرانية الأخرى. تمتد مجموعة من المنازل المتراصّة بحميمية على كامل مساحة اللوحة، باستثناء الجزء العلوي حيث تتدلى عروق نبات الياسمين وتُظلل الحضور العمراني. إنه مكانٌ مثالي قادمٌ من الذاكرة أو من الخيال مهما بدا كإعادة تجسيدٍ للواقع، لأنه يحمل شحنته الانفعالية والتعبيرية التي أضافها الفنان. وقد يكون العمل الفني تعبيراً عن النوستالجيا للمكان المثالي الذي ضاع من حياة السوريين-ات.

من زاويةٍ أخرى وخاصة به، قدم محمد خياطة بدوره معالجةً مميزةً وعميقةً في مجموعة لوحاته لعلاقة الإنسان السوري-ة مع المكان. تأتي خصوصية تناول أعماله لمفهوم المكان، من جمعه في معالجته للموضوعة بين ما هو تعبيري وما هو حلمي ولاهٍ. اللوحة الأولى التي شارك بها تستكمل مجموعته الفنية تخلي، التي عمل عليها خلال السنوات الماضية، وتركز على العلاقة مع المكان في الذاكرة بما يخص المدى الأوسع لفكرة الوطن، ولكن أيضاً في الذهن والمزاج الفردي. لوحته الإكريليك تخلي أو انعتاق (2023) تتشكل من كتلةٍ ضخمةٍ من القوارب الورقية المرتبطة مع بعضها البعض على شكل منطاد، أعلى المنطاد قاربٌ وحيدٌ تركبه فتاة، وأسفله قاربٌ فارغٌ لكنّ أرضيته مليئة بالماء؛ إنه مكان اللجوء والنزوح في قوارب الموت، حيث يحضر حلم النجاة على شكل منطاد مكون من قوارب متراصة. لوحته الثانية بعنوان تأمُّل السنونو (2023)، لا تبتعد عن حلم الطيران أو الطفو الفردي، لكن التأويل المرتبط بالحدث السوري، يجعل من فعل التأمل اللطيف والمرِح الذي تقوم به فتاةٌ تجلس فوق مجموعة من المكعبات المربعة المتنوعة الألوان، وتستلقي في ترقب للأفق، كأنها يوتوبيا مثالية يرسمها الفنان، مُذكراً بانعدام هذه الفسحة البسيطة للتأمل لدى الكثيرين ممن قست عليهم ظروفهم. في النص التعريفي بأعماله، يوضح الفنان مقصد استعماله للوسائط المتعددة: «لإنتاج استكشافٍ متعددِ الطبقات لمفاهيم الهوية والأمة. محمد خياطة يدعو المشاهدين لأعماله للانضمام لرحلة من التحول من خلال عمله الفني. فهو يتناول موضوع الإنقاذ من أوضاع صعبة، مستلهماً الأفكار من القصص الشخصية والتحديات المجتمعية وتطلّع الجميع إلى الحرية. وباستعانته بوسائل ووسائط متعددة لتسجيل الجوانب العاطفية للخلاص، فإن كل عملٍ من أعماله الفنية يحكي قصة تشجع مشاهدي أعماله على التأمل في مسيرة حياتهم والتحديات التي تعترضهم. وباستخدامه للألوان الزاهية والتشكيلات الديناميكية والصور الرمزية في أعماله، يخلق خياطة لغةً تصويريةً يتردد صداها لدى المشاهدين من خلال تجاربهم الشخصية».

ضمّة، عمل  للفنانة ريتا الحسواني

جذور ممتدة في الذات، وجسد منكفئ على نفسه

سلسلة التصوير الضوئي بعنوان جذوري تؤلمني، مقتطف من حلم (2023) للمصورة سارة القنطار، تتفرّد بمساحة التعبير المتداخل بين الذاكرة والأنا والمكان، ورغم أن سلسلة الأعمال هي من الفن الفوتوغرافي، إلا أن الخيارات الفنية والإيحاءات المحاول الوصول إليها من خلال اللقطة-الصورة، تدخل في حيز التعبير عن جوانيات الذات في التقاط المكان من حولها. الصور الثلاث المقدمة في المعرض بالأبيض والأسود، تجمع بين الحضور الإنساني وجذوع الأشجار الكثيفة ذات التفاصيل المؤثرة. نجد الحضور الإنساني متماهياً أو متوارياً في تواصل مع حضور المكان وجذوع الأشجار. يجمع عنوان السلسلة بين الجذور والأنا والألم والحلم، وذلك ما توضحه الفنانة في النص التعريفي بعملها الفني: «غادرتُ المنزل في نهاية عام 2015 بسبب الحرب. لم أكن وحدي في رحلتي، بل كنت محاطًةً بآلاف الأشخاص الآخرين. مثلي، كان عليهم أن يغادروا عن طريق ‘قطع’ أنفسهم، وهذا هو الحال في الحروب: لا يمكنك منع ذلك. أحلم أحيانًا بهؤلاء الأشخاص، بأولئك الذين التقيت بهم خلال رحلتي. أعتقد أن لديهم الجذور التي تؤذيهم».

التنويعات على المكان والذات، يمنحها فن النحت أبعاداً جديدة بلا شك، وذلك مع أعمال الفنانة ريتا الحسواني، والتي سعت لتبيّن العلاقة مع الذاكرة والوطن والمكان في المواد المستعملة في أعمالها، مثل الخشب والبرونز والسيراميك، إلا أن اختيار مادة خشب الزيتون بشكل خاص مرتبط بموضوعة الذاكرة والحنين أيضاً، بحسب توضيح الفنانة في البيان المرافق لعملها: «فكرة استخدام خشب الزيتون في أعمالي بدأت حين غادرت سوريا، فهو يربطني بجذوري، وينتمي مباشرة لكوكب الأرض». تتموضع المنحوتات الثلاث في فضاء المعرض الجماعي باعتبارها أعمالاً مركزية تبني علاقة المتلقي مع المكان. فالأعمال النحتية الثلاثة تجمع مميزات الوضعية السكونية، الجسد المنغلق على ذاته، الفرد الزاهد بالتمدد مفضلاً قوقعة الحضور الفيزيائي في المكان. تُخبر الفنانة أن الوضعية الدائرية التي تحقق فيها مجسّداتها، تُعبّرُ عن دورة الحياة والموت. ويُوصّف النص النقدي المرافق لأعمال الفنانة بدقة أبعاد وخيارات النحّاتة في ابتكار شخصياتها المُكوّرة: «منحوتات ريتا على شكل المعانقة الذاتية تجسّد رحلة اكتشاف الذات والتعبير عن الذات. هذه المنحوتات لا معالم لها سوى اليدين والعقل، وهي تؤكد على العلاقة بين المرأة ونفسها. فمعانقة الذات تمثل اكتشاف الطبيعة الإنسانية ومعرفتها بعمق. والجسم الكرويّ يشبه الشرنقة التي تعزل المرأة نفسها فيها عن سائر العالم». تطلق الفنانة على سلسلة منحتوتها عنوان To Hug، الحضن (2023). والنصُّ الذي كتبته الفنانة في التعريف عن عملها يُمكّن المتلقي من إدراك الدوافع الإبداعية للفنانة؛ إنها بوضوح تلك العلاقة بين القيود ورغبة التحرر، بين الاستسلام لشروط الواقع من حولنا أو السعي إلى اكتشاف وإعادة صياغة الذات: «الولوج للداخل واستكشاف واختبار الحياة بلطافة ولباقة يقودنا إلى طريقنا الحقيقي الزاخر بإمكانيات لا حدود لها، فنحن نعيد صياغة أنفسنا ونصبح من نريد أن نكون بدون أغلال وقيود وأوهام العقل. إنها قفزة إلى الأمام».

الذاكرة بين الألبوم العائلي والشخصيات التخييلية

سلسلة التصوير الضوئي بعنوان افتح الدرج (2023) للمصور حسن بلال، تجربةٌ تستحقُّ التوقف عندها في إطار العمل الفني في علاقته مع الذاكرة والمكان. إننا أمام سلسلة من الصور العائلية المعتادة الوجود في ألبومات الذاكرة، ولكن الظرف الذي يدفع الفنان السوري لابتكار الارتباط مع ماضيه ومع عائلته، ومع ذكرياته ومع المدينة التي يحبها، طرطوس، دفعه أيضاً لوضع هذه الصور العائلية في سياق معرضٍ فني، يدعو الفنان من خلاله إلى تشجيع الأفراد للتعامل مع صور ذاكرتهم-ن باعتبارها أعمالاً فنية قادرة على ربط الماضي باللحظة على أقل تقدير، أو قادرة على ابتكار ذاكرة مستمرة ولو في حالة مؤقتة. يكتب الفنان في معرض شرحه لعمله: «ضمن رحلتي للبحث عن هويتي وهوية المكان اللي عايش فيه عن طريق التصوير، تذكرت حديث مع أميرة الأنثربولوجي فرح حلابة، عن ورشة انعملت بمصر بتحكي عن تحليل العائلة المصرية عن طريق الصور القديمة، وهالشي ضل ببالي وخصوصاً بالمرحلة الأخيرة اللي عم حس فيها انو عايش حياة سريعة كتير، معدومة الحرية، وعم احرق مراحل بسرعة ضمن أي شي عم اعملو.  قررت إني بكل زيارة ع طرطوس افتح درج الصور القديمة وصور جزء من هالصور وشاركن». بتمدد مطرد، يحتل الحضور الإنساني في لوحات يوسف يوسف كامل مساحة اللوحة، وبذلك يتوارى المكان خلف حضور البورتريه أو الوجوه الإنسانية التي تتميز باستدارتها وتكويرهاتها التي تذكر برسومات المانغا الياباني، أو شخصيات الأفلام السينمائية المصورة (Animation). في لوحة إكريليك بعنوان شانا (2023) تظهر شخصيةُ امرأةٍ وحيدة تنظر مباشرةً إلى المتلقي دون أن تخترق مشاعره، وبهدوء، ونظرة ميلانكولية يختارها الفنان يمكن للشخصية الحاضرة في اللوحة أن تفرض كيانها، مزاجها، على المتلقي. في اللوحة الثانية بعنوان النوم العميق (2021) تتعدد الشخصيات لتصبح أربع نساء لا يظهر منهن إلا الوجه الطالع من خلف غطاء النوم. إن خيار الاقتصار على الشخصيات النسائية تضيف لأعمال الفنان جواً من الألفة والحكائية في لوحته. كل النساء في اللوحة مغمضات العينين باستثناء شخصية مركزية يبدو حضورها في منتصف اللوحة وبعينيها المفتوحتين وكأنّها تتلصّص مع المتلقي على عالم النوم النسائي العميق. إنها لحظة من التواطؤ بين الشخصية المفتوحة العينين والناظر إلى اللوحة. يُقدّم النص التعريفي أعمال الفنان بتوصيفات تتعلق بالتداخل بين الذاتي والجمعي، بين الذاكرة واللحظة الانفعالية، بين السكون والغياب: «بألوانٍ مريبةِ الهدوء، وملامح خفيّةِ الظلال، يُخفي الفنان، عن قصد، أكثر مما يُظهِر في پورتريهاته. ينتقي من ذاكرةٍ -شخصيّة وتوثيقية معاً- انطباعاتٍ محدودة، لكنها مترابطة، لترسم ملامحَ شخوصه مجمّدةَ التعابير ظاهرياً. والشخوص هنا حقيقية، مفرطةٌ في واقعيّةِ ظَرفِها، حتى شبه انعدام اللون المميز لذكرياتنا المصطنعة عن الغائبين، عبر صورهم النادرة. وانبساط اللون ما كان له أن يمرّ لولا لعبة التعبير، فالوجوه مجمّدة، في حالة سكون شعوري، مسالم، حيادي، لكنَّ دقّة التشابه تَشِي بقوةِ ما تخفيه تحت قناع السكون من عصفٍ استبقاه الفنان لذاته ورؤاه، عصفٌ يعرفه أغلبنا حين نطابق سلامَ صورِنا العائلية على أهوال ذكرياتنا مع ساكنيها».