في مواجهة إيميل عَمَل من مدير أو زميل، محمَّل بعنف مبطن بعبارات لبقة وبتهذيب عالٍ، نجد أنفسنا مجردين-ات من قدرة حماية الذات وعاجزين-ات عن الدفاع عنها. يعطي هذا التوصيف لإيميل العمل شكل سلاح موجَّه، وهذا ليس مجازاً أدبياً، بل توصيفاً لحجم الأذى الناتج. قد نعتقد أننا وحدنا من يختبر هذا الشعور بالعُزلة والألم نتيجة ممارسات بعض المدراء والمديرات أو الزملاء والزميلات في العمل، ولكنه شعور طبيعي تجاه العنف السلبي المتعمَّد منهن-م. المُحزن أننا نسمع في أماكن العمل البعض ممن يتفاخرن-ون بامتلاكهن-م مهارات لغوية وأسلوب مميز لتوجيه رسائل مبطنة لأحدهن-م، دون الانتباه إلى كون ذلك يُعتبر شكلاً من أشكال العنف. تستطلع هذه المقالة أوجه هذه الممارسة والسياق العام الاقتصادي والسياسي الذي يُسهّل استمرارها، بقراءة لإسهامات الباحثة ميليسا غريغ المختصة بدراسات الجندر والدراسات الثقافية في جامعة سيدني، وخصوصاً في بحثها المعنون (جلسة مشاريب ليلة الجمعة: انفعالات مكان العمل في عصر الحجرات المكتبية). 

نظرية الانفعال

تبحث غريغ في نظرية العاطفة أو الانفعال (Affect Theory)، والتي تقدِّم حولها كتاب The Affect Theory Reader مع عدد من الدراسات لباحثات وباحثين في هذا المجال، وقد صدر الكتاب باللغة الإنكليزية في الـ 2009. وتُبيِّنُ في مقدمة الكتاب أن الانفعال المقصود، هو «هذا التأثير الذي يظهر في الحالات بين القدرة على التأثير والتأثُّر، وهو هذه الكثافة الشعورية التي تمر بين جسد وآخر وتتجاوز عالماً وآخر… هو الحالة الشعورية التي تتجاوز العواطف وتدفعنا باتجاه فعل ما. هي القوة أو قوة المواجهة… وهي الأحداث الصغيرة التي تمر دون أن نلاحظها، وهو التراكم ما بين (البين) وما يقبع على (الجانب)». (ص 250-251)

تُشكِّلُ نظرية الانفعال مجال بحث يُبيِّن كيف يساهم الخطاب في تدوير حالة من الانفعالات، والتي تتجاوز الفرد لتشمل مجموعة أو فئة ما أو مجتمع. ومن الباحثات في هذه النظرية سارة أحمد التي تقرأ كيف أن الحالات الشعورية هي ممارسات ثقافية، أكثر من كونها حالات نفسية. والتي تؤثر بالجسد وحالته العاطفية، وبالتالي تصبح الأجساد، وكذلك الأفراد، متوافقة مع إيديولوجيا مسيطرة رائجة، تخلق سياسات العواطف الثقافية «الآخر» من خلال مواءمة بعض الأجسام مع بعضها الآخر داخل المجتمع وتهميش أجساد أخرى. ومن خلال تكرار تدوير خطاب معين، تُخلَق حالات شعورية يمكن أن تملي علينا أنماط حياتنا.

غياب الأمان الوظيفي

تنطلق ميليسا غريغ في بحثها حول العنف السلبي في بيئة العمل، من قراءة شرطية لظروف الطبقة الوسطى وبالتحديد ما يعرف بأصحاب الياقات «البيضاء»، وهي الفئة التي تعمل في المكاتب والتي تتصف بكونها فئة متعلمة. كانت هذه الفئة تتمتع بظروف اقتصادية آمنة وحالة جيدة من الرفاهية، لكن  ذلك تحوَّلَ، بحسب ميليسا غريغ، مع ما تصفه بظروف الهشاشة والشدة (precarity)، حيث تعيش هذه الفئة حالة من عدم الأمان. ويأتي ذلك في عصر تنتشر فيه العقود المؤقتة وغير المستدامة وعقود التوظيف عن بعد والعمل عبر الإنترنت، بما يهدد أمان هذه الفئة. وفي حال من انعدام الأمان الوظيفي، تَرصُد غريغ انتشار ظاهرة العنف السلبي؛ الممارسة التي توضِّح معالمها بعدد من الأمثلة. 

تُبيِّن غريغ ظهور عدد من الأعمال الدرامية التي تمثل التعاسة الناتجة عن الحياة المكتبية المتبلدة، في ظل ظروف العمل المتذبذبة وتحت وطأة صرامة قواعد المكتب التي تمنع الإبداع. ومن ذلك، مسلسل المكتب (The Office) ومسلسل ستة أقدام تحت الأرض (Six Feet Under). وتتخذ غريغ من شخصية كلير، في هذا العمل، نموذجاً لرصد كيفية تفريغ الحياة المكتبية للعلاقات الإنسانية من المعنى.

تعرض غريغ نماذج من انتشار ثقافة السخرية من الحياة المكتبية عبر الإنترنت ومن خلال مواقع التواصل، كوسيلة تتيح التخلص من قوالب العلاقات المضبوطة مسبقاً في المكتب. فمن سياسات بناء الفريق إلى طقس الاحتفال ببابا نويل السري (Secret Santa)، تحاول المؤسسات التغطية على حقيقة أن ساعات العمل الطويلة تمنع زميلات وزملاء العمل من «تكوين صداقات أكثر تقليدية وبناء علاقات اجتماعية تتجاوز الطبيعة الإجبارية للعلاقات في المكتب». (ص 253). لذا، وبحسب غريغ، بات الفضاء الرقمي وسيلة للهرب من «مشاعر الكمد الناتجة عن العزلة، والتي يتم إبقاؤها صامتة باسم الحفاظ على روح فريق العمل والكفاءة المهنية». (ص 253)

أهوال الإيميل

تراجعت وتيرة ونوعية التواصل المباشر في أماكن العمل منذ ظهور الإيميل، وقد سعت غريغ لرصد ما يُخلفّه ذلك على المستوى الشعوري للأفراد. تحت حجة منع تعطيل الأخريات-ين أو تشتيتهن-م عن العمل، بات الإيميل وسيلة لتعزيز العواطف الحيادية في بيئة العمل. مع العلم، كما تبين غريغ، أن تراكم الإيميلات والاستمرار بتوارد المعلومات التي تعجز الموظفة والموظف عن الرد عليها كلها، تسبب شعوراً بالعجز العام. للإيميل صيغة تعتبر أكثر عفوية من الرسائل الرسمية، ومن شأن ذلك أن يلغي النبرة الآمرة المرتبطة بالتراتبية الوظيفية، وفي نفس الوقت، يُستخدَم الإيميل كوثيقة في الحالات القضائية الملزمة للموظفين. تقول غريغ: «الوسيط ليس أبداً الرسالة: تلقي إيميل يبقى دائماً أمراً فصامياً ومواجهة غير متوقعة». (253) تقنيناً، ما يعجز الإيميل عن إيصاله، هو الحالة الشعورية المصاحبة له، والتعابير الجسدية التي ترافقها، سواء كان ذلك «اللباقة خلف طلب إداري، أو خجل موظف جديد، أو جدية المدير. يجعل الإيميل جميع المُرسلات-ين والمستقبلات-ين سواسية. فلا عجب أن يصبح الوسيلة المفضلة لتواصل الطبقة الوسطى، فهو يلبي الخيال المبهج حول روح العدالة في مكان العمل، كما يتطلب مستوىً تعليمياً معيناً ليصبح أداة تواصل ناجحة». (254) 

تُبين غريغ، أن الطبقة الوسطى استطاعت لأول مرة في التاريخ، تحدي تفوق الطبقة الأرستقراطية واستحقاقها بالولادة، من خلال اكتساب العلم والمهارة اللغوية. ومؤخراً عَكَسَ العاملون-ات في مجال نظم المعلومات والبرمجة وفي الإعلان والعلاقات العامة، معايير التراتبية والسلطة والامتيازات السابقة بجعل اللغة وسيلة إنتاجهم-ن التي تميزهم-ن عن الطبقة العاملة، والتي لا زالت مهمة للمنظومة مع رمزية عملها. وهناك سبب آخر لرواج الإيميل كوسيلة تواصل، كون من يشعر بالثقة في الكلمة المكتوبة قد لا يكون كذلك في التواصل المباشر. فقد يجدُ البعض سهولة في وضع وجه ضاحك، بينما قد يعاني في تقديم الخدمة مع ابتسامة. وهذه الاستخدامات للوجه الضاحك وغيرها هي حلول مؤقتة لمشكلة غياب التواصل العاطفي.

قصاصات ساخرة للتواصل

يتحوَّل الفشل في التواصل عبر الإيميل إلى عنف سلبي، يسعى البعض لتفريغه من خلال الملاحظات الساخرة التي يلجؤون إلى كتابتها كنوع من التهكم بسبب هذا الوضع. تشير غريغ إلى وجود موقع عبر الإنترنت (Passive Agressive Notes) للملاحظات العنيفة السلبية الساخرة التي يستخدمها بعض الزميلات والزملاء في أماكن العمل، حيث يشكل فشل التواصل حالة حاضرة. وتتميز هذه الملاحظات باستخدام ذكي للغة، وبتوظيفها بطريقة حذقة لتقريع الآخر مع السلبية التي تسود بيئات العمل، وتعكس هذه الملاحظات طرق التلاعب باللغة وبالأحرف الكبيرة والصغيرة وعلامات الترقيم. هذه الملاحظات هي رمز لغياب الأمان والرضا عن حياة الطبقة الوسطى. وهذه الملاحظات عبارة عن قصاصات من الورق، يُكتب عليها تعليق، وقد تُلصَق في مطبخ المكتب أو حمامه أو ممراته وقاعاته المشتركة. وبالتالي فإنها تُبيّن أن فضاء المكتب هو المادة الأساسية لهذه الملاحظات، التي تعبر عن الإحباط بسبب ممارسات الزميلات والزملاء اللامبالية. تعطي غريغ مثالاً من الموقع، ففي إحدى الملاحظات الساخرة المعلقة على باب براد المكتب، تهديد موجه من إحدى الموظفات لزميل-ة للتوقف عن سرقة اللبن الذي تحضره، لأنها إن كانت ترضى ذلك لنفسها فهي لن تسمح لأحد بسرقة لبن طفلها الذي هي حامل به. تمتلئ هذه البطاقات بنَفَس يدلّ على أن أصحابه هم الفئة التي تتصف بكونها (cool)، أي الفئة التي تعرف كيف تكون ساخرة وجذابة، والتي تعرف كيف تستخدم اللغة لفرض سيطرتها. تصف غريغ هذه الممارسة بكونها نكوصاً نحو المراهقة وعودة لثقافة تراتبيات المدرسة الثانوية (High school culture). وترى غريغ ذلك هروباً نحو حلول فردية مشاكسة وساخرة، بدل مواجهة ظروف هذه الطبقة التي تميل للإقصاء والعزلة والعجز عن التواصل والتعبير عن المشاعر. 

سهرة زملاء العمل: عن الصداقة في مكان العمل

تفكك غريغ مفهوم الصداقة في ثقافة العمل المكتبي، وتبحث في كيفية تَحوُّلها إلى مفهوم مجرد من العواطف ومجرّد ممارسة مفروضة. وتتخذ مثال من شخصية كلير التي يجبرها زملاؤها في يومها الأول من العمل على توقيع بطاقة معايدة لزميلة لم ترها من قبل. وعند احتجاجها على ذلك، لعدم معرفتها بهذه السيدة، يجيبها أحد الزملاء: «لا أحد يقرأ هذه البطاقات، فقد وقعت أحدها باسم هتلر ولم تعلق صاحبة العيد على ذلك! المهم المشاركة!» (ص 261)

تبين غريغ أن لا أحد يريد أن يتعرَّفَ على الآخر حقيقة، المشاركة هي مجرد لفتة. في حال رفض الخروج مع الزميلات والزملاء، يصبح الشخص موقع شبهة ومعرض-ة للمساءلة لكونه-ا يؤثر على روح الفريق. تجادل غريغ بأن الصداقة في مكتب العمل تعني «أن بطاقات المعايدة، لا يمكن رفضها، الدعوات لا تقترح مع تخيل إمكانية رفضها، هذه الصداقات التي لا يمكن الهرب أو الفكاك منها». (261) وتضيف غريغ أن ما يصبح كوميدياً هو توقع وجود معنى خلف هذه الممارسات اللبقة!

وتعود غريغ لتستعير من تجربة كلير في مسلسل (six feet under)، فهي كموظفة مؤقتة لا تُمنَح وقتاً لدخول الحمام، مع أنه يُفرض عليها توقيع بطاقة معايدة لزميلة لا تعرفها. وترى غريغ، أن الحمام في بيئات العمل يتحول لمساحةٍ للهرب من الرقابة وللتفريغ من الأداء المكتبي لشخصية الموظف الروِش (cool)، والضغط الناتج عن هذا القناع، وبالتالي على الموظف-ة أن يثبت أنه-ا يستحق الذهاب إليه.

في مواجهة الكارثة

توضح غريغ كيف أن السخرية كفعل نكوص في مواجهة ظروف الطبقة الوسطى التي تتجه للانحدار، هو فعل هرب غير مجدٍ، وتشير إلى أن رواج العدوانية كثقافة وظهور البطاقات الساخرة كشكل للتواصل، هو دليل على وجود أزمة أخلاقية في صميم الطبقة الوسطى وضياع المعنى في سعيها وفي عملها. وبمقارنة ظروف العمل الراهنة بفترة الستينيات، وهي العصر الذهبي للعمل المكتبي حيث برزت الكتابات الاجتماعية المرافقة لتلك الحقبة، تتبين التحديات التي تعيشها الطبقة الوسطى مع ظروف العمل خلف الشاشات وعن بعد.

يحدو غريغ أملٌ في أن يوجِّه كل منا اهتمامه نحو زميله وزميلته، لنستطيع معاً تغيير ظروف عملنا، التي لا يريد أحد منا مواجهتها وحيداً، والتي نرفض كذلك استمرارها ونحتاج إلى العمل سويةً لتغييرها.

يأتي تشريح غريغ لواقع الطبقة الوسطى ولثقافة العنف السلبي المكتبي كإشارة إلى حاجتنا إلى تأمل ظروف العمل الراهنة. تسود ثقافة مكتبية، وخاصة مع وجود الإيميل كوسيلة للتواصل، تستسهل العنف ولا تتعاطى بجدية مع إيذاء الأخر، وهذا يستدعي البحث والعمل لوقفها. فبدل أن تكون اللغة قوة نستخدمها في وجه الممارسات الظالمة، تصبح وسيلة عنف نستخدمها تجاه بعضنا في محاولة للتفريغ على ضوء عيشنا في ظروف غير مستقرة وضاغطة.

 تتعزز هذه الممارسات في بيئات العمل التي لا تراعي مصالح وحقوق الموظفات والموظفين، وتوصف هذه البيئات بكونها بيئة عمل سامة. وتُعطي هذه الممارسات مؤشرات على عطب المؤسسة ونظامها الإداري وقوانين حماية الموظفين والموظفات فيها. تستعير المؤسسات على امتداد العالم، بما يشمل المنطقة العربية، من المنظومة الرأسمالية ومن الشركات الكبرى، ممارسات مثل السيكرت سانتا وبناء الفرق وسهرة يوم الجمعة وبطاقات المعايدة، دون تأمُّل في أبعاد المنظومة التي تخلق مثل هذه الممارسات. فهي تأتي كوسيلة لتغطي على عطب حقيقي تُسبِّبه الممارسات غير العادلة، والتي تؤثر في آليات التواصل الإنساني.