في الستينيات من القرن الماضي، انتشر مسرحُ الهزلِ (الشانسونييه) في لبنان مع تجارب مثل مسرح الساحة العاشرة وعروض لوسيم طبارة وسامي خياط وغيرهما. استفاد هذا المسرح من الفترة الذهبية التي عاشها البلد قبل انفجار نيسان (أبريل) 1975، ومع خروج البلد رسميًا من الحرب ودخوله زمن الجمهورية الثانية، واكب مسرح الهزل الزمنَ السياسي الجديد؛ وذاك هو التفصيل الذي لطالما اضطلع به هذا المسرح: «المواكبة».
حلَّ السياسيون ضيوفاً بين جمهور المسرح، ومعهم الإعلاميون والصحفيون. كان ذلك جزءًا من طبيعة المرحلة، فسياسيّوها كانوا خليطًا من تفصيلين: أولهما، أنهم يحملون معهم هيبة المنتصرين في الحرب الأهلية. وثانيهما، أنهم مهزومون أمام الضباط السوريين الذين يحكمون البلد.
الهزل بهذا المعنى كان يحقق المطلوب للطرفين؛ فيُقدَّمُ السياسيُ المنتصرُ صاحبُ الهيبة بشخصيةٍ لطيفة لها قفشاتها وحركاتها الجسمانية وتكراراتها العباراتية، ليصير له نادٍ من المعجبين خارج جماعته، حيث لا تستطيع هيبته الوصول. من هذا المنطلق قُدِّم نبيه بري ذو اللهجة الغليظة المنتفضة دومًا، ووليد جنبلاط الغرقان في جيوب جينزه أو داعك مقدمة رأسه، ورفيق الحريري بلهجته الصيداوية وحركته الثقيلة، ورشيد الصلح المتجول في بيجامته المُقلَّمة إلخ…
في الوقت نفسه، كان مسرح الهزل يضبط هيبة السياسي اللبناني، الأمر الذي واكب منطق اللعب تحت المظلة السورية. أما قليلُ ما كان يقدَّم عن الهزء من السلطة السورية فكان «مسيحي» الاستخدام، وهدفه تنفيسي بحت، وغالبًا ما يتوارى خلف شخصيات منمَّطة: المخبر جارًّا عربة الكعك ومخبئًا فيها أدوات التنصت، ومجموعة من المحققين بليدي التفكير يحاولون فرض الفكاهة.
في مسرح شانسونييه الثمانينيات والتسعينيات تكررت تفاصيل ثابتة. ففي ما عدا المونولوجست ليلى أسطفان من مسرح الساعة العاشرة، اقتصر وجود الفتيات على الأدوار المساعدة في اسكتشات يقدمها كوميديو العروض من الرجال، أو على الظهور في مشاهد راقصة بتلميحات جنسية. فضلًا عن ذلك، وفي طريقة لتحويل مسرحيات الفرق إلى فرانشايز، استثمر المعدون بتقديم بعض الشخصيات المناطقية/الطائفية النمطية وتكرارها من موسم إلى آخر (بيار شماسيان في دور أم جورجيت مثالًا لا حصرًا).
قبل التسعينيات: مسلسلات التلفزيون الكوميدية
لم يكن تقديم الأصل المناطقي/الطائفي للشخصيات في الاسكتشات جديدًا في لبنان، فعلى عكس ما انتهت إليه مسلسلات التسعينيات الكوميدية بعرض شخصيات مخفية السمات والطبقات والأصول الاجتماعية (تلات بنات، مرتي وأنا، عبدو وعبدو، بنات عماتي وبنتي وأنا، فاميليا، غنوجة بيا)، فإنَّ تلفزيون لبنان كان دائمًا يقدم مسلسلات كوميدية واضحة السمات الاجتماعية، لبنانيو الأطراف تحديدًا حاضرون فيها.
مسلسلات فرقة أبو سليم التي عُرضت منذ ستينيات القرن الماضي، كانت ذات لهجة طرابلسية واضحة. أما أنطوان غندور فله حصته من مسلسلات الريف. في دويك يا دويك (1973) يكتشف عبد الله الحمصي، النازل من الريف، بيروت في كل حلقة يبدؤها بالقول «صبحك بونجور ستنا بيروت». في أربع مجانين وبس (1982) يهرب أربعة مجانين من خلفيات مختلفة من مستشفى المجانين ليجدوا الحرب تنتظرهم في الخارج. أما في اهربوا جايي القفورة (1985) يتنقل برجيس مع ابنة أخيه برلَنت على دراجة نارية (وقفورة) بين القرى ليزورا أسرة جديدة وبيئة جديدة في كل حلقة. من جانبه، قدم محمد شامل طرحًا «مدينيًا» في مسلسله الشهير الدنيا هيك (1976) بشخصيات حفِظَها الشارع البيروتي.
على هذه التجارب، سيَبني ابراهيم مرعشلي مسلسله الأشهر المعلمة والأستاذ (1980)، ومن بعده مروان نجار بمسلسلاته عيوق ورفقاته (1983) وفارس إبن أم فارس (1987) والأستاذ مندور (1987).
في 1987، وبعيد انطلاقها بسنة، ستنتج قناة أل بي سي التابعة للقوات اللبنانية مسلسلها الكوميدي الاجتماعي الخاص، لتعرضَ المسلسل الأشهر لكميل سلامة الآتي من المسرح بيت خالتي (1987)، والذي تضمَّنَ كاريكتيرات مجتمعية غير معتادة وشهد الظهور الأول لشخصية الهندي في المجتمع اللبناني (دارا).
بخلاف نيال البيت، الجزء الثاني من بيت خالتي، (1998) وحلونجي يا اسماعيل (1995)، ستتجنب مسلسلات التسعينيات الإشارة ولو الضمنية إلى الخلفيات الاجتماعية لشخصياتها، مفضلةً أن تعرض شخصيات «مُعَقَّمة».
في مسلسلات ما قبل التسعينيات، لم يكن الريف مذمّة، أما بيروت فهي مدينة الوافدين والطبقة المتوسطة وما دونها من طبقات. ولم تكن الشخصيات الكوميدية في هذه المسلسلات تقدم وصمات عار لجماعات مشاهديها باختلاف مشاربهم. حتى بلاهة بعض الشخصيات فيها كانت مدعاة حبّ. فكلٌّ من هذه الشخصيات لديها سرديتها الخاصة ولغتها الفريدة التي لا تمسح نفسها من أجل تبعية الآخر، لا بل إنها دائمًا ما كانت تتحول إلى شخصيات محببة عابرة لجماعات ومناطق غير تلك التي تنتمي إليها. هذا تحديدًا ما لم يكن مهتمًا مسرح الشانسونييه بصناعته، ففي النهاية هو مسرح يتوجه لميسوري الحال الذين يأتون المسرح للأكل وشرب الكأس، فيقدم لهم شخصيات بلهاء من طبقات أدنى، ويخفف من «هيبة» السياسيين من طبقات عليا.
زمن السلم الأهلي: شربل خليل وسابقة الاعتراض الشعبي
مسرح الشانسونييه والهزل السياسي والاجتماعي، سيكون الرافعة الأساسية للبرامج الكوميدية التلفزيونية التسعينياتية. كانت البداية مع النجاح الصاعق لبرنامج SLCHI الذي أطلقه شربل خليل على شاشة MTV اللبنانية عام 1993 قبل أن يغادر خليل البرنامج في أوائل عام 1994 موجهًا رسالة إلى متابعي البرنامج.
في رسالته التي نشرت في الصحف، يتهم خليل إدارة الـMTV بأنها كانت تطلب منه أن يؤلف اسكتشات «تسخر وبشكل مباشر من مؤسسات إعلامية وشخصيات سياسية وفنية لبنانية، بهدف تمرير رسائل خاصة وإشارات غامضة» لم يكن خليل «يعرف الغاية منها». يكمل خليل: «ولأنني فنان وليس هدفي الإساءة إلى أحد أو التجريح به رفضت الانصياع لطلبات الإدارة كوني صاحب ومؤلف ومخرج البرنامج ولا يحق لأحد غيري التدخل بمضمونه. ويبدو أن موقفي كان مزعجًا لإدارة الـMTV، ولأنني أصبحت حجر عثرة بالنسبة لأهدافها من خلال البرنامج، عمدت الإدارة المذكورة إلى الاستغناء عن خدماتي وانتزاع البرنامج مني كمن ينتزع طفلًا من بين ذراعي أبيه».
ستُبَثُّ برامج كوميدية بعدها على مختلف المحطات التليفزيونية لأعوام طويلة، ومنها مُنع في لبنان (أل بي سي) وإربت تنحل (الجديد) ولا يُمَلّ (المستقبل) وما في متلو (MTV) وBBCHI (أل بي سي)، لكن شربل خليل سيبقى أشهر صانع للبرامج الكوميدية التلفزيونية، وأكثر من تنقل بفورمات مشابهة بين المحطات. فبعد برامجه على تلفزيون لبنان الرسمي عام 1997 كـعرض نشرة الأخ بار وطق RIRE الذي أُوقِف عام 1999، استقر خليل على شاشة أل بي سي ببرامج تعليق SI قاسي (1999 – 2000) وبس مات وطن الذي استمر عرضه أكثر من 17 عامًا، ودمى قراطية، قبل أن ينتقل إلى شاشة الجديد مع برنامجه المعدَّل دمى كراسي وبرنامج آخر هو قدح وجم.
في كانون الثاني (يناير) 2004، سيبث برنامج «بس مات وطن» ملاحق إخبارية متتالية يظهر فيها مذيع الأخبار بسام أبو زيد، يقسط فيها أخبارًا عن كمين وعملية أمنية في الشمال اللبناني، ومن ثم الإعلان أن أسامة بن لادن قد ألقي القبض عليه في «تتخيتة» رئيس الحكومة السابق عمر كرامي. ستُخلف الحلقة بلبلة اجتماعية وسياسية تؤدي إلى اعتماد وزير الإعلام آنذاك ميشال سماحة (الذي سُجِنَ بعدها بجرم نقل متفجرات من سوريا إلى لبنان والتخطيط لتنفيذ تفجيرات) توصية المجلس الوطني للإعلام المرئي والمسموع بتعليق بث البرنامج لشهر كامل، في عقوبة وصفها أعضاء من المجلس للصحف بالعقوبة «المعتدلة والرمزية» لـ«تقويم الاعوجاج وتصويب المسار وليس قمع الحريات». ولم يفت رئيس المجلس الوطني للإعلام عبد الهادي محفوظ وقتها تذكير اللبنانيين أنَّ «ردود الفعل على الخطأ المرتكب لم تتأثر بأي عوامل طائفية وهذه حالة صحية ومشجعة».
لكنَّ الحالة الصحية والمشجعة لن تستمر طويلًا. ففي 2 حزيران (يونيو) 2006، أي قبل أربعين يومًا من اندلاع حرب تموز، ستصدر جريدة السفير بكادر في صفحتها الأولى (ليلاً: احتواء تحرّك شعبي غاضب لتناول نصر الله في «بس مات وطن»). إذ قبلها بليلة، بعد إذاعة البرنامج قبيل التاسعة مساءً، اندفعت حشود إلى شوارع الضاحية باتجاه طريق المطار وجادة حافظ الأسد، حيث قطعت الطرق وأحرقت إطارات السيارات، قبل أن تمتد مظاهر الاحتجاج إلى بعض شوارع بيروت وإلى الجنوب وبعلبك وحارة صيدا والنبطية وصور، احتجاجًا على تناول شخصية الأمين العام لـ«حزب الله» بشكل هزلي وتهكمي.
تلك الليلة، سيتخذ الحزب إجراءات عاجلة بالتعاون مع الجيش، فتقيم عناصره حزامًا أمنيًا حول كنيسة مار مخايل في الضاحية، ويتجول الحزبيون في المناطق التي شهدت تظاهرات، طالبين من المناصرين التحلي بالهدوء. قبل منتصف الليل، سيوجه «حزب الله» نداءً: «إلى أهلنا الغيارى، يحيي حزب الله أحاسيسكم ومشاعركم واستنكاركم لما عرضته محطة تلفزيونية محلية من إهانة لرمز المقاومة وسيدها، ويدعوكم إلى التحلي بالصبر وإنهاء حالات الاعتصام والتظاهر المستنكر لهذا العمل المدان، ونعدكم بمتابعة هذا الملف بالطرق المناسبة مع الجهات المعنية المسؤولة وبالشكل الذي يمنع تكرار هذا العمل».
سيلحق ببيان الحزب بيانان، الأول لشربل خليل يعتذر فيه من نصر الله وكل اللبنانيين موضحًا أنَّ «ظهور نصر الله في البرنامج لم يرد بدافع الاهانة أو الانتقاد أو السخرية من شخصيته»، مشيرًا إلى إعجابه الشديد بالسيد ومواقفه. ولن يتوقف الأمر عند هذا النحو، بل سيوجه نصر الله نفسه كلمة عبر المنار، ويطرح لقناة الجديد خشيته من أن «يدخل أحد على الخط». في اليوم التالي، سيعمد موزعو البث التلفزيوني عبر الكابلات في الضاحية وبعض مناطق بيروت إلى قطع بث أل بي سي، وسيدعو كل من المجلس الوطني للإعلام ووزير الإعلام حينها غازي العريضي وسائل الإعلام المرئي والمسموع إلى اجتماعين طارئين.
في كانون الثاني 2013، سيتكرر انعدام «الحالة الصحية والمشجعة»، باعتراض الشيخ أحمد الأسير على إعلان عن سكيتش سيرد في برنامج «بس مات وطن» يتناول شخصه، فيعلن في بيان أنَّ «التطاول والإستهزاء لا يندرجان في أيّ من الأحوال تحت شعار «حرية الرأي والتعبير»، لا سيما وأن الأمر قد بلغ ببعض الإعلاميين حد التهكم والاستهزاء بالشعائر الدينية»، متمنيًا من «أهل الصحافة والإعلام مراعاة كرامات ومعتقدات جميع الناس، لا سيما في هذه الظروف الدقيقة التي تمر بها البلاد»، ومستنكرًا «الاستهزاء الذي طاوله بشكل شخصي، كما طاول ’المحجّبات‘ في البرنامج». بعد تلقي خليل لتهديدات بالذبح والقتل، سيتقرر إلغاء السكيتش.
وستمر بضعة أسابيع فقط، قبل أن يواجه خليل اعتراضًا مسيحيًا لتقليد البطريرك مار نصر الله بطرس صفير في إحدى حلقات «بس مات وطن»، ما دفعه لاتهام محطة MTV بالتحريض، سائلًا: «إذا باتت القصة أنه يمنع تجسيد شخص البطريرك فهذه فلسفة جديدة، رجل الدين بات أهم من الدين».
في شباط (فبراير) 2017، سيُعتَدى على مدخل قناة الجديد التي تعرض برنامج خليل دمى كراسي لتضمُّنِ حلقته التي بُثَّت اسكتشات عن الإمام موسى الصدر، ويصرخ مناصرو حركة أمل أمام مبنى القناة في وطى المصيطبة: «لبيك يا موسى الصدر» و«بالروح بالدم نفديك يا نبيه (بري)».
غنيٌ عن القول أنَّ برامج شربل خليل لطالما تبنَّت خطابًا رجعيًا عن النساء والمثليين، وقدمت الريفيين في الصيَغ البلهاء المعتادة لمسرح الشانسونييه، وحرضت على اللاجئين، بل وصل بها الأمر إلى الهزء من مجاعة مضايا، لذا فإنَّ هذا العرض المفصَّل لا يبتغي مدح إسهامات خليل بقدر محاولته فهم التغيُّرات التي لحقت باستقبال الكوميديا التفزيونية اللبنانية (أيًا كان مستواها) جماعاتيًا ورسميًا.
فالمُلاحظ في سلسلة الاعتراضات الشعبية التي تعرِّضت لها برامج خليل أنَّها افتُتِحت باعتراض بيئة الطرف الأقوى في عصر ما بعد الوجود السوري «حزب الله»، ما يبدو أنه عبَّد الطريق لاعتراض الطوائف والجماعات الأخرى. ومع دخول لبنان عصر انحسار هيبة السياسيين المتعددين، وصعود هيبة الطائفة/الجماعة ومعها رجل دينها ومقدساتها كتمثُّل وحيد لها، انتهى المجتمع إلى دائرة مقفلة، لكل جماعة فيه هلعُها الخاص من خدش هيبتها من قبل الجماعات الأخرى، وذلك يقول الكثير عن الشكل الذي انتهت إليه السياسة اللبنانية بعد الـ 2006.
«تمرير الرسائل» هو الاتهام الأساسي الذي لطالما استُخدِم في أكثر من مقام، ومنها النقد لهذه البرامج الكوميدية، وهو اتهام في صلب لغة السلم الأهلي التي دائمًا ما تحذر من «الذين يدخلون على الخط» وتتحدث عن «صناديق بريد» و«رسائل المشبوهة» و«تدخلات مجهولة» (لآخر الإسهامات اللغوية في هذا الإطار يمكن متابعة حساب وزير الثقافة اللبناني على موقع X، المعروف سابقًا بإسم تويتر). هذه الاتهامات ستتعاظم مع تواجد اللبنانيين على الشبكات الاجتماعية، وإعادة إنتاجهم لخطاب الجماعات التي يناصرونها. بمعنى آخر، سيتم التعامل مع هذه البرامج تمامًا في السياق الذي بدأت منه وانتهت إليه في زمن الاستقطاب: برامج على قنوات تمثل جماعات وطوائف معينة، وبالتالي فإنَّ أي نقد فيها لجماعة لا تملك المحطة أو تمون عليها هو استهداف للسلم الأهلي.
من هذا المدخل، يمكن فهم اعتراضات بيئة الثنائي الشيعي على اسكتشات حسين قاووق ومحمد الدايخ في قناتي الجديد وأل بي سي. بالنسبة للبيئة، لقد ذمَّ قاووق/الدايخ البيئة بانتقادها في محطة «مسيحية» (أل بي سي)، وقبلها في محطة مشكوك في مناصرتها للمقاومة (الجديد) بعد انتفاضة 17 تشرين. وذلك افتتح على ما يبدو أيضًا الانتقال من «لا يمكن الاستهزاء برجل الدين» إلى «لا يمكن الاستهزاء بالبيئة».
على الرغم من الحفاظ على مكونات من خطاب البرامج التلفزيونية الرجعي والأمني (تواجد المرأة الجميلة التي ينهار لها شخصيات البرنامج، الدركي الذي يجب أن يقرِّع دومًا المواطن، الهوموفوبيا عبر الهزء من الشخصيات المثلية وصولًا إلى اتهامها بامتلاك امتيازات غير موجودة في الواقع)، فإن الفارق الأساسي في برنامج قاووق/الدايخ هو في كون قاووق ابن كوميديا الستاند أب أولًا والمسرح ثانيًا (مسرحيته مع يحيى جابر، ومسرحياته مع الدايخ)، وظهوره في تجاربه الأولى كان في الغالب في أدوار من (وعن) بيئته. صحيح أنَّ شربل خليل نفسه قد قدم مسرحيات بالتوازي مع انطلاقة عمله التلفزيوني، لكنَّ الانتقال من المسرح للتلفزيون لم يكن خطيًا ومباشرًا وسببيًا لنجاح المسرح كما في حالة قاووق/الدايخ.
فبماذا تختلف إذًا كوميديا الستاند أب عن برامج التلفزيون الكوميدية؟
كوميديون «على الواقف» خارج الجماعات
إذا ما أردنا إيجاد مقابل بيئوي وجماعاتي وطائفي لبعض مواضيع كوميديا الستاند أب التي انتشرت في السنوات الأربع الأخيرة، يمكن بسهولة الإحالة إلى مسرحيات زياد عيتاني ومسرحيات يحيى جابر (مع عيتاني نفسه، وحسين قاووق، وأنجو ريحان، وعباس جعفر). الفارق الأساسي أنَّ مسرحيات عيتاني وجابر تنتمي أكثر إلى زمن «الدنيا هيك» من انتمائها لمنطق التخفُّف من الجماعة، الذي هو المساحة التي تلعب فيها عروض كوميديا الستاند أب الأخيرة بنجومها الجدد.
والحال أن كوميديا الستاند أب رغم كونها كمسرحيات جابر/عيتاني، تقدَّم في قاعات أمام جمهور، فإنها تسلك طريقها بشكل أكثر سهولة واستهلاكًا (عبر تقطيعها) على السوشل ميديا، وهو ما لا يحدث للمسرحيات إلا في نطاق الترويج التشويقي الابتدائي لها.
التقليب في اسكتشات هذه الكوميديا، يوضِّح أنها تعرض نوعًا من الضحك التخريبي لقيم الجماعات التي تَخفَّف منها كوميديو الستاند أب الجدد. وبغض النظر عن المستوى المقدَّم في هذه العروض، لا يمكن تخيُّل عرضه على شاشة التلفزيون دون أن يقع في خانة الغرابة، فلا السياق سياقه، ولا الجمهور اعتاده بعد.
من هذا الموقع المتخفِّف، تُقدَّم اسكتشات عن عدم القدرة على احتمال الأطفال (ميشال نعمة)، ورغبة المرأة في الجنس (شادن فقيه)، والهوموفوبيا والأمومة غير المقدَّسة (وسام كمال)، والرجولة المأزومة في اسكتشات غروتسيك (شاكر بو عبدالله)، والخوف المكبوت في الحرب مع إسرائيل (حسين قاووق)، والخوف المعلن من الجماعات الطائفية الأخرى (جون أشقر)، والتطبيع مع خراب البلد (كارل داغر)، وعلاقات التعارف المسيحية (ج-سترنجز)، والتعاملات اليومية المسيحية-المسيحية داخل البلد وخارجه (ماريو مبارك)، وعالم أُسَر سنّية في مناسبات الزواج والعزاء (نور حجار)…
إنَّ متابعة مظاهرة مناصري جماعة الدعاة ضد اسكتش كوميدي لنور حجار في شوارع طريق الجديدة، والتي شجعها مشايخ في مواقع مسؤولة بدار الإفتاء على السوشل ميديا، هو أمر يدعو للحزن على الحال التي آلت إليها الطائفة السنّية، وهي حال أنتجها سياق تاريخي تم تشجيعه عربيًا ومحليًا قبل أن يحدث الفراغ السياسي باعتكاف سعد الحريري، ليتقدم هؤلاء المشايخ لملء الفراغ، وللاستفادة من الهلع الطائفي من شبهة فقدان الموقع السياسي.
يمكن التوقع بأنَّ أحدهم في مكتب ما سأل إثر الاعتراضات الشعبية الأخيرة: من هو نور حجار؟ ومن هم هؤلاء الكوميديون؟ وأين يظهرون؟ وكيف يتواجدون هكذا على السوشال ميديا من دون أن تُؤطِّرَ ظهورهم أي مؤسسة تلفزيونية؟ ومع من نتحدث عنهم؟ وكيف نضغط عليهم؟ وفي انعدام الإجابات عن معظم هذه الأسئلة، تم اللجوء إلى الحل الأقدم: الضغط على العائلة وأولياء الأمر بالتوازي مع الاستدعاءات العسكرية والقضائية.
في مقابلته مع برنامج «سردة» يعلن نور حجار: «أنا جايي إتمنيَك بس»، قبل أن يُفصِّل في البرنامج وفي مقابلات أخرى رؤيته للكوميديا وكيفية تقديمها، ويتطرق إلى موقعه السياسي ووعيه الطبقي وموقفه من الخطابات السياسية العالمية الصاعدة. ورغم أنَّ اختصار خطاب حجار بـ«المَنْيَكة» قد يكون غير منصف لتجربته، فإنَّ أكثر ما تستحقه الجمهورية الثانية في انهيارها الأخلاقي (وهي تستنهض الناس لحماية القيم) هو فعليًا «المَنْيَكة» لا أكثر.
إنَّ اعتذار حجار، الذي لم يكن بالإمكان تجنبه من أجل حماية العائلة، هو اعتذار عن كونه لبنانيًا في هذه الجمهورية، قبل أن يكون اعتذارًا من جماعات فلتانة في الأحياء يقودها شيوخ معدومو الهيبة أداءً ولغةً، بينما تؤدي سلطات أمنية وقضائية وسياسية وإعلامية دورها التاريخي في تطبيع هذا الفلتان والشرح لحجَّار، بثقة وحكمة الآباء، أنها تحاول حمايته. يصح أخيرًا هنا الاحتماء بـ«هيبة» زياد الرحباني عندما أعلن على التلفزيون قبل تسعة أعوام: «خرا ع هالجمهورية». منذ ذلك الزمن، تتابعَ المسارُ الانحداري للجمهورية، وتوحشت الجماعات فيها أكثر وتزايدت مطالبها التي صاروا يسمونها «قِيمًا»، وهشَّم انفجار ضخم أحياء العاصمة. انفجار لم يعتذر عنه أحد، بل لعله لم يحدث.