في تعاونٍ مشترك بين مؤسَّستي اتجاهات الثقافية وأتاسي المختصة بالفن التشكيلي السوري، أُنتجت السلسلة الوثائقية بعنوان سُبُل من مُحترَف الفن التشكيلي السوري 1920-2020، وهو برنامج وثائقي مسلسل على حلقات، من إعداد وتقديم الفنان التشكيلي السوري محمد عمران، يُعرِّف بتاريخ الفن التشكيلي السوري وأبرز أعلامه ومراحله، وذلك من خلال توزيع الحلقات على عدد من الأساليب والمواضيع المختارة، بإشراف عام لعبد الله الكفري على البرنامج الذي وضعت تصوره منى أتاسي وأخرجه فيليب طراد. تشمل الأهداف الأعم للبرنامج: «دعم التعليم الفني العالي في سياقات هشة، وخلق بدائل حيوية تعزز المعرفة، وتقدم محتوى فني ذي سوية عالية باللغة العربية» كما ورد في تقديمه. ركزت كل حلقة إما على نوعٍ من الأنواع الفنية من نحتٍ وتصوير ضوئي وملصق إعلاني، أو على موضوعة محددة كالبورتريه أو الطبيعة الصامتة في الفن السوري.

البورتريه السوري، وريثاً لحضارة الوجه

حملت الحلقة الأولى عنوان بورتريه الوجه والجسد في الفن التشكيلي السوري، وعارضت منذ فقرتها الافتتاحية الرؤية التاريخية النقدية التي تعتبر البورتريه ابتكاراً أوروبياً، فالحلقة تنطلق من مقولة الفنان والباحث إلياس زيات: «نحن ورثة حضارة الوجه بالمعنى الواسع»، مستعيدةً مجموعة من الأعمال الفنية من التاريخ الحضاري للمنطقة؛ مثل جماجم الموتى من تل جعدة المغارة والتي تعود بتاريخها إلى 8000 سنة قبل الميلاد، والتماثيل الصغيرة من تل براك وبورتريهات المقابر التدمرية من القرن الثالث الميلادي، ورسومات وجوه قصر عمرة الأموي من القرن الثامن وأيقونات القرن الرابع.

تناولت الحلقة تجربة الفنان أبو صبحي التيناوي الرائد في مجال رسم الشخصيات التاريخية مثل خالد بن الوليد، أو شخصيات القصص التخيُّلية المُستلهَمة من أدب الحكايات الشعبية مثل الزير سالم والظاهر بيبرس، وعنترة وعبلة.

منذ بداية الحركة التشكيلية في سوريا وحتى الخمسينيات، ساد تيارا الواقعية الكلاسيكية والانطباعية في رسم البورتريه، كما يظهر في أعمالٍ للفنان توفيق طارق مثل لوحات سيد الدراويش والسيدة عائشة، أما الواقعية الرمزية فتجلت في أعمال الفنان سعيد تحسين مثل لوحة تدمير الإنسانية (1948)، واختص صبحي شعيب بالأسلوب الواقعي التعبيري، وعُرف الفنان ميشيل كرشة بأسلوبه الانطباعي في رسم الشخصيات الدمشقية. وفي الخمسينيات، ابتكرت أعمال أدهم اسماعيل ونديم اسماعيل تعبيريةً حديثةً مستوحاة من الموروث العربي والزخرفة، كما في عمل حي قديم (1956) لنعيم اسماعيل. وتتطور تجربة محمود حماد باتجاه أسلوب تعبيري يعتمد التحليل الهندسي للأشكال كما في أعمال: الوحدة (1958)، والعرضحالجي (1961). ظهرت تأثيرات التكعيبية في  بورتريهات ممدوح قشلان المشغولة في الفترة نفسها، مثل عمل النهضة الأبدية (1959)، كما تظهر تأثيرات السوريالية في أعمال بورتريه روبير ملكي.

لوحة قهوة الصباح لميشيل كرشة

عين على الأسطورة والثانية على نبض الشارع

تناولت السلسلة أعمال لؤي كيالي، والتي حملت ملامح من عالم الشخصيات المهمشة في الواقع الاجتماعي والاقتصادي إلى فن البورتريه، من باعة جوالين وصيادي سمك وماسحي أحذية، بالإضافة إلى الأوتو بورتريه الذي ظهر في أعماله، وهو أسلوب تعبيري مميز يعتمد الرسم بالخط. كما خُصِّصت مساحة لتجربة فاتح المدرس الذي ابتكر أسلوباً غنياً بالأشكال والرموز من التراث السوري والبيئة المحلية، فنرى الوجوه المبسطة الفريدة عنده، والتي تتراوح ما بين التشخيص والتجريد  كما في لوحة المسيح وكلب طروادة. وسادت الوجوه التعبيرية المؤسلبة في أعمال نذير نبعة في الستينيات، لينتقل الفنان نفسه في أعوام السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات إلى الواقعية المستلهمة من الأسطورة والبيئة المحلية، حيث تقدم لوحته نساء شرقيات ساحرات الجمال. وإلياس الزيات الذي حملت تجربته منذ البدايات مفردات أسطورية مستمدة من التراث السوري وفن الأيقونة، حيث العيون المفتوحة الكبيرة المتأثرة بالفن التدمري. أما الوجوه التعبيرية ذات العيون الكبيرة التي ترسمها ليلى نصير، فهي انعكاس لصورتها الذاتية بشكل أو بآخر، بينما ركزت تجربة مروان قصاب باشي على موضوعة البورتريه، وبشكل خاص بورتريهات الشخصيات الأدبية، مثل: بدر شاكر السياب ومنيف الرزاز، حيث الوجه  بحسب الفنان هو ذريعة للرسم، ومن خلاله نستطيع أن نفهم العالم من خلال الرسم.

لوحة منيف الرزاز لمروان قصاب باشي

في السبعينيات وفي الثمانينيات تكثّف حضور البورتريه السياسي، مع أعمال يوسف عبدلكي الذي رسم في هذه الفترة مواضيع متسقة مع خطِّه الملتزم سياسياً، كملصقات الفدائي الفلسطيني، أو لاحقاً في أعمال التسعينيات مثل مجموعة أشخاص حيث الوجوه تقترب من مفهوم الوحش، أو أخيراً في الأعمال التي تعبر عن المأساة السورية حيث الوجوه والأجساد منفذة بأسلوب واقعي تعبيري مميز. ورسم الفنان ماهر بارودي الوجه بأسلوب متفرد يُبرز فيه عذابات الإنسان، كالأعمال التي تعالج فكرة المصاب بالفصام بعنوان بيننا (1982) أو الإنسان المهمش، وأيضاً الوجوه التي تسخر من رجال السلطة، ويرمز الفنان في لوحاته لرسم الخروف باعتباره الإنسان المُستلَب. وتتخصص تجربة الفنانة ليلى مريود فتتمحور على موضوعة الجسد  الأنثوي العاري الذي يأخذ في عملها معنىً وبُعداً اجتماعياً، وقد استخدمت الفنانة كل الوسائط الممكنة من تصوير ضوئي ورسم ونحت في التعبير عن موضوعها. ويختار الفنان سبهان آدم البشاعة كمرادف للجمال لا كنقيض له في طرحه لموضوعة البورتريه والجسد ليعبر عن واقع الإنسان المأزوم.

الرأس الضحية، الرأس المقطوع، الرأس المُحنَّط

مع العام 2011، تحول البورتريه بشكل أساسي للتعبير عن التجربة السياسية والاجتماعية التي تمر بها البلاد، فتفاعل هذا النوع الفني مع الواقع الثوري، ومع الواقع العنفي في البلاد. يظهر ذلك بوضوح، في مجموعة الأعمال المتعلقة بحادثة إصابة ووفاة الطفل الضحية حمزة بكور، التي حاكاها الفن السوري بتجارب وتنويعات متعددة في محاولة رَويِها وإحيائها عبر الأثر الفني، وظهرت تأويلات متعددة للحادثة في تجارب خالد الخاني وخليل يونس وأمجد وردة وداني أبو لوح. مما لا شك فيه أن تلك الأعمال تحمل، إلى جانب احتجاجها على العنف، توثيقاً للحدث اليومي. في المحور نفسه تحضر مجموعة الفنان جابر العظمة التي تحمل عنوان جراح، حيث يصبح البورتريه بمثابة موقف احتجاجي، كما في مجموعة بعث التي طلب فيها من شخصيات سورية أن تلتقط لنفسها صوراً في علاقتها مع جريدة البعث السورية. انتشرت مجموعة بورتريهات حول الرأس المقطوع مثل أعمال الجنرال يدخن لياسر صافي، ورأس مقطوع لعمران يونس. أما النحاتة نور عسلية فتُقارب موضوعة  الموت من خلال الرأس المقطوع، وتختار أن تحنط الوجه ذا العيون المغلقة وذلك بوضعه في مادة الريزين الشفّاف. 

الطبيعة الصامتة: الموجودات من حولنا بأبعاد سياسية وفلسفية

تمتد أهمية مفهوم الطبيعة الصامتة في الفن التشكيلي من تجسيد الأشياء والأغراض المحيطة بعالمنا اليومي، إلى الإحالات والتأويلات المرتبطة بتصوير هذه الأشياء والأغراض، التي تحمل في طياتها دلالات ذات طبيعة سياسية، اجتماعية، ثقافية وفلسفية، متجسدة في هذا النوع من الأعمال الفنية. وكما رأينا في الحلقة المخصصة للبورتريه، فكذلك الأمر مع موضوعة الطبيعة الصامتة، حيث تنوعت المدارس والأساليب الفنية بين الأسلوب الواقعي التسجيلي لكل من توفيق طارق وسعيد تحسين ورشاد مصطفى ومحمود جلال، والأسلوب الانطباعي لميشيل كرشه، والأسلوب الهندسي التحليلي لمحمود حماد، والأسلوب الاختصاري لأدهم اسماعيل. لننتقل في مرحلة أخرى إلى التجريدية التعبيرية التي ظهرت في تجربة فاتح المدرس، والأسلوب الزخرفي التراثي ذي الطابع الدمشقي مع تجربة مجموعة دمشقيات للفنان نذير نبعة.

تتوقف السلسلة الوثائقية عند الطبيعة الصامتة في أعمال يوسف عبدلكي، التي اتّجهت في بعض الأحيان من لوحات الطبيعة الصامتة في حالة العزلة والسكون إلى لوحات الطبيعة الصامتة ذات الرموز السياسية والعنفية، حيث بدأت العناصر نفسها، مثل الحذاء، تستقر على لوحات من القياس الكبير، كما بدأت مفردات جديدة تتسلل إلى لوحات عبدلكي مثل السمك والعصافير الميتة والسكاكين لتحمل دلالات أوضح ذات ارتباط بموضوعة العنف. وتعرض الحلقة للطبيعة الصامتة ذات العوالم المتخيلة لزياد دلول، والأخرى ذات الأجواء الغرائبية لنهاد الترك، وذات الواقعية المفرطة لعثمان موسى.

منذ العام 2011، حملت الأعمال الفنية التي تناولت الطبيعة الصامتة قدرة ورغبة في عكس التجربة السياسية والاجتماعية، فتذكر السلسلة الوثائقية كيف تصبح الطبيعة الصامتة أكثر عنفاً لينقلب موضوع الطبيعة الصامتة على دوره كبحث جمالي، ويصبح ذريعة لتصوير التحولات العنيفة التي تشهدها البلاد بحسب ما تورد السلسلة.

لوحة لنذير نبعة بعنوان: المنحدر

النحت الحديث: من الشخصيات الفكرية والتاريخية إلى الديكتاتور الجالس على الكرسي

تتنقَّل السلسلة الوثائقية من الموضوعات الفنية إلى أحد أبرز الأنواع الفنية في الإنتاج الفني السوري، وهو فن النحت، والذي بدأ مع تماثيل نصفية لشخصيات سياسية وفكرية مثل الرئيس تاج الدين الحسيني وفتحي محمد قباوة والمعري وأبو فراس الحمداني، وكذلك الأعمال النصبية مثل عمل أطفال عامودا لمحمود جلال، والعذارى الطائشات لجاك وردة. وشهد فن النحت السوري تجارب مُجدِّدة في الخمسينيات، لتبرز موضوعات مثل الجوع لمروان قصاب باشي، والشهيد لبرهان كركوتلي، والأمومة لمحمود جلال. وتتنوع الأساليب وتتعدد الاتجاهات خلال فترة السبعينيات والثمانينيات، بتقدم واسع لأسلوب الواقعية التعبيرية التي تظهر في أعمال عبد الرحمن مؤقت وحيد استانبولي وعبد الله السيد وعاصم الباشا ومصطفى علي. أما في فترة الثمانينيات والتسعينيات ظهرت الأعمال النصبية التي تُجسِّد حافظ الأسد، ولكن في الوقت نفسه شهدت الفترة انتشاراً لتجارب تحمل خصوصية مثل أعمال فادي يازجي وباسل السعدي.

خلال السنوات العشر الأولى من الألفية الثالثة برزت مجموعة تجارب مجددة في حركة النحت السوري، لكل من محمد عمران ونور عسلية وعلاء أبو شاهين ورندة مداح.

التصوير الضوئي: من الصور الشخصية الذاتية إلى حكايات المدن والحروب

تعود بنا السلسلة الوثائقية في الحلقة الخاصة بالتصوير الضوئي إلى البدايات الأولى مع الأخوة عبد الله،  المصورين الأساسيين للبلاط العثماني، مروراً بتجربة غارابيد كريكوريان الذي افتتح أول استديو في القدس في ثمانينيات القرن التاسع عشر، وتلميذه خليل رعد أول مصور عربي. تلت هذه المرحلة مرحلة انتشار استديوهات التصوير الضوئي مثل استديو فوتوغراف الشام لموسى الجبلي، واستديو جورج درزي في الصالحية بدمشق واستديو هاريتون كولوميان في حلب، الذي اشتهر بتصويره للشخصيات والوجوه وخاصة المشاهير والزعماء السياسيين ومنهم: عطا الأيوبي والشيخ تاج الدين الحسني وشكري القوتلي. يمكن الانطلاق في التعريف بتيار التصوير الضوئي السوري الذي اهتم بالحياة العامة وبالعلاقة مع المدن، مع صور جورج درزي في تصويره الحياة العامة والفعاليات المسيحية في دمشق، وعلى المستوى نفسه من الفن التوثيقي لمدينة حلب بعدسة إحسان شيط.

خلال  الفترة الممتدة ما بين سبعينيات و ثمانينيات القرن الماضي وحتى الفترة التي سبقت بداية الحرب في سوريا، برزت بعض التجارب التي اشتغلت على الصورة الفوتوغرافية ليس بوصفها عملاً توثيقياً أو صحفياً، وإنما بوصفها مشروعاً فنياً، يُذكر منها: مجموعتي الأحد عشرية، وحارة الطنابر لمحمد الرومي الذي اشتغل فيها على التراث الثقافي للبادية السورية، ومجموعة الضوء والظلال في الزوايا المهملة لنصوح زغلولة، وموضوعة الحوار مع الغياب في صور غيفارا نمر. أما المشاريع الفوتوغرافية التي حملت طابعاً سياسياً، فطُرِحَ منها نموذج مجموعة جراح لجابر العظمة التي تحمل شعارات التغيير والثورة وترصد لحضور العنف في المشهد البصري السوري منذ العام 2011، ومجموعة قلعة الكرتون لعلاء حسن التي رصدت حضور السلطة الطاغي في المشهد البصري لمدينة دمشق بين أعوام 2006 – 2011.

تعتبر السلسلة الوثائقية أن ما حدث بعد عام 2011 غيَّرَ مفهوم وعلاقة المجتمع والفن السوري مع الصورة. حيث أصبحت وسيلة أساسية في توثيق الحدث، وتحولت الكاميرا وبالذات كاميرا الموبايل إلى أداة فعالة ومؤثرة خلال السنوات العشر الماضية، لتبرز هنا ظاهرة المواطن المراسل الذي حمل الكاميرا لتوثيق الحدث السياسي والاجتماعي وتحول من بعدها إلى العمل الصحفي الاحترافي، منهم أمير الحلبي وحسان قطان. بينما استمرت التجارب الاحترافية في عملها الصحفي والتوثيقي كما عند الفنان عمار عبد ربه الذي وثق الدمار الذي تعرضت له مدينة حلب.

وفي النهاية، تطرح هذه الحلقة تساؤلاً خاصاً بفن التصوير الضوئي: هل نستطيع أن نعتبر الصورة التي توثق الحرب عملاً فنياً؟، لتقدم مُقترَحَها للإجابة: « نعم تستطيع أن تحمل الصورة/ الوثيقة جماليات أي عمل فني، حتى لو كان الموضوع عنيفاً وقاسياً، وخاصة إذا كان المصور مبدعاً يحمل من الموهبة والتراكم المعرفي البصري والتقني ما يجعل أعماله تتحرر من كونها فقط صور وثائقية عن الحرب».

بوستر الشعب السوري عارف طريقه

البوستر الملصق الإعلاني: من تصاميم المعارض والعروض الفنية إلى التفاعل مع أحداث العنف اليومية

تناولت السلسلة أيضاً مجموعة من أبرز تجارب فن التصميم الغرافيكي والبوستر والتصميم الإعلامي، أبرزها، من بين تجارب أخرى تناولتها السلسلة، تجربة عبد القادر أرناؤوط؛ أول فنان تشكيلي سوري يحترف فن الغرافيك والتصميم الإعلاني، بتصاميمه المعتمدة على البساطة في التكوين والإيحاء تارة مثل بوستر حفلة الباليه، وعلى الألوان القوية ذات الدلالات تارة أخرى، خاصة في المواضيع السياسية لدى تناوله القضية الفلسطينية.

ساهم البوستر مع بداية الحراك الشعبي عام 2011، بشكل أساسي في عملية التوثيق والتعليق على الأحداث، وساهم في انتشاره أيضاً تداوله السريع على منصات التواصل الاجتماعي، وبرز عدد كبير من فناني-ات البوستر السوريين والسوريات. تتوقف السلسلة الوثائقية عند أبرز تجارب البوستر السورية ومنها تجربة الشعب السوري عارف طريقه، وهي مجموعة تركزت أعمالها على القضايا السياسية والاجتماعية مثل حملات إضراب الكرامة، ونحن بديل أخلاقي، وإضراب المعتقلات في سجن عدرا.