كنتُ بارعاً أو -حربوقاً- بالعثور على أسئلة الدورات قبل صباح الاختبار بليلةٍ واحدة، وأكسبتني هذه الحرفة اهتماماً من بعضِ المعارف الذين لم يكونوا قريبين منّي إلّا في أيام الاختبارات النصفية والنهائية. قلتُ لنفسي: «لا بأس، كُلّنا في الهمّ شرقُ». وكأيّ صنعة تُكسِبُ صاحبها السرعة في الأداء مع مرور الزمن، باتَ الأمرُ سهلاً عليّ عندما وصلتُ إلى آخر سنتين في الجامعة، حتى كَثُرت الرسائل التي تسأل عن حالي وعن خططي وهمومي قبل أسبوع الاختبارات بيومٍ أو اثنين، وكنّا نسمرُ على لعبة شدّة بعد حفظ هذه الأسئلة. توالت السنوات، ونجح بعض الزملاء دون حاجةٍ لأسئلة الدوراتِ مثلي، أو للذهابِ إلى أبوابِ الدكاترة وتذكيرهم بأننا مهاجرونَ هنا وأنّ لنا أخاً أو أباً أو عمّاً توفي في مناطق سيطرة النظام السوري قبل الاختبار.
بقدرة قادرٍ ثمّ بدعاء الوالدين وبعض اللهو هنا وهناك، وبأعذارٍ طبية أمضينا بها أيام التدريب، وفي وسطٍ لم يكن لنا فيه صديقٌ من عرقيّةٍ أخرى؛ تخرّجتُ مثلي مثلَ الكثيرين من أبناءِ وبنات الوطن البعيد. أذكرُ أنني انتظرتُ هذا اللقب بفارغ الصبر رفقة العديد من الشتائم باللغة التركية والعربية طبعاً لأن الدكتور لم يفهمها؛ أصبحتُ المهندس، وأصبحت ليلى إعلامية وبشير خريج تجارة. كنتُ سأقول عن بشير ؤنه أصبح تاجراً، ولكنني إلى الآن لا أعرفُ صراحةً ما الذي سيتمكن من فعله في المستقبل، ولا يخطرُ في بالي كأيٍّ معتادٍ على تخيل صورٍ نمطية عن الناس سوى أنه سيصبح محاسباً في دكان.
احتفلنا ورقصنا وغنّينا وأكثرنا من الفرح بعد التخرج؛ ربما لنغيظَ الماضي أو المنفى بشكلٍ من الأشكال. مضى اليوم الأول جميلاً بالاستيقاظ متأخراً، ومضى اليومان الثاني والثالث كذلك: «إيه وهلئ شو؟» قال سامي خرّيج الإدارة. لم يكن سامي، وهو أفضلنا دراسةً، على علمٍ بأيّ بادرةٍ تدفع به إلى العمل، خصوصاً أننا لم نحصل على الجنسية، ولعلّ هذا الأمر كان أسوأ من عدم تخرج أحدنا. هذه الهوية التي لا تغطّي كفّ اليد هي أهمّ من شهادة دراساتٍ عليا يملكها عبد الرحمن الذي يكتبُ الشعر ويعشقُ الصعلكة. فعلى السوريين الذين لا يحملون الجنسية التركية أن يحملوا صخرةً مثل سيزيف وأن يصعدوا بها جبلاً من متطلبات أصحاب الشركات والمصانع. لم نُجب على نداء سامي الاستفساري، وقمنا كأي شبابٍ في منزلٍ جامعي بفتّ الشدة وتجهيز الشاي، وقرّرنا التفكير أثناء «تدبيل الختيار»، بينما قرر البعض الآخر تصفّح التيك توك.
هيّا إلى إسطنبول
تكون الولايات الصغيرة نسبياً في تركيا مليئةً بالمصانع المتخصصة بما تنتجه تلك الأراضي، وتتنشر المصانع أيضاً بالقرب ولاياتٍ كبيرةٍ كإسطنبول وإزمير وأنقرة. يبدأ المتخرجون الجدد في البحث ضمن نطاق مدنهم أولاً في ظلّ قيود السفر الرجعية أو صعوبة تأمين مسكن جديد لمن يملكون بطاقة الإقامة. فلأنهم عاشوا عمراً في مدنهم هذه ولأن الكثير منهم ليس لهم أهلٌ أو معارف في الولايات الكبرى، فهم يرجّحون البقاء ضمن نطاقٍ مفروض عليهم. لا بأس، فنحنُ نتأقلم مع حرارة الأقدار. ولكن مدننا لا توظف الكثير من الأجانب، وتعطي أولويةً للأتراك علينا، لنلجأ إن حالفنا الحظ ببحيرةٍ قريبة أو قبرٍ تاريخيٍّ في المدينة للعمل في السياحة وفي الترجمة للعربِ السائحين الذين يحملون العملة الصعبة المحببة للأتراك ولنا أيضاً. هكذا نمضي فصلَ الصيف: «طيب وباقي السنة؟» يقولُ سامي مجدداً.
في باقي السنة نحاولُ النزوح كالطيور إلى إسطنبول، أرض الفرص والأحلام. هناك حيث الأحاديث الأسطورية التي لم يتوقّف صديقنا عمّار عن نسجها لنا عندما كان يعودُ إلينا محمّلاً بالمونة السورية وبالأحاديث الحمراء عن بعض أحيائها، لتتكوّن لدينا صورة لم ولن تُمحى إلا بعد قضاء أسبوعٍ فيها.
نذهبُ إلى هناك حاملين حقيبةً تسعفنا في أيامِ بدايتنا، ونثقّلُ قليلاً على أحد المعارف الذي يملكُ أريكةً فارغة في صالونه، نعدهُ بالبقاءِ أسبوعاً أو اثنين في أسوأ الأحوال، لكنّ الأمر ما يلبث حتى يطولَ إلى شهرٍ وشهرين. نرسل الأخبار ونتابع إعلانات فرص العمل ونلصق سيرتنا الذاتية على جدران كلّ زقاق. يمضي اليوم الأول جميلاً بنشوةِ الوصول، والثاني أيضاً، والثالث يحسبُ معهم بوجود مخدّرِ الطعام اللذيذ والأماكن السياحية في المدن الكبيرة. لكنّ الأيام التي تليها تزداد صعوبةً واحداً تلو الآخر إلى أن يأتي البشير صارخاً بحاجة أحدهم لشخصٍ يجيدُ أمراً ما.
«لا يهم، أي شي يشغّلنا يا جماعة»، قال عبد الله الذي ينتظرُ عملاً ليجمعَ منه مهراً يخطبُ بهِ حبيبته التي لا نعلمُ مدى انتظارها وعائلتها له.
نبدأ العمل مكرهين، ونحاولُ تغطية هذا الكره بالرضا ومقولاتٍ تحفيزية تملأ حسابات التواصل الاجتماعي. لا بأس، المهم أننا سنأخذُ أول راتب، سواء كنّا نعملُ مهندسين أم صنّاع محتوى أم خيّاطين أو سائقين. الشغل مو عيب، وهذا دستورٌ في وطني.
تكادُ الوظيفة التي يسعى بها صاحبُ العمل لإخراجِ إذن عملٍ لنا كمنحةٍ إلى كندا، فإذنُ العمل هو أقرب طريقٍ مضمون -بشكلٍ كبير- للحصول على الجنسية التركية إن استطاع أحدهم الحصول عليه: «إذن عمل معلم، يعني أربع خمس سنين وبصير مجنّس» يقول أحدنا، ولكن 80 بالمئة من هذا أضغاثُ أحلام.
يعمل المهندسُ كمحرر، وبدأ الإعلامي بإنتاج محتوى التيك توك ودخول عالم الريلز، ويبحث المصمم عن منصّةٍ في الخليج ليعمل معها كي يأخذ بالعملة الصّعبة، ويصبح الإداري موظّفاً في محل، وتراهم جميعاً في الصيف في مدن صبنجة وطرابزون مترجمين ومرشدي أماكن سياحية.
لا أقولُ إنّ الحياة سوداء إلى هذه الدرجة، وأن المتفوّقَ في مجاله لا يستطيعُ العثور على مكانٍ يلائمُ مواهبه وتفوّقه، لكنني أقولُ إنّ الطريق -إن صحت تسميته بطريق- غير مُعبّد، وأنّهُ في أحسنِ الأحوال يحوي في إحدى أطرافه على شجرةٍ يستفيءُ الماشي بها. هذه الطريق التي لا رعاة ولا داعمين ولا مؤسسة وطنية ترعاها، يمشي بها الخرّيج بتياسير الله وحده. فلا أحد ينظرُ في الذين لم ينالوا حقّ المواطنة، ولا أحد يرعى الذين يرّحلونَ خطَأً وهم طلّاب، ولا تقديرَ لمواهب دُفنت تحت خطّ المتروبوس أو بين سكك المترو في دوّامة المدن الكبرى.
فركش
وماذا عن عبد الله الذي يريد خطبة من يحب ولا يملك في جيبه مبلغ إيجار منزل آخر الشهر؟ سينتظرُ في أفضل الأحوال سنتين أو ثلاث لكي يستطيعَ فتحَ بيتٍ في منطقةٍ نائية في مدينةٍ كبيرة. هذا إن اتفقنا على طولِ صبر الأطراف المعنية بالموضوع. ونحنُ في هذا القسم من الحديث نحاول النظر للجانب النفسي لدى الخريجين، فالكثير من الشباب والفتيات يمرّون بمشاكل قلقٍ قد يصحّ تسمية الكثير منها تحت عنوانٍ عريضِ الخط يحملُ حروف كلمة «اضطراب». فما بالك إن كان لأحدهم ماضٍ مليء بالفقد أو الاعتقال أو الترحيل.
نحن نركض كالدمى في المدن الكبرى، يعلو الذهولُ وجوهنا، يجلسُ الهمّ ويتربّعُ على أكتافنا. وحتى حين نذهبُ إلى البحر لنرتاح، تضربُ الأمواج ذاكرتنا بموعدِ تجديد المعلومات في مركز الهجرة. نتخفّى ليلاً من الشرطة خشية الإصباحِ على جدران «توزلا»؛ مركز ترحيل المهاجرين «غير الشرعيين». نَجري في هذا القفص الكبير دون أوراقٍ تدعمنا أو مِنحٍ تُصادقُ على علمنا وشهاداتنا، نقلقُ كثيراً ونحاولُ تذكّرَ الماضي وسهرات الشدّة وليالي القهوة مع الحبيب، وكيفَ أننا استطعنا الغشّ في امتحانِ مادّة صعبة. لا ننظرُ للأعلى حيث يتزوّجُ الأبطالُ بأميراتهم اللواتي لا ينتظرنَ تخرّجهم، فالوالد يملكُ شركةً أو لديه مصنع هنا وجنسيّة هناك. نحاولُ النظرَ في أنفسنا ومساعدة من هم أقلّ منا على قدر الاستطاعة.
نحنُ مليئون بالهموم، نحاولُ زرع الحبّ في وجوهنا. تحاول الفتاة إطلاقَ عنان طاقتها وقدرتها في بيئةٍ مُقَيِّدة، ويحاول الشاب مدّ «حرامو» على أقل من قدميه بكثير.
لعلّ ما يسعفنا أننا نفهمُ بعضنا البعض، نحاول تأمين عملٍ للعاطلِ منّا، ومواساةِ من فقد حبّه، نطبطبُ على بعض أمامَ ثقبُ التّخرج الذي يبتلعنا جميعاً، فلا أسئلة دورات تعطينا طرق التعامل مع الحياة الواقعية، ولا وطنَ قد يسعفنا في إنشاء أمرٍ خاصٍّ بنا نعودُ إليه، وحضن أمي وحنان أبي بعيدان أيضاً.
فمن يحتوي الخرّيج إلا ذاكرتهُ وبضعة أحلامٍ حافظت على حياتها تحتَ وطأة الغربة الرتيبة؟
بتعرف مهرّب؟
بعد الاستقرارِ لأشهر، يكتشف الكثير من الشباب الذي لم يعد خريجاً جديداً عدم جدوى العمل المستمر في هذه الديار، ويبدأ الشتاء يعتلي رؤوس الجميع. لا يظهرُ في الأفق سوى مجموعات الهجرة -غير الشرعية مجدداً- إلى أوروبا وبعض تجمعات التلغرام التي تتحدث عن مشروع كندا القومي بضمّ النخب من أبناء الشعوب المقهورة. لكنّ المهرب يأخذ الكثير من العملة الصعبة التي قد يصعب على العامل جمعها من عمله حتى ولو امتد من الثامنة صباحاً -إن لم نحتسب ساعة المواصلات- حتى الساعة الثامنة ليلاً، وهنالك العمل المسائي في بعض الأحيان أيضاً. يدفع هذا الضيق بعض الأصدقاء نحو مهربين يأخذون مالاً أقل مقابل خدماتهم غير المحدودة، لكنّ طرقهم قد تكونُ أكثر خطراً. وهذه الطرق ما هيَ إلّا علاجٌ سام لورمٍ من الهموم والضياع يتمدّد يوماً بعدَ يوم.
وتظلّ حاضرةً أيضاً الأماني بوجود مهربٍ إلى الخليج أو منحةٍ إلى أوروبا أو إذن عمل أو شركةٍ سورية تعطي الراتب بالدولار، أو بمشروعٍ يدرُّ ذهب، أو بخبيئةٍ تحت بئرٍ في بيتٍ قديمٍ لا يسكنُ فيه إلا المحتاج إلى منزلٍ بإيجارٍ زهيد.
أما تلك الشهادة، فهي بأحسن الأحوال قد تصلحُ كلوحةٍ فنّية، رسمتها ليالي التياسير وصباحات أسئلة الدكاترة الرتيبة الثقيلة المتكررة: «من أين أنتم؟».
فهل يا تُرى أعودُ إلى أيّام الدراسة حيث الهدف واضح والطريق معبّد؟ أم أبقى في هذا التيه؟