مُكرِّرةً شعارات الـ2011 ومضيفةً إليها شعارات أخرى، تدخل انتفاضة السويداء أسبوعها الثالث مُجدِّدةً نوعاً من الأمل الحذر في نفوس كثير من السوريين، وبروح فكاهية يردد المحتجون فيها ساخرين من تصريحات بشار الأسد الأخيرة في مقابلته مع سكاي نيوز: نحنا النيّف، نحنا النيّف، ارحل عنا بدنا نكيف. وهو أمرٌ لا يمكن تجاهل صحته، فمحافظة السويداء بتعداد سكانها البالغ نحو نصف مليون، حسب آخر الإحصائيات الرسمية، تشكل «نيّفاً» من عموم السوريين.

على مدى إثني عشر عاماً، شهدت السويداء ثلاثة تنويعات من العمل الاحتجاجي المعارض، بداية من الذين كانوا جزءاً من حركة 2011 بخطابها ورموزها وأساليبها، ثم بعد ذلك توجُّه بعض أبنائها للتسلُّح دفاعاً عن الجبل وخصوصيته، ودعماً لرغبة بعضهم بعدم الالتزام بالخدمة العسكرية الإجبارية في جيش النظام كما في حركة رجال الكرامة، جاء بعد ذلك حراكٌ سلمي بمطالب اقتصادية بشكل رئيسي؛ أبرز ممثليه كان حركة خنقتونا 2015 وحركة بدنا عيش 2020. أما الجديد في حراك اليوم، وإن جاء نتيجةً لقرارات الحكومة الاقتصادية الأخيرة التي أكملت إطباق الخناق على السوريين، فهو الإجماع على هدف التغيير السياسي وكذلك انخراط فئات جديدة ومتنوعة، من ضمنها شيخا العقل حكمت الهجري وحمود الحناوي، وهما من أبرز الزعامات الروحية لدى الدروز الذين يشكلون الغالبية العظمى من سكّان المحافظة.

أيّ «مطالب»، أيّ حقوق؟

«إحدى أهم الأشياء التي يقع الجميع في فخّها هي مفردة (مطالب)، ويُسوّقها إعلام النظام أو حتى إعلام المعارضة أحياناً على أنها (مطالب)». بهذه الجملة استهلّ المحامي والناشط الحقوقي الأستاذ أيمن شيب الدين جوابه عن سؤالي حول الشعارات التي يرددها أهالي السويداء اليوم، وحول «ماذا يريدون؟». في السياق السوري، حُمِّلت كلمة مطالب في الغالب معنىً معيشياً منزوعَ السياسة، يعترف النظام بأحقيته لفظياً ويعتبر نفسه المخوَّل بتحقيقه، في حين أن ما يطلبه الناس اليوم يربط المعيشي بالتغيير السياسي مباشرةً.

انخرطَ شيب الدين مع زملاء له من المحامين والمحاميات في احتجاجات السويداء السلمية منذ العام 2011، وشكلّوا معاً عقب بدء حملات الاعتقال في السويداء هيئة للدفاع عن المعتقلين بشكل طوعي ومجاني، يتابعون من خلالها قضايا المعتقلين ويدافعون عنهم أمام مختلف المحاكم. وهو يرى أن ما يردده المحتجون اليوم من شعارات هي حقوقٌ بالدّرجة الأولى وليست مطالب، مضيفاً أن «الشعب المُنتفض بعمومه يعي جيّداً أن مطالبه –إن صحّ التعبير- لا يُمكن أن تُلبّى في ظل عدم وجود دولة في سوريا بالمعنى القانوني والسياسي الحديث للدولة، حيث أن ما تسمّى الدولة في سوريا هي مجرد حكم قائم على الإخضاع»، ومن هنا تتضح معالم «عدم شرعية هذا الحكم» بحسب شيب الدين الذي يقول: «نحن لا نطلب الحريّة والكرامة والعيش الكريم من النظام، ولا ننتظر منهُ تحقيقها أصلاً، ليَقيننا أنه قائم على نفيها عنّا ابتداءً».

سهير (40 عاماً)، وهي ناشطة مدنية انضمت إلى صفوف المشاركين في الاحتجاجات ضد النظام عام 2014 عبر مشاركتها في اعتصامٍ مطلبيّ في ساحة الفرسان لأول مرة في مدينة السويداء. تقول في حديثها للجمهورية إن الطريقة الوحيدة المُتاحة لتحصيل الحقوق، التي يطالب بها المحتجون والمحتجات، هي تجاوب المجتمع الدولي وفرض تطبيق القرار 2254، وأنهم واعون تماماً لكافة تحديات تحقيق هذا الهدف، ولكن لا يملكون سوى البقاء في الشارع إلى حينه.

وفي هذا السياق يرى كرم منذر، وهو ناشط ومتطوع في اللجنة التنظيمية لحراك السويداء، أن الهتافات اليوم تسعى إلى «جذب السوريين بكافة أطيافهم للانضمام إلى الانتفاضة السلمية» حسب تعبيره. يتحدث منذر عن ضرورة وضع الخلافات والاختلافات جانباً، بحيث يمكن العودة إلى نقاشها لاحقاً بعد تغيير النظام. وهو يؤكد أيضاً على كلام شيب الدين بخصوص أنها ليست مطالب من النظام، بل هي «تذكير للمجتمع الدولي بأن إسقاط النظام ضرورة لتحصيل حقوق السوريين، ولا يمكن إيجاد حل سياسي في سوريا يتضمن بقاء الأسد».

أما المحامية والناشطة الحقوقية شروق ممدوح، فاعتبرت أن «الحراك وصل إلى مرحلة متقدمة، وأقل ما يمكن العمل عليه هو الحصول على مكاسب ممكنة على المدى القريب»، مؤكدةً وعيَ الشارع بتحديات تحقيق هدف إسقاط النظام وتطبيق القرار 2254؛ «يحتاج ذلك وقتاً طويلاً واتفاقات وإرادة دولية، إضافةً لإرادة الشعب، ومن يظن أن النتائج ستكون لحظية وآنية مخطئٌ تماماً».

لا تمويل خارجي، ولا نزعة انفصالية

المحاولات الحثيثة لتقديم الدعم المادي واللوجستي من الخارج لاستمرار الحراك قوبلت بالرفض القاطع، سواء كانت هذه المحاولات من أبناء وبنات المحافظة المغتربين_ات، أو غيرهم من عموم السوريين الداعمين لأي حراك ثوري ضد نظام الأسد في الداخل السوري. قد تكون هذه القطعية نتيجة تجارب السوريين السابقة، التي جعلت محتجي اليوم يحاولون التصدي مسبقاً لاتهامٍ متوقَّع بالعمالة للخارج والارتزاق.

تقول شروق ممدوح إن «الغاية أن يكون الحراك عفوياً وشخصياً ونابعاً من الرغبة الحقيقية بالتغيير بكل أنواعه وأشكاله»، ويبدو أن الصمود الذي طالب به بشار الأسد السوريين والسوريات على مدى 12 عاماً، والذي أصبح اعتيادياً وجزءاً من التكيف مع الضغوط الاقتصادية والأمنية، انقلب ضده؛ حيث تجد سهير أن السوريين والسوريات اليوم اعتادوا على الخناق الاقتصادي وتدبير أمورهم-ن بالقليل والتعاون فيما بينهم للاستمرار في العيش، وهذا يساعد الحراك اليوم على الصمود في الشارع؛ تقول: «السويداء اليوم اتخذت قراراً لا رجعة فيه، منذ 12 عاماً والناس ذاقوا المرَّ من هذا النظام والضغط الاقتصادي الممارس على السوريين» وعليه يمكن للناس الخروج من أقاصي المحافظة إلى ساحة الكرامة في وسطها مشياً على الأقدام بحسب تعبيرها.

إذن لا خوف من أن يعيق شحُّ الموارد استمرار الحراك، حيث أكد الأستاذ شيب الدين بأن طلب الحرية والكرامة لا يحتاج دعماً: «الأصدقاء والأهل هُنا تُساعد بعضها بعضاً، ولن يتوقّف الحراك بسبب عدم وجود وسائل نقل». وبالرغم من الرومانسية البادية على هذا الخطاب، يمكن بالفعل رصد التضامن الداخلي فيما يخص الموارد، حيث أكد عدة متحدثين من داخل المدينة للجمهورية أنهم حاولوا تقديم عروض بدفع أجرة النقل للباصات أو تعبئة مادة البنزين للسيارات التي تنقلهم إلى ساحة المدينة، خاصة يوم الجمعة الذي يتجمع خلاله المحتجون من المناطق والقرى في ساحة واحدة وهي ساحة الكرامة كما يسميها المحتجون اليوم، لكن أصحاب وسائل النقل يرفضون حتى الآن، مؤكدين أنهم لن يترددو في طلب الدعم من رفاقهم في الحراك لحظة الحاجة إلى ذلك. كما رصدت بعض الصفحات المحلية خزّان مياه متنقل وضع في الساحة، بمبادرة فردية من صاحبه.

في هذا الصدد يؤكد كرم منذر أن الدعم المادي مرفوض بشكله العشوائي، ويجب أن يكون منظماً وواضحاً لقبوله، حيث أن أي دعم مبهم يمكن أن يسبب شرخاً في الحراك لا يمكن المخاطرة بقبوله. ويضيف شيب الدين في هذا السياق: «إننا نريد قطع الطّريق على النظام وأبواقه بإسطوانة التّمويل الخارجي الذي يتّهمون به كلّ من يثور على النظام».

وعن احتمالات القبول بتسوية ما، أكد جميع المشاركين-ات في الحديث مع الجمهورية أن النظام لا يملك في جعبته ما يمكن أن يقدمه إلّا الرحيل والقبول بالحلّ السياسي، وبحسب سهير «لا يوجد أي بديل عن مطلب رحيل النظام السوري». وترى الناشطة الحقوقية ممدوح أن سقف المطالب مفتوحٌ، وليس محدداً ولا مقيّداً، لكن احتمال القبول بمساومة على المطالب ليس وارداً بحسب مجريات الأحداث، كما أن الانفصال مرفوض ولا يوجد أي توجه عام للقبول بإدارة ذاتية في السويداء، حيث أن «الشعار الأهم في الحراك هو سوريا واحدة موحدة ولا نقبل بالتجزئة والانفصال». وتضيف ممدوح بأن بعض السياسيين والمدنيين في المحافظة يعملون على وضع رؤية للمطالب وكيفية تحقيقها، وخلال ذلك تتم الدعوة إلى اللامركزية كجزء من الحل السياسي؛ «من الضروري جداً فهم أن اللامركزية مختلفة تماماً عن الحكم الذاتي أو الانفصال، بل بالعكس هي ارتباط بالدولة مع وجود اختصاصات للمحليات».

وبحسب الأستاذ شيب الدين فإن فكرة الانفصال «تُروّجها مُخابرات النظام»، معتبراً أن «ساحات التظاهر وشعاراتها كفيلة بإسقاط هذا الخطاب وتبيان زيفه». الحديث عن معبر مع الأردن هو مطلب قديم مرتبط بضيق الخناق على السويداء كمحافظة تعتمد في اقتصادها على الزراعة ووظائف الدولة فقط، حيث تعتبر ممدوح أنه «من الطبيعي وجود معابر بين الدول للتجارة والعبور وتبادل الموارد، وهذا لا يعني طلب الانفصال أو لا يؤكده بأي حال»، في حين يؤكد شيب الدين أن من يروج للمعبر اليوم على أنه وسيلة للانفصال هم «أزلام النظام؛ الشيخ يوسف جربوع والضابط المقاعد نايف العاقل»، وفي سياقه هذا سيكون مرفوضاً من الحراك وعموم أهالي السويداء الذين يُؤكّدون صباح مساء بأن «معبرهم هو نحو سوريا والسوريين فقط، وأن خلاص السويداء هو من خلاص جميع السوريين من نظام الاستبداد والفساد والإجرام».

ولا ينفي شيب الدين وجود بعض الفئات الصغيرة ضمن الحراك، التي وصفها بـ«الواهمة»، والتي تتكلم عن إدارة ذاتية وحُكم ذاتي للسويداء، لكنه يعود ويؤكد أن «بوصلة السويداء وتاريخها وطنيّ، وسيبقى وطنيّاً بالمعنى السياسي والانتماء وليس بالمعنى الشعري»، وهو ما أكد عليه أيضاً كرم منذر بقوله «نحن أقلية دينية، لكننا أكثرية وطنية لا نقبل بتقسيم أرض سوريا، وسنرفض أي تسوية لا تحقق مطلب كافة فئات الشعب السوري».

النساء في قلب الحراك

لإعداد هذا التقرير خصصتُ مساحة منفصلة للحديث عن حضور النساء، وتواصلت مع عدد من النساء الفاعلات لسؤالهنَّ عن هذا الحضور، في حين وصلتني ردود متشابهة تقريباً من النساء اللواتي تحدثتُ إليهنّ، ترى أنه لا داعي لهذا التخصيص. سهير اعتبرت أن وجود النساء في الشوارع «ليس منفصلاً عن وجود الرجال، وهو غير منظم بشكل فئوي». وأن أي هتاف، أو نشيد قد يبدو منظماً من النساء لا يعدو كونه «تضامناً وتكاتفاً لحظياً وعفوياً»، تقول: «ببساطة تبدأ إحدى النساء بنشيد أو هتاف، فنتبعها ونتجمع حولها ونبدأ بالترديد من خلفها، أو تخرج إحدى النساء بفكرة (كفكرة ارتداء الزي التقليدي لنساء المحافظة)، فأيضاً ندعم فكرتها ونشاركها ببساطة وعفوية دون تحليل وتنسيق ونقاش وجدل». وفي الاتجاه نفسه، تقول شروق ممدوح: «النساء شريكات وثائرات ومشاركات ومساندات في كل عمليات التغيير وبناء السلام والنضال».

النساء في السويداء عموماً مشاركات في المساحات العامة منذ بداية الحراك شأنهنَّ شأن الرجال، يساعد في ذلك البيئة المنفتحة نسبياً وشكل الحياة الاقتصادية في المحافظة، حيث تعتمد المحافظة في اقتصادها على وظائف الدولة والزراعة بالدرجة الأولى، وفي حين تتطلب الأولى شهادات تعليم من معاهد وجامعات، تجد نسبة النساء المتعلمات والموظفات في الدولة في المحافظة مقاربة بشكل كبير لنسبة الرجال، كما أن النساء منخرطات في العمل الزراعي أصلاً.

النظام يكتفي بالمراقبة، تقريباً

حتى الآن، ردة فعل النظام السوري مبهمة، وكأنه في حالة إعادة ترتيب للأوراق. فقد تمت إشاعة بعض التحذيرات من قبل أفراد تابعين وموالين للنظام بشأن دخول بعض الانتحاريين إلى السويداء، كما سحب النظام عناصره عن الحواجز المحيطة بالمحافظة بالتزامن مع ذلك. توقَّف هذا الخطاب بعد أن رد عليه المحتجون بتشكيل حواجز مؤقتة تراقب السيارات الداخلة إلى المحافظة، وبعد تأكيدهم على أن أي عملية من هذا النوع سيتحمل النظام مسؤوليتها. كما أن أعضاء من مجلس الشعب وبعض المسؤولين الذين حضروا ضيوفاً على قنوات إعلام النظام وحتى العربية، كان خطابهم محابياً للسويداء، يتجاهلون فيها كل شعارات إسقاط النظام والمطالبة برحيل الأسد ويؤكدون على أحقية المطالب المعيشية، ربما في محاولة لتعزيز الشرخ مع الأطراف المعارضة الأخرى التي تنتقد حراك السويداء اليوم باعتباره «حراك جوع» فقط.

وتحدثت مصادر خاصة للجمهورية عن قيام تابعين لأجهزة المخابرات من أبناء المحافظة، بتوجيه تهديدات ضمنية أو رسائل تحذير لمن يعرفونهم في الحراك، ومن ذلك طلب مبلغ مالي كبير لإزالة اسم أحد الناشطين في الحراك من قائمة أسماء المطلوبين لأمن الدولة، على أن يتوقف هذا الناشط عن الانخراط في الحراك بعد دفع المبلغ وإزالة اسمه. هو أمرٌ تجاهله الناشط كلياً حاله حال كثيرين غيره ممّن وصلتهم رسائل مشابهة، الذين يعتبرون أنهم وصلوا إلى نقطة اللاعودة هذه المرة، وأن التصعيد سيستمر في الأيام المقبلة.

وعن ذلك يقول شيب الدين: «لسنا مُستعدّين إلا للبقاء في الشّارع، ولا خيار لدينا إلا الثّبات والاستمرار بإعلاء الصوت بحقوقنا، وعموم الحراك لا يتوقّع من النظام إلّا التجاهل أصلاً، النظام عاجزٌ عن جلب الكهرباء ثلاث ساعات مُتتالية، فهل نتوقّع منه حُريّات وحقوق سياسيّة، بالطبع لا، نحنُ على قطيعة مع النظام، نُطالب برحيله، لنبني سورية جديدة بلا كنية الأسد».

أخيراً، يمكننا ملاحظة انحياز كثيرين من المُوالين السابقين لحراك اليوم، وانخراطهم شيئاً فشيئاً ضمنه، عدا البعثيين النشطين المرتبطين فعلاً بالسلطة بالطبع، الذين يعيشون حالة الصّدمة بحسب تعبير الأستاذ أيمن، مؤكداً على عدم وجود حالات تشبيح إطلاقاً سواء في مركز المدينة أو في القرى وعموم المحافظة.

لا يمكن اعتبار حراك اليوم منفصلاً عن حراك 2011، إذ أن الصمت الذي انكسر، وحاجز الخوف الذي تحطم، وإجرام النظام الذي اختُبِر، أمورٌ ما تزال تلقي بتبعاتها على عموم السوريين في سوريا وحتى في الشتات، لكن السياق تغيّر اليوم، وفرض انضمام فئات جديدة إلى معارضة النظام والمطالبة برحيله.

الحراك المستمرّ في السويداء هو حراك كبير وأهلي ويتجذّر ويمتدّ يوماً بعد يوم؛ تقول شروق: «نحن باقون في الشارع ولا نفكر بتركه على المدى المنظور، وبدأت عملية تنظيم التواجد في الشارع بدعوات مفتوحة وكبيرة ليومي الجمعة والإثنين، وحتى إن استمر النظام بالتجاهل وعدم الاكتراث فالأمر لن يثني المتظاهرين عن الاستمرار».