«أنا فدوى محمود، اعتُقِلتُ أيام حافظ الأسد لمدة سنتين، واللّي اعتقلني هو أخي، اللّي كان مسؤول أمن الفرع السياسي في سوريا، لأنو النظام في سوريا قدر يفرِّق الناس حتى ضمن البيت الواحد. أنا أخي حطني بالسجن وكانوا أولادي صغار، إبني الكبير كان عمرو 9 سنين، وهوي هلق بالمعتقل. بسوريا يُعتقل أي حدا بِقول لأ، من أيام حافظ الأسد لهاللحظة».
هكذا افتتحت فدوى محمود كلمتها في الجلسة الحوارية التي عقدتها منظمة العفو الدولية في بيروت، ومحمود هي ناشطة سياسية ومُعتقلة سابقة، تم إخفاء ابنها ماهر وزوجها عبد العزيز الخيّر منذ العام 2012 إلى اليوم، وقد أسّست مع مجموعة من النساء السوريات حركة عائلات من أجل الحرية، التي تطالب بالكشف عن مصير وإطلاق سراح جميع المُعتقلين والمُختطفين والمَخفيين في سوريا.
تم إجراء الجلسة الحوارية في بيروت قبل يومين؛ في 30 آب (أغسطس) 2023، بمناسبة اليوم الدولي لضحايا الاختفاء القسري، واستضافَتْها منظمة العفو الدولية بالتعاون مع ممثلات عن عائلات المختفين قسراً في سوريا والعراق ولبنان واليمن.
في سياق تعريفها باليوم الدولي لضحايا الاختفاء القسري حول العالم، تقول الأمم المتحدة إن الاختفاء القسري أصبح «مشكلة عالمية ولم يعد حكراً على منطقة بعينها من العالم. فبعدما كانت هذه الظاهرة في وقتٍ مضى نِتاجَ دكتاتوريات عسكرية أساساً، يمكن اليوم أن يحدث الاختفاء القسري في ظروف معقدة لنزاعٍ داخلي، أو يُستخدم، بالأخص، وسيلةً للضغط السياسي على الخصوم».
لبنان وسوريا والعراق واليمن، أربعة بلدان عانت وما تزال تعاني من مشكلة المختطفين والمفقودين والمُختفين قسراً، ففي لبنان تعود المشكلة إلى زمن الحرب الأهلية، وعمرها أكثر من 42 سنة. وفي سوريا استخدمَ النظامُ الإخفاء منذ الثمانينيات، ولكن الأمرَ تضاعفَ بشكلٍ هائل مع اندلاع الثورة السورية عام 2011، ولجوء النظام السوري ثم جماعات إسلامية إلى الخطف والإخفاء. وفي العراق منذ حكم صدام حسين ثم الغزو الأميركي وبعده الحرب الأهلية العراقية، ثم صعود داعش واتساع هيمنة الميليشيات الإيرانية. وفي اليمن منذ اندلاع الثورة وردِّ النظام عليها، ثم الحرب الأهلية وصعود سلطة الحوثيين وعملية عاصفة الحزم السعودية وما بعدها.
حروب وصراعات وثورات، ودكتاتوريات وجيوش وميليشيات، تلطَّخت أيديها بجرائم الخطف والإخفاء في هذه البلدان، والمشترك بينها واحد: الإفلات من العقاب، وعجز الأهالي عن معرفة مصير المختفين.
سوريا
«نحن مستعدون أن نأتي من آخر الدنيا من أجل هذه القضية» قالت فدوى محمود، وأضافت: «أريد أن أقول لوداد حلواني، نحن في حركة عائلات من أجل الحرية نستلهم منك. عندما خرجتُ من السجن، سألني أولادي: ماما ليش تركتينا ونحنا بحاجتك، وقلتُ لهم: ماما أنا لم أترككم، أنا أسعى لأن تعيشوا حياةً أفضل لا يوجد فيها اعتقال وتعذيب، ولكن للأسف أولادنا أصبحوا في المعتقل بعد سنوات ولا نعرف عنهم شيئاً».
«عندما بدأت المظاهرات كان حلمنا الحرية، ولكن الثمن كان غالياً، الثورة لها ثمن، ولكن نحن دفعنا ثمناً كبيراً، وَلَدي وزوجي مخفيَّان منذ 11 عاماً ولا أعرف عنهم أي معلومة، ولم أستطع السؤال عنهم، فإذا سألتُ يمكن أن أجلس معهم في السجن. 90 بالمئة من العائلات السورية تعيش نفس المعاناة».
وعن بداية عائلات من أجل الحرية قالت فدوى: «كنا خمس سيدات في البداية، كلٌّ منا لديها ابنها أو زوجها مختطف. يومها حملنا الصور وذهبنا إلى ديمستورا (مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سوريا) وأعطيناه بياناً، كانت أطرافٌ من المعارضة والنظام تتفاوضُ في جنيف عام 2017، وطلبنا من ديمستورا أن يعطي نسخةً من البيان للمعارضة أيضاً، واستمر النضال وأصبحنا أكثر من 250 عائلة في التجمع، وحركة العائلات شجعت الناس على التكلُّم عن معتقليها. كنا نجتمع مع ممثلي الدول لإقناعهم بالآلية الدولية التي نعمل عليها من أجل الكشف عن مصير المفقودين، للأسف، الدول العربية لم تصوِّت مع مشروع الآلية الدولية الهادف إلى إنشاء هيئة مستقلة للكشف عن مصير المفقودين في سوريا في جلسة الأمم المتحدة، التي جرت في حزيران (يونيو) الماضي، ولم أتفاجأ، الموقف الذي استغربته هو موقف لبنان فقط، فلبنان لديه الكثير من المعتقلين في سوريا!».
ما هو عدد المُغيَّبين في سوريا منذ عام 2011؟
100ألف؟ 131 ألفاً، 75000 ألفاً!، كلها أرقامٌ وَرَدَت على مواقع المنظمات الدولية في محاولة لإحصاء العدد الحقيقي للمَخفيين في سوريا منذ اندلاع الثورة، لكن لا يوجد رقمٌ مؤكد ولا موحد عن عددهم. الأكيد أن النظام السوري مسؤولٌ عن السواد الأعظم من الاعتقالات والإخفاء القسري، فهل ستنجح الهيئة المستقلة التي تبنَّت الأمم المتحدة إنشاءها في حزيران الماضي بالكشف عن مصير كل هذا العدد من المفقودين، أم سيذهب عناء العائلات والنساء السوريات سُداً بعد محاولات حثيثة لجعل المجتمع الدولي يلتفت إلى قضيتهم الإنسانية، التي يمكن أن تستمر سنوات طويلة كما هو الحال في لبنان. بعد 42 عاماً من الحرب الأهلية اللبنانية، ما يزال مصير آلاف المفقودين اللبنانيين مجهولاً في لبنان وسوريا، ليصبح مصير المفقودين واحداً في بلدين.
لبنان
«لنقف دقيقة صمت على أرواح أهالي المخفيين قسراً، الذين ماتوا وهم ينتظرون خبراً عن أولادهم»؛ اختصرت وداد حلواني في هذه الجملة معاناة أهالي المفقودين اللبنانيين التي بدأت منذ 42 سنة، وما تزال مستمرة إلى يومنا هذا.
عملت حلواني على قضية المفقودين والمخفيين قسراً خلال الحرب الأهلية منذ ما يقارب الثلاثة عقود، وترأس حالياً لجنة أهالي المخطوفين والمفقودين في لبنان، وكان زوجها عدنان حلواني قد اختُطف عام 1982 في بيروت، وما يزال مصيره مجهولاً حتى الآن.
قالت وداد في الجلسة: «قضيّتُنا عمرها من عمر الحرب، أصبح عمرها 42 سنة، وكأهالي مفقودين مرّ علينا 41 سنة مجموعين.
تحية للسيدة فدوى، وكل المنظمات السورية التي استطاعت انتزاع قرارٍ من الأمم المتحدة بتشكيل لجنة لمعرفة مصير المفقودين في سوريا.
نحن نعيش في سِلمٍ مُشوَّه، كل الشعب اللبناني لا يزال يعيش في الحرب، وهذا الوضع كان السبب في الانهيار على كل الصعد والوصول إلى اللا دولة.
ونحن في ظل هذه الأوضاع، وظل ما بعد السلم، بعد 1992، وبعد سقوط قانون العفو، صار شعارنا: من حقنا أن نعرف»
تشرح وداد عن التحديات والعراقيل الكبيرة التي واجهها أهالي المخفيين والمفقودين، حتى تمكنوا عام 2018 من انتزاع قانون 105 من المجلس النيابي، الذي كرَّسَ حق كل عائلة بمعرفة مصير مفقوديها.
يُقدَّرُ عدد المخفيين قسراً في لبنان بحوالي 17 ألفاً، وهم مختفون منذ الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990)، ويتواجد المئات منهم في السجون السورية دون معرفة عددهم الحقيقي أو حتى مصيرهم، ورغم ذلك رفض لبنان الرسمي التصويت على قرار الأمم المتحدة بإنشاء هيئة مستقلة للكشف عن المفقودين من جميع الجنسيات في سوريا.
العراق
المأساة في العراق هي الأكبر من حيث الأرقام. يشير تقريرٌ للأمم المتحدة أن عدد المختفين قسراً في العراق منذ العام 1968 يتراوح بين 250 ألفاً ومليون شخص، والفارق كبيرٌ جداً بين الرقمين، سببه المدة الزمنية الطويلة التي عانى فيها العراق من حكم الدكتاتوريات، وجرائم الإبادة الجماعية كتلك التي وقعت بحق الأكراد، ثم الغزو الأميركي، والحرب الأهلية، وظهور داعش، وعنف الميليشيات الإيرانية؛ كلها أسباب ساهمت في زيادة أعداد المختفين قسراً، وفي صعوبة تحديد الرقم ولو بشكل تقريبي، فيما تزال الحكومة العراقية ترفض الاعتراف بالمختفين قسراً بعد الغزو الأميركي عام 2003، بحسب وداد الشمري من مؤسسة «الحق لحقوق الإنسان»، وقالت وداد في الجلسة الحوارية:
«أنا أمٌ لولد مختفٍ في الأحداث الأهلية التي جرت بين 2006 و2007، كان عمر إبني 24 عاماً. البحث عن المفقودين يكاد يكون مستحيلاً في العراق، فالميليشيات المنتشرة في العراق تعمل تحت قيادة الدولة، أو بالأحرى الدولة مكوَّنة من ميليشيات، والدولة لا تتجاوب لهذا السبب».
تشرح وداد صعوبة العمل الإنساني في العراق: «أماكن البحث عن المخفيين كبيرة ومتعددة بسبب تعدد أطراف النزاع، وقد تظاهرنا عدة مرات في العراق منذ العام 2011، وحتى خلال فترة وجود داعش، للمطالبة بالكشف عن مصير أبنائنا المخطوفين، وبعدها أصبح العمل جدياً في ملف حقوق الإنسان في العراق. أهم ملف عملنا عليه هو ملف الاختفاء القسري. حاولنا أن نضع خطوات واضحة، فهو ملفٌ خطير في العراق لأن الجهة المقابلة هي ميليشيات، لا يوجد لدينا سلطات، بل لدينا أفراد، ولكننا نحاول كسب بعض الأصدقاء، مثل نواب وحقوقيين وأساتذة جامعات، لطرح مشاكل العائلات والعمل على ترابطها، خاصةً في الأنبار التي لديها العدد الأكبر من المخفيين، والنساء هناك ليس لديهنّ استعدادٌ للظهور أمام الكاميرات، ولكن مؤسسة الحق ساعدت على هذا الأمر، فتمت دعوة ومساعدة نساء على الذهاب من الأنبار إلى بغداد والتظاهر من أجل المختفين قسراً.
بعد ضغوط عديدة، وافقت الدولة على التوقيع على قانون الإخفاء القسري، ولكن الحكومة الحالية اعترفت بالمختفين قسراً قبل العام 2003، أي أيام النظام السابق، ولم تعترف بالمخفيين بعد هذا التاريخ، أي بعد الاحتلال الأميركي.
وكنا قد أطلقنا حملة للكشف عن المقابر الجماعية، والحكومة تذرّعت بعدم وجود الإمكانات المادية للمساعدة في العثور على هذه المقابر. تجربتنا لا تزال في بدايتها، ونأمل أن نجمع كلّ النساء اللواتي لديهنّ مفقودون في العراق. استفدنا في عملنا من تجربة وداد حلواني في لبنان، ومن تجربة فدوى محمود في سوريا، ونأمل بتشكيل رابطة تجمع كل العائلات التي لديها مَخفيون في جميع البلاد العربية».
اليمن
بحسب تقارير منظمة العفو الدولية، وثَّقت منظمات حقوق الإنسان حوالي 1547 حالة اختفاء قسري منذ العام 2015 في اليمن، لكن ممثلة رابطة أمهات المختطفين في اليمن تقول إن العدد أكبر بكثير، فهناك صعوبة في توثيق الحالات، كما أن بعض الأهالي لا يبلِّغون الجمعيات عن اختفاء أبنائهم، ولكنها تؤكد مجدداً أن العدد أكبر بكثير.
تُضيف ممثلة الرابطة: «الوضع في اليمن شائك ومعقد، لدينا جماعة الحوثي التابعة لإيران، والحكومة المعترف بها دولياً، وجهات أخرى محلية، كل من استطاع السيطرة على الأرض انتهكَ حقوق المدنيين، ونحن كنساء نُعاني من صعوبات إضافية بسبب القيود المفروضة علينا في التنقل. على الحواجز يسألوننا عن المُحرَم (أي ولي أمرنا). استغرقَ سفرنا 16 ساعة داخل اليمن فقط كي نستطيع أن نأتي إلى بيروت ونشارك في هذه الجلسة».
«تشكلت هذه الرابطة من أمهات ونساء. تبادلنا الخبرات حول التعامل مع الخاطفين، وكيف نحمي أنفسنا من عدم الابتزاز والسماسرة، لأنهم يستغلون قضية المعتقلين ويطلبون مبالغ باهظة مقابل الكشف عن أماكن اعتقال أبنائنا».
تكاد تكون رابطة أمهات المختطفين في اليمن المنظمة الوحيدة في اليمن التي تُقيمُ وقفات احتجاجية بحسب ممثلة الرابطة، وتقول إنهم تعرَّضوا للضرب والتعذيب خلال تلك المظاهرات، كما قامت الرابطة أيضاً ببعض الأنشطة لتعزيز الوعي الحقوقي خاصةً في أوساط النساء.
تشرح ممثلة الرابطة أن الخطف في اليمن أصبح أشبه بالتجارة لجني الأموال، وتقول إن أبرز تحدٍ يواجههم كأهالٍ في اليمن هو ثقافة الإفلات من العقاب، «فلا أحد يُعاقَب، ويتم العفو الشامل عن كافة الجرائم دون تقديم تعويض عادل أو ضمانات للعائلات المتضررة من الاختفاء القسري».
صعوبات مشتركة تواجه النساء
ليست الحروب الأهلية وتغييب الأحباب ما يجمع الأهالي في العراق وسوريا ولبنان واليمن فقط، بل تتشابه الصعوبات اليومية التي يواجهونها بشكل أو بآخر، إذ تحدثت جميع المشاركات عن صعوبات واجهتهنّ كنساء في رحلة نضالهنّ للبحث عن مفقوديهنّ، خاصةً أنهنّ ينتمينَ لمجتمعات محافظة، تواجه النساء فيها صعوبات في العمل الاجتماعي والسياسي والظهور على الإعلام، بل وحتى في حرية التنقل وحدهنّ أحياناً كما يحصل في اليمن.
ولأن أغلبية المُغيّبين في البلدان الأربعة هم من الرجال، فإن أغلبية الروابط واللجان هي من النساء، ورغم كل الصعوبات، نجحنَ في إيصال رسائلهنّ إلى المنظمات الدولية، وانتزاع اعترافات أو قوانين من السلطات المحلية. ولكن تبقى العبرة في التنفيذ، وفي أن لا يتم تعميم التجربة اللبنانية على كافة البلدان العربية، من حيث المدة الزمنية الطويلة التي مرّت على بقاء قضية المختفين قسراً دون حلّ.