الإنكار هو التكذيب العلني أو التاريخي للأعمال الوحشية، عبر ادعاءات تُقدِّمها شخصياتٌ عامة أو منظماتٌ أو دولٌ تنكُر الجرائم المتعددة المرتَكبة ضد الشعوب، في الوقت الذي يتواجد فيه توافقٌ أكاديمي أو سياسي عالمي على أن هذه الجرائم قد وقعت فعلاً.
لطالما ترافقت الحروب، وبخاصة الأهلية منها، مع صراعٍ محتدم بين الخصوم على السرديات، وإن كان غرضُ هذه العُدَّة الإيديولوجية هو رفعُ جاهزية الجماعات المتقاتلة بالدرجة الأولى، إلا أن الإنكارَ أصبح أداة أساسية في هذه العُدّة مذ وافقت الأمم المتحدة بالإجماع عام 1948، على اتفاقية تصنيف الفظائع المرتكبة أثناء محاولات إبادة الطوائف والشعوب على أساس قومي أو عرقي أو ديني أو سياسي كجرائم دولية. ولمّا كانت الإبادة الجماعية من الجرائم الدولية التي لا يسري عليها التقادم، فمن بابٍ أولى ألا يسري على ذكرها التقادم أيضاً.
كانت المحكمتان الدوليّتان المختصّتان في النظر في عمليات الإبادة في رواندا ويوغوسلافيا أول تطبيقٍ عملي للاتفاقية، ففي 1998 حُكم بالسجن مدى الحياة على مرتكبي الإبادة الجماعية في رواندا، ومن بينهم رئيس الوزراء في بداية عملية الإبادة جان كمباندا، الذي اعترف بمسؤوليته عن إبادة المدنيين التوتَسيين. بينما حُلَّت المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة عام 2017 بعد أن قامت بإدانة 90 شخصاً، وشملت أبرز الأحكام التي صدرت عنها كلاً من الزعيم السابق للصِرب البوسنيين رادوفان كاراجيتش، الذي حُكم عليه بالسجن مدى الحياة بتهم الإبادة الجماعية، وجرائم ضد الإنسانية، وانتهاك قوانين الحرب؛ وراتكو ملاديتش، وهو جنرال صربي بوسني سابق حُكم عليه بالسجن مدى الحياة بتهم الإبادة الجماعية، وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم حرب؛ بالإضافة إلى سلوبودان ميلوسيفيتش، الرئيس السابق لصربيا وجمهورية يوغوسلافيا الذي كان قيد المحاكمة بتهم الإبادة الجماعية، وجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب، لكنه توفي عام 2006 قبل أن تنتهي المحاكمة.
في سوريا، حوّلَ نظام الأسد الإنكار إلى صناعة تَضُم العديد من المؤسسات ووسائل الإعلام التي تعدل استراتيجياتها الإعلامية وفقاً لتطوُّر النزاع، بهدف تشويه الأدلة الدامغة على جرائم النظام من خلال نشر التشكيك والمعلومات المضللة. واستخدم النظام وأجهزة استخباراته منصات إعلامية مختلفة عشرات المرات، محاولاً إعادة كتابة السردية، خاصة بعد الدور المهم الذي لعبته وسائل التواصل الاجتماعي في المساعدة على توثيق الانتهاكات المرتكبة خلال الثورة السورية من قبل جميع الأطراف، لا سيّما عنف النظام.
أعادت وسائل التواصل الاجتماعي، من ناحية عدم خضوعها لرقابة فاعلة فيما يخصُّ حملات المعلومات المضللة، تشكيلَ الفضاء الإعلامي بأكمله، ومن بين ذلك استراتيجيات وأدوات الإنكار. وأثبت نظامُ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين نجاحاً مبكراً في إتقان أدوات الإعلام الحديثة والاستثمار بها، ولم تقتصر الجهود الروسية في هذا المضمار على وسائل الإعلام الروسية كروسيا اليوم وسبوتنيك، بل أيضاً استثمرت عدداً من النشطاء والأكاديميين الغربيين البارزين على وسائل التواصل الاجتماعي لدعم المصالح الحيوية والاستراتيجية الروسية، عن طريق تغذية صعود اليمين في العالم، ونشر نظريات المؤامرة، والدفاع عن الأنظمة الفاسدة والدموية التي يدعمها كنظام الأسد، وصولاً إلى حربه الأخيرة في أوكرانيا.
غير أن الكفاءة الروسية العالية في نشر الدعاية ليست حديثة العهد، بل هي حصيلة قرن من المهنية المُمأسسة في الحقبتين السوفييتية والروسية، مارست خلالهما كل الأنظمة المتعاقبة، وعلى أعلى المستويات، جميع أنواع التضليل الإعلامي وإنكار الحقائق. فمنذ نشوء الاتحاد السوفييتي عام 1917 حرصت قيادات الحزب الشيوعي السوفييتي على التحكم بالسرديات السياسية والإيديولوجية لكتابة التاريخ. غير أن بعض الباحثين يُرجِعون الظاهرة إلى تقاليد الخداع العسكري الروسي المعروف باسم «ماسكيروفكا» وتعني التنكُّر والخداع. حيث كان للجيش الروسي رسمياً مدرسةٌ للخداع نشطت منذ العام 1904 وتم حلُّها في العام 1929. في غضون ذلك تم تطوير الخداع كمبدأ عسكري أساسي، وحدد التوجيه السوفييتي للقيادات العليا في عام 1924 أن الخداع العملياتي يجب أن يكون «مبنياً على أنماط النشاط والطبيعية والتنوع والاستمرارية. ويتضمن السرية والتقليد والأفعال الاستعراضية والمعلومات المضللة». الموسوعة العسكرية السوفييتية بدورها تبنَّت التعريفَ نفسه، لكنها وَسَّعت مجالاته لتشمل جميع المستويات السياسية والاقتصادية والدبلوماسية.
خلال مئة عام من تبنّي «ماسكيروفكا» رسمياً كعقيدة قتالية روسية، أشرفت أعلى المؤسسات الرسمية في الاتحاد السوفييتي وروسيا من بعده على إعادة كتابة التاريخ، بحيثُ تُنكر تقريباً كلّ المجازر التي ارتكبتها الحكومات السوفييتية والروسية بحق مواطنيها أو موطني الدول التي احتلتها مباشرة أو بالوكالة. وإثر ضم شبه جزيرة القرم عام 2014، كتبت لوسي آش في BBC: «بعد خمسة أسابيع، وبمجرّد أن صادق البرلمان في موسكو على الضَم، اعترف بوتين بأن القوات الروسية قد تم نشرها في القرم فعلاً. لكن الكذب كان قد خدم هدفه، تستخدم ماسكيروفكا لإرباك أعدائك، وجعلهم في حالة تخمين دائم».
خاضت الثورة السورية حرباً إعلامية موازية للحرب العسكرية على الأرض، وكانت وسائل التواصل الاجتماعي ساحة معركة حقيقية، استنفر فيها النظام جميع أدواته الإعلامية وحلفائه الإقليميين لتشويه الحقائق والإنكار والتعمية عن مطالب الشعب المُحقَّة. وإن اقتصر نشاط النظام وحلفاءه على الجبهة الناطقة والكاتبة بالعربية، لم يتأخر نظام الرئيس بوتين عن تعبئة الفراغ وتبني روايات النظام السوري، بل تحسينها وتنقيحها في المحافل الدولية والغربية إما مباشرة أو من خلال ظاهرة «الأشخاص المؤثرين (الإنفلوانسر)»، مُجنِّداً شبكة من الأكاديميين والإعلاميين والنشطاء السياسيين الغربيين.
الهجوم بالسلاح الكيميائي، خان شيخون مثالاً
جذَبَ الهجومُ بالأسلحة الكيماوية على الغوطة في آب (أغسطس) 2013، والذي أسفر عن مقتل حوالي 1400 ضحية من المدنيين، الانتباهَ العالمي، وعجَّل بتأسيس بعثةٍ مشتركة بين المنظمة الدولية لحظر الأسلحة الكيميائية والأمم المتحدة في تشرين الأول (أكتوبر) 2013، للإشراف على نزع برنامج الأسلحة الكيميائية السوري. ثم في عام 2015 أنشأ مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة آلية التحقيق المشتركة بين المنظمة الدولية لحظر الأسلحة الكيميائية والأمم المتحدة لـ«التحديد، بأقصى قدر ممكن،» المسؤولين عن استخدام الأسلحة الكيميائية في سوريا. أكدت الآلية أن القوات الحكومية السورية كانت مسؤولة عن ثلاث هجمات بالبراميل المحمَّلة بالكلور في الفترة الممتدة بين العامين 2014 و2015، بالإضافة إلى مسؤولية الحكومة السورية عن هجوم السارين في نيسان (أبريل) 2017 على خان شيخون. ما دفع روسيا في خريف 2017 لاستخدام حق النقض في مجلس الأمن لمنع تمديد ولاية الآلية، وبالتالي الحُؤُول دون التحقيق في حالات إضافية لاستخدام النظام للأسلحة الكيميائية.
تعرّضت بلدة خان شيخون في صباح 4 نيسان 2017 لهجومٍ بغاز السارين. وفي اليوم نفسه نشر موقع المصدر نيوز الداعم لنظام الأسد مقال رأي لنائب رئيس التحرير بول أنطونوبولوس، يزعُم فيه أن الهجوم كان مفبركاً، وتبنّت حسابات تويتر الموالية لروسيا المقال مباشرة. مؤلف المقال هو ضيفٌ دائم على وسيلة الإعلام الروسية روسيا اليوم، وموقع InfoBrics المرتبط بالمخابرات العسكرية الروسية. ثم زعمت وزارة الدفاع الروسية أن سلاح الجو السوري دمَّر في وقتٍ مبكر من 5 أبريل 2017 مستودعاً لإنتاج الأسلحة الكيميائية تابعاً للمعارضة في إدلب، ووصفت الوزارة معلوماتها بأنها «موضوعية تماماً وتم التحقق منها» دون تقديم أي دليل إضافي. ومع أن وزارة الدفاع الروسية أشارت بشكل خاطئ إلى وقت وقوع الهجوم، لم يمنع ذلك وسائل الإعلام المموَّلة من الكرملين والموالية له من تبني وإعادة نشر هذا البيان في تقاريرها الخاصة لعدة أيام بعد الهجوم، مُرفَقةً دائماً بعبارة «موضوعية تماماً وتم التحقق منها». وخلال 24 ساعة من الهجوم، انتشرت على الإنترنت روايتا تضليل رئيسيتين: 1) تم تدبير وفبركة الهجوم، و2) دمَّر سلاحُ الجوِّ السوري مختبر أسلحة كيميائية تابع للمعارضة.
لم يكتَفِ الكرملين بهاتين الروايتين الرئيستين، بل أضاف لهما سلسلة من المزاعم الثانوية الكاذبة، مثل أن المنظمة الدولية لحظر الأسلحة الكيميائية كانت غير احترافية وشابت آلية التحقيق عدة عيوب. بالإضافة إلى التشكيك بنزاهة الخوذ البيضاء وتقاريرهم من موقع الهجوم وربطهم بالجماعات الإرهابية، وأن الحكومة السورية لم يكن لديها أي أسلحة كيميائية.
بعد الضربة الأميركية على مطار الشعيرات في 6 نيسان 2017، قال الرئيس بوتين إن الهجوم الأميركي تم «تحت ذريعة مُختلَقة». وزعمَ المتحدثُ باسم الكرملين، ديمتري بيسكوف، في اليوم التالي أنه قد «تم التخلص من كامل مخزون القوات المسلحة السورية من الأسلحة الكيميائية بإشراف منظمة حظر الأسلحة الكيميائية التابعة للأمم المتحدة». تجاهل بيسكوف في بيانه متعمِّداً حقيقتان هامتان، الأولى: أن منظّمة حظر الأسلحة الكيميائية ليست هيئة تابعة للأمم المتحدة، والثانية: أن كلاً من المنظمة والأمم المتحدة أعلنتا مراراً أن فريق تقييم اتفاقية المنظمة مع الحكومة السورية عمل لفترة ثمان سنوات لحل القضايا المعلّقة، ولكنه استمرَّ في اكتشاف فجوات وتناقضات جديدة في تصريحات الطرف السوري.
نقلت وسائل الإعلام المختلفة في 11 نيسان 2017 مزاعمَ بوتين أن هجوم الأسلحة الكيميائية على خان شيخون كان عملية تضليل، مُحذِّراً من عمليات مستقبلية مشابهة. في اليوم التالي استخدمت روسيا حقَّ النقض مانعةً مجلس الأمن الدولي من إصدار قرارٍ يُدين الهجوم ويحثُّ سوريا على التعاون مع آلية التحقيق المشتركة. وردّدَ ممثل روسيا في مجلس الأمن فلاديمير سافرونكوف كلا الروايتين المُضلِّلتين قائلاً إنه كان «استخداماً مفبركاً للأسلحة الكيميائية»، وأن لدى روسيا «كل سبب للاعتقاد أن استفزازات أخرى سيقوم بها المتطرفون مستخدمين مواد سامة». ثم اقترحت روسيا وإيران أثناء اجتماع المجلس التنفيذي لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية في 13 نيسان إطلاق آلية تحقيق جديدة ومستقلة، وإثرَ فشلِ المُقترَح ردَّدَ وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف مرة أخرى أن الهجوم كان مفبركاً، وألمحَ إلى أن الدول التي صوتت ضد الاقتراح الروسي-الإيراني «ضميرها ميت».
استخدم الكرملين خلال حملة التضليل التي شنَّها في أعقاب هجوم خان شيخون شبكة الشخصيات المؤثرة المرتبطة به كالعادة، لكن القصف الأميركي لمطار الشعيرات دعاه لزيادة عدد الحسابات الوهمية لنشر ادعاءاته الكاذبة. ذكرت وزارة الدفاع الأميركية أن عدد حسابات المتصيدين الروس زاد بنسبة 2000 بالمئة كردِّ فعل على الوضع. في 8 و12 نيسان 2017، ادَّعت قناة التلفزيون التابعة للجيش الروسي (TV Zvezda) أن أوكرانيا سلَّمت أسلحة كيميائية إلى الشرق الأوسط. بالإضافة إلى ذلك، زعمت وكالة الأنباء الحكومية الروسية سبوتنيك أن قناة الجزيرة صوَّرَت الهجوم الكيميائي على خان شيخون، ما يدفع للظن بتواطئها بطريقة ما في تنظيمه، وكرَّرت وسائل الإعلام الروسية الأخرى التي تسيطر عليها الدولة والوكالة هذه الرواية، لكن وسائل الإعلام الغربية لم تلتقطها. وبعد أن أصبح من الصعب إنكار الهجمات المتكررة بالأسلحة الكيميائية من قبل نظام الأسد بشكل قاطع، ادَّعت وزارة الدفاع الروسية في آذار 2018 أن «مُدرِّبين أميركيين دربوا مجموعات من المتمردين بالقرب من قاعدة التنف من أجل القيام باستفزازات بالأسلحة الكيميائية في جنوب سوريا …»، وأن «التشكيلات المسلحة لجبهة النصرة بدعم مما يسمى الخوذ البيضاء أعدَّت 20 حاوية من الكلور لتنفيذ هجوم كيميائي مُدبَّر بالقرب من مخيم الهبيد وقلب لوزة شمال غرب إدلب». شكّلت الادعاءات المتكررة الكاذبة الصادرة عن أعلى المستويات السياسية الروسية مصدراً وافراً للأخبار المُضلِّلة، التي ضَخَّمتها شبكات الدعاية الروسية.
يمكن في هذا السياق الاطلاع على الدراسة العميقة والشاملة التي قام بها معهد الحوار الاستراتيجي (ISD) بالاشتراك مع حملة من أجل سوريا، والتي تُحلِّلُ كمياً حوالي 47 ألف تغريدة على تويتر و817 منشوراً على فيسبوك نشرت معلومات مضللة عن سوريا بين كانون الثاني 2015 وكانون الأول 2021.
يُعتبر إنكار الإبادة الجماعية المرحلة الأخيرة للإبادة الجماعية ذاتها، فالإنكار ليس التردد في الاعتراف بظلم تاريخي وقع في الماضي فقط، بل إنه يعيد قتل الأموات وذكراهم مراراً وتكراراً، ممّا يُفاقم عذابات الناجين ويمهد الطريق لأعمال عنف مستقبلية في بيئة سادتها ثقافة الخداع والإفلات من العقاب. تصبح الدول والجهات الفاعلة غير الحكومية، إذ تمارس إنكار الإبادة الجماعية، شريكة في العملية ومساهمة في نقل العنف من المستوى الفعلي إلى المستوى السيكولوجي، فيصبح المنكِرون ورثة إيديولوجييين وبيولوجيين للمُنتهِكين، يواصلون عملية الإبادة الجماعية من خلال وسائل الإعلام، ومن خلال تدنيس كلِّ ما يُخلِّدُ الذكرى، وممارسة الضغط على الحكومات المختلفة من أجل منع استخدام الكلمة المُحرَّمة: الإبادة الجماعية.