نتواصل معكم باسم حملة لا تخنقوا الحقيقة، حملة أسَّسناها كناجين وناجيات من السلاح الكيماوي في سوريا، مع عدد من الناشطين-ات السوريين-ات المهجّرين-ات قسراً أو هرباً من القمع والاعتقال في سوريا. نشأَتْ حملتنا عندما كان معظمنا ما يزال مُحاصَراً للسنة الخامسة على التوالي داخل الغوطة.

وبينما كُنّا نُقصَف ونُهجَّر خلال الأيام الأخيرة لوجودنا في الغوطة، استهدفَ النظام السوري مدينة دوما الواقعة في ريف دمشق بالسلاح الكيماوي في 7 نيسان (إبريل) عام 2018، ولم تكن تلك المرة الأولى التي يهاجم فيها نظام الأسد المدنيين بالسلاح الكيماوي، حيث سبق هذه الضربة مئات الضربات، أكبرها مجزرة الغوطة بتاريخ 21 آب (أغسطس) 2013، التي تمرُّ اليوم ذكرى سنويتها العاشرة.

في تلك الأثناء، وبينما كُنَّا نواجه الكيماوي والتهجير القسري، كُنَّا في مواجهة الإنكار أيضاً، وفي مواجهة المُساهمة في زرع الشكّ من قبل بعض الأوساط الأكاديمية والصحفية. كنا في بداية رحلة التهجير القسري، ولم يكن لدينا الكثير من الموارد والطاقة والوقت للتركيز على مناهضة هذا الإنكار وتعرية داعميه ومواجهتهم.

سَعياً لحفظ الحقيقة والوصول إلى المحاسبة والعدالة، وحتى لا تتكرر المجزرة، قمنا بعد الوصول إلى بلدان اللجوء بالتركيز بشكل رئيسي على مناهضة إنكار استخدام الأسد للسلاح الكيماوي في سوريا.  نحن الناجون والمتضررون من جرائم الحرب تلك نعرف تماماً أن إنكار حصولها هو امتدادٌ للمجزرة، وتبريرٌ لها وتبرئة لمرتكبيها من النظام السوري أو داعميه كروسيا، وتطبيعٌ مع جريمتهم وعنفهم وبالتالي السماح بتكرارها دون مُساءلة ومحاسبة، ليس فقط على السوريين ولكن كذلك في نزاعات وحروب أخرى.

نعتبر رسالتنا هذه إلى جامعتكم، التي من ضمن أكاديميِّيها أشخاصٌ ساهموا بشكل مباشر أو غير مباشر في إنكار استخدام الأسد السلاح الكيماوي، رسالةَ مُساءلةٍ من المصادر الحقيقية الموثوقة للحدث إلى باحثيه ودارسيه.

يمارس هؤلاء الأكاديميون في إنكارهم للمجزرة نوعاً من العنف المعرفي ضدنا كسوريين-ات نناضل من أجل الحرية والعدالة والديمقراطية، عنفٌ معرفي يعتمد على تجاهل الحقيقة والتجربة الحية للمجتمعات الواقعة تحت اضطهاد وقمع سياسي، وهو استعلاءٌ معرفيٌ أيضاً، يستقوي بالوصول إلى الموارد المالية والأكاديمية وشبكة العلاقات واللغات الأجنبية. كما أنه ينزعُ الأهلية عن الضحايا باعتبارهم غير مؤهلين للحديث عن تجاربهم ومعاناتهم، ويُعزِّزُ ظاهرة «الخبير الأجنبي» الأكثر دراية بشؤون البلاد من قاطنيها وناشطيها ومفكريها وناجيها، ويستعين بشيطنتنا نحن ضحايا المذابح، المُؤطَّرين في أُطُر مكافحة الإرهاب وأزمة اللجوء والتنميطات العنصرية. نكتب لكم هذه الرسالة، كذلك، دفاعاً عن الأهلية السياسية والبحثية للسوريين والسوريات.

نخشى أن يُساهم هذا الإنكار في دعم السياسات المناهضة للاجئين من عنصرية وترحيل وتهديدات بالاعتقال، إذ إنه يساهم بشكل مباشر في التطبيع مع سردية النظام السوري بأن سوريا بلدٌ آمن، ليس فيه سلاح كيماوي ولا براميل متفجرة ولا سجون، وبالتالي يمكن العودة إليه والعيش فيه. تستغلُّ الحكومات ذات السياسات العنصرية هذا الخطاب لترحيل اللاجئين، أو لتركهم لمصيرهم والموت في قوارب اللجوء.

بالطبع كانت ماكينة البروباغندا الروسية، التي هي جزءٌ من سياسة الاحتلال والتدخل الروسي في سوريا، والتي تتصدَّر جهودَ مكافحة الديمقراطية وقلب الحقائق وبناء مظلومية دولية ونشر نظريات المؤامرة في عالمنا اليوم، أداةَ حرب أساسية فيما يتعلق باستخدام السلاح الكيماوي في سوريا. لم يكن النظام السوري أو روسيا بحاجة لاتّساق في الرواية، لأن سياسة الإنكار لا تحتاج منطقاً قائماً على الحقائق المثبتة بالأدلة وشهادات الناجين وأكوام التحقيقات الدولية التي أُجريت بمنهجيات صارمة، بل تحتاج إلى الفوضى ونظريات المؤامرة التي تقود إلى الشكّ. كانت الرواية حيناً أنه لا هجمات كيماوية حصلت أصلاً في سوريا، ثم أننا قَصفنَا أنفسنا بالكيماوي، ثم أن دولاً أخرى قصفتنا بالكيماوي لتبرير تدخلها في سوريا، ثم بعدها جاء تَركُ حدث الهجوم الكيماوي بمجمله والدخول في تفاصيله التقنية، حول نوع الغاز وتوثيق عدد الضحايا وما إذا كانت أكثر أو أقل من المُعلن والكثير من الجدالات العبثية.

لم تقتصر الجهودُ لإنكار استخدام السلاح الكيماوي على البروباغندا الإعلامية، بل ترافقت بترهيب الشهود وأهاليهم، والعبث بالمقابر والأدلة والضغط على لجان التحقيق. 

كُنّا في مواجهة ذلك كله، كمجموع سوري، بناشطيه ومثقفيه ومفكريه وناجيه المستجيبين لجريمة حرب تلو الآخرى، في مواجهة ليس فقط دولة إمبريالية عظمى تشنُّ أكثر من حرب على أكثر من دولة في الوقت ذاته، ولكن كذلك في مواجهة أكاديميين في مؤسسات جامعية في دول ديمقراطية، أخذوا دوراً لافتاً ومخيّباً على المستوى الأكاديمي في دحض الانتهاكات التي تعرَّضنا لها على مدار سنوات، وخاصة بما يتعلق بالسلاح الكيماوي، وذلك لصالح ترديد سرديات الإنكار.

أحياناً كان يأتي هذا الإنكار من إيديولوجيات وانحيازات مسبقة لصالح روسيا والنظام السوري، من خلال إضفاء الشرعية على انتهاكهما لحقوق الإنسان، إما تحت مبرر مكافحة الإرهاب أو تحت مبرر «معاداة الإمبريالية»، متجاهلين أن روسيا دولة إمبريالية تشنُّ حروبها على شعوب ودول أخرى، بحيث يصبح السوريون والضحايا منهم محضَ أداة لربح جدالات سياسية فكرية ضد أميركا والغرب.

وأحياناً أخرى كان يأتي الإنكار من الكسل المعرفي وعدم البحث الكافي في المصادر العديدة المتاحة، وأيضاً نتيجة تجاهل، ربما يكون مقصوداً، للاستماع إلى السوريين ومفكريهم، وإلى الشهود والضحايا المباشرين لاستخدام السلاح الكيماوي في سوريا. 

من هنا، نطالب جامعتكم ببدء مراجعة عميقة حول الإنتاج الاستعماري للمعرفة، وكيف يغدو هذا الإنكار الأكاديمي استقواءً على أصحاب القضية والمجتمعات المتأثرة بها أولاً، ثم أنه يُؤسِّسُ لتدمير الاعتماد على الحقائق لصالح عصر التزوير العلمي والحقوقي؛ الذي يقود كما نرى اليوم إلى غياب الثقة بأي حقائق كانت، ويودي بنا جميعاً إلى عالم تتراجع فيه القيم الديمقراطية لصالح الأفكار الشمولية.

كما ندعوكم إلى تعميم آليات مراجعة أقران (peer-review) مهنية لفحص الأبحاث والمنشورات ومقالات الرأي لأعضاء هيئة التدريس في جامعتكم، والذين قد شاركوا في معاداة قيم حقوق الإنسان والقانون الدولي. ويشمل ذلك تعريض أعمال الأكاديميين المشاركين في إنكار هجمات الأسلحة الكيميائية في سوريا لاستعراض شامل من قبل خبراء في هذا المجال، بهدف منع انتشار الأبحاث التي تُعزِّزُ الروايات غير المرتكزة على الحقيقة، وكي لا تتم إساءة استخدام الحرية الأكاديمية كوسيلة عنف وإسكات ضد الضحايا، والتي لا ينبغي أن تستخدم بأي شكل كغطاء لمحو جرائم الحرب والتطبيع مع الإبادة. 

نحن نعلم أن التاريخ، بفضل الجهود الجمعية لحلفاء الحقيقة والعدالة، من سوريين ومناضلين في أنحاء العالم، داخل الدوائر الأكاديمية وخارجها، سيحفظ هذه الجرائم وقصص عشرات الآلاف من الضحايا ومئات الآلاف من الشهود في الذاكرة الجمعية للعالم.