«أشعر أن الأشجار هي التي تدافع عنا في وجه المعارك. نحتمي بها أثناء القصف». يتحدّث المزارع علي الدروبية عن أشجاره بوصفها جزءاً من العائلة التي تعيش في بلدة إحسم في جبل الزاوية جنوبي إدلب، بين أشجار التين والمَحلب والزيتون والكرز. 

يتجول الدروبية يومياً بين الأشجار ويتفحّصها في حال كانت مريضة، ويعيش معها «عالحلوة والمرة». رفض ترك أرضه وبيته رغم تكرار القصف الذي يستهدف المنطقة: «الجبل أحسن من الشمال»؛ قاصداً المخيمات المنتشرة على الحدود السورية التركية.

تين الجبل غير!

منطقة جبل الزاوية زراعيةٌ بامتياز، يمتهن غالبية أهلها الزراعة وتنتشر فيها أشجار الكرز والمَحلب واللوزيات والعنب والتين والزيتون، إضافةً إلى كونها صالحة لزراعة الخضروات، وخاصةً البندورة والخيار والباذنجان والكوسا والفاصولياء. لكن أكثر ما تتميز به هو التين الأبيض ذو الجودة العالية، ويُنتِج الدونمُ الواحد من الأراضي المزروعة بالتين قرابة 300 كيلو غراماً، يُباع الواحد منها بثلاثة دولارات أميركية: «تين الجبل غير»، هكذا يعلق علي الدروبية، الملقب أبو محمد، على ارتفاع ثمنه.

يقول أبو محمد إن الزراعة في الجبل تضع المزارعَ أمام صعوباتٍ كبيرة، فبعد أن كانت تؤمِّنُ له مستوىً معيشياً جيداً، لم تعُد اليوم تحقق الأرباح التي ينتظرها، وأحياناً تكون الخسارةُ حصيلةَ شهورٍ من العمل. السبب بحسب ما يشير المزارع هو قرب البساتين من خطوط الجبهات، ممّا يُشكّل خطراً على الأهالي ويَحول دون العناية الجيدة بالأشجار وتوظيف العمّال. يضيف: «يخشى المزارعُ النظامَ وميليشياته، ويختبئ لساعاتٍ بين الأشجار حتى لا تراه طائرات الاستطلاع التي لا تفارق الأجواء. الهواء أيضاً صار ملوثاً بفعل المواد المُتفجّرة المُستخدمة في عمليات القصف شبه اليومية، وكذلك ارتفعت تكاليف استخراج المياه من الآبار بشكلٍ كبير. لدينا مشاكل أخرى مثل نقص العمالة تبعاً لتدني الأجور، فهي لا تكفي العمال وفوق طاقة المزارع الذي تدنت أسعار المحاصيل التي يزرعها، لا سيّما مع الارتفاع المتزايد لأسعار الأسمدة والأدوية والآلات الزراعية والوقود».

تنتشر اليوم في أراضي جبل الزاوية ذبابةُ الفاكهة وحلزونُ التين، وهي أمراضٌ زراعية بدأت تصيب المحاصيل بفعل الحرائق التي لحِقَت بالمناطق الحراجية القريبة. ومثل مجمل المناطق الأخرى الخارجة عن سيطرة النظام، فإن دعم الزراعة والمزارعين ليس بين أولويات المنظمات الإنسانية في ظل المروحة الواسعة من الظروف المعيشية السيئة التي يواجهها السكان وينبغي التدخل للحدّ من تبعاتها. كما ألقى التغيُّر المناخي بظلالٍ ثقيلة على الزراعة، ويفاقمُ من آثاره توجهٌ ملحوظٌ لقلع الأشجار واستخدامها في التدفئة.

لا توجد، بحسب علي الدروبية، أرقامٌ دقيقةٌ لمساحة الأراضي المزروعة في جبل الزاوية، غير أن مساحة الأراضي الصالحة للزراعة في بلدته إحسم تبلغ 600 هكتار، منها 400 هكتارٍ من الأشجار المثمرة، وما تبقّى تُزرع فيه الخضروات الموسمية.

أهمية زراعية ولكن خط تماس عسكري

يضم جبل الزاوية، وهو منطقةٌ جبليةٌ مرتفعةٌ كما يتّضح من اسمه، 33 قريةً وبلدة في الناحية الجنوبية من مدينة إدلب، ويحاذي جبل الأربعين شمالاً وجبل شحشبو جنوباً، ويُطلُّ عل مدينة إدلب وعلى مساحاتٍ شاسعةٍ من الأراضي الزراعية في أرياف إدلب الجنوبية وحماة الشمالية، ويطلُّ أيضاً على الطريق الدولي (M4) الذي يربط محافظة حلب بمناطق الساحل غربي سوريا.

ولم يعرف جبل الزاوية الاستقرارَ منذ ربيع العام 2011، وخصوصاً بعد طرد قوات النظام السوري منه في العام 2012، إذ ظلّ عرضةً للقصف المستمر منذ ذلك الوقت. ساعدت تضاريسُه الصعبة في منع محاولات النظام المتكررة لإعادة السيطرة عليه، التي كان آخرها خلال العملية العسكرية الواسعة نهاية العام  2019 وبداية العام 2020، إذ بسط النظام سيطرته بعدها على عددٍ من المواقع والمدن المهمة في محافظة إدلب، ولكنّ قواته توقّفت عند أعتاب جبل الزاوية.

تنبعُ أهمية جبل الزاوية الزراعية من بيئته المناسبة لجميع أنواع الزراعات، وخصوصاً الأشجار المثمرة. ويقول المهندس الزراعي محمد شيخ دياب إنّ للزراعة في جبل الزاوية دورٌ في تحقيق الأمن الغذائي لسكان المنطقة، إذ يعتمد 90 بالمئة منهم على منتجات الأراضي الزراعية، مشيراً إلى أن الوضع الراهن للزراعة في المنطقة يشهد تغيراتٍ عن الأعوام السابقة، فنتيجة «التلاعب» بأسعار المحاصيل وعدم ملاءمة الظروف الجوية لبعضها الآخر، صار المزارعون يلجأون إلى اقتلاع أشجار الكرز والزيتون بكثرة، ويستبدلونها بأشجار التين، بالإضافة إلى التوسُّع في زراعة المَحلب الذي يتميز بوفرة الإنتاج وسعره الجيد، كما أنه من المحاصيل التي تتحمّل الجفاف وتدخل في الصناعات الدوائية.

الأجواء العامة هادئةٌ عند التوجه من مدينة إدلب جنوباً نحو أريحا، ولكن بمجرد الدخول إلى منطقة جبل الزاوية يصلُ إلى الأسماع أزيزُ طائرات الاستطلاع التي لا تفارق الأجواء، وأصوات القصف المدفعي والصاروخي بين الفينة والأخرى، بخلاف حالةٍ من الهدوء النسبي التي تسود مُدن إدلب وسرمدا والدانا منذ قرابة الثلاثة أعوام. ورغم ذلك، عاد كثيرٌ من النازحين من أهالي الجبل من المخيمات على الحدود التركية إلى قراهم وأراضيهم، لزراعتها -ولو بالحد الأدنى- لتأمين متطلبات معيشتهم، رغم الخطر المحدق بهم نتيجة القصف المتكرر وانتشار الألغام في الأراضي الزراعية بالقرب خطوط التماس.

يحاول محمود الأحمد (35 عاماً)، وهو مزارعٌ من قرية شنان في جبل الزاوية، الانتقال في ساعةٍ مبكرةٍ من الصباح للعمل في أرضه قبل موجة القصف اليومي شبه المعتاد للمنطقة. يقول محمود في حديثه للجمهورية: «الخوف يطارد معظم السكان القاطنين في المنطقة؛ خوفٌ من القصف والألغام وتقلبات الجو والأسعار، ومن كساد المحصول وتلفه وتعرّضه للأمراض. الخوف هو السمة العامة البادية على جميع المزارعين».

ويعزو الأحمد ارتفاعَ تكاليف الزراعة في جبل الزاوية إلى عدم وجود صيدليات ومراكز زراعية وأسواق قريبة لتصريف المنتجات، فيتجه المزارع لأسواق الهال في أريحا ومعرة مصرين لتأمين كافة المتطلبات من بذور ومبيدات وأسمدة وكذلك لتصريف المنتجات، ولأنّ تكلفة النقل إلى سوق الهال عالية، وكذلك ضعف الطلب يؤدي إلى بقاء المنتج في السوق لعدة أيام، ينخفض السعر على حساب صاحب المحصول، ففي كثير من الأحيان لا تحقق المحاصيل رأسَ المال المبذول في زراعتها ورعايتها وقطافها. يضاف إلى ذلك ارتفاعُ تكاليف الرّي بالرغم من دخول تقنية استخراج المياه عن طريق الطاقة الشمسية، فأيّ مشروع زراعي يحتاج إلى تجهيزات طاقةٍ شمسية بتكلفةٍ لا تقلّ عن ألف دولار أميركي.

ساهم تردي الأوضاع الأمنية في جبل الزاوية في تراجع القطاع الزراعي، إذ يوضح المهندس الزراعي محمد دياب للجمهورية أن الأهالي باتوا يواجهون صعوبةً في جني المحاصيل، وخاصةً من الأراضي القريبة من خطوط التماس والمرصودة من قبل عناصر النظام، الذي يقصف هذه الأراضي أثناء تواجد ورشات القطاف وجني المحصول.

ويضيف دياب بأن قُرب الأراضي الزراعية من خطوط التماس جعلها قليلة السكان ومحدودة الأسواق إلى حدٍّ كبير، ممّا يشكل صعوبةً في تصريف المنتجات الزراعية، فيلجأ المزارعون لتسويق محاصيلهم في أماكن بعيدة عن المنطقة، الأمر الذي يزيد من مصاريفهم ويقلّل من أرباحهم.

شحّ في المساعدات الإنسانية

المساعدات الإنسانية شحيحةٌ في منطقة جبل الزاوية منذ 2019، نتيجة القصف المتكرر من قوات النظام وصعوبة العمل الإنساني فيها، وذلك رغم الحاجة الماسة لدى السكان وتردّي وضعهم المعيشي، إذ إنهم لا يزرعون مساحاتٍ كبيرة من أراضيهم خشية تحرك قوات النظام عسكرياً في أي لحظةٍ باتجاه جبل الزاوية.

ويقول الصحفي كنانة هنداوي، من أبناء جبل الزاوية، إن الهدوء النسبي الذي عاشته المنطقة مؤخراً ساهم في عودة نسبةٍ كبيرةٍ من الأهالي، ويتواجد حالياً قرابة 100 ألف نسمة في جبل الزاوية من أصل 250 ألف نسمة قبل حملة النظام العسكرية عام 2019، منوِّهاً إلى أن المنطقة تشهد قصفاً متقطعاً من قبل قوات النظام السوري منذ ذلك الحين. ويضيف هنداوي أن المنطقة تعاني من نقصٍ كبيرٍ في الخدمات والمساعدات الإنسانية، فالمجالس المحلية وحدها غير قادرة على تأمين كافة متطلبات السكان الذين يعمل غالبيتهم في الزراعة المتضررة بشدة.

ما يعيق عودة مزيدٍ من الأهالي إلى جبل الزاوية ليس فقط كون المنطقة خط تماس مع قوات النظام وتشهد قصفاً مستمراً، ولكنها الخشية من عمل عسكري واسع للسيطرة على المنطقة من قبل النظام السوري. ولكنّ المحلل العسكري العميد عبد الجبار العكيدي «يستبعد أن تتنازل تركيا بسهولة عن منطقة جبل الزاوية لصالح النظام»، كون قواتها منتشرة على مساحة واسعة من الجبل وعلى الطريق الدولي حلب – اللاذقية، ولديها في المنطقة عشرات الآلاف من الجنود وعتادٌ هجوميٌّ ودفاعيٌّ كبير، ولكن «لا يوجد شيء مستبعد في السياسة» على حد وصف العكيدي، لا سيّما «بعد الاستدارة الحادة لتركيا وبعض الدول العربية والتوجه للتطبيع مع النظام». يذكّر العكيدي في هذا السياق بأن قوات النظام «تقدّمت وسيطرت سابقاً على مناطق كانت تتواجد فيها قوات تركية كالعيس والراشدين وخان شيخون والصرمان»، ولكنه يرى أن وصول قوات النظام إلى جبل الزاوية «سيؤدي لموجة نزوحٍ كبيرة باتجاه تركيا وأوروبا»، ولعل هذا ما يجعل التنازل عن المنطقة لصالح النظام وحلفائه أمراً مُستبعداً.

يشكل القطاع الزراعي نسبة 17.6 بالمئة من الناتج المحلي الإجمالي في سوريا حسب تقديرات حكومية لعام 2010، وهذا ما يفسر صعوبة الوضع المعيشي في جبل الزاوية، إذ إن غالبية السكان يعملون في الزراعة ويعيشون من عوائدها. وبحسب مراقبين زراعيين، فإن نحو 30 بالمئة فقط من المساحة الصالحة للزراعة في جبل الزاوية قد تمّت زراعتها بالفعل، وذلك للمشاكل التي تمّ عرضها في السطور السابقة وخشية إطلاق قوات النظام السوري لعمليةٍ عسكريةٍ تجاه المنطقة في أية لحظة.