تخيّلي معي مستقبلاً نسوياً في أرمينيا، إثيوبيا، البوسنة، العراق، السودان… وتطول القائمة. سؤالٌ بدأتُه في إطار بحثٍ عملتُ عليه عام 2019 حول أجندة النساء والأمن والسلام لصالح مؤسسة كفينا تل كفينا، وامتدَّ وتحوّل بشكله وتعبيراته إلى اليوم بين العمل الأكاديمي والمساحات الشخصية. تفاوتت ردود الفعل بين: «هل حقاً مسموحٌ لنا التخيُّل؟ هل لدينا هذا الترف وكل شيءٍ من حولنا يحترق»، «هل هناك مستقبل ممكن خارج هيمنة الهياكل الذكورية والعسكرية؟»، إلى عيون دامعة وغصّة بهذا الحلم، ثم إقرار بهزيمة الأمل، «لا بذور للبدء بتخيُّل حلم كهذا اليوم». حقيقةً، قد تكون من أبشع جرائم النُظُم القمعية السياسية والذكورية هي سلبُنا القدرة على التخيّل أو تحويلها إلى رضٍّ يمنعنا من الاشتباك مع المستقبل في مساحاتٍ للإبداع قادرةٍ على تطوير واستشراف رؤى مستقبلية. 

الأصل الأرسطي لكلمة سياسة هو إدارة «شؤون الدولة». والسياسية بعلاقتها بالفضاء العام جاءت استجابةً لمفاهيم عن القوة وإدارة الموارد كما تخيّلتها النظم الذكورية، وبمساحاتٍ غالباً ما احتلَّها ويحتلُّها الرجال المقتدرون والمتنفِّذون وأصحاب السطوة. لم يجرِ تحدّي هذا المفهوم حتى نهاية القرن الثامن عشر، مع نشأة حركة إلغاء العبودية وبعدها الحركة النسوية متمثّلةً بحركة حق النساء في التصويت في القرن التاسع عشر. إذاً، لم تبدأ الطبقات المهمّشة والنساء باختراق الفضاء والسرديّة والمخيال السياسي إلا منذ قرنين ونيف، حين قامت الحركات النسوية وحركات إلغاء العبودية ونزع الاستعمار والحركات البيئية، بإنتاج كمٍّ معرفي سياسي شديد الأهمية يربطُ الفعل السياسي في جوهره بالتجربة الشخصية، وبكل ما يتحدّى علاقات القوة والبُنى الاجتماعية والسياسية غير العادلة بين البشر وبين البشر والكوكب. فيما لم يحوِّل هذا الحراك المساحاتِ السياسية الحزبية ومساحات صوغ السياسيات الدولية بشكلٍ عميق بعد، لكن لا بد من الاعتراف بوزن سرديّات هذا الحراك والتراكم المعرفي والضغط الذي يشكِّله على النظم والهياكل الموروثة دولياً والموسومة بتاريخٍ ذكوري استعماري. 

التخيّل كفعل سياسي

التخيُّل هو فعلٌ سياسي بامتياز، إذ يمنحنا القدرةَ على تصوُّر مساحاتٍ بديلة نُعيد فيها تشكيل علاقات القوة وآليات الاستجابة وإضافة مكونات جديدة إلى السياق. مسرح المقهورين، الذي طوّره المسرحي البرازيلي أغستو بول في السبعينيات، هو من أدوات الاشتباك مع التخيّل كفعل سياسي، حيث يشارك الجمهور في العرض ويقوم بتحليل وتحويل الواقع أو التحدي الذي تجري معالجته في العرض. يمنحنا مسرح المقهورين مسافةً وحمايةً من إعادة اختبار الواقع بشكل مباشر، وذلك في سياقٍ نستطيع فيه إعادة كتابة الأحداث وتطوير السرديات بشكلٍ جماعي. 

التخيّل عن طريق بناء سيناريوهاتٍ مستقبلية تحويلية يُقدّم أداةً أخرى، تخلق مساحةً لفاعلين وفاعلات مختلفين لتحديد وفحص فرضياتهم-هن عن المستقبل، وبناء علاقاتٍ تعاونية ربّما لم تكن متاحةً أو واضحةً مسبقاً، وبناء تصوّراتٍ للاستجابة وتشكيل هذا المستقبل حسب ما يجب فعله، وبالمقدرات المشتركة عن طريق التجريب طويل المدى. يمكن الاشتباك مع التخيّل عن طريق الأسئلة الفرضية التي تزعزع طرائق التفكير النمطي، والتي تستجيب لمخزونٍ متكرر من الأسئلة بتنا نجيب عليها بشكلٍ آلي. المهمة هنا هي إيجاد الأسئلة التي لا نسألها عادةً أو لا تُطرح علينا. مثلاً كأن نسأل ناشطةً قاعدية، ماذا ستكون أولى قرارتك كرئيسة للدولة خلال أول مئة يوم عمل؟

السؤال اليوم هو كيف يمكننا تحويل ذهنيّتنا من إطفاء الحرائق الصغيرة العديدة المحيطة بنا، إلى خلق مساحاتٍ لخلخلة هذا الواقع وإحداث شقوقٍ فيه، ورفض القبول به على أنه الخيار الوحيد المتاح أو أهون الشرور.

أسألُ قياديةً يساريةً سويدية: ماذا يعني لك المخيال السياسي؟ تتردد ثم تقول: «حقيقةً، لا أعرف». أعيد طرح سؤال تخيّل مستقبلٍ سياسي نسوي في السويد عليها، فتقول لي: «من الصعب تخيّل مستقبلٍ نسوي سياسي في البيئة الدولية والمحلية المعاصرة. هناك خوفٌ من مجابهة المستقبل ممزوجٌ باكتئاب سياسي وإحساس بالذنب وفقدان الحيلة، في واقعٍ تتحول فيه الأحزاب السياسية إلى مكنات مؤسساتية، تنجو بين الجولات الانتخابية بالتركيز على الاستقطاب السردي المنفصل عن القدرة الحقيقية على إحداث التغيير». إذاً، حتى في بلد أقرّ أول سياسةٍ خارجية نسوية، يصعُب تخيّل مستقبل نسوي سياسي. لا يكفي ترجمة الرؤى النسوية عن طريق مساحات سلطتنا الشرعية، فهي وإن كانت خطوة لازمة لكنها غير كافية. حين كانت سياسة السويد الخارجية نسوية، لم تكن سياسات الدفاع أو الاقتصاد نسوية، ولم يكن هناك مساحات لبناء قبول واسع حكومي لفكرة السياسات النسوية تنتُج عنه آلياتٌ لترجمتها في جميع مفاصل الحكومة، فاقتصرت سياسة السويد الخارجية النسوية على هذا الملف الذي طُوي مع تغيُّر حكومة البلاد، على الرغم من أن هذه السياسة ألهمت العديد من الدول لتبني سياساتٍ نسوية؛ سواءً خارجية أو تنموية. 

هل نسأل أنفسنا الأسئلة التي قد تُقدِّم لنا وللأجيال المقبلة مستقبلاً نسوياً؟ لا شك أن هناك قيمة عالية وضرورة ملحة في جميع أشكال المناصرة والحشد، والمطالبة بتغيير سياساتٍ وقراراتٍ ذات تأثيرٍ مباشر على حياة البشر والكوكب. لكن لا يسعني إلا التفكير بالكم الذي نخصصه لتخيّل نظمٍ بديلةٍ نسويةٍ مُستدامة، وما الذي نستثمره حقيقةً من وقتٍ وموارد وجهد يومي متوسط وطويل المدى لخلق نُظُم جديدة تضمن العدالة النسوية التقاطعية والبيئية. 

أتساءل أيضاً إلى أي مدى نراجع عاداتنا اليومية من منظورٍ نسوي سياسي؟ كيف تساهم مشترياتنا اليومية بتعزيز النظام الاقتصادي النيوليبرالي أو حتى اقتصاد الحرب؟ هل نفكر بحلقات شراء وبيع نسوية في دوائرنا؟ كمجتمع مدني، هل تعطي مؤسسات المجتمع المدني تغذيةً راجعةً للمانحين غير النسويين، في ظل نشوء ممارساتٍ نسوية غير استعمارية في قطاع التنمية والمنح. هل تفكر بمصادر مستدامة مشتركة أم تغرق في الاعتمادية المتبادلة على تمويل هذه الجهات المانحة؟ هذه الأسئلة وغيرها ضرورةٌ للتعافي من الممارسات والنظم الذكورية ما بعد الاستعمارية، ولرعاية الأفكار والمبادرات الناشئة لتحويل أنماط التفكير والفعل في الفضاءات السياسية والتنموية والإغاثية.  

متى يصبح التخيّل فعلاً سياسياً نسوياً؟ 

من وجهة نظرٍ شخصيةٍ بحتة، يصبحُ التخيّل فعلاً سياسياً نسوياً عندما يعمل على حياكة عالمٍ يضع في مركزه الرخاء الجمعي للبشر والكوكب، مُتحرّراً من البُنى الذكورية النيوليبرالية ما بعد الاستعمارية التي تُعزّز مفاهيم القوة البدنية والاقتصادية والعسكرية الفئوية؛ مساحة أفقية تُحرّر المعارف من تصنيفات القيمة الذكورية الفئوية، تبني على مصادر متنوعة من المعارف المجرّدة أو الأكاديمية، والمعارف المُضمّنة المباشرة وغير المباشرة؛ كالحكاية واللعب والاتصال بمعارفنا الحدسية بأسلوبٍ غير تفاضلي بين هذه المعارف. 

في ما يلي، سأسوق مثالين عن التخيل كفعلٍ سياسي نسوي. في تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2022، نظمت مؤسسة بدائل منتدى مع مجموعة من السياسيّات والناشطات السوريّات، وذلك لحياكة فعل نسوي سياسي صدرت عنه ورقة مخرجات تلخيصية. ركز تصميم بدائل لهذه المساحة التجريبية على آلياتٍ تمكّننا من الخروج من مساحات التفكير النمطيّة والسببيّة ضمن أُطر المتاح، فاعتمد التصميم على ثلاث محطات: تفريغ المعلومات، واللعب، والتخيّل أو بناء السيناريوهات. ما استوقفني حقيقةً هو أحد أنشطة اللعب الذي نفّذتُه مراتٍ عديدة، حيث يُطلَب من المشاركين-ات تمثيل الكلمات التي تُلقيها الميسّرة. إحدى الكلمات التي طُرحت علينا كانت الشجاعة، غالباً ما أتّخذُ وضعيةً تُظهر عضلات ذراعي لتمثيل هذه الكلمة، لكن عندما نظرت حولي إلى قاعةٍ مليئةٍ بنساءٍ شجاعات، اخترقنَ مساحاتٍ معاديةً ببسالة وحب وكرم، يتخذنَ وضعيات قوة بدنية مختلفة، توقفت، وبحثتُ عن مشاركةٍ واحتضنتُها. نظرت إليّ باستغرابٍ شديد كأني لم أفهم المهمة وقالت لي: «لا، لا، المهمة هي إظهار الشجاعة» فقلت لها احتضانك هو ما يعبّر عن الشجاعة بالنسبة لي. لم يكن ليُتاح لي فرصة إعادة التفكير بمفهوم الشجاعة لو لم أرَ الشكل الذكوري المتجذر في اللاوعي التعبيري مجسَّداً بشكلٍ جمعي من قبلنا في تلك المساحة. إذاً، التوقف والمراجعة في إطار إعادة التخيل تجعل منه أيضاً فعلاً سياساً نسوياً. 

في سياقٍ منفصل، أقول لماجدة (اسم مستعار) لو أنك رئيسة بلدك، ما هي قراراتك الأولى عند تولي منصبك؟ تلمع عيناها وهي تمشي في شوارع بلدها رئيسةً له، رئيسةً للريف والمدينة، رئيسةً لا ترتدي الملابس الرسمية، كأول قرار، فالصورة الشخصية لأي قيادي-ة سياسي-ة توجِّه رسالةً للشعب حسب قولها عن طبيعة هذا المنصب ومن يمكنُه توليه. ستغير ماجدة الرؤى الاقتصادية من وجهة نظرٍ نسوية تضع رفاه الكوكب والبشر في المركز. ستُغيّر ألوان المباني وتخلق مساحاتٍ خضراء وبيئة مستدامة تحفز الناس على الإبداع. تقول ماجدة: «بالتأكيد نحتاج للأمن الغذائي والاقتصادي، لكننا أيضاً بحاجة لتطوير آليات تفكيرنا بكيفية تحقيق ذلك ولبناء مساحات للتفكير الإبداعي الجمعي. أهمية هذا السؤال هي في إعادة القدرة على الفعل إلى الأفراد في سياقاتٍ يشُوبها الإحباط السياسي وشعورٌ عميقٌ بقلة الحيلة أو انعدامها».

حقيقةً، نحن اليوم بأمس الحاجة لترجمة مفهوم الشخصي السياسي؛ الذي يعزو أثر البنى النمطية والقمعية على التجربة المعاشة إلى فعلٍ يومي قاعدي سياسي، نؤمن بقدرته التحويلية التراكمية. من نافل القول إن هذا لا يعني إخلاءَ يدِ الهياكل السياسية والمدنية من مسؤوليتها، بل هو إدراكٌ للحاجة الماسّة، في ظل الاستعصاء السياسي والفشل المؤسساتي محلياً وإقليمياً ودولياً حول سوريا، للعمل في مساحاتٍ حرة من قيد البُنى التي ساهمت وتساهم في تأطير الممكن والمتاح على صعيد الفكر السياسي والموارد والشراكات. يتطلب ذلك إعادة التفكير بآليات العمل والموارد واللغة وشكل المساحات التي نتشاركها. إذ غالباً ما «تُدَرِّبُنا» الأنظمة والمؤسسات على هامش ما هو متاح أضيق بكثير مما هو ممكن، ومما هي قادرةٌ على تقديمه ضمن حدود تفويضها.

في مثالٍ على ذلك، قامت بدائل بدعوة خبيراتٍ سوريات ومسؤولاتٍ من الاتحاد الأوروبي إلى مساحة تفكيرٍ مشترك. لم تكن الغاية منها المناصرة المباشرة حول قضايا ذات صلة بالشأن السوري ودور الاتحاد فيها، بل خلق مساحةٍ للتفكير المشترك حول تحسين آليات انخراط الاتحاد مع المجتمع المدني في سياقات النزاع. يشكل هذا الطرح خطوةً تحويليةً بالاشتباك مع هياكل هرِمة وجامدة اعتدنا أن نستمع إلى ما تحدده لنا من المتاح والمقبول، وسلّمنا قدراً كبيراً من فاعليّتنا وقوتنا لها، إلى أخذ زمام المبادرة من موقعٍ متكافئ للتفكير بالعقبات والفرص والمراجعة المشتركة. إن كلفة اللامبالاة أو عدم الاكتراث السياسي اليوم باهظةٌ في السياق السوري وعالمياً، لذا فإن إعادة القدرة على الحلم والفعل إلى الأفراد هو فرصةٌ بالغةُ الأهمية، لفتح نافذةٍ إلى مستقبلٍ تقوده مبادراتٌ تحويلية سياسية نسوية قاعدية.