يَعتقدُ هؤلاء الذين لم يعيشوا حرباً من قبل أنّ الحروب تبدأ وتنتهي بوقف إطلاق النار، لكنك عندما تعيش حرباً فإنها لا تنتهي في جسدك ووعيك عندما يُعلن العساكر وقفَ القتال. أمّا إن وُلِدت في حرب، وعشتَ حياتك في ظلِّ عنفها وتوقيتها ولُغتها، فسيكون من الصعب عليك أن لا تربط سلاسل الحروب ببعضها بعضاً، وكذلك الأمر بالنسبة لحركات النزوح وأسماء المعتقلات وأنواع الأعمال العسكرية. 

الطريق الذي كان يقطعه جدي إلى عمله من بصرى الشام إلى يافا على الحصان، وبعده طريقُ والدي؛ البعثي المُعتقَل لدى «رفاقه»، الذي مرَّ في هروبه عبر بيروت وبغداد والقاهرة بهوية سورية قديمة، أُغلقت أمامي أنا، التي وُلِدتُ لاجئة، ابنة لاجئ سوري في العراق؛ بعدها صرت لاجئةً عراقيةً إلى سوريا ولاجئةً سوريّةً إلى لبنان؛ ومن ثم لاجئة سورية في بريطانيا. ثلاثة أجيال رسمت الحروبُ والحدودُ مصيرَها. وهكذا فإنني لا أستطيعُ الحديث عن غزو العراق في 2003 دون الحديث عمّا قبله. بالنسبة إلى جيلي، جاء الغزو نتيجةً طبيعيةً لسلسلة الحروب التي عشناها، إذ لم تنتهِ حربُ الخليج الثانية وغزو الكويت إلا بعد غزو العراق في العام 2003.

أعتذرُ منكم جميعاً، قرّاء هذه السطور، وأيضاً من أولئك الذين لن يقرؤها: تتنازعُ وتتجاورُ هنا سرديات وضمائر مختلفة؛ بعضها مُغيَّب عنفاً، وأخرى حاضرة في عُقَد الذنب والنجاة، وكثيرٌ منها لا يزال خائفاً مرعوباً يحاول أن يختفي من الوعي والذاكرة. لم أستطع أحياناً إلا أن أتكلم بضمير الجماعة، وهذا ليس تفخيماً ولا ثقةً عمياء ولا حتى وهمَ انتماءٍ ما، بل فقط بسبب أننا كبرنا في خضمّ الكثير من الخسارات والهزائم التي تجعل من «الفرد» هامشاً، فتحتلُ الجماعةُ بضوضائها التجاربَ والمشاعرَ لتخفف من وطأة المَصاب، وتمنحه معنىً يقي الأفراد من الجنون؛ ولكنّ هذا لا يعني بأيّ شكلٍ من الأشكال أن المَصاب كان مُوزَّعاً بعدالةٍ بيننا. أن تكبر في بلادٍ موعودةٍ بالحروب التي لا تنتهي، ولها حصة سنوية من ميزانية البنتاغون، فهذا يعني أن الحدود بين الفرد والجماعة تُفرَض بعنفٍ رهيبٍ يلتقي مع عنف التوتاليتارية الصدامية اليومي، ليجعلَ منك شبحاً لإنسانٍ ما كان من الممكن أن تكونه لو أنّكَ وُلِدتَ في مكان آخر.

 * * * * *

شعورٌ عارمٌ بالفجيعة شلَّ أطرافي وأنا أتفرّجُ على الطائرة وهي تصطدم بالبناية الشاهقة: طائرة محملة بالمسافرين أصحاب الحظ السيّء وبناءٌ مليءٌ بمكاتب العمل الاعتيادي بملله الروتيني ينفجران ببعضهما. لم أُفجع تعاطفاً مع المكلومين ذوي الحظ العاثر في الطائرة أو البناء، بل خوفاً وترقباً من كيف ستُؤسِّسُ هذه المجزرة للمجازر القادمة «لهم» عندنا. لستُ دون حسٍّ إنساني ورفضٍ لأي جريمة تحدث في أرضٍ ما، ولكن كما أي عراقيٍّ أو عراقية، قضيتُ طفولتي وشبابي أحسُبُ برعبٍ لا يفارق عظامي كيف وبأي طريقةٍ سيُكتَب سيناريو الحرب القادمة علينا. لم نكن دون حزنٍ على من قُتِل، ولكن لم يكن عندنا رفاهية التعاطف مع الآخرين، لأن عقولنا وأجسادنا تتسابق لحساب العقاب القادم.

في الصباح التالي في الجامعة يتهامس بعض الأصدقاء الشباب: «يستاهلون» و«خليهم يجربون الضيم»؛ أهزُّ برأسي استياءً وألتفتُ إلى صديقتي التي تُعلِّق: «رياجيل!». يعترضُ صديقٌ، وأقول له: «مو شايف شلون رح ناكل خرا؟». يُجيب بنبرةٍ تختنق بالألم والتحدي: «شلون ها؟! هذول مخابيل! شجاب صدام ع الدين؟!». أتلُفَّتُ حوله لتأمين خصوصية إعلانه. نعم، منطقياً نعرف جميعاً أنه لا قدم ولا يد للقاعدة وأشباهها هنا، ولكن أميركا تستطيع تركيب أيّ فيلمٍ مهما كان غير واقعيٍّ للعالم.

يعلم ز. أن صدّام بلا دين، اختبرَ ذلك خلال سنوات طفولته؛ أنَّ الموت لا دين له بل مواسم. يقوم الموت برسم دوائر متداخلة منذ قيام العراق الحديث. أخواله الشيوعيون المعارضون للبعث تمت معاقبتهم وإبعادهم بتهمة أنهم «تبعية إيرانية»التبعية الإيرانية والعثمانية في العراق ميراثٌ كولونيالي في تقسيم سكان العراق، وتعود أزمة استخدامها في الضغط السياسي والديموغرافي إلى العهد الملكي في العراق وإحصاء الخمسينيات. في 1980 قام نظام صدام حسين بتهجير آلاف العراقيين من بغداد وكربلاء والنجف بحجة أنهم من «التبعية الإيرانية»، ولا يحملون «شهادة الجنسية العراقية» ولا يخدمون في قوات الجيش العراقي، ولذلك تم تهجيرهم إلى الحدود الإيرانية واعتقال آلاف الرجال منهم. تحت هذه الحملة العنيفة تم استهداف وتصفية عدد كبير من المعارضين للنظام الحاكم. رغم ضعف التهمة، إذ كانت السردية الحكومية قد تركّزت حول أن «التبعية» هم من أعضاء حزب الدعوة المعادين لنظام الحكم البعثي. حزب الدعوة أيضاً معادٍ تاريخياً للشيوعيين في العراق ومتّهمٌ بقتلهم. ومع ذلك، كانت التهمة جاهزةً لأن أخواله من عائلة شيعية من جنوب العراق كما كثير من الشيوعيين العراقيين. أعمام ز. طيارون في الجيش العراقي، يحدُث أنهم سُنّة مسلمون لكنني لم أعرف هذه المعلومة إلا بعد غزو العراق، حين تمت تصفية كل الطيارين، سنَّةً وشيعةً، على يد قوات الحرس الثوري الإيراني وأعضاء حزب الدعوة، وتمت الكتابة على جثثهم بالعربية: «هذا جزاء مَن يقصف إيران». نجح بعض الطيارين الأكراد باللجوء إلى مناطق الحكم الكردي للنجاة بأنفسهم، إلا أنهم تمكنوا منهم أيضاً بعد بِدء حرب العام 2006 أو «الحرب الأهلية» أو «الأحداث». الموت مواسم ودوائر، ولا بد أنه سيصلك، والكذبة التي ظننا أنها مستحيلة التصديق: «تحالف القاعدة مع البعثيين» و«وجود أسلحة دمار شامل» بعد عشر سنين من التفتيش الدولي، قد جاءت بعدة جيوش مدججة إلى بلاد الموت. لا بل إن الأكاذيب التي أضحكتنا استحالتُها تحققت كنبوءَةٍ لعينةٍ بعد أقل من سنتين: أصبحت البلاد المكلومة حَجَّاً جديداً لمقاتلي القاعدة والمجاهدين، ونعم؛ لقد تحالفَ معهم من تبقّى من البعثيين المحاربين للاحتلال الأميركي. 

القادسية: «البوابة الشرقية للوطن العربي»

خَرَجَت البلاد من حرب إيران، أو «القادسية»، بَدَينٍ خارجي يُقدَّر بـ 80 مليون دولار، غالبها للسعودية والكويت «دفاعاً عن البوابة الشرقية للوطن العربي من المدّ الفارسي»، قبل أن يصبح مصطلح «المدّ الشيعي» هو الترند. ذلك دون ذكر الكلفة الكارثية للحرب، إذ سُوّيَت مدن الجنوب العراقي بالأرض، ونصف مليون قتيل عراقي ومئات آلاف المفقودين والأسرى والنازحين واللاجئين، (وأيضاً 750 ألف قتيل في إيران والدمار الموازي هناك). كان الجيش العراقي حينها خامس أقوى جيشٍ في العالم، هكذا قالت أميركا، وأيضاً قالت السفيرة الأميركية في الكويت لصدَّام عندما سألها «وماذا ستفعل أميركا إذا دخلتُ غداً إلى الكويت؟»: إن «العلاقات بين دول الجوار في الخليج هي شأنٌ داخلي لا نتدخل فيه»

عندما انتهت حرب إيران، سُمّي يوم إعلان وقف إطلاق النار «يوم النصر»، مع الإلحاح على «أننا» انتصرنا. لسببٍ ما احتفلنا نحن الصغار برمي المياه على بعضنا البعض في الثامن من شهر آب (أغسطس) لسنتين. لا أذكرُ الكثير عن هاتين السنتين من «السلام»، عدا عندما جرجرونا من المدرسة لنستقبل القادة العرب في «مجلس التعاون العربي» أمام القصر الجمهوري، لا أذكرُ شيئاً غير التعب الشديد الذي أكل عظامي الصغيرة؛ قضينا النهار كله هائمين في مسيرٍ من المدرسة حول بغداد (لأسباب أمنية بالطبع لا يأخذون التلاميذ والعمال والموظفين مباشرةً إلى المكان المخطط له، بل يهيمون بنا حول بغداد إلى أن يتم تحديد النقطة). في العصر مرَّت سيارات مرسيدس عليها أعلام العراق ومصر، صَفَّقنا وصَرخنا نُحيي «القادة العرب»، وبعد سنةٍ وبضعة أشهر أرسلونا من المدرسة إلى أمام السفارة المصرية لنصرخ مرةً أخرى، لكن هذه المرة بـ «حسني مبارك يا جبان، يا عميل الأميركان».

كأي طفلةٍ نجيبةٍ بدأتْ حياتها مع حرب إيران، علمتُ أننا نتجه نحو حربٍ جديدة، إلا أن هذه الحرب الجديدة بَدَتْ كعمليةٍ انتحاريةٍ جماعية قرّرها معتوهٌ واحد نيابةً عن ملايين من الناس. في الحرب الأولى كان القتلى يتساقطون على الجبهات جنوب وشرق البلاد بعيداً عنا. كُنّا نقف ونغني لأهل البصرة والعمارة، ونهتف لأنهم رَدَّوا العدوان عنّا، ونتابع على الشاشات بعد الغداء وقبل أفلام الكارتون وعند الثامنة ليلاً معاركَ بأسماء: توكلنا على الله، الله أكبر، معارك رمضان المبارك، عزة محمد… إلخ. لكننا في حياتنا اليومية طبعاً كُنّا نسمي المعارك على أسماء المدن: الفاو، العمارة، المحمّرة؛ المدن التي لم أزرها يوماً وكان لوقع أسمائها رعبٌ يَركبُ الرُكَب، الرعب ذاته المكبوت الذي يحتلّك عندما تلتقي ما تبقى من المقاتلين العائدين من الجبهة بعد انتهاء الحرب: أشباحٌ مُحمَّلون بأشباح، بعضهم أدمنوا الكحول، وبعضهم الآخر لا يترك سريره أو منزله، وآخرون يتوسلون النوم والموت معاً.

كانت الحكايا والقصص مَلجئي من الجنون والخوف الذي كان مركزياً في حياتنا اليومية: منذ الثمانينيات من القرن الماضي تتراكم جثثُ العراقيين فوق بعضها في زوايا عقل من بقوا أحياءَ منهم، ولا مهرب من أن تمرَّ من أمامها وتتفرَّج على رجال ونساء وأولاد يجالسون هَذي الجثث لآباء وإخوة وأبناء وأزواج لم يعودوا من الجبهة، ولم تَعُد جثثهم أيضاً. كنا نستقبل الموت كالمواسم، وعندما بدأ أهلنا بالانضمام إلى الجبهة أصبحنا في عداد من كُنّا نراهم يختبئون في خلفيات الصور. 

أم المعارك: احتلال الكويت وحرب الخليج الثانية و«درع الصحراء»

لطالما آمنتُ أن القصص والحكايا هي ما يجعل الحياة ممتعةً وقابلةً للاستمرار. عندما كنت طفلةً كان أهالينا يبخلون علينا بِقصصهم عن «البلاد»، عن أهلهم ومَن كانوا قبل أن يصِلوا العراق. ربما كانوا يخافون التَذكُّر، أو يؤلمهم منفاهم الإجباري؛ ربما لأنهم لا يعلمون شيئاً عمّن تركوهم خلفهم في «البلاد»؛ أو ربما لم يُريدوا لنا ان نتعلَّق بقصصٍ جرى طمسها أو بأهلٍ لم نلتقِ بهم وقد لا نلتقي بهم أبداً.

في كل عيدٍ تتبادل ما يقارب 300 عائلة سورية لاجئة في العراق المعايدات، ما جعل الأعياد أياماً مُنهِكة. كنتُ أحسدُ أصدقائي العراقيين الذين يقضون العيد مع الجدات والأجداد والأخوال والأعمام، فيما نحن في صباح العيد، وعلى الساعة نفسها من كل سنة، تتوالى علينا معايدات البعثيين الذين يعايدون بعضهم بعضاً، بِدءاً من ميشيل عفلق عندما كان على قيد الحياة، إلى أعضاء سابقين في الحكومات والوزارات وغيرهم. كانت الزيارة تمتدُّ لسبع أو عشر دقائق، وفي ختامها، بعد الاطمئنان على أحوال الرعية، يتبادل السوريون الجملة نفسها: «إنشاء الله السنة الجاية نعيد بالبلاد». كنتُ أضيق ذرعاً بمهاراتهم جميعاً في الالتفاف حول الأسئلة وتجنُّب القصص، وكأنهم يعتبرون أي محادثةٍ مسجلةً ومحسوبة. هكذا كبرنا متآلفين مع طُرُق الاستخبارات في الأسئلة وفنون الالتفاف عليها، وأصبح «التعتيم» على التفاصيل والتّكتم على الأخبار خبرةً مُقدَّرةً من الكبار. كانت هناك سيدة قريبة لوالدي من بعيد، من اللواتي لم يكُنَّ مهتماتٍ ولا حتى بقشةٍ واحدةٍ من الحزب و«الصراع» و«الوطن العربي». كنتُ أحبُّ جلستها لأنها كلّما اجتمعنا نحن الصغار في مناسبة فرحٍ أو حزنٍ تبدأ بقصّ حكاياتٍ مضحكة عن «البلاد»، عن الناس هناك وأيامهم، وكيف يُدبّرون لبعضهم البعض المقالب وكيف يحبون وكيف يتبارون على أشياء لم نفهمها نحن الذين وُلدنا وعشنا في بغداد. كانت القصص وأصحابها وأماكنها لا تشبه أهلنا وأماكننا؛ هل ترك أهالينا ذواتهم «السورية» خلفهم؟ كانت تلك النكت والقصص كل ما أملك عمّا يسمونها «البلاد»، كانت جزءاً من كولاج رَكَّبتُهُ في مخيلتي عن ماهية سوريا التي أُحسَبُ أحياناً عليها دون أن أعرفها ودون أن تعترف بي. 

في حرب الخليج الثانية 1991 أنقذتني امرأةٌ في بنايتنا، أَدينُ لها بما تبقى من عقلي وخلاياه العصبية. كنتُ في العاشرة من عمري أتفرّجُ على رَدَّات فعل الكبار على القصف الذي لم نَعِش مثله قبلاً، ولم أفهم أياً منها عدا تلك المتعلقة بالنحيب واللطم. عندما تكون طفلاً تفهم بطريقةٍ ما، ربما بعد الصاروخ المئة، أن البالغين يُعبّرون عن خوفهم بطُرُق عجيبة. أحياناً تكون ردّات فعلهم مضحكة، كجاراتنا اللواتي تَخصّرنَ وأتينَ بالطبلة وقضينَ غالب الأربعين يوماً في الملجأ يؤلّفنَ أغانٍ مُهينة لبوش تدعو الله أن «يفضح حريماته» ويرقصنَ على إيقاع الطبلة. قالت لي جارتنا اللبنانية أن «الحمويات» قد ركِبَهن جني. لكن ما كان يحيرني هو رد فعل والدتي التي أبت بعد أول يوم من «الضربة» أن تنزل إلى الملجأ، وقضت وقتها بتحضير الشاي والقهوة والطبخ لوالدي والمجتمعين معه ولكلّ مَن يدخل البيت أو يطلب. حاولتُ إقناعها بحرارةٍ وإصرار أن «لجنة التثقيف» التي زارت مدرستي الابتدائية قبل بِدء الحرب بعدة أيام أنفقت ثلاث ساعات في «تثقيفنا»، وفي القضاء على أي أملٍ لنا في أيّ نومٍ هانئٍ مستقبلاً، بعد عرض أفلام «تعليمية» عن الأسلحة الكيميائية والنووية التي يستخدمها واستخدمها الجيش الأميركي في اليابان، والتي سوف يستخدمها عندنا حتماً! كانت هذه الساعات الثلاث من أهمّ المحددات لحياتي التي جاءت بعدها. أصابني هلعٌ شديدٌ من «هدوء» الكبار حولي وإصرارهم الملتزم على أنه «ماكو شي»، وفي البيت «ما في شي». رجعت إلى البيت محمّلةً بخطط الوقاية والنصائح التي كانت في غالبها بلا معنى: حاولت أمي طمأنتي بهدوئها العجيب؛ «ماما مَرح يصير شي» وهي تحاول أن تقنعني بأن لا ضرورة لحقيبة الأغذية المُعلَّبة التي بدأتُ بإقناعها بضرورة تحضيرها. في ليلة بدء الحرب، في الساعة 2:30 صباحاً، وقفَ والدي يتفرج من الشبّاك على سماء بغداد وقد أصبحت برتقالية، أسأله: «بابا يعني بلّشت الحرب»، يجيب دون أن ينظر إلى وجهي: «بابا مافي شي»! قضينا أول ليلةٍ في الملجأ، وصعدنا بعد أن توقَّفَ القصف أخيراً في السابعة صباحاً وقد عادت بغداد والعراق كلّه إلى العصور المظلمة، كما وعد جيمس بيكر. خرجنا من بطن الأرض لنجد كل شئٍ على الأرض: لا مياه ولا كهرباء ولا هواتف ولا جسور ولا طرق ولا مباني، لا شيء.

لم أفهم بعدها لماذا استمرّ القصف ستين يوماً، فقد محوا كل شيءٍ على الأرض منذ اليوم الأول؛ ولكن كبرتُ وتعلّمتُ عن الاستراتيجية العسكرية الأميركية في حروبها التحريرية. قضيتُ الستين يوماً غالباً في الملجأ، رغم بقاء والدتي وإخوتي «فوق» في الشقة. وفي أحد الصباحات عندما صعدتُ إلى الشقة وجدتُ الوجوه واجمة، وعلى الراديو كان صوت قارئ القرآن يسودُ فوق صمتٍ مريب. دَخلَتْ جارتنا وهي تنوح وتتوجه  لوالدي بالسؤال: «ضربوا ملجأ العامرية؟». سقطَ في ذلك اليوم وهمُ الملجأ، وبِتُّ ليلتي في الشقة مع باقي العائلة، إلا أنني بعد أن «قيّمتُ الوضع» قرّرتُ أن أعود إلى الملجأ حتى لو نمتُ وحدي، وقلتُ لأمي: «ع الأقل بنموت دغري بدون ما نسمع التانيين عم بيموتوا».

كنت أخرجُ صباحاً من الملجأ فلا أجدُ مَحطَّاً لقدمي من فوارغ الرصاص في مدخل البناية، أنظرُ إلى الشباب المُسلَّحين باستغراب، أقولُ لجارنا الشاب العشريني الوسيم: «بتعرف إنو الرصاص ما بيوصل ع الطيارة ماهيك؟!»، يرد: «آ خلود… بس هنن كمان لازم يخافوا». فهمتُ وقتها أنه يطلق عيارات البندقية كلما ذُعِرَ من أصوات القصف، وأنه -كما جارتنا- «يرقص على طريقته». كنت أتوجّسُ من الانقسام الجندري في الملجأ. بعد أول ليلة طالبوا حتى الصبيان فوق 13 عاماً بالخروج من الملجأ لأنهم «زلم». لم تُنقذني أيٌّ من الكذبات التي كان يؤلفها الكبار لاحتواء رعبنا ورعبهم، بل أنقذتني «م» التي قرّرت أن تجمعنا نحن الأطفال في الملجأ وتَقصَّ علينا كل ليلةٍ قصةً طويلةً تحملنا خارج الجدران الإسمنتية لقبرنا الجاهز، تحملنا إلى عالمٍ أقلَّ قسوة، حتى أنها قبلت اقتراحاتي المتعلقة بالمكان الذي يجب أن نجلس فيه: قريبين من باب الخروج للطوارئ لكن دون إغلاق الممر، وبعد قصف ملجأ العامرية وافقَتْ أن أُبقيَ الباب مفتوحاً حتى لا نموت محترقين من الضغط في حال استُهدِف الملجأ، مع اقتناعي بانعدام أمانه بعد تجربة الصواريخ الجديدة على ملجأ العامرية المُحصَّن. بقي الملجأ إشكالية سؤالٍ مُبكّرٍ عن العدالة لم أستطع مواجهتها: «إحنا عنا ملجأ بس في ناس ما عندها ملجأ». 

هل شاهَدَنا أحدٌ ونحن «نُضرب ونخاف ونموت»؟ عندما كبرتُ وبدأتُ بالبحث عن المُتاح من المعلومات عن «عاصفة الصحراء»، لم أجد سوى صور الجنود الأميركيين بأقنعتهم المضادة للأسلحة الكيميائية وهم في الصحراء السعودية. ماذا عنا؟ لا شيء، ولا صورة واحدة، بينما مئات الصور عن المدنيين الإسرائيليين في الملاجئ أيضاً بأقنعة تقيهم كيماوي العراق، لكن أين أقنعتنا؟ ربما لم يُرِيدوا أن تصل أيٌّ من الأقنعة إلى حلبجة جديدة، لماذا لم يسأل عنا أحد؟ نتعلم مبكراً نفاق ودجل سرديات «حقوق الإنسان» و«حماية المدنيين» في الحروب، بل ستُساعدهم المؤسسات الدولية على إخراس من تبقى منا حياً وتجويع من نجا منا من الحرب. يقول جنرالاتهم إنهم أسقطوا 88.000 طن من المواد المتفجرة، من ضمنها قنابل اليورانيوم المُنضَّب «المحرّمة دولياً»، على أهداف «حيوية» في البلاد. لا يمرّ وقتٌ طويلٌ قبل أن نعرف أنَّ الأهداف الحيوية قد تتضمن أي مكان: مبنى وزاري، مقر عسكري، مصفى مياه، مخزن سكر، نخيل، جامع… إلخ. نتعلَّم أن اليورانيوم في الهواء والتربة والمياه يزداد تركيزه وانبعاثاته مع الوقت: هو سلاحٌ الآن وسلاحٌ مستقبلي تَقادُمي، كلّما مرَّ الزمن زاد فتكه بنا وبجيناتنا وأولادنا وبناتنا القادمين. يقول جنرالٌ ثانٍ إن جنوده «كان عليهم» استهداف البُنى التحتية المدنية لتعظيم آثار العقوبات الاقتصادية على البلاد. أحياناً حضرنا كأرقام، فقد سألَتْ إحداهنّ مادلين أولبرايت إن كان تغييرُ نظام صدام حسين يستحق موت 2 مليون طفل عراقي نتيجة العقوبات المفروضة على البلاد، وأجابت أولبرايت بنعم. لأنهم وصدام متفقون على هذه النقطة؛ لم نكن حتى رهائن. راقبت المنظمات الإنسانية تَفكُّكَ ما تبقى من إنسانيتنا، حسَبُوا الأرقام أحياناً، أو حاولوا، استقال بعضهم لأنهم لم يستطيعوا مواجهة حقيقة تورُّطهم في تجويع وكسر مَن بقي منا. 

وعندما عاد جنودهم من مهمات «الدرع الحديدي» كانوا مرضى: بعضهم انتحر، آخرون ارتكبوا جرائم بحق عوائلهم، وآخرون أصيبوا بأمراض غريبة، سيطلق عليها فيما بعد اسم «متلازمة حرب الخليج»، وسوف يزدهر قطاع البحوث الطبية والنفسية عن «متلازمة ما بعد الصدمة» التي انتشرت بين العائدين من جنودهم. تنطلق المشاريع، التي بعضها جارٍ حتى الآن، بهدف البحث عن أسباب الأعراض المرضية غير المتوافقة التي شابهت اللعنة التي حلَّت على الجنود الأميركيين. أما نحن، فقد قضينا العقد الذي تبع حرب الخليج بالتفكك والجوع والمرض، ولم يُرِد أحدٌ أن يعرف ماذا حدث لنا بعد أن فجروا ذخيرة البلاد الكيميائية في وجوهنا وحياتنا. امتلأت المستشفيات بأجنة مُشوَّهة وأطفال بأمراض غريبة لم يستطع أحدٌ تشخيصها، وتساقطت الأجساد كأوراق الشجر من استفحال السرطانات التي شابهت الأمراض السارية في سرعة انتشارها. أضافوا لنا فصولاً جديدة في مناهج كليات الطب والصيدلة عن سرطاناتٍ نادرةٍ كنا نراها كل أسبوع في مستشفيات بغداد المركزية خلال عملنا.

عانى كل العراقيين، لكن خاصةً من خارج بغداد التي سُحبت إليها كل الموارد الباقية، فيما كان الجنوب مدمراً نتيجة حرب إيران ثم الانتفاضة فيه بعد حرب الخليج والانسحاب من الكويت، والتي أسماها النظام بـ«الغوغاء» ونحن بـ«أحداث الجنوب». في كل بلادٍ تشهد «الأحداث»، تكون هي الوقائع التي لم يتّفق الجميع على اسمٍ واحدٍ لها، ولا رابح ولا خاسر فيها، وتبقى تدور لتُدمِّر جميع من حضروها: كل مجموعة ستكون لها سرديةٌ ما عن «الأحداث»، كلّ قصصهم فيها جزءٌ كبيرٌ من الحقيقة، لكنها تتناقض مع بعضها البعض بحيث تصبح الحياة مستحيلةً جماعياً، وينفلق (نعم ينفلق) المجتمع إلى مجموعاتٍ أصغر وأصغر لا رابط بينها سوى الصراع على سردية «الأحداث».

انقسمت البلاد بشكلٍ كبير: انعزل غالب الشمال الكردي ضمن صفقة «الحكم الذاتي للأكراد»، التي كانت قائمةً قبل الحرب بدعمٍ من الدولة العراقية، إلا أن الانعزال الآن في التسعينيات تضمَّن وضع الأميركان حمايةً لمناطق الأكراد وقطع قدرة وصول الجيش العراقي أو الطيران إلى المحافظات ذات الغالبية الكردية. بعد «أحداث الجنوب»، بقيت مناطق في جنوب العراق خارج السيطرة العسكرية للدولة العراقية، وسلّمَ صدام باقي البلاد خارج بغداد للعشائر التي انتعشَ دورها في ظل غياب سلطة مؤسسات الدولة العسكرية والمدنية، وهي العشائر ذاتها التي تحالفت مع الأميركان والإيرانيين فيما بعد. تفككت البلاد جغرافياً واجتماعياً وعِرقياً ومذهبياً تجهيزاً للحظة المناسبة للعالم. هل ازدادت ريبة وهستيرية الرئيس المحاصر؟ كان هناك ما يحدث أيضاً خارج إرادته، وفشِلَ في محاولة ركوبه كما فشل السلاطين الآخرون في المنطقة، فقد هبت رياح الإسلام العالمي الجديد. لم تنفع «الحملات الإيمانية» التي أطلقتها الدولة، فإسلام الدولة البعثية القومية قد كان هزيلاً أساساً، وغير مقنعٍ حتى للبعثيين أنفسهم. جيلي، جيل الطيبين كما يسموننا في العراق الآن، جيل حرب إيران «القادسية» وحرب الكويت «أم المعارك»، جيلٌ قضى طفولته بين الملاجئ، والمراهقة في سنين الحصار الاقتصادي، ودون أي تكنولوجيا أو اتصالٍ بالعالم الخارجي؛ شهدنا الانتقال من إسلام عراقي فيه عناصر بغدادية وعباسية ومسيحية وكردية ويزيدية، إلى إسلامٍ عالميٍّ استثنائيّ مهووسٍ بشكلٍ واحد له، يدّعي نقاءً غير تاريخي؛ إسلامٍ عنيفٍ في طهارته المفترضة.

عشنا دمار المجتمع العراقي وتحوله من مجتمعٍ يتبنّى قيماً وعاداتٍ رأسماليةً معولمةً إلى خليطٍ مذهبيٍّ عجيب تحكمه خرافات حروب و«أحداث» ما قبل 4000 سنة. عشنا نحن «الطيبين» عشرين سنة في ظل طبقةٍ وسطى مُؤسّسة بقوة، لكنها بدأت بالتداعي: توقف الميسورون عن وضع شجرات الميلاد، التي كانوا يضعونها غالباً أسوة بالبريطانيين والأميركيين الذين عاد من عندهم أهالينا بعد سنوات تعليمٍ طويلة. لم تعد شجرة الميلاد مقبولةً، لم يعد الاحتفاء بزكريا في أول شعبان «مُحبَّباً»، انتشر الحجاب كما باقي المنطقة وبدأت النساء تتكلّلن بالسواد، ليس لأجل شهداء ومخطوفين كما اعتدنا، بل من أجل أبي الشهداء الإمام الحسين. تعلمنا مؤخراً خطورة تبادل الأسماء والزواج والصداقة والعمل بين أفراد المذاهب المختلفة. تبرّع المحررون القادمون على متن الدبابات الأميركية بإعادة تعليمنا عن حدودنا وأصولنا المُفترضة. 

شهدنا بغداد تحتضر ببطء: أبناء وبنات العراق من الخمسينيات إلى الثمانينيات، الذين كان تعدادهم الأعلى بين طلاب الدراسات العليا في العالم «المتحضر»، المُعتادون على دينار العراق القوي، وعلى طبقةٍ وسطى ضخمة حياتها قريبة من أثرياء باقي المنطقة حولها في البلاد العربية وفي تركيا وإيران: قرروا الفرار إلى «الخارج» والعمل في الأردن ودول الخليج العربي، ونفذَ بعض المحظوظين إلى أوروبا لإرسال الأموال إلى عوائلهم في العراق في زمن «الحصار». مَن تبقّى منهم علمونا في المدارس والجامعات، وكانوا يقضون غالب وقتهم بالتحسر على «أيام الخير» التي لم نرَ منها شيئاً كما قالوا لنا. الآن، تتحسّر الأجيال التي تلتنا على جامعاتنا وحياتنا كأنها خرافة مُشتهاة. 

عندما لاحت صور حاملات الطائرات الأميركية في الخليج مجدداً في 2003، لم أقبل أن أبقى مثل كل مرة أتلقى توجيهاتٍ غامضةً حول ما سيحدث أو «لن يحدث». كان واضحاً لي ما سيحدث، ولم أُرِد أن أشهده. خَزَّنا بعض الغذاء والشموع، والبنزين رغم خطورته، لكنّ الهدوء المطبق كان ينام ثقيلاً فوق البلاد وسكَّانها. نحن أطفال الحرب كنا نعرف هذا الهدوء الذي يسبق المجزرة، بينما كان الكبار يمرون بعدم الاكتراث في ما يشبه حالةً من الإنكار وعدم التصديق على حواجز مُستحدَثة على عجل قبل بدء الحرب. كل شيءٍ كان يُعَدُّ على استعجال في اللحظات الأخيرة، لأن القائد الضرورة لم يخرج من نكرانه الذي هو أصل كل نكران ويستوعب أن الحرب قادمة فعلاً. في عجلةٍ أطلق التلفزيون العراقي الأغنية الحربية الجديدة، وكانت خير شاهدٍ على واقع البلاد وخساراتها ونكرانها وكذبها الذي لا ينتهي.

عندما اقتنع والدي بضرورة خروجنا من البلاد، طبعاً من دونه، كانت الأردن قد أغلقت حدودها البرية مع العراق، وبقيت الحدود مع سوريا مفتوحة. بعد موت حافظ الأسد واستيلاء بشار على البلد، عادت العلاقات التجارية مع سوريا في تطورٍ سوريالي للأحداث بين البلدين اللذين قررت حكومتاهما التصرُّفَ على أساس أن الأخرى غير موجودةٍ على سطح الأرض لأكثر من عشرين سنة. افتتحوا قنصليةً في بغداد، وذهبتُ مع والدتي لاستخراج جواز سفرٍ مؤقت: استقبلنا البواب أو عنصر الأمن جالساً مع كأس متة وخلفه صورةٌ هائلةٌ لبشار في بدلةٍ عسكرية، التقينا مع كأس المتة الثاني بيد القنصل الذي وقَّع على ورقةٍ مكبوسةٍ عليها صورتنا جميعاً مع والدتي؛ ابتسم بخبثٍ لها وقال لي: «ما تصيري متل أبوكي وتبيعي سوريا بقشرة بصلة». في عدة ساعاتٍ تَقرَّرَ أننا سنحمل معنا حقيبتين نحن الستة، لأننا «ولا بد» سنعود في الصيف أو بعد الحرب، هكذا ردَّدَ والدي وهو يُشجعنا أن نترك أشياءنا أو حياتنا خلفنا. الصمت المُطبق احتلَّ البيت، لم نفكر يوماً أن «العودة» ستكون هكذا أو أنها ستكون من الأساس. طمأننا عمي أنَّ صديقاً قديماً له قريباً من النظام السوري قد ضمن دخولنا «الآمن» إلى البلاد. 

كان والدي مطلوباً لثلاث عشرة «جهة»، وأمي لأربع «جهات». عندما تكبر في عائلةٍ سوريةٍ متورطةٍ سياسياً تتعلّم مبكراً أعداد وأسماء الجهات المختلفة، وأنّ لكلّ جهةٍ معتقَلاً وجنرالاً ومكاناً وواسطة: والدايَ تزوجا في بغداد بعد أن فتحت سوريا والعراق حدودهما لبضعة أشهر في 1979، والتَحقت أمي بوالدي وأصبح طالباً في كلية الاقتصاد الزراعي في بغداد. لم يكن لهذا الزواج أن يحدث لولا أن فتح النظام السوري المعتقلات خلال حرب تشرين 1973 ونجا والدي بعدة كسورٍ في ظهره من أقبية الرفاق. بعد عمّان وبيروت وبغداد، حاول الاستقرار في القاهرة التي أحبَّ بشدة، لكنّ السادات وقَّعَ اتفاقية السلام مع إسرائيل وعليه تم ترحيل كل البعثيين والقوميين العرب من مصر. أصبحت بغداد موطناً لوالدي، وهو الذي اشترك مع العراقيين من جيله بكياسةٍ وأخلاقٍ اختفتْ معهم، كأنّه تربى بينهم. ولدنا جميعاً في العراق ولم نعلم شيئاً عن الأهل في سوريا، كانوا يتحدثون عنهم باختصارٍ مُريب، وعَرفنا فيما بعد أنهم قلّما تحدثوا عنّا بينهم هم أيضاً على الجهة الأخرى من الحدود.

صورةٌ في منتصف البادية أعلنت بِدءَ الأراضي السورية، كانت لوحةً مرسومةً لحافظ الأسد وأولاده الصبيان؛ «مزرعة فلان وأولاده». تم الالتفات إليَّ في آخر نظرةٍ تحذيرية: «ولا كلمة! إنتي بالذات». كانت هذي الكلمات كلَّ ما تبادلناه خلال عشر ساعاتٍ قضيناها في السيارة الهاربة من بغداد. كان في داخل بناءٍ مُتهالك ستة عناصر بلباسٍ أخضر يبدو أنه اللباس العسكري في البلد، وكان الرجال مذهولين بنا، قالوا إنه لم يأتِ أحدٌ منذ أيام من الحدود العراقية. سألونا إذا ما كانت الحرب قد بدأت، وراقبونا كأننا خرجنا من كهفٍ ما. نحن أيضاً كنا ننظر إليهم بذهول، وكذلك إلى تركيبٍ ما من أنابيب في منتصف الغرفة يتسرب منه الدخان والحرارة: أشار أخي إليها وناداني بصوتٍ أصم «تعي شوفي الصوبيا السورية». الرجل على الكمبيوتر يتوتّر أكثر مع الوقت، يُعلن ممسكاً بجواز مرورنا، الذي هو ورقة عاديةٌ مكبوسٌ عليها صورتنا معاً دون والدي: «في على فلانة وخلود سابا وفلانة أمر اعتقال». دمدمت أمي وهي تتمسّك بأيدينا وأذرُعنا: «ما حدا يقرب على بناتي»، وقالت كأنها تتحدث مع نفسها: «منرجع لعند جمال». كلّنا أردنا وقتها العودة لعند جمال؛ والدي. لم يكن أيٌّ منا يقبل بهكذا هروب، حتى أنا صاحبة الفكرة الاصلية. وبعد ساعاتٍ من المكالمات الهاتفية مع دمشق وباريس وبيروت أجريناها من هاتفٍ عمومي، يختتمها بأن «نعم الأمر صدر لكن لم يُعمَّم»؛ نبدأ بتعلّم الصيغ الجديدة للأجهزة الأمنية الجديدة. 

نصل دمشق ليلاً، لا نرى شيئاً منها سوى باب شرقي، ليلتف بنا السائق إلى «المتحلّق» ونصل إلى جرمانا حيث الأبنية العشوائية المُرصَّعة بالبراميل الحمراء التي اكتشفتُ بعد ذلك أنها خزانات مياه. يستقبلنا منزلٌ صغير، كبيرٌ بكرمه وسعة صدره ولا بد أن أذكرَ الشجاعة الفائقة. ننام لعدة ساعات لنستيقظ على خبر بدء الحرب على العراق. البيت المتواضع لم يكن فيه ستلايت، بل فقط بعض القنوات اللبنانية والسورية التي نقلت في أخبارها صوراً عن قناة الجزيرة التي تصدّرت النقل المباشر للحرب من بغداد من فندق فلسطين. في الصباح ذاته في فرع فلسطين، مع الشيخ المحامي الواسطة الجليلة في مكتب مدير الفرع، الذي كان يهتزُّ من العصبية وهو يصرخ معلناً لنا خيانتنا المزروعة في العائلة اللعينة؛ «أبوكي وعمك»، ويتحدّث عن شرش الحقد والغدر فينا. نجلس خلال المحاكمة الرمزية، التي لا أذكرُ الكثير منها لأننا كنا جميعاً مُسمَّرين عقلاً وحسّاً على شاشة الجزيرة في تلفزيون غرفة العميد. كنا نشير إلى بعضنا حالما يعرف أحدنا مكان الصاروخ والدخان. نعود كل ليلةٍ إلى البيت، ويتفاجأ أهل البيت بعودتنا مع أننا نؤكد عودتنا كل صباح، ويُذكِّروننا أننا «محظوظون» وأننا «نتلقَّى معاملة خمس نجوم». لأشهرٍ تكرَّرت المحاكمة ذاتها من عناصر برُتَب أصغر وبلهجةٍ ثقيلةٍ لم نفهم منها الكثير. تحاول والدتي المساعدة: «هي نفس لهجة عمو علي». نعترض جميعاً، لتردَّ وتحسم الحديث: «هو من المدينة وهدول من الريف». كان لمئات السوريين في العراق العديد من اللهجات، بعضها أصعب وأثقل من غيرها، ونحن تبعنا لهجة والدتي المُحيَّرة. أخذتُ أنا الكثير من اللهجة الفلسطينية بسبب صداقاتي المبكرة مع اللاجئين الفلسطينيين في العراق، وبعض اللهجة العراقية التي لم أتقنها بشكلٍ كامل رغم ولادتي وحياتي في العراق. إلا أنني حالما عبرتُ الحدود المفترضة لم أعد أتحدثُ سوى باللهجة العراقية المُكسَّرة التي أعرف. بدأتُ أستخدمُ كلماتٍ لم أعرف أني أعرفها من قبل باللهجة العراقية، ولم أستطع استجرار إلا القليل من لهجتي السورية القائمة على خليطٍ حوراني فلسطيني لم آخذه من أحدٍ بالتحديد.

كانت الصفقة: اعتقالٌ إداري. كنا نداوم مع العناصر في فرع فلسطين لإكمال التحقيق وأداء «واجباتنا الوطنية» تجاه البلاد كما قال السيد العميد. يتضمن الاعتقال الإداري إقامةً جبريةً في المنزل، الذي أصبحَ مُراقَباً لأربعٍ وعشرين ساعة. كنت أكسر الإقامة الجبرية وأتجوّلُ في الحي المدفون كلما حان موعد المؤتمر الصحفي للصحّاف. في غالب الأيام كان العناصر يسيرون خلفي، وأحياناً يصابون بالملل من الدوائر التي أدورُها حول البيت، ويعودون إلى جانب البناء لمتابعة الصحّاف. كنتُ أضيقُ بتسمُّر الناس أمام التلفزيون كلما ظهر يتحدث عن «العلوج»، ولكن لا مهرب، فدمشق كلّها كانت في البيوت تستمع إلى الصحّاف وهو يتحدث عن انسحاباتٍ تكتيكية وتحركاتٍ عسكرية. كنتُ أمشي وأسمع صوته يتردد صداه في الشوارع الفارغة، وشقفةٌ مني حَزِنت على السوريين الذين كانوا يتمنّون صِدقهُ وانتصاراته. خلال بضعة أيام تمت إبادة القطع العسكرية المختصة: الحرس الجمهوري وفدائيو صدام والقوات العسكرية التي كانت تأتمر تحت قيادة قصي صدام حسين. وزَّعهم جميعاً بقِصَر نظره ونرجسيته الملعونة حول بغداد لحمايته. فوجئتُ بنجاح القوات العراقية ومعهم المتطوعون (منهم سوريون) باستعادة السيطرة على المطار في إعلانٍ عن بِدء عملية برية في بغداد، ولكن تمَّ حرقهم جميعاً ولم يبقَ منهم ما يُدفَن، كما قال واحدٌ من أهالي المتطوعين السوريين لي بعد بضعة أشهر. ببساطةٍ مشبوهة: انتشر خبر وصورة الدبابة الأميركية على أحد جسور بغداد، وغالب العساكر على الحواجز رموا أسلحتهم وبدلاتهم الرثة وذهبوا إلى «البيت»، بعضهم رفض فتمَّ إعدامه ميدانياً، كان من ضمن الذين تمّ إعدامهم كثيرٌ من المتطوعين السوريين الذين لم يُصدّقوا أن من جاؤوا ليحاربوا إلى جانبهم قد رموا أسلحتهم. استمرت المعارك في البصرة ومحافظاتٍ أخرى بعد «سقوط بغداد»، واضطُرَ الجيش البريطاني، الذي كان يقود العمليات العسكرية للتحالف في جنوبي العراق،  لإذاعة بيان السقوط لأيام متواصلة، مع صور من بغداد ومَشاهد إنزال التمثال والنهب والحرق، لإقناع المقاتلين العراقيين حيثُ يقاتل خارج بغداد برمي السلاح. 

سُجِنَ بعض أفراد العائلة ومرض آخرون وانعقدَ لسانُ آخرون. لأكثر من سنتين تمُرَّان كالغمام في ذاكرتي، ورغم وجودنا الواضح والمُسجَّل بكل تفاصيله التافهة الكاذبة والصادقة في أوراق وسجلَّات أجهزة المخابرات، كُنَّا نحاول أن نثبت للدولة السورية حقيقة وجودنا: نُسجل تواريخ ميلادنا، نبدأ سجلاً للعائلة، ونُسجّل شهاداتنا ودراستنا «غير المعترف بها». كُنَّا غالباً نُواجَه بوجوهٍ مُدقِّقةٍ مُستغرِبةٍ من إمكانية وجودنا: «سوريين ولادة بغداد؟!». الوجوه والرقاب كانت تدور في ثوانٍ، في محاولةِ معرفة أيّ نوعٍ من السوريين نحن: هناك «باركودز» واضحة لكل إنسان في هذه البلاد، يدلَّك الباركود مباشرةً إلى «من وين حضرتك»: عائلتك، دينك، مذهبك، وعليه ستُحدَّد مكانتك وطريقة التعامل معك في الدولة والمجتمع. الحدود بين الدولة والمجتمع والمخابرات كلها متداخلة ومتقاطعة بأكثر الطرق غير المُخطَّط لها. كان يسألني الناس في الشارع، في وزارة الصحة، في العيادة، بثقة الواثقين من حقهم بأن يعرفوا: «إنتي من وين: نازحة أو من أخواتنا الفلسطينيين؟».

كنتُ في العراق سوريَّةً، ولا شكَّ أنني أصبحتُ عراقية عندما نزحتُ إلى سوريا. تخرّجتُ وعملت في مستشفيات بغداد، وكان غالب المرضى ينادوني بـ«الدكتورة السورية». استهلكت الدولة السورية العجيبة ثلاث سنين من حياتي كي يتمَّ تسجيلي في دوائرها المهترئة وتعترفَ بي مَجالِسُها الطبية المُعرَّبة، التي جلستُ خلال محاضرات لأساتذتها خريجي جامعات موسكو وهم يُقرّعونني لأني والعياذ بالله تعلّمتُ في جامعةٍ تُدرِّسُ الطب باللغة الإنكليزية. كنَّا أنا وآخرون، أطباء أسنان وأطباء وصيادلة، نجلس لنَعدَّ الأخطاء الطبية الموجودة في منهاج جامعة دمشق، لكن لم يجرؤ أيٌّ منا على حلّ أسئلة المعادلة الطبية إلّا على المنهاج السوري.

فتحتُ عيادتي في ريف دمشق. كانت كل العملية عجيبة كتجربة اجتماعية، وتعلّمتُ أني أسيرة الآن: إن أردت العيش في هذه البلاد يجب أن يكون لك جماعة، وطبعاً مذهب. كي تدخل الاقتصاد السوري وتشتري وتبيع وتعمل، حتى وإن كان في الهوامش الفقيرة، أو ربما خاصةً في الهوامش الفقيرة، عليك أن تكون ابن-ة أحدهم أو لديك عمٌّ أو خالٌ أو شيخٌ أو كنيسةٌ أو جامع… إلخ. عملتُ في منطقةٍ يعيش فيها عددٌ من «الأقليات الديموغرافية». يقول لي صاحب المبنى: «برافو عليكي… رح يجوكي الإسلام والمسيحية، بس الدروز عندهم دكاترتهم وما بيصرفوا مصاري لا تعذبي حالك». أسأل والدتي؛ كيف يعرف مَن هو المسيحي والمسلم والدرزي؟ تسكتُ وتدركُ ربما أنها ووالدي لم يُجهّزانا لهذه الحسابات الاجتماعية، وأننا بطريقةٍ ما متأخرون اجتماعياً بالقياس السوري، ونفتقدُ بديهياتٍ لغوية اجتماعية قد تتسبّب في إقصائنا إلى هوامش أبعدَ من هذه التي نحتلّ.

لم نستطع الانقطاع عما يحدث في العراق، كانت الاعتداءات المذهبية تتوالى في بعض المناطق، والمقاومة للاحتلال بدأت تشتد، خاصةً في غربيّ البلاد، فجاء الرد الأميركي هستيرياً بعنفه في الفلوجة والرمادي، وامتلاْت المعتقلات الجديدة بأجساد مستباحة بأساليب لم نسمع بها من قبل. أصبحت البلاد قاعدةً عسكريةً كاملة، وبالطبع أصبحت البلاد وجهة القاعدة الجديدة لاستهداف القوات الأميركية، ومعها آلاف العراقيين الذين لم يستطيعوا النزوح من جهنم الجديدة. بدأنا نرى صوراً لبعضنا بعضاً، لكنها صورٌ جديدةٌ لنا، لأجساد مُغتصبة ومُستباحة ووجوه تختفي في أكياس سوداء.

بعد أشهر، في شباط (فبراير) 2006، حصل ما لم يُصدِّقه أيٌّ منا. تم تفجير مرقد الإمام العسكري في سامراء، التي وصفتها القنوات الإعلامية بأنها «ذات غالبية سنية». العراق ليس بلاداً يتم فيها تفجير مرقدٍ ديني، لم يكن هناك أي مُخيّلة، مهما كانت عنيفة، يمكن أن تستوعب اعتداءً على مرقدٍ دينيٍّ لأيّ جماعة، فما بالك مرقد الإمام العسكري الذي يزوره السنّة قبل الشيعة. من الصعب وصف ما حدث بعد ذلك، وأشعر أنّه لا حقَّ لي بسرده فأنا لم أكن هناك. انقسمت البلاد والمدن والأحياء والعوائل والأحباء والأصدقاء، وبدأت قوافل المُهجَّرين من بيوتهم بالوصول إلى الأراضي السورية: القرار كان بأن تصبح مناطق بغداد مقسمةً بين الطائفتين. ولأن مناطق بغداد في غالبها مختلطة، فقد تَطلَّبَ الأمر عنفاً هائلاً لدفع الأهالي إلى ترك بيوتهم. تصل أول يوم طلقات رصاص في ظرف، مع ملاحظة: إن أردتَ البقاء عليك تطليق زوجتك السنية أو الشيعية، لن يعطوك الكثير من الوقت بعد ذلك اعتماداً على سمعة المليشيا الطاردة. بدأت قوائم بأسماء «البعثيين» و«المستفيدين» و«المجتثين» بالظهور على جدران البيوت والوزارات والجامعات والمدارس والجوامع، وبدأت الأسلحة والقنابل تُباع في الشوارع؛ يصرخ المنادي: «برّد قلبك»ريح قلبك وخذ بثأرك وهو يبيع «رُمَّانات» وقنابل يدوية. 

في عيادتي الصغيرة بدأ الأصدقاء بالوصول، بشعر شائبٍ ووجوهٍ قاتمة وأخبارٍ وقصصٍ لا تُصدَّق. بدأ اللاجئون بالوصول إلى منطقتي وسمعوا من جيراني أن هناك طبيبة عراقية في البناء. يصل ح. صديق أيام الجامعة، نركب السرفيس للوصول للعيادة، لم يكن نفسَهُ وحاولتُ أن أتفهَّمَ أنه حدث الكثير. يغرق في عرقه وتصيبه حالة رعب قاسية، أوقف السرفيس وننزل في منتصف الأوتوستراد. أسنده بذراعي، يتهالك على ركبتيه: «أني آسف… مدا أكدر»… «لازم ألزم روحي بس لما أسمع أحد يحجي سوري أتخيل رح يفجر روحه». أُحملق فيه: «ليش؟!»، يحملق فيّ هو أيضاً ويقول متعجباً: «لما صار انفجار البنزين خانة اللي جنت بيها سمعنا الإرهابي صاح: أشهد أن لا إله إلا الله بالسوري». شرح لي ح. أنهم أصبحوا في بغداد ينبطحون أرضاً كلما سمعوا رجلاً يتحدث باللهجة السورية. 

غالب مرضاي كانوا عراقيين، وكان لديَّ بعض المرضى السوريين الذين كانوا ينادونني بالدكتورة العراقية. أجهزة الأمن وعناصرها الذين واظبوا على زيارة المنطقة «المستضيفة للّاجئيين» واستحصال مبالغ مالية أسماها العراقيون بـ«الكروة»مايطلق على أجرة النقل التي يحصلها سائق فان النقل من اللاجئين العراقيين الذين فتحوا محلات ومطاعم في المنطقة، كانوا يدخلون على العيادة كل أسبوع بالطلب نفسه: «ما رح تكارمينا؟»، أردُّ بأني طبيبة سورية ومسجلة في وزارة الصحة، لا يقتنع العناصر وينطلقون لسؤال الجيران: يقول له جار «أهلها من عنا، أبوها حوراني»؛ يقول الجار الثاني «هي خريجة جامعة بغداد حتى معلقة الشهادة تبعها على الحيط»؛ يقول الثالث العراقي المُستأجِر للمحل في البناية «هي أصلها من عدكم، بس عراقية حتى لو شقرا». يقول الضابط: حيرتينا دكتورة! وهو يُراجع هويتي السورية للمرة الخمسين، أجيبه في نفسي: welcome to the club.

يزورني رجلٌ كبيرٌ في السن وزوجته، يأخذني جانباً بعد أن حاولت سؤالها عمّا يؤلمها ويقول لي: إن لسانها معقود واعتذَرْ، نعم اعتذرَ باكياً قائلاً إنه فهمَ أن أسنانها تؤلمها ولا بد بعد أن ظهر انتفاخٌ كبير في وجهها. أحاول أن أفهم منها ما أستطيع لكن عيناها كانتا فارغتين، لا شيء. بعد عدة زيارات تحسَّنَ وضع الأسنان لكن هي كما هي، أسألها: «بيوجع هون؟»؛ لا جواب. قِستُ لها ضغطها وكتبتُ لها عدة تحاليل وتحدثتُ مع زوجها عنها، وهي هناك جالسةٌ غارقةٌ في مكانٍ لا نراه. قال لي في إحدى الزيارات أنهم كانوا يسكنون العامرية، وعندما بدأت أحداث التهجير أصروا على البقاء في بيتهم الذي ورثوه عن أهلهم: «إحنا ولاد المنطقة دكتورة ترا». يقول إنه عاد مساءً هو وزوجته إلى المنزل ليجدوا رؤوس أولادها الأربعة مُعلَّقةً على شجرة حديقة المنزل. انهارت الأم ولم يخرج منها أي صوت، واتصل الأب بإخوته وأولادهم لمساعدتهم بما يستطيعون، ليموت اثنان من أولاد أخيه وهم يحاولون إنزال الرؤوس المجزوزة من على الشجرة، إذ كان القتلة قد فخخوا الشجرة ليمنعوا دفن الرؤوس ويضمنوا عدم راحة الأرواح المذبوحة وتلك التي بقيت. انتشرت قصصٌ للذبح السني والشيعي المُبتكَر، ليُسِّببَ أكبر قدرٍ من الصدمة ويُعذِّبَ من ينجو منه إلى الأبد. 

يعود عناصر الأمن في أسبوعٍ آخر ويبدأون السؤال عن «بنات»، أحاولُ الاستفسار أكثر، يتبادلون النظرات الخبيثة، ويجيب أحدهم: «عندك تلفون وحدة من المعرصات؟»…

أتمشى مع صديقة الجامعة العراقية في الشعلان، تسألني ببساطة: «تعتقدين يصير هنا يَمكُّم مثل عدنا»، أسارعُ بإلاجابة: «الجماعة جاهزين». احتلَّني خوفٌ غامضٌ منذ قدومي إلى سوريا: لم أستطع فهمَ التقسيمات الديموغرافية السورية خارج صورة العُنف القائم، تقول الصديقة: «بس إنتوا المسيحيين عندكم حقوق إهنا مو؟». تذكَّرتُ تعليقها في 2015 عندما صرخَ في وجهي أحد الضباط عند احتجازي: «شو بدكم أكتر من هيك، كنيسة وبتروحوا وبيرة وبتشربوا؟». تقريباً، الجملة نفسها كرَّرَها أحد مقاتلي المعارضة في وجهي في حلب وهو يحاول أن يفهم «ليش وحدة متلك بتصير معارضة». هذه العقود الأهلية بين الدولة والمِلَل السورية لم تكن مؤشر حربٍ قادمة، بل كانت حرباً قائمةً كلَّ يوم وفي كلِّ مكان: لا مواطن أو مواطنة في هذه البلاد… هناك سنّة ومسيحيون وعلويون ودروز وإسماعيليون. هناك أكراد وعرب. هناك شوام وحلبيون وحماصنة وديريون. هذه هي السياسة، الوجود الإنساني الممكن الوحيد في هذه البلاد: انتماءات أهلية ودينية تعتاش على تاريخ وقصص وخرافات ومصالح نخبها الفاسدة بفتات طاولات الحكم. خرافات البيض عنّا: قبائل وطوائف تتقاتل منذ فجر التاريخ. هذه سياستنا التي نعرف، هذه «أحزابنا المرخصة» الوحيدة التي تستطيع دولة الأسد أن تتعايش وتتفاهم معها. طوائفنا وإثنياتنا هي هوياتنا الوحيدة المسموحة ولا نكون خارجها: دون سياسة لا وجود للإنسان الفرد العاقل.