أن تحرِّك دميةً واكبت طفولةَ عشرات الأجيال بين مجتمع البشر، فتمنحها روحاً ولساناً، وتتركها تواجه حقيقةَ ذاتِها وحقيقة الناس، ذلك بلا شك قد يبني دراما شيّقة، يمكن أن تكون مليئة بالحركة والغرابة أحياناً، ويمكن أن تخلق حوارات ممتعة مع البشر الطبيعيين. وهو ما حاول فعله فيلم باربي، صاحب أعلى الإيرادات في مجموعة هائلة من دور السينما في العالم.

الفيلم الذي يحصد ملايين الدولارات بشكل لافت خلال الأيام الماضية، يحاول جاهداً أن يخلق مَنجاةً ما للعبة باربي الشهيرة من انتهاء الصلاّحيّة، وأن يُعيد تسويقها بشكل مُواكب لقضايا الراهن، بل ويمنحها حقَّ طرح سؤال هويّاتي، يمكنها من خلاله أن تراجع نفسها وقيمتها كلُعبة، فترفض بعض ما كانته، وتصرُّ على ما أصبحته، بمعنى رفض أن تكون مجرّد مقياس كلاسيكي للجمال، وتصبح أمثولة للتنوّع، فتكسر جمودها وتنطلق إلى الحياة. قيم التنوّع  والحداثة تلك تظهر واسعةً بطريقة ما على مقاس فيلم تجاري سريع الاستهلاك كـ باربي.

يحاول الفيلم البحث في كل ما يتعلّق بذلك الرابط بين باربي والمرأة المعاصرة، بالمكتسبات التي حصلت عليها، وبالنواقص التي ما زالت تثور لأخذها من يد المجتمعات الذكورية التقليدية. تحاول الدمية أن ترمي قيمة جمال الوجه والجسد خلف ظهرها، وتتجه بحثاً عن هويتها كباربي جديدة، تتنوَّع مقاييس الجمال فيها، وتحمل القيم الحضارية. ذاك ما يُحمِّلُ الفيلم مشاهدَ خطابيّة جامدة، متكلّفة في عرض القضيّة، غير قادرة نهائياً على الظهور بمظهر مادة فنيّة تناقش قضيّة إنسانية عادلة. نحن أمام فيلم يفيض بقيم الاستهلاك السريع، حيث يبيع ملايين البطاقات اليوم، ويخرج من ذاكرة السينما غداً، إلا في حالة إعادة إنتاجه بمواسم وأشكال جديدة، تضمن استمراره كصفقة رابحة. مصطلح التجاريّة هنا ليست مصطلحاً ينتقص من قيمة أي فيلم، إنما هو فقط يصنّف الفيلم . نقديّاً على الأقل.

كان يمكن أن يمرّ باربي بعيداً عن إعطائه تلك القيمة الاعتبارية النقدية والتحليليّة التي يحوزها اليوم في وسائل الإعلام العالميّة، وإبقاء أصدائه مرتبطةً بأرقام قياسية في المبيعات يمكن أن يحققها. لكنّه أصرَّ على أن يُحمّل قصته وحواراته قضّيّة عامّة جدليّة، هذا الإصرار الذي ظهر أيضاً تجارياً بشكل من الأشكال؛ حين ننظر إلى الفيلم على أنه يريد لنفسه أن يحتل الترند بكافة المجالات، ترند الفيلم التجاري، وتريند القضايا العامّة، وتريند الجمال والموضة، وغير ذلك.

في الفيلم نساءٌ يتلون خُطباً مباشرةً عن معاناة الأم العاملة في المجتمع اليوم، وعن المراكز المتقدّمة التي تحوزها النساء في مختلف المجالات في عصرنا. وهنا يجري التركيز على شخصيات باربي القديمة التي واكبت دور النساء في صناعة المستقبل، فباربي منذ عقود تظهر بشكلها كطبيبة، وأستاذة، ورائدة فضاء، ولم يخلُ هذا التركيز من مبالغةٍ في إسباغ دور نسوي على تاريخ الدمية ونُسَخها تلك، مصوِّرة إياها كصاحبة دور نسوي ريادي في عالم تحكمه النساء. تلك الجمل المكررة في سيناريو مرتبك يحاول الحفاظ على حبكة ممتعة، مقابل تحميلها جملاً وخطابات يجد الجمهور نفسه في حيرة أمامها أحياناً. أيضحك أم لا؟ بناءً على ذلك ظهر الفيلم بصورة فيلم نسوي ثوري، وهو ما أصرّت مخرجته غريتا غيرويغ عليه ودافعت عنه بشكل مباشر، مصنفةً إياه ضمن قائمة أفلامها التي تحوز القضايا النسويّة مكاناً بارزاً فيها عادة مثل ليدي بيرد، ونساء صغيرات، الفيلمان اللذان حققت من خلالهما غيرويغ شهرتها ككاتبة ومخرجة قادرة على المنافسة.

حالة التعامل مع فيلم باربي كعمل حامل لقضايا الحركة النسويّة، ينطق بلسان المرأة في مناهضة البطريركية الذكورية، تشبه إلى درجة بعيدة حالة التعامل معه على المقلب الآخر على أنه دعوة سينمائيّة للسيطرة النسويّة، ومناهضة قيم العائلة، واستعداء الرجال والتصغير من دروهم، بل وإظهارهم محدودي التفكير، متعطّشين للسلطة والمال. كلا النظرتين تحملان مبالغة في إعطاء الفيلم قيمة معنويّة تحريضية فكرياً. أما أن يترك الفيلم أثراً بصرياً مرتبطاً بألوانه وأزيائه، ويظهر بوصفه صفقة تجارية ناجحة فائضة الأرباح، فذاك هو صلب ما يحمله. باربي هو قاعات ممتلئة بالمراهقين، وبالضحك والبوشار، هو ألبسة زهريّة تملأ المولات التجارية وقطع حلوى ذات طبقات كريمة وسُكَّر كثيف، هو حالة استهلاكية لها جمهور عريض يحب هذا النوع من الأفلام ويتابعه بحماس، ويلبس ألبسته متأثراً بالفيلم شكلياً، بعيداً عن التأثر بالرسالة.

أن يتحول الفيلم إلى ترند على السوشل ميديا، فإنما ذلك جزءٌ من خطّته التسويقية، التي تُنفَق لأجلها أموال طائلة قد تصل إلى 150 مليون دولار، وهو مبلغٌ يكافئ أو يزيد عن تكلفة الفيلم إنتاجياً، والتي تصنَّف كتكلفة ضخمة. لذا ففي علم التسويق وصناعة الترند، والقدرة على الاختراق، يمكن الحديث عن الفيلم بتفاصيل ذات جدوى أكبر من الحديث عن المحتوى الهادف لبناء أو هدم قيمة اجتماعية أو إنسانية.

في التسويق ذهب الفيلم بعيداً إلى تحقيق أكبر صالات يمكن منها ضخ أرباح هائلة، ألوانه وجودة إنتاجه ومؤثّراته التجاريّة جذبت الملايين إليه، أرقام مبيعاته التي تخطت 300 مليون دولار خلال الأيام العشرة الأولى لإنتاجه، وُصِفت بأنها حالة استثنائية في سوق السينما العالمية، من خلال سرعة هائلة في جني الأرباح. الفيلم كصفقة لمنتجيه (شركة ماتيل مالكة علامة باربي التجارية، و وورنر برازر عملاق السينما المتنامي ذو المئة عام)، كان صفقة ذكيّة تجارياً أيضاً بحضورها في أسواق من الصعب إرضاؤها، فالسوق الصينية التي من عادتها منع أو عرقلة الكثير من الإنتاجات الأميركية، فتحت صالاتها لباربي ببساطة، على الرغم من أن الفيلم يتضمَّن ما لا يعجب العقلية الرقابية الصينية فنيّاً، لكنه استطاع كسب قلب هذه العقلية، من خلال الخريطة التي وَرَدَت في الفيلم، والتي تُظهر القسم المتنازع عليه من بحر الصين الجنوبي تابعاً للصين؛ البلد الذي حقق فيه الفيلم أعلى مستويات تقييم له، واجتاح آلاف صالات السينما فيه، ليتحوَّل إلى ترند هناك، ويحصد أرباحاً تجاوزت 13 مليون دولار خلال الأيام الأولى لافتتاحه فيها، وهي أرباح نادراً ما تحصل عليها الأفلام الأميركية في شُبّاك التذاكر الصيني.

ما فعله باربي ونال فيه المشروعية في الصين، حتى وسط محاولة إنكار الشركة المنتجة لأي رسالة سياسية من خلال مشهد الخريطة، من غير الممكن رؤيته إلا كواحد من التنازلات الكثيرة التي تحاول الأفلام الهوليودية مراراً  تقديمها لإرضاء الصين والعرض في صالاتها، التنازلات التي في بعض من الأحيان لا تنجح، فكثيرة هي التفاصيل التي يمكن للرقابة الصينية أن تعتبرها مواقع خلل يُمنَع بموجبها الفيلم من العرض، التفاصيل التي عادةً ما لا تصرّح عنها الصين، لكنها كثيراً ما تُعرقل حضور الأفلام التي تتضمن شخصيات من مجتمع الميم، أو تحتوي سيناريوهاتها جدلاً حول القضايا الجندريّة، ومن المفترض أن باربي يتضمن بعضاً من ذلك، على الأقل بعين رقيب كالرقيب الصيني مثلاً.

في الميديا الأميركية اليوم، وعلى صفحات التواصل الاجتماعي بشكل خاص، رأيان تجاه الفيلم: تيارٌ ينتقد بشدّة تقديمَ الرجل والأسرة بشكل هزيل في الفيلم، يتصدّره من يوصَفون بالتوُّجهات اليمينية كبعض الجمهوريين أو رجال الأعمال والمؤثرين كإيلون ماسك، وتيّارٌ يرى الفيلم مناسَبة للطروحات النضاليّة النسويّة، حتى وإن كان على لسان باربي بهذه الطريقة الساذجة. وللتواصل الاجتماعي أن يُصعِّدَ الجدل، ويخلق انقسامات حادّة تتجرّد من التفاصيل وتتجاوز موضوع الفيلم، انقسامات تبحث دائماً عن مناسبة للحضور وخلق الدعاية لحصد المزيد من المكاسب السياسية والاقتصادية على ظهر القضايا، كما يفعل فيلم باربي.