منذ ميلادها، كانت السينما السعودية تواجه مشكلة غضب التيار الإسلامي تجاه الفنون وتحريمها والجِدال الحاد الدائر حولها، حتى أن عدد الأفلام السعودية التي أُنتِجت منذ عام 1975 وحتى عام 2012 هو 255 فيلماً فقط، ما بين أفلام تسجيلية أو قصيرة. عام 2017، أعلنت المملكة رسمياً عن الموافقة على دعم صناعة السينما داخل السعودية، وإصدار تراخيص للراغبين في فتح دور العرض السينمائي داخل السعودية، بعدما كانت تلك التراخيص مسحوبة منذ العام 1979.
في ذلك الجو العام الخانق لصناعة السينما داخل السعودية تجاه الرجال أنفسهم، لم يكن من الممكن توقُّعُ أن تقود النساءُ السينما السعودية، ولكن ذلك ما حدث فعلاً، فالنساء ظللنَ يناورنَ المناخ الخانق متتبّعات شغفهنَّ بالسينما، وقد كانت المخرجة السعودية الأبرز هيفاء المنصور وفيلمها وجدة أبناءً لذلك المخاض الصعب لصناعة السينما في السعودية، ودلّلت المنصور من خلال الاحتفاء العالمي بها وحضورها السينمائي القوي فيما بعد، على ثنائية الكبت\الإبداع. تمتلئ حالة المنصور بالدلالة الرمزية على وضع المرأة في السينما السعودية، فالمشهد الأخير للاحتفاء بها وتكريمها أثناء مهرجان البحر الأحمر السينمائي، سبقه بسنوات مشهدٌ لها وهي تصوِّر فيلمها الأشهر وجدة مختبئة داخل شاحنة. وتُشكِّل المنصور بدايةً فعلية لمسيرة المرأة داخل المملكة في الإخراج السينمائي، حيث كانت هي واجهة السينما السعودية قبل أن تكون تلك السينما في حوزة السلطة، وذلك من خلال حضورها العديد من المهرجانات، ونَيلها عدداً من الجوائز عن أفلامها القصيرة في مهرجانات دبي وأبو ظبي وبيروت ومسقط وترويكا والقاهرة وغيرها من المهرجانات العربية.
وقد قدَّمت المنصور مسيرةً حافلة قادتها في النهاية إلى إخراج الأفلام داخل هوليود؛ ولعل أشهر تلك الأفلام كان فيلم ماري شيللي (2017). ولكن قبل الوصول إلى تلك النقطة، كانت هيفاء من أوائل اللواتي والذين انفتحوا على عرض قضية المرأة داخل المجتمع السعودي بجرأة من خلال فيلمها القصير الأول: من؟ (1997)، والذي يدور حول هوية المرأة وكينونتها من خلال الاستعانة بقصةٍ لقاتل متخفٍّ بلباس امرأة وحجابها. بالإضافة للمنصور، برزت في السينما السعودية أيضاً أسماءٌ مثل هناء العمير، هند الفهاد، عهد كامل، شهد أمين، ميلا الزهراني، هناء الفارسي، فاطمة البنوي، ريم عبد الله، إلهام علي، مريم الغامدي. وهنَّ سيِّداتٌ، يمكن اعتبار أن ما يقدِّمنَه سينما نسوية خاصة بالمرأة، تُفتِّش عن المكانة التي تحتلُّها المرأة السعودية في نظام القهر الأبوي السعودي.
لكن الآن، تحرّكت أوضاع المرأة في المجتمع السعودي قليلاً، وفي مجال السينما كثيراً، حتى أصبح المشهد السينمائي العام في السعودية ذا حضور نسائي طاغٍ في العدد، وكذلك فيما يخص الجودة الفنية في أعمالهنّ، وشكَّلَ ذلك مساحة خصبة لمساعي السلطة في استثمار هذا المشهد لصالحها، ولصالح «غسيل» ولي العهد، كما ستورِدُ هذه المقالة لاحقاً.
أحلام تبحث عن مساحة
حين نتحدّث عن «شغفٍ» حقيقي بالسينما، متواجد لدى السعوديات بالتحديد، فإننا لا نُطلق جُزافاً أحكاماً عاطفية، أو نخضع لتهديد التصويب السياسي، فقد استثمرت رؤية 2030 في ذلك الشغف لدى النساء اللواتي كنَّ هدفاً للقمع ولم يحصلنَ إلا على جزء من حقوقهنَّ في وقت متأخر جداً، ومنذ فترة قريبة. ولا يوجد أدلُّ على ذلك من حالة السينما في المملكة العربية السعودية، التي يمكن رؤية أن تطورها المتسارع المتنامي يحدث بفضل همّة صانعات السينما الإناث.
تقدِّم جامعة «عفت» مثالاً مبكراً على أحلام السعوديات في السينما، وهي جامعة نسائية في جدة، تقدِّم برنامجاً للحصول على درجة علمية في الفنون السينمائية تخرّجت فيه أكثر من 150 امرأة منذ العام 2013. كانت خياراتهنّ في السابق بعد التخرُّج منحصرة في متابعة التعليم العالي في الخارج أو العمل في مجال الإعلان. ولكن الآن تتّسعُ الفرص لهنّ؛ فالجامعة تشارك حالياً مع كيانات حكومية لدعم وتشجيع صناعة الأفلام في الدولة من خلال توفير التدريب الداخلي والخارجي، وجلب المدرِّبين من جميع أنحاء العالم لنقل مهارات الإنتاج الإعلامي.
في بحث مشترك بين المركز الثقافي البريطاني ووزارة الثقافة في السعودية، تُبين لنا الأرقام المستخلصة كيف أن النساء هنَّ الأكثر رسالية وشغفاً في صناعة السينما داخل المملكة.
على الرغم ممّا يَعرضُه البحث من أن 34 بالمئة من العاملين-ات في مجال الأفلام في السعودية هنّ من النساء، وأغلبهنَّ في مجال الرسوم المتحركة والجرافيك لأن هذه الوظائف يمكن أن تؤدّى من المنزل، ما يجعلها ملائمة لنمط الحياة في مكان البحث، إلا أن دوافع النساء في العمل تختلف عن دوافع نظرائهنّ من الرجال، حيث أن 51 بالمئة من النساء يعملنَ في قطّاع الأفلام من منطلق شغفهنَّ بالقصّ البصري، وعرض مشكلاتهن وقصصهن، و2 بالمئة فقط من النساء يعملنَ بدافع العوائد المادية من المهنة. بالمقابل، 36 بالمئة من الرجال الذين يعملون في القطّاع السينمائي بدافع الشغف، و16 بالمئة يعملون من أجل المال. وترتفع نسبة العاملات من النساء في السينما السعودية بدافع تعريف العالم بالمملكة من خلال الأفلام، فتأتي النسبة 29 بالمئة من النساء مقابل 23 بالمئة من الرجال.
وبعيداً عن صنّاع وصانعات السينما، في تقرير الحالة الثقافية لوزارة الثقافة عام 2019، يظهر أن أكبر نسبة من روّاد دور السينما في المملكة (ذهبوا مرة واحدة على الأقل خلال العام) هنَّ من النساء، حيث كانت النسبة 34 بالمئة من النساء مقابل 21.3 بالمئة من الرجال.
احتفاء وابتعاث
في العام 2022، لاقى فيلما بلوغ وقوارير احتفاءاً كبيراً في مهرجانات السينما العربية في المملكة وخارجها، ويُبرِز هذان الفيلمان الدور الذي تلعبه المرأة في مشروع السينما السعودية، فهما يركّزان على قضايا نسائية، تنفّذها وراء الكاميرا أغلبية نسائية. أولهما يرصد خمس قصص لخمس مخرجات هنّ: سارة مسفر، وهند الفهاد، ونور الأمير، وجواهر العامري، وفاطمة البنوي، وفي قوارير نجد خمس مخرجات هنَّ: رغيد النهدي، نورة المولد، ربى خفاجي، فاطمة الحازمي، نور الأمير، ويناقش الفيلم قصصاً نسائية بالكامل أيضاً؛ تتحسس موقع المرأة في المجتمع السعودي الحديث والتحديات التي تواجهها، مثل الزواج بالإكراه ووضع الأرملة والاعتداء الجنسي.
ينعكس ذلك الاحتفاء بالمرأة في السينما السعودية في الكثير من المظاهر، حتى أن مهرجان البحر الأحمر السينمائي في دورته الأولى بدا مبالِغاً في احتفاءه وتركيزه على الدور الذي تلعبه المرأة بالتحديد، وكأنه يطلب الغفران على تاريخ من القهر والتهميش، ويتستَّر على واقع معقّد أكثر ممّا يظهر على أنه إصلاحات لوضع المرأة، فقدم المهرجان في دورته الأولى فيلماً سينمائياً يروي حكاية 6 مخرجات سعوديات، وخلال مشاركته في مهرجانات كان والبندقية السينمائييَن (2022)، أقام ندوتين للاحتفال بالمرأة في السينما ضمن نشاط الجناح السعودي بالمهرجانين، وحتى الآن، حين تزور الموقع الرسمي للمهرجان، تجد ركناً خاصاً للاحتفاء بأيقونات السينما العربية وإرثهنَّ الفني، دون أن يكون له نظير من الرجال.
وتعكس تصريحات الرئيس التنفيذي لهيئة الأفلام، عبد الله آل عياف، نهج التعامل مع النساء في السينما السعودية، حيث قال: «إن المرأة السعودية هي لاعبٌ أساسي في مجال صناعتنا السينمائية، بفضل الأعمال الجريئة التي قدّمتها، ولها مطلق الحرية في تقديم قضاياها».
بالتوازي مع التركيز على أفلام المرأة في مهرجاناتها، تنشط حركة أخرى تُنمّي ذلك الشغف السينمائي للمرأة وتستثمره في تقوية الصناعة السينمائية في السعودية، هي حركة الابتعاث. ففي تقرير الحالة الثقافية للمملكة عام 2021 لبرنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي في التخصصات ذات العلاقة بالثقافة والفنون، نجد أن الأرقام تعكس اهتماماً متزايداً بالمرأة السعودية في مجال الابتعاث الخارجي، فعلى الرغم من تفوق نسبة الذكور المتقدمين للابتعاث عن مثيلاتهم من الإناث، إلا أن أعداد المقبولين ضمن البرنامج تكشف عن ارتفاع نسبة النساء المقبولات للابتعاث، فبين 464 مُبتَعَث للخارج، 74 منهم في صناعة الأفلام، تتوزع النسبة بين 305 أنثى مقابل 159 ذكراً.
أيضاً تستهدف البرامج الابتعاثية البرامج الفئوية المتعلقة بالمرأة، فقد قدَّمت هيئة الأفلام بعثات للدراسة في الخارج مثل بعثة لمدة أربعة أشهر إلى مدرسة لافيميس النسوية الفرنسية للفنون، التابعة لجامعة باريس، وتركّزت البعثة حول صناعة الأفلام في كافة وظائفها، من الإخراج إلى التمثيل إلى الجرافيك، وعشرة من طلابها كنَّ من السيدات، برزت من بينهن فيما بعد المخرجة الشابة رزان الصغير، التي أنتجت عقب عودتها فيلمي نفس وغرفة الذكريات.
وفتحت المملكة ذراعيها لبناتها اللواتي درسنَ ونمّينَ إمكانتهنَّ السينمائية في الخارج، مثل شهد أمين، والتي يُنظر لها كخليفة لهيفاء المنصور، حيث تحمل على عاتقها الأحلام الخاصة بمستقبل السينما السعودية، فهي من الجيل الذي تعلّم السينما خارج السعودية في معهد متروبوليتان الفني في لندن، ودرست كتابة السيناريو في نيويورك.
في دائرة السلطة
أُثيرت الاتهامات المتعلِّقة بالغسيل الجندري لنظام بن سلمان على نطاق عالمي، وظهرت حملات واعية لذلك في الأحداث الكبرى التي نظمتها المملكة على مدار السنوات الماضية، مثل رالي داكار وقمة العشرين، حيث قاطع عدد من المنظمات الدولية تلك الأحداث مندداً بتهم وجرائم المملكة التي ترتكبها ضد النساء.
بعد مشاهدة سينما النساء في المملكة، قد يتبادر إلى ذهن المشاهد أنها سينما في دوائر السلطة، استُخدِمت من أجل «الغسيل الجندري» لنظام المملكة، وهذا ما سنحاول أن نقف عليه، فليست الأمور كما يدعي عبد الله آل عياف؛ بأن للمرأة الحرية في مناقشة كل قضاياها، فهناك كثير من القضايا التي لم تقف عليها السينما السعودية بعد.
يبدو فيلم المرشحة المثالية لهيفاء المنصور، والذي ترشّح لجائزة الأسد الذهبي في مهرجان البندقية، ورشَّحته السعودية كأفضل فيلم أجنبي في جائزة الأوسكار، نموذجاً لتساوق سردية السينما النسائية مع سردية النظام المتخيَّلة عن إصلاحاته في قضايا المرأة، حيث يتحدّث عن تمكين المرأة السعودية في المجتمع في عهد بن سلمان. وتنصرف الكثير من قضايا الأفلام النسائية في السعودية إلى نقد البُنى الاجتماعية المسيطرة في المجتمع، متجاهلة نقد مؤسسات الحكم داخل السعودية، فهي تصطدم مع المجتمع بالقدر الذي تصطدم توجهات السلطة معه في تقاليده الراسخة وموقفه من المرأة السعودية، ولكن، تختفي المرأة السعودية في سينماها كفاعل سياسي أو كمواطن مُناهِض للسلطة. ولا حتى في سينما غير نسائية يمكن أن تظهر قضايا للمجتمع يشتبك فيها مع السلطة من الأساس، ولكن الأفلام النسائية بالتحديد تطرح إشكالية اتهامات «الغسيل الجندري» الموجَّهة للسلطة.
في 2016، ناقشت مضاوي الرشيد في كتابها الدولة الأكثر ذكورية: المرأة بين السياسة والدين في السعودية بشكل موسَّع كيف أن النساء تحت رعاية الدولة وقوميتها الدينية أصبحنَ رهينة المشاريع السياسية التي يتوجَّب عليهنَّ فيها أن يُمثِلنَّ توقعات متناقضة. حاولت مضاوي فهم وضع المرأة السعودية في المجتمع الذي كان ولا زال منغلقاً، تقول مضاوي في كتابها: «كما لم تنشأ قومية علمانية مناهضة للاستعمار في المملكة العربية السعودية، كانت القومية الدينية هي الإطار الذي حدد دور النساء في المجتمع، وقد تم الاستيلاء على النساء ليصبحوا جزءًا أساسيًا من التنمية والهوية الوطنية، وفي هذا الصدد، كان لدى القومية، سواء كانت علمانية أو دينية، نتائج مماثلة، بشكل رئيسي في تقييم العلاقة بين الجنسين بوصفها وظيفة المشاريع السياسية الكبرى، في حين طمحت القومية العلمانية في خطابها إلى حداثة تكون فيها النساء هي المركزية، شيَّدت القومية الدينية النساء كأيقونات تدلُّ على أصالة الأمة وامتثالها لشريعة الله، في كلتا الحالتين، تم تحويل النساء إلى رموز، يمثلنَّ أي شيء إلا أنفسهنَّ، وفي هذا الصدد ربّما تكون الحدود بين القومية العلمانية والدينية قد أصبحت ضبابية، لأن كليهما استولى على قضية المرأة ليخلق هويات وطنية وجمعية، لكن مع نتائج مختلفة».
تَظهر أهمية هذا التحليل لمضاوي الرشيد في سياق مقارنتها بين حال المرأة في المملكة وحالها في الدول العلمانية العربية. ولكن حين كتبت مضاوي تحليلها ربما لم تكن تعلم أنها تقارن بين وضعين للمرأة، ولكن في المملكة ذاتها، منذ صعود بن سلمان ورؤاه ومشاريعه إلى السلطة. فبين العام 2016 والعام 2023 حدثت الكثير من المتغيرات المتسارعة التي تجعلنا نشكُّ في كون الإناث في المملكة مُستَخدَمات في عملية «غسيل جندري» لانتهاكات ولي العهد على مستوى قمع الحريات السياسية والهوياتية، والذي يطال نساء أيضاً في سياقات أخرى، فبينما تحتفي المملكة بهيفاء المنصور مثلاً، تقبع الدكتورة لينا الشريف في سجن الحائر، ويُحكَم على الدكتورة سلمى الشهاب بالسجن 27 عاماً، وحُكِم على نورة القحطاني بالسجن 45 عاماً بسبب تغريدات لها على تويتر تناهض نظام الحكم، وكلهنَّ تمت إدانتهنّ تحت قانون الجرائم الإلكترونية الذي نَسب إليهنَّ تهماً تتعلق بالإرهاب، ولا نذكرهنَّ هنا من باب الإحصاء، ولكن من باب فتح المجال للاطلاع أكثر على الجرائم التي تُرتكب ضد النساء الناشطات في السياسة في عهد بن سلمان.
سَعَت المملكة لتحسين صورتها لدى الغرب بعدة إصلاحات خففت القيود المفروضة على النساء، لكن كافة هذه الخطوات لا تبلغُ المعيار الأدنى للمساواة الجندرية، ومليئة بالثغرات. ولنذهب إلى نظام البعثات الخارجية الذي يعتبر صمّام مشروع رؤية 2030، ولنتخيَّل فتاةً شغُفت بالسينما، وقدمت للابتعاث، وبموجب القانون يحقُّ لها أن تتقدم للحصول على جواز والدراسة في الخارج. ولكن، تقف جريمة «العقوق» في القانون السعودي في وجه تلك الأحلام، حيث يمكن لولي أمر المرأة من أب أو زوج أو أخ أو ابن، بموجب القانون أيضاً، أن يرفع قضيه عقوق أو تَغيُّب ضدها، وتصبح تلك الفتاة مُدانة أمام القانون السعودي.