المقطع الأول: ذاك العام في تلك المدينة
في العشرين من تموز (يوليو) من عام 2013 غُيّبَ فراس الحاج صالح على يد تنظيم داعش في الرقة. وبعدها بيومين، غُيِّبَ إبراهيم الغازي، ليلحقهم الأب باولو دالوليو بعدها بأسبوع، أي في التاسع والعشرين من تموز (يوليو). كان دالوليو قد وصل للتو إلى الرقة، واستُقبِلَ في شوارعها استقبالاً حاشداً، قبل أن يتوجّه بنفسه إلى مقرّ داعش مُعتقِداً أنه قادرٌ على إقناع المُغيِّبين بأن يُطلقوا سراح فراس وإبراهيم ومحتجزين آخرين. وقبل محاولة الأب باولو وبعدها، حاول ناشطو الرقة مواجهة أمنيي داعش بخصوص المخطوفين، مواجهة وُوْجَهت بإنكارٍ مسرحي هزيل حسب شهادة حازم الحسين عن مسلسل الخطف في الرقة.
تسارعت مدحلة التغييب بعدها: محمد نور المطر في 13 آب (أغسطس)؛ عبد الإله الحسين في 18 تشرين الأول (أكتوبر)؛ والدكتور إسماعيل الحامض في 2 تشرين الثاني (نوفمبر)، وغيرهم كثيرون بعدها. وتحوّلَ التغييب لاحقاً إلى صناعة رهيبة قدّمتها داعش في عربدتها الإعلامية المتوحشة خلال الأعوام اللاحقة كمزيج من أفلام الرعب وألعاب الفيديو. وقبل فراس وإبراهيم وباولو، كان المحامي عبدالله الخليل قد خُطف أواسط أيار (مايو)، خَطفٌ فُهِمَ على أنه اعتقال مدبّر من قِبل النظام لحظتها. لا يُفهَم التغييب على أنه تغييب في لحظته، والفارق الزمني بين حصوله وفهمه على أنه كذلك، وليس احتجازاً أو «اعتقالاً»، هو، بحق، المرحلة الأولى من التعذيب لدى أهالي المُغيَّبين ومحبيهم.
وفي مساء الثامن عشر من آب 2013، شنَّ النظام هجوماً صاروخياً على وسط مدينة الرقة أودى بحياة 20 مدنياً ومدنيّة، عُرفت هويات الضحايا إلا واحداً، دُفنت جثّته الممزقة في أطراف مقبرة تل البيعة وُوُثِّقَ قبره برقم قُيِّدَ في سجلات الموثّقين الحقوقيين في المدينة كـ«مجهول: بائع جبس». يتجوَّل بائعو الجبس، وجزءٌ كبير منهم من أرياف إدلب، في مدن وبلدات مختلفة خلال الصيف بشاحناتهم وخيامهم المألوفة التي يُكوِّمون بضاعتهم الخضراء تحتها. ذلك البائع كان وحيداً، ولم يوجد معه أو لم يسلَم من آثار القصف ما يُثبت هويته أو يُوصِلُ إلى ذويه، ودُفِنَ مجهولاً، دون أن نعلم إلى اليوم هل عَرفَ أهله بمصيره بعدئذٍ بطريقةٍ ما، أم يعتقدون أنه معتقل عند النظام، أم خُطف على يد قطّاع طرق، أم أُصيب في حادث سير.
وفي نهاية تشرين الثاني (نوفمبر) من العام نفسه، دخل الزوجان الشابان م. وش. إلى تركيا قادمَين من الرقة، وبعد إقامة بين مدينتَي أورفة واسطنبول دامت نحو عامٍ ونيف توجّها، برفقة أصدقائهما أ. وع. إلى ليبيا بغرض ركوب البحر إلى إيطاليا. اختفى الأربعة بعد وصولهم إلى ليبيا بأسبوع. لا هاتف يُجيب، ولا مسنجر فيسبوك يُضيء… وإلى اليوم. لا يعلم ذووهم إن كانوا قد ركبوا البحر وغرقوا، أم خُطِفوا على الشواطئ على يد العصابات التي تستهدف راكبي البحر طمعاً بما قد يحملونه من بقايا زوّادة، والتي كثيراً ما تكون متواطئة مع مهرّبين حقيقيين أو مزيفين.
عام 2015 سمع العالم عن الهوتة، التجويف الجيولوجي الواقع شمال الرقة، والذي استخدمته داعش مكاناً لإلقاء رهائنَ عندها من عرب وكُرد، أحياءَ أحياناً وجثثاً أحياناً أخرى. سيعرف العالم أيضاً أن داعش كانت قد ورثت استخدام ذلك التجويف من جبهة النصرة، وأن صيف عام 2013 بالذات، وما بعده، شهد إسرافاً داعشياً في استخدام التجويف الرهيب كأداة تغييب، كسلاح ترهيب.
خلال ذلك، كان على ناشطي الرقة، وعلى الأهالي الذين يسعونَ إلى حدٍ أدنى من الحياة الممكنة، أن «يختفوا» كي لا يُغيَّبوا، أن «يختفوا» لأنهم شهدوا التغييب. كان على الأصوات والوجوه والأسماء والكلمات أن تختبئ في بيوتها وفي أضيق أشكال الحياة الخاصة، أو أن تخرج من مدينةٍ اختفت بدورها لاحقاً تحت وطأة «عاصمة داعش».
كان ذلك هو عام 2013 الرِّقّي. بقولٍ أدق: كان ذلك هو الفصل الرِّقّي من عام 2013 السوري.
المقطع الثاني: 2013، عام التغييب
لم يبدأ التغييب القسري في سوريا عام 2013، إذ سبق وأن مارسه النظام بحق ناشطين إسلاميين وأوساطهم الاجتماعية، في حلب وحماة خصوصاً، خلال مطلع الثمانينيات من القرن الماضي. ومنذ الأسابيع الأولى للثورة عاد النظام لممارسة التغييب بشكل شره ومُعمّم، مُحوّلاً أجهزته العنفية من أدوات مراقبة وقمع واعتقال إلى ماكينات تغييب، يقوم حولها اقتصاد سياسي متكامل قائم على الابتزاز والترهيب لأهالي المُغيَّبين الراغبين بكشف مصير أبنائهم، أو استعادة ثبوتياتهم أو جثامينهم، أو التحقُّق من وفاتهم. وتعمل هذه الماكينة على درجات مختلفة من «المهنية» و«التقنية»، ففيها من المنهجية والبرود البيروقراطي ممّا شهدناه في صور قيصر، وفيها أيضاً من البهيمية المنفلتة من نمط ما شهدناه مع أمجد يوسف، «بطل» مجزرة التضامن.
كذلك، لم تبدأ جهات أخرى مختلفة عن النظام بـ«التجويل» فقط في 2013. بدأت عمليات الخطف قبل ذلك؛ منها ما كان لأسباب سياسية، أو انتقامات شخصية، أو بقصد السرقة أو لطلب الفدية، وقد كان لقصص التجويل أثرٌ اجتماعي كبير في مدينة حلب، خصوصاً منذ نهاية العام 2011، مع خروج مناطق عديدة من محيط المدينة وأجزاء من الطرق المؤدية إليها عن سيطرة النظام.
ما شهده عام 2013 كان تَحوُّلَ التغييب إلى منهجٍ مُتّبع على يد قوى أمر واقع حاضرة في مناطق خارجة عن سيطرة النظام، وذلك للتخلص من ناشطين وناشطات غير مرغوبٍ بهم وبهنّ. وقد كانت داعش رائدة في هذا المجال، إبكاراً وكمّاً ونوعاً، إذ كان التغييب عنصراً تكوينيناً فيها. وقد كان لجبهة النصرة وجيش الإسلام أدوار رائدة أيضاً في بثّ شبح التغييب خلال ذلك العام الرهيب. وعدا الناشطين والناشطات السوريين، صار الصحفيون الأجانب هدفاً للخطف للمبادلة بالفدية، ومنهم من غُيّبَ قبل أن يظهر في «إصدار» داعشي.
وكما ذُكر في المثال الأول عن الرقة، وكما شرحت مرسيل شحوارو في مساهمتها في مقال سابق عن «عام الخطف»، ليس استشعارُ خطر التغييب مباشراً: لا يؤخذ على محمل الجد في البداية. يُعتقَد أنه احتجازٌ لخلاف، أو اعتقال، أو عسفٌ أمني يمكن أن يُواجَه بالاحتجاج أو يُحَلَّ بالوساطة والتفاوض. هناك حيّز زمني بين ظهور المُغيِّبين وحضور التغييب كخطر ماثل، وبين استشعاره من قِبل الضحايا المحتملين: هوتة من الساعات والأيام والأسابيع، والأشهر أحياناً.
لحظة استشعار خطر التغييب مجتمعياً هي لحظة هيمنة سياسية كاملة للمُغيٍّبين: أمام هول تغييب رفاق وأحباب وأصحاب ومعارف، ولكي لا يُلاقي الناسُ المصير نفسه، فإنهم «يختفون»؛ يصمتون، يختبئون، أو يرحلون. عام 2013 كان، حقاً، عام انطفاء في سوريا. خَبَتْ أصوات وصور المئات من الفاعلين والفاعلات داخل البلد، خارجين منها أو مختبئين فيها؛ وأدّى التغييب كذلك لامتناع الوكالات الأجنبية عن إرسال مراسلين لتغطية ما يحدث، خشيةً عليهم من خطفٍ لا يُحل، بأحسن الأحوال، إلا بالملايين من الدولارات.
لقد كان عام 2013 هو عام التغييب، والعقدُ الذي تأسَّسَ عنده، ويكتملُ هذه الأيام، كان عقدَ اختفاء.
المقطع الثالث: التغييب والاختفاء
غابرييل غاتي هو عالم اجتماع أوروغواياني، يُدرِّس في جامعة الباسك في إسبانيا. وارتباطاً بمنبته الوطني، الأوروغواي، أحد بلدان الديكتاتوريات العسكرية خلال سبعينيات القرن الماضي التي مارست التغييب القسري الممنهج، مع تشيلي والأرجنتين؛ ونتيجة لمنبَته العائلي، فهو ابن وشقيق مغيّبين قسراً، يتمحور عمل غاتي الأكاديمي حول التغييب القسري، ويختص بالدراسات السوسيولوجية والإثنوغرافية حوله. هكذا، لغاتي كتاب مهم حول التغييب القسري والمُعتقَل المُغيَّب نُشر قبل نحو عقدٍ ونصف، وأدار أيضاً دراسات مهمة عن مفهوم الضحية وتحوّلاته خلال العقود الأخيرة، صدرت في كتابٍ جماعي؛ عالم من الضحايا. وقد صدر له العام الماضي كتاب مهم بعنوان مختفون: خرائطيات التخلّي، يحاول فيه التأصيلَ لتفكير موسّع بالاختفاء، خارج حدود مفهوم التغييب كما رُسِّخَ في أميركا اللاتينية نتيجة نضالات طويلة، أشهرها أمهات ساحة مايو، وكما أُصِّلَ له مفاهيمياً وقانونياً في النظم القانونية المحلية وفي القوانين الدولية. يفكر غاتي بالـ«بدون» على الحدود بين هايتي وجمهورية الدومينيكان، وبالمختفين في المكسيك خلال رحلتهم الطويلة نحو نعيم الولايات المتحدة، وبالمهمّشين المجتمعيين في ضواحي الصفيح المتكدِّسة على أطراف مدنٍ عملاقة، يتضعضع فيها الدور الاجتماعي للدولة لصالح أمننة وظائفها وتركيزها على حماية أحياءَ مرفّهة طبقياً، باتت كومباوندات مُسوَّرة تطفو على بحر من الاختفاء الاجتماعي.
يبدأ غاتي دراسته هذه متعاطياً مع حيرة أن بعض هذه الأوساط، المختفية ولكن غير المُغيّبة حسب المفهوم الكلاسيكي للتغييب، أي الإخفاء القسري على يد جهاز قمعي، تُعبِّرُ عن نفسها أحياناً بالعدّة المفاهيمية واللغوية للتغييب القسري. يروي كيف يجلس مع ناشطة «بدون» من أصول هايتية في جمهورية الدومينيكان وهي تتكلم عن نفسها وعائلتها كـ«مُغيَّبين»، مستعملةً ذات المصطلحات والمفاهيم التي تستخدمها جمعيات ضحايا التغييب القسري في الأرجنتين. ويشرح غاتي في مطلع كتابه أنه كان، حتى وقت قريب، متمسكاً بالموقف السلبي الذي تبديه الجمعيات الناشطة من أجل حقوق ضحايا التغييب القسري تجاه استخدام المصطلح وعُدّته المفاهيمية فيما هو غير معناه المحدد: لكي يعني المفهوم شيئاً فيجب أن يكون محدداً ومحدوداً، وأن يكون له إطار مفاهيمي وقانوني واضح، فدون ذلك يمكن أن يَميع. قد تُعاني المصطلحات «تضخّماً» كذلك الذي تعانيه العملات: إن حَاولَتْ أن تعني أشياء كثيرة في آنٍ معاً فإنها تفقد من قيمتها. لا يتخلّى غاتي تماماً عن هذه الفكرة، ولكنه، في مقابل وضوح قانوني، يرى ضرورة حضور بعض التسامح المفاهيمي مع اختفاءات قد تُعبِّر عن أنفسها كتغييبات. يقترح غاتي، في إطار هذه الدعوة للتسامح المفاهيمي، تعريفاً لنوع «جديد» من التغييب هو، حسب تعبيره، المسح المنهجي للكثير من الأفراد من أطر الاستشعار العامّة (الإعلام، الثقافة العامة، المحافل السياسية، أطر التعاطف والإحسان…)، التي إما تتجاهلهم أصلاً أو التي تفقد قدرتها على رؤيتهم في لحظةٍ ما، ويكمل غاتي، مستفيداً من جِناس لغوي بالإسبانية، تعريفه للتغييب «الجديد»: ما لا يُروى (ما لا يُشكّل جزءاً من السرد العام)، ما لا يُوثَّق (ما ليس جزءاً من سجلات أو وثائق عامة)، وما لا يُرعَى (ما يُترك خارج أطر الرعاية الاجتماعية أو الاهتمام، أو حتى التعاطف).
لعلّ هنا نقطة ضعف مهمة في طرح غاتي: على سبيل الاصطلاح التمهيدي، يقع في خطأ التمييز ما بين «قديم» و«جديد» دون أن يعود لاحقاً لأشكَلَة هذا التمييز. هذا ليس خطأ فقط لأنه يفترض أن التغييب بالتخلّي جديدٌ أصلاً، ولكن لأنه يقترف خطأ اعتبار التغييب القسري على يد جهاز الدولة القمعي (أو سلطة الأمر الواقع) قد أصبح أمراً قديماً. وقعَ غاتي هنا في مَحلّوية الشُغل على الفضاء الأميركي اللاتيني من موقعه في جامعة إسبانية، مكانان أصبح فيهما التغييب القسري «الكلاسيكي» على يد قوّة قمعية منظمة ولأسباب سياسية ماضياً فعلاً، وليس فقط على الصعيد الزمني.
سأستعيرُ من أفكار غاتي بعض «ضربات فرشاة» لتقديم ملاحظة وافتراض مترابطَين فيما بينهما، ومُنطلقَين من الشأن السوري. الملاحظة هي أنه للُّغة العربية ميزة غير موجودة في اللغات اللاتينية، وهي إمكانية التمييز بين التغييب والاختفاء، ففي حين لا بد أن تكون الأولى نتيجة مباشرةً لفعلٍ عمد قام به فاعل مباشر ذو قدرة على الغَلبة بالعنف، تأتي الثانية نتيجة لعوامل مباشرة أو غير مباشرة، قد تكون عنيفة وقاسية، ولكن دون أن يكون هناك فاعلٌ مباشر لها أو قصديةٌ مباشرة، بل شروط بنيوية أو ظروف طارئة. عكس الاختفاء، التغييبُ قسريٌ حُكماً، وإضافة «قسري» في مصطلح «التغييب القسري» المُعتمد في لغة المنظمات الحقوقية إنما جاء من الترجمة الحرفية من الإنكليزية واللغات اللاتينية، حيث يقتضي تعذّر التمييز بين التغييب والاختفاء إضافة الصفة.
أما الافتراض فهو قولُ إنه ثمة اختفاء سوري، جماعي وفردي، متعدد الأشكال ومتعدد المستويات، مرتبط بالتغييب بعمق. هناك اختفاء سوري ينبع من التغييب بشكل مباشر، ويحكم حياتنا السورية العامة بشكل بالغ القسوة. رأينا في الأمثلة السابقة كيف أدى انتشار التغييب القسري إلى اختفاء أُناسٍ كثر، إما بالصمت والاختباء، أو بالخروج من البلد، ولكن يجدر قول إن لهذا الأثر الأولي والمباشر توابع على المدى الأبعد، فما بدأ اختفاءً بقصد الاختباء بات لاحقاً اختفاءً بالأفول من الفعل العام. خسرنا كثيراً عندما فقدنا القدرة على الحضور العام في البلد، بصوتنا وصورتنا وأشكالنا، وحضورنا في الساحات والشوارع والمقاهي، وفقدان القدرة هذا نابع بشكل مباشر من هيمنة قوى التغييب، أكان النظام، «بطل التغييب» الأبرز في البلد، أو سلطات الأمر الواقع في المناطق التي خرجت عن سيطرة الأسديين في مرحلةٍ ما. ليس فقدان المكان مجرد مشكلة لوجستية، ولا هو مكان يُعوَّض بغيره، بل إنه جرحٌ عميق، يُحَسُّ به أحياناً كعار، أو كعُري حتى، ويجدر أن يُفكَّر به كعامل أساسي من عوامل الذوبان السياسي الذي تعيشه القضية السورية. يبدو التفكير بالشتات كمساحة للسياسة السورية مستحيلاً دون شُغل فكري وسياسي وأخلاقي على هذا الجرح.
وعدا الاختفاء السياسي، ثمة اختفاء بشري في دول الجوار مرتبطٌ مباشرةً بنواة التغييب القابعة في سوريا. نسمع منذ أشهر أخباراً عن سعي آلاف السوريين للاختفاء، حرفياً، عن أي مجال عام هرباً من أعين قوى الأمن والمجاميع العنصرية في كل من لبنان وتركيا، خشية الاعتقال والترحيل إلى سوريا. وارتباطاً بذلك بشكل مباشر، تتضاعف مآسي التيه في غابات الحدود اليونانية التركية، أو كوارث الغرق في مياه المتوسط.
على الصعيد الحقوقي، يكتسب نضال جمعيات ذوي ضحايا التغييب أهمية إضافية في القضية السورية العامة لأنه نضال يتوجّه إلى نواة مأساتنا، إلى المركز المُغيِّب الذي تدور حوله دوامات اختفائنا السوري متعددة الأشكال والمستويات: إنهم سوريون، وسوريات بالذات، بأسماء ووجوه وأصوات واضحة، ونضالٍ لا يكل، حاضرات وحاضرون دوماً لمقاومة النسيان والتخلّي والتجاوز.
لا شك أن هناك فوارق جوهرية كبرى بين القضية السورية والنموذج الأرجنتيني، كمّاً ونوعاً، لكن ثمة ما يمكن أن نتعلمه ونفهمه من رسوخ أمهات ساحة مايو ككيان نضالي ذي أهمية سياسية وقيمية واجتماعية كبرى في الحياة العامة للأرجنتين، طوال عقودٍ أربعة، تجاوز دوره قضيةَ التغييب بحد ذاتها نحو دورٍ مركزي، راسخ ومحترم، في الحياة العامة في بلدٍ شديد السيولة وكثير التأزّم والانهيار سياسياً: حين يتعرّض مجتمعٌ لتروما التغييب الممنهج، فإن مُناهضته والنضال من أجل حقوق ضحاياه المباشرين وذويهم ليس نضالاً حقوقياً من أجل قضية محددة، لها ضحايا معيّنون، (وهذا ليس قليلاً أبداً)؛ بل هو مساهمة جوهرية في مقاومة الاختفاء المجتمعي والتلاشي السياسي العام، وفي امتلاك الساحة العامة وحضور الناس فيها.
المقطع الرابع: خرائط ودوائر ظهور
يهتمّ غابرييل غاتي في كتابه الأخير، منذ عنوانه، بالخرائط ورسمها وعلاقتها بالتغييب. يشرح في أحد الفصول كيف تشكّلَ في الأرجنتين نضالٌ دؤوب من أجل فرض وضع «نقاط التغييب» في الخرائط الوطنية، انطلاقاً من فهم العلاقة المحورية بين الدولة-الأمة وصناعة الخرائط والدور الرمزي الكبير للخريطة الوطنية ومعالمها الأساسية. وهكذا، وصلَ الاهتمام بصَون ذاكرة نقاط التغييب، من ثكنات عسكرية وملاعب كرة قدم وغيرها من الأماكن التي شهدت عمليات تغييب على يد الجيش الأرجنتيني في النصف الثاني من السبعينيات، إلى درجة فرض تشريعات وطنية تحمي حضورها في الأرشيفات وفي المناهج المدرسية.
يضع غاتي النموذج الأرجنتيني مع التغييب «القديم» (حسب تعبيره) في مقابل الاختفاء «الجديد» لآلاف المهاجرين الأميركيين-اللاتينيين نحو الولايات المتحدة عبر المكسيك، حيث يتعرّضون لمخاطر جمّة، ما بين عنف أجهزة الدولة وفسادها، وخطر عصابات الجريمة المنظّمة، ومخاطر الرحلة «غير الشرعية» المتنوعة. وبنتيجة المقارنة، يرى غاتي أن رسم خريطة لنقاط الاختفاء مستحيلٌ في هذه الحالة، وأن الأجدى هو رسم خارطة لـ«دوائر الظهور»، مثل النُزلات ومراكز الإيواء التي تُديرها جمعيات دينية ومنظمات غير حكومية، والتي تُتيح للعابرين مكاناً للراحة والتداوي والتغذّي والإحساس بالأمان، وتُوفِّرُ لهم الإنترنت والهواتف للتواصل مع عائلاتهم وطمأنتهم على أحوالهم.
لو فكرنا في خرائط تغييبنا السوري لوجدنا أنه، حسب ملاحظات غاتي، لدينا في سوريا الأرجنتين والمكسيك في آنٍ معاً. ثمة نقاط تغييب واضحة على الخريطة السورية تشير إلى سجن صيدنايا، وإلى فرع الخطيب، وإلى المشافي العسكرية، وإلى «دار الحكومة» في الرقة وغيرها؛ وفي آنٍ معاً ينتشر التغييب كسديمٍ ثقيل ليغطّي كل مساحات الجغرافيا السورية، ما بين حواجز ودوريات وقُطَّاع طرق ومُجاهدين وعَمشات من جهة، وما بين انعدام الخدمات والرعاية والأمان، وقيمة الحياة وكرامتها عموماً. جغرافيتنا هي جغرافيا اختفاء.
عدا ذلك، يُلاحَظ أن جغرافيا تغييبِنا مليئة بالحُفَر: الهوتة، حفرة التضامن، البحر المتوسط..
وبدل دوائر ظهور وسط اختفائنا، لعلّ مثالنا السوري يطرح أن لدينا «ثيمات» ظهور. على سبيل المثال، نَظهر كلاجئين. يبدو في الدوائر الأوروبية الأوسع، في الخطاب السياسي وفي المعالجة الإعلامية، أن السوريين لم يكونوا قبل أن يكونوا لاجئين. عام 2017، خلال وجودي في فندق صغير في براندنبرغ الألمانية متخصص بتوفير جوّ هدوء وتركيز للعمل أسَّسته مجموعة من معارفي، دعت إدارة الفندق لعشاء جماعي لكل النزلاء، صدفَ أنَّ من قام عليه هم ثلاثة متطوعين سوريين كانوا يقيمون في قرية مجاورة ويتعاونون مع الفندق في بعض النشاطات، وبعد وضع الطعام على الموائد دخلت مجموعة تعمل في مجال البرمجيات وتُقيم في الفندق منذ أيام للتركيز على مشروع، وسأل أحدهم زميله عن ماهية الطعام على المائدة فَرَدَّ عليه صاحبه: أعتقد أنه طعام لاجئين! أثار ردُّ «الخبير» هذا غضبي، وواجهته بذلك… فهمَ صاحبنا سريعاً أنه اقترف شيئاً غير صائب سياسياً وارتبك، لكنه عانى لفهم سبب غضبي: لاجئون… سوريون، ما الفرق؟
الطعام السوري هو «حيّزُ ظهور» إلى حدٍ ما، وليس برأيي ظهوراً تحررياً. خلال حديثي مع صحفيين عرب قدِموا لتغطية مؤتمر بروكسل للمانحين قبل أسابيع، كان من المُغيظ تلمُّس صعوبة فتح نقاش سياسي مع بعضهم على حساب انهماكهم في الشرح عن المطاعم السورية في عواصمهم، إذ يبدو أن هذا هو الموضوع «الديفولت»، والوحيد، الذي يُفتحونه مع أي سوري-ة. أحدهم تبرّعَ لتقديم مقارنة عديمة الحساسية بين المطاعم السورية في عاصمته وتلك التي في دمشق -الأخيرة «أزكى وأرخص»، حسب رأيه- التي زارها ضمن وفد إعلامي رافقَ وزير خارجية بلده بعد الزلزال. ليس هذا الظهور الطعامي تحررياً من باب أن «أهميته» الاستهلاكية بالنسبة للآخرين ليست هي نفسها أهميته بالنسبة لسوريين وسوريات، يرتبط عندهم طعامهم ومكوناته وطقوسه وأجواؤه بهويتهم وعلاقتهم بالبيت والأمان والأم والذاكرة. لكن هذا حديث آخر يطول.
نظهر كذلك كـ«ألترا-ضحايا»، أولئك الذين بات التطبيعُ مع كونهم موضوعَ فظاعة يُقارِبُ درجة التصالح مع أنهم لحمٌ وليسوا أجساداً. تَرسّخَ ذلك بشكل خاص مع داعش وتفنُّنها في الوحشية: نحن رؤوس مقطوعة معلقة على سياج، ولسنا ضحايا لنا هوية وكينونة وأهل وأحباب. بعض خبراء الشأن السوري ينسون بشكل منهجي أن يَعدّوا السوريين من ضمن الجنسيات التي تشكّل مجموع ضحايا داعش. حيّز الـ«ألترا-ضحية» هو حيّز ظهورٍ آخر غير تحرّري، بل ونازعٌ للإنسانية ونافٍ للندّية، وليس كريماً بأي شكلٍ من الأشكال.
وبالتأكيد، «نَظهر» أيضاً كإرهابيين، وأيّما ظهور وبأي آثار. يعرف ذلك السوريون والسوريات الذين يهرعون حين يسمعون خبر عملية إرهابية للتأكد، أو للاطمئنان، من أن المنفذ ليس سورياً. «حيّز الظهور» هذا هو في الحقيقة دوّامة إخفاء، بما يتجاوز كونه ظهوراً غير تحرري.
النضالُ من أجل توسيع حيّزات ظهورنا التحررية، ومن أجل خلق مساحات أكثر لظهورنا وحضورنا المؤنسَن والنِدّي والكريم، هو العمل السياسي الشتاتي الأهم في ظرفنا الحالي. ومجدداً، يجدر التأكيد على أنه يمرّ حتماً عبر قضية التغييب القسري والنضال من أجل حقوق ضحاياها. المغيِّبون هم مقترفو تغييب أحبابنا، وهم مُحرِّكُ دوران اختفاءاتنا متعددة الأشكال والمستويات المحموم حول التغييب.
المقطع الأخير: تنانين.
في بدايات عصر النهضة، ومع ازدياد رسم الخرائط مع انطلاق الكشوفات الجغرافية، شاع أن يضع رسّامو الخرائط نقوشاً على شكل تنّين عند المحيطات والبحار غير المُكتشَفة، والخطيرة حكماً بالتالي، وأن يكتبوا تحتها باللاتينية (hic sunt dracones) أي: هنا توجد تنانين.
في خرائط اختفائنا لا يبدو واضحاً من حيث المبدأ أين يجب أن نرسم التنانين. ربما لأننا، نحن وخريطتُنا، في بطن التنين. لكن عند العودة إلى خريطة العالم وملاحظة امتداد الدول التي امتنعت عن التصويت، أو صَوَّتت ضد إنشاء الآلية المستقلة لكشف مصير المعتقلين والمغيبين في سوريا خلال جلسة الجمعية العمومية للأمم المتحدة نهاية الشهر الماضي، سنرى شكلَ التنّين مرسوماً بوضوح بين خطوط الطول والعرض، خاصة في محيط الخارطة السورية، خارطة الاختفاء.