على الرغم من الجهود الجبّارة التي يبذُلها الناشطون والناشطات في مجال حقوق الإنسان، وسعي الناجين والناجيات لتحقيق العدالة لهم ولضحايا الجرائم التي ارتُكبت في سوريا، سدَّ المجتمع الدولي أذنيه، ولم تلقَ النّداءات المطالِبة بتحقيق المساءلة والالتزام بالقانون الدولي إلّا تجاهلاً ورفضاً مُحبطاً للاستماع والاستجابة. يثير غياب الاستجابة الدولية الفعّالة، مصحوباً باستمرار الفظائع بلا عقاب في سوريا، مخاوفَ حقيقية لدى كلّ المدافعين والمدافعات عن الحقوق والحريات، وكلّ من يؤمن بأولوية العدالة وضرورة التزام المجتمع الدولي بالحفاظ على حقوق الإنسان. لقد تنوّعت طرق تعامُلِنا مع الصمت ورفض الاستماع، ولكن كلما فكّرتُ بإلحاح تلك النداءات، لا يسعني إلا التفكير بمناضِلات حركة العدالة من أجل حرية جميع المعتقلين والمغيبين في سوريا، جميعهن سيّدات يعلمنَ أن التكرار مؤلم، ولكنهنَّ اتخذنه سلاحاً في حياة لم يخترنَ عيشها، بل فُرِضت عليهنّّ بعدما غُيِّب أحبّتهنّ قسراً. في هذه المادة، أَصِفُ مشاهد تعبٍ وإرهاق وإحباط، وأسردُ اللحظات التي عشتُها مع عدد من السيدات والشابات الناشطات في الشأن العام وفي مجال مناصرة قضايا المعتقلين والمغيبين قسراً في سوريا. لقد تعاونتُ وتفاعلتُ معهنَّ بشكل وثيق خلال الأعوام الماضية، بهدف تقديم رؤية واضحة لهذا الصمت القاتل.
صاحبات القضية
دخلتُ بهوَ فندق باريسي صغير مُتعَبة، أبحث عن زاوية أو كرسي لأرتاح عليه. في غضون دقائق، وحال الانتهاء من سيكارتها عند باب الفندق، دخلَت فدوى محمود، وهي ناشطة سورية وعضوة في حركة عائلات من أجل الحرية، تسألني: «ما الخطوة التالية؟ ما هو المقرّر في جدول الأعمال؟».
«فدوى، ما رأيك بقسط من الراحة، ألم تتعبي؟ سوف أنتظرُ وصول عدد لوموند في البهو وأطرق بابك عندئذ».
ردّت فدوى بحزم: «لم نأتِ هنا لنستريح. إنّ رحلة البحث عن أحبابنا، وعن شباب وصبايا البلد لا تحتمل الاستراحات، أليس كذلك يا أمّ اللول؟»، كان ذلك الاسم الذي اعتادت مخاطبتي به، تحبّباً ورفعاً للمعنَويات.
لطالما بقيَ هذا المشهد حاضراً في ذهني منذ أولى رحلات المناصرة التي نظَّمتُها مع باص الحرية وحركة عائلات من أجل الحرية (حركة تقودها نساء سوريّات سُلِبَ أحبابهنّ منهنَّ ويطالبنَ بالحرية لجميع المعتقلين والمعتقلات)، أستحضره كلّما أحسستُ بالتعب أو فقدت الأمل من جدوى تنظيم اجتماعٍ آخر أو جلسة حوار أو حتى مقابلة إعلامية أخرى في رفع الوعي بواقع السوريين والسوريات، والتعريف بنضال صاحبات القضية.
لَم يخفَ عنّي آنذاك، وإلى اليوم، مصدرُ طاقة السيدة فدوى، فهي تبحث عن ابن وحبيب منذ أكثر من 10 سنوات، وأملُها في اللقاء أكبر من أن تنالَ منه بضعُ نظرات تعاطف وكلمات فارغة تصلُها عبر الترجمة في اجتماع وزاري.
«طمَعُنا بالعدالة حق وليس مطلب»
دخلتْ سيارة التكسي زقاقاً طويلاً ومهجوراً في إحدى ضواحي لندن. وحالما وصلنا باب مستودع كبير، بدا لي شبيهاً بمعمل أقلام رصاص النسر في دمشق، قال الشوفير: «لقد وصلتنّ». خرجنا من السيارة مستغربات، وأنا أحاول التواصل مع الصّحفية التي ستستقبلُنا باستخدام حزمة الإنترنت خاصتي، التي كادت أن تنتهي. خرجتْ من الباب فتاة مبتسمة، رحّبت بنا، أنا ومجموعة من سيّدات حركة عائلات من أجل الحرية. دخلنا المستودع الكبير الذي تحوّل لاستديوهات تصوير وغُرف عمل محطة فايس نيوز البريطانية، ثم وَلَجْنا غرفة معتمة يتوسّطها كرسي مريح. ألوان الغرفة تشبه ألوان أقبية الاعتقال التي صوّرها لنا الكثير من الناجين والناجيات، من بينهم آمنة. رجفَ قلبي، وفكّرتُ بزميلاتي: هل يشعرنَ بما أشعر به؟ إلى جانب الكرسي وُضِعَت نبتة خضراء جميلة، آملُ سراً أن تنتبه إليها آمنة، فقد جمَعني بها، بالإضافة إلى مناصرة قضايا النساء والمعتقلين، مشاركة صور ما زرعناه في حدائقنا المنزلية.
آمنة خولاني، من مؤسِّسات حركة عائلات من أجل الحرية وناشطة في المجتمع المدني، مُنِحت جائزة «المرأة الشجاعة الدولية» عام 2020.
خاطبت آمنة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة في آب 2020، في أول جلسة له حول المعتقلين والمعتقلات في سوريا، وطلبت منه أن ينفّذ واجباته حيال الانتهاكات الممنهجة للقانون الدولي في سوريا. كما شدّدت آمنة على أن مجلس الأمن قد «فشل تماماً» بتنفيذ واجباته تجاه حق الضحايا في سوريا، وقالت: «لقد سمحتُم لـلفيتو والأعذار الأُخرى بأن تؤثر على ما هو صحيح وعادل».
ابتسامات فريق التصوير الفنّي ولطفهم جعلتنا نرتاح قليلاً. كانت هذه المقابلة العاشرة ربّما، التي نقوم بها خلال يومين. في كل مرة كانت آمنة تكرّر تفاصيل مروِّعة عن تجربتها وتجربة عائلتها في الاعتقال داخل سجون النظام السوري، وتحكي عن رحلة بحثها عن العدالة لإخوتها الثلاثة.
سألَتني الصحفيّة: «هل نبدأ مع آمنة؟»، كانت قد طبعَت فور دخولنا ملفاً شاركتُه معها، يتضمّن وصفاً لحكاية كل واحدة من السيدات مرفقاً بصورتها، وبدأَت بأخذ الملاحظات على الأوراق الملونة.
توجّهتُ إلى آمنة ونظرتُ في عينيها لوهلة، ثم التفتُّ إلى الصحفيّة وطلبتُ منها أن نبدأ مع متحدثة أُخرى. خرجَت آمنة من غرفة التصوير، فلحقتُ بها. ضممتها وجلسنا في الممر.
«سوف أرتاح قليلاً يا ليلى».
«خدي كل وقتك. لسنا مُضطرات لتسجيل المقابلة. زميلاتك هنا وهنّ جاهزات لسد الثغرات».
لم يخفَ عليّ حينذاك، وحتى اليوم، سرَّ قوة آمنة وصبرها، فهي تناضل من أجل العدالة بشكل يومي، وتعلم أنّه لا بد من أخذ قسط من الراحة عند التعب، وأنّه يجب أن نسمح لزميلاتنا في النضال بدعمنا ودفعنا قُدماً، فالطريق طويلة. كذلك تعلم آمنة أنّ مطالب القضايا العادلة لا تقبل الرجاء: «نحن أصحابُ حق، والمجتمع الدولي لديه مسؤولية. طمعنا بالعدالة حق وليس مطلب».
صدى الصوت المكتوم العاجز أمانة
وقفتْ مريم حلّاق عند مدخل مبنى القضاء العسكري في دمشق، وسألت الشرطي في الكولَبَة المربّعة عن أي معلومات عن ابنها أيهَم غزول، الطبيب الذي اعتُقل في حرم جامعة دمشق وتضاربت المعلومات حينها عن مصيره.
تكرّرت زياراتها في اليوم الثاني والثالث والرابع، ولمدة سنة وخمسة أشهر، وهي تحاول تأكيد خبر مقتل أيهَم في أقبية سجون نظام الأسد غير الرسمية. جَعَلَـت مريم من زيارات اللجنة المركزية للمصالحة، والقضاء العسكري والشرطة العسكرية ووزارة المصالحة والفروع الأمنية، روتيناً يومياً يُشبه دوام المدرسة. وفي كلِّ واحدة من تلك المباني الموحشة، التقت مريم بحوالي خمسين أو ستين أمٍّ أُخرى تبحثُ مثلها عن أيّ معلومة أو خبر. وجوهٌ شاحبة ومترقّبة، وأجسامٌ مرتجفة شتاءً ومتعرّقة صيفاً. تتبادل النساء أطراف الحديث، وتشارك كلٌّ منهنَّ قصتها مع مريم.
تصيرُ بعضُ الوجوه مألوفة، وبعض الابتسامات سبباً لقلّة الطمأنينة. في إحدى الأيام، وبينما كانت مريم تتوسط مجموعة من السيدات اللاتي يحاولنَ مواساتها، ضاق صدرها من الإحباطات المتكررة، فاقترحت بصوت جَسور أن ترفع لافتة مكتوب عليها: «أين ابني أيهَم؟» ولكنها رأت في الحال الذّعرَ والخوف يظهر في عيون الأمهات.
قالت لها إحدى السيدات: «لا يا مريم، نحن نجهلُ مصير أحد أحبتنا وعلينا حماية باقي أولادنا وبناتنا. بكرا بياخذوهم كمان».
تعلم مريم، وهي تقضي يومها في مساعدة عائلات تعيش واقعاً يشبه واقعها، أنّ العجز الذي تشعر به هو دافعٌ رئيسي للاستمرار في البحث عن قبر لابنها. وأنّه على الرغم من المرض والتعب والغربة، وقد أتمّت عقدها السابع هذا العام، إلا أنها صوت زميلاتها المداومات على زيارة فروع القضاء العسكري والمؤسسات الرسمية. وأنّ لديها اليوم بعضٌ من الحرية للصراخ، وأنّ عيون الأمهات في فروع القضاء العسكري ستمنحُها الطاقة عند اللزوم.
الإحباط دافع، والعمل المشترك وتطوير الأدوات ضرورة
تقف مريم حلّاق وآمنة خولاني، وعددٌ من ممثلّات مجموعات الضحايا والناجين، على منصة باص أحمر يشبه باصات لندن الطّابقية المشهورة، تزيّنُه صورُ العشرات من المعتقلين والمعتقلات من كافة الأعمار. يخاطبنَ جمهوراً من السوريين والسوريات المدنيين والناشطين في ساحة مبنى البرلمان الأوروبي، ويسردنَ حكايات نضالهنَّ المشترك وبحثهُنَّ عن الحقيقة والعدالة.
تتزامن الوقفة مع موعد انعقاد مؤتمر بروكسل للمانحين في بلجيكا، حيث سيجتمع خبراء غير سوريين لمناقشة الاحتياجات الإنسانية في سوريا.
تخبرني مريم عمّا مرّت به خلال حدث جانبي على هامش المؤتمر، عندما حاول الفاعلون السوريون والسوريات شد انتباه الحضور إلى قضايا لم يتطرّق لها المؤتمر. كانت تراقب نظرات الحزن والتعاطف، وتعابير الألم على وجوه المجتمعين، وترى أثر حديث زميلتها آمنة.
تسألُني: «هل هذا دورنا يا ليلى، أن نجعلهم يبكون؟ يجب ألّا نستسلم وننتظرهم لكي يتحركوا».
بعد عشر سنوات من العمل الحثيث والمطالبة بالإفراج عن المعتقلين، ووقْف استخدام الإخفاء القسري كوسيلة لترهيب المدنيين من قبل كافة أطراف الصراع في سوريا، تظافرت جهود خمس جهات معنيّة بالمعتقلين والمفقودين والمغيبين قسراً، وهم: رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا ورابطة عائلات قيصر وعائلات من أجل الحرية وتحالف أسر الأشخاص المختطفين لدى تنظيم الدولة الإسلامية داعش (مسار) ومبادرة تعافي، لإطلاق ميثاق الحقيقة والعدالة.
ميثاق الحقيقة والعدالة خطةُ عمل من أجل ضحايا الاعتقال والخطف والإخفاء، تؤمن بجدوى العمل الجماعي والتضامن، وتُطالب جميع الفاعلين والفاعلات بتبنّي هذا الميثاق والعمل على أساسه. واليوم، بعد عامين على إنجاز الميثاق، توسّعت دائرة مجموعات الضحايا المنضوية تحت رؤيته لتشمل عشرة مجموعات، وتتبنّى توصياته معظم الجهات السورية والدولية ذات الصلة.
«لقد انتظرنا طويلاً يا ليلى ونحن نعيش في الألم والأمل. كان لا بد لنا أن نبادر وأن نضع المجتمع الدولي أمام مسؤولياته».
نضالاتُنا واحدة
ياسمين المشعان، ناشطة سورية وعضوة مؤسسة في رابطة عائلات قيصر، شكَّلت الرابطة مع عائلات مثل عائلة مريم الحلّاق (وهي عضوة مؤسسة أيضاً)، ممّن فقدوا بعضاً من أحبّتهم أو جميعهم تحت التعذيب، ليجدوهم ويتعرّفوا على هوياتهم من الصور التي سُرِّبت من معتقلات التعذيب والقتل الأسدية، والتي عُرفت بـ«صور قيصر» نسبةً إلى الاسم المستعار الذي اتخذه ضابطٌ منشق، عَمِلَ كمصوِّر في أحد الأفرع الأمنية في مدينة دمشق.
وقفت ياسمين بجانب آمنة خولاني وخلفهما مبنى الأمم المتحدة في نيويورك. كلتاهما تحملان لافتة بيضاء كُتب عليها بعناية وبخط اليد: (Free Alaa) (الحرية لعلاء). زارَت الناشطتان مدينة نيويورك لمطالبة الدول الأعضاء في الأمم المتحدة بإنشاء مؤسسة دولية مستقلّة للكشف عن مصير المفقودين والمختفين قسراً في سوريا. وقتها، وصلَ خبرٌ بأنّ السجين السياسي المصري والمدافع عن حقوق الإنسان علاء عبد الفتاح قد أبلغ عائلته بأنّه سيتوقف عن تناول المئة سعرة حرارية اليومية التي أبقته على قيد الحياة خلال إضرابه عن الطعام، الذي دام نحو ستة أشهر في السجون المصرية بعد اعتقاله بسبب مشاركته منشوراً على منصة فيسبوك حول التعذيب.
وكتبت الناشطتان في منشور على فيسبوك: «كشقيقات لمعتقلين… نتضامنُ مع علاء ونرسل حُبّنا لوالدته الدكتورة ليلى سويف وشقيقتيه منى وسناء. نؤمن أنّ نضالاتنا واحدة، ونطالب بالإفراج عن علاء وجميع المعتقلين السياسيين».
انتشرت صورٌ أُخرى، التُقطت في لبنان وبريطانيا وألمانيا وتركيا والأردن وسوريا، لسيّدات سوريات، منهنّ فدوى محمود، يحملن لافتات تقول: «عايزة جواب» مع وسم الحرية لعلاء، تضامناً مع ليلى سويف التي افترشَت الأرصفة كل أسبوع أمام سجن طرّة رافعة لافتة «عايزة جواب» على أمل استقبال جواب (رسالة) من ابنها المعتقل.
تعلم فدوى وآمنة وياسمين، وغيرهن من المناضلات من أجل الحرية والعدالة في سوريا، أن حتمية التقاء نضالهنّ مع نضال ليلى سويف وابنتيها أمرٌ لا يقبل الشك، وأنّ تجارب عائلات المختفين في لبنان والجزائر والأرجنتين وتركيا والبوسنة قد مهّدت لعملهنّ. تَلاحُم هذه الحركات يعزز قوة الصوت الجماعي في وجه صمَم المجتمع الدولي. عندما تتعاون حركات العدالة المختلفة وتقفُ معاً في وجه الظلم والقهر، يخفّ الألم ويتعاظم الأثر، ونتعلّم فوقها أنّ إرسال حُبّنا للأخريات بَلسمٌ ضروري لمعالجة الجروح.