ما هي النقاشاتُ التي تدور بين أولئك المنتظرين لمصيرهم بعد الموت، والتي قد تجمع بين شخص رُمي بسهم في غزوة أُحُد وبين أمواتٍ من عصرنا الحالي؟ وما الذنب الذي اقترفته تلك الحيوانات التي تحوّلت إلى مَضرَب مثلٍ وتشبيه لدى ضربِ الوعود بتجارب جنسية جامحة، بينما هي تكتفي في الواقع بممارسة طقوس تزاوجها بسلام وبلادة، ودون أي مشاهد خَنق وجَلدٍ في الأدغال. يُجرِّب فنان الستاند أب السوري عمار دبّا هذه الأفكار وغيرها مع الجمهور في فقراتٍ كتبها حديثاً لعرضٍ حَمَل اسم (same shit)، يُراقب ردود فعل الجمهور ويشطب من الدفتر بروحٍ رياضية الدعابات التي خلّفت لحظاتٍ من الصمت الذي لفّ الصالة بعد إلقائها.

هناك شكوى يكثُر تردادها في أجواء الستاند أب كوميدي حول العالم، تتذمّرُ من النكات الذكورية واستعراض الفحولة الذي يشوب بعض العروض: «الكوميديانز الذكور يريدون إضحاكنا عبر تمريغ أعضائهم الذكرية في وجوهنا». في هذا العرض نلمس العكس، سخرية من النفس ومن بنية الفحولة نفسها على لسان رجل يصف مرحلة منتصف الأربعينيات، وعدم اكتراثها بتحقيق انتصاراتٍ رمزية ذكورية، بل كلُّ مطالبها أن تُترَك وشأنها للاستمتاع بمباهج ليلية مقتصِرة على مشاريب الأعشاب أمام التلفاز. السخرية من الذات، وطريقة الإلقاء التي يشوبها البرود والتسليم بما يدور حول المرء وما يتعرَّض له، ملامح تميُّز أسلوب عمار دبّا في عروضه، وكذلك في لقاء الزوم الذي جمعنا به، والذي لم يجد فيه غضاضة من التحدُّث عن المحطات المُحرجة من تاريخ مسيرته قبل التجارب الداعية للسرور منها. بل يجد في ذلك مادة للتسلية أيضاً، حين يتحدث عن تجربة أول خمس سنوات في الستاند أب كوميدي التي يصفها بأنها لم تتضمن «لحظة مجد واحدة» وكانت سلسلة من العثرات؛ تارة تتمُّ استضافته في سهرة ليقدم فقرة بعد فقرات طرب ورقص شرقي ويتم التعامل معه كأنه «ضاحك الليل»، وتارةً تدفعه ثقة المبتدئين إلى تلبية طلب فعالية أخرى ليملأ عشرين دقيقة من الوقت: «كانت أحقر 20 دقيقة بحياتي» يقول عمار.

بعد ذلك سيشهد الكوميديان، الذي استهل علاقته بعالم الستاند – أب مُشاهِداً لأعمال جيري ساينفلد ومن ثم لويس سي كيه؛ الذي ترك فيه الأثر الأكبر وألهمه ليدخل هذه التجربة، نقطة تحول بعد هذه السنوات العجاف الخمس بدخوله مُحترِفاً إلى الستاند – أب كوميدي في الإمارات بإدارة علي السيد، في تجربةٍ ساعدته على إخراج ما كان مُختزَناً لديه من أفكار طيلة هذه السنوات، والتي كان بحاجة لإيجاد الصيغة الأفضل لإخراجها.

يصف تلك التجربة بأنها: «تشبه تدمير سدٍّ يُخلِّف فيضاناً»، إذ عكف بعدها على الكتابة بشكل غزير، وعندها جاءت فرصة لتجربة هذا المحتوى مع إعلان كوميدي سنترال عن تجربة أداء موجهة لفناني ستاند أب ناطقين بالعربية، وهي التجربة التي شارك فيها عمار ليتم اختياره لتقديم فقرة من عشر دقائق في برنامج Comedy Central Presents. من ثم تكررت التجربة في العام الذي يليه، ليقدم عرضاً خاصاً به على مدى نصف ساعة في العام 2019.

في تلك الأثناء التي كان فيها عمار منشغلاً بمشروعه في دبي، كانت برلين قد بدأت بالتحول إلى حاضرة ثقافية عربية بامتياز، مع نشاطات وفعاليات عربية مرافقة لازدياد عدد سكانها الناطقين بالعربية، السوريين على وجه الخصوص، ممّن مضى على وجودهم بضعة سنوات كانت كافية لمباشرة مشاريع مجتمعية – ثقافية تلبي حاجةً فرضها ظرف الشتات، وفرضتها ضرورة إيجاد صيغ جامعة للنقاش والتفاعل مع القضايا التي تَعني هذه الفئة، وكذلك ضرورة احتضان نِتاج تجاربها الإبداعية. لكن الستاند أب لم يكن بعدُ من ضمن الفنون التي برزت على الساحة، وكان السائد أن يتوجه محبو هذا الفن، من مشاهدين ومؤدّين، إلى العروض باللغة الإنكليزية المنتشرة بكثرة في المدينة.

تُلقي غيداء، مديرة ومؤسسة تَجمُّع بّرة تالنت للمواهب، بعضاً من الضوء على هذه المرحلة في حديثنا معها على هامش أحد عروض الستاند أب الذي ينظمه التجمُّع في برلين: «كنت من متابعي فن الستاند أب منذ وقتٍ طويل، وأذكر أنني كنت أسافر من المدينة التي كنا نقيم فيها لحضور عروض في برلين. حينها كانت العروض السائدة باللغة الإنكليزية. تعرفتُ أثناء هذه الإيفنتات على فنان ستاند أب من أصول سورية ويؤدي عروضه بالإنكليزية والألمانية، هو كنان، وكانت أيضاً فنانة ستاند أب لبنانية هي كارمن نشطة في هذا المجال».

مع انتقال غيداء للسكن في برلين، وتوطد العلاقة مع كنان، اقترحت عليه أن يقدم عروض ستاند أب بالعربية: «كان لديه تردد تجاه الفكرة، وهو مغترب عن سوريا منذ ما يقارب العشرين عاماً، وكانت لديه شكوك في مدى إمكانية مقاربة اللغة المعاصرة والاهتمامات، خصوصاً أن الفكاهة وما يُضحك الناس هي أمور شديدة الارتباط بواقعهم». ستأتي نتيجة هذا المقترح بعد زيارة لدبي يلتقي فيها كنان كلّاً من عمار دبا وإيمان خلوف، ليثمر اللقاء عن فكرة تقديم عروضٍ في برلين باللغة العربية. أقيم أول هذه العروض عام 2019 كمغامرةٍ تستطلع وضع الإقبال المحتمل من قبل الجمهور، ليلقى العرض إقبالاً جعل منظميه يمددونه ليومين إضافيين: «حينها بدا من الواضح وجود إمكانيات لهذا النشاط في أوروبا» تقول غيداء. بعد ذلك، اشترك عمار دبّا مع سعد الغفري، الممثل وصاحب الخبرة أيضاً في مجال الستاند أب كوميدي منذ سنوات عديدة، لإطلاق عرض 2 عربي بلا حد في 2021، الذي كان أيضاً علامة فارقة في مشهد الستاند أب الناطق بالعربية في أوروبا، وتنقَّلَ بين عدة دول وبرزت فيه تجارب لفناني وفنانات ستاند أب مثل جورج العين وأحمد الكردي، بالإضافة إلى ليلاس البني ونادية الهادية.

بدأت عروض الستاند أب كوميدي الناطقة بالعربية، والسورية بشكل خاص، تتلمَّس طريقها وترسِّخ لنفسها حضوراً أوسع بالتدريج بين المدن الأوروبية، بداية كعروض منفصلة، منها ما يسافر متجولاً في عدة مدن، ومن ثم أخذت شكلاً أكثر انتظاماً ودوريةً مع تأسيس تجمع بّرة تالنت لإدارة المواهب، والذي ينظم الجزء الأكبر من هذه الفعاليات في برلين حالياً بالتوازي مع إقامة ورشات تدريبية. تروي غيداء عن فكرة تأسيس التجمع الذي يلعب في جزء من عمله دور الوكالة الفنية أيضاً: «حتى عام 2022 كانت علاقتنا مع المشهد هي علاقة اهتمام وتعاون، حتى جاء عام 2022 وتبلورَ شكلُ التعاون أكثر مع عرض فرط الاحترام الذي أقيم مع عمار دبا والفنان المصري أنديل، وعملتُ معهما في التنظيم للعرض والورشة السابقة له على مدى 6 أيام. حينها وقف على الخشبة 12 فناناً، وكان العرضان مُباعان بعدد 80 شخص لكل عرض. عندها بدأ العمل يتّخذ شكلاً أكثر حرفية، وحينها بدأتُ بإعداد الأوراق المطلوبة والإجراءات في سبيل أن يصبح المشروع ممأسساً ومُداراً باحترافية. سواء كان على مستويات الإجراءات التسجيلية والسوشل ميديا والهوية البصرية». 

عن الرؤية التي وجَّهت جهود التأسيس هذه، بما يشمل هوية التجمُّع، تشرح غيداء: «على مستوى الاسم والرؤية كانت فكرتي أننا اولاً ’بَرَّة‘ ليس فقط بَرّة البلد وفي مكان جديد، أيضاً هي رؤية تشمل كوننا نشتغل ’برَّة‘ الخطوط وحتى خارج الثنائيات نفسها مثل: جوا وبرة \ الرجال والنساء. في عرض فرط الاحترام مثلاً وَرَدَ في التوصيف أن ’عدم الاحترام لن يوفِّر أحداً‘». كانت بداية تركيز جهود التجمُّع ومركز النشاط الأساسي في برلين، وكان مرتبطاً بمشهد الستاند – أب كوميدي، لكن أنشطته شملت مدناً أخرى، وجرّبت صيغاً فنية أخرى، لينظِّم التجمُّع على نفس المنوال (أي فكرة ورشة تدريب متبوعة بنشاط يضم نتاج الورشة) ورشة ميكسينغ التي يقدم من تخرجوا منها نتاجهم في حفل موسيقي.

عن برلين وميّزاتها كمكانٍ استطاعَ استيعاب وتغذية استمرار عروض الستاند أب كوميدي، يتحدث طارق بالي، أحد الأسماء البارزة أيضاً فيما يُقدَّم من عروض كوميدية في برلين: «سوى وجود جالية سورية كبيرة من حيث العدد في برلين، أرى أن هناك خصوصية أخرى وهي كونها جالية شابة مهتمة بحضور عروض كوميدية، جزءٌ كبير من أفرادها قَدِموا حديثاً من سوريا، ولديهم روابط مع الثقافة السورية لم يتجاوزها ولا يعتبرونها هامشية كما يحدث أحياناً مع مغتربين من جاليات أقدم عهداً في المكان. نحتاج ذلك، إذ هناك خصوصية سورية لما نقدمه، فالجمهور محدود ربّما أكثر ممّا هو الحال مع فنون أخرى كالموسيقى، التي يمكن لأي كان أن يحضرها».

رغم انتشار العروض، واستقطابها لحاضرين ومؤدّين على حد سواء، في عروض تمتلئ فيها الصالة دائماً مع نسبةٍ من الواقفين، يرى عمار دبّا أنه من المبكّر بعد أن نسمي ما يحدث «مشهداً»: «لا أفضل استخدام كلمة ’مشهد‘ وأشعر أيضاً بضرورة التاكيد على البُعد العربي لا السوري فقط بشكل خاص. لأجل عوامل ساهمت الصدفة في جزء منها، تركَّزَ جزءٌ كبير من السوريين في مكانٍ مثل برلين، وتمكنّا من تقديم عروض هناك، ولكن السوريين ليسوا وحدهم في هذه العروض، هناك فنانون أيضاً من مصر والأردن وفلسطين وغيرها وإن كان عددهم أقل، وهناك بعد من يصارع القيود وأساليب التقييد في الدول العربية لأجل قول فكرة أو نكتة، مع التهديد بعواقب قد تصل حدَّ السجن، ونحن معنيون أيضاً بهم. هل هناك مشهد؟ لا أظن. نحن بداية، وبداية مبشرة، والستاند أب هو فن مُرهِق ومتعب، يحتاج إلى مثابرة. هناك الكثير من نماذج عن أشخاص عملت معهم في بداياتهم، عقول لامعة وكتاب وكاتبات فكاهة على سوية ممتازة. ولكن بعضهم وبعضهن استسلم أمام الضغوطات وأمام عنفٍ نتعرض له على الدوام. هو ليس أمراً سهلاً، بعد 11 سنة في هذا المجال هناك خمس سنوات ’أكلت فيها قتل‘ معنوياً، ومع ذلك تزعجني أحياناً بعض التعليقات والسلوكيات العدوانية، تؤثر بي. الكثير من فناني الستاند أب انطلقوا من إحساس بالهشاشة في موضع ما، والكثير منهم لا يشعرون أنهم على طبيعتهم إلا على الخشبة، التي يواجهون عليها أسئلة مصيرية في حياتهم. هو أمرٌ حسّاس ويضعُك في مواجهة مواطن ضعف أو هشاشة خاصة بك».

فكرة الانطلاق من مَواطن صراع مع الذات نحو فن الستاند أب تجد صدىً لها في الشهادة التي قدمتها لنا نادية الهادية، الاسم الفني لفنانة ستاند أب كوميدي سورية. كانت «نادية» تتابع مقاطع الستاند أب على الإنترنت منذ مرحلة الدايل- آب، وكانت هذه المساحة منفذاً لها كشخص يعاني من صعوبات اجتماعية ويستصعب فكرة الخروج من البيت. بدأت القصة برؤيتها لفيديو أرسله أحدٌ ما عبر تطبيق محادثات الإم إس إن التاريخي للفنانة الكوميدية إيدي إزرد: «كان لمُشاهدتها أثرٌ بليغٌ في حياتي» تقول نادية؛ «كنت حينها عدمية واكتئابية فاقدة القدرة على الإيمان بشيء. وشعرت أنّ هناك من يتحدث بمفردات أُحدثّ فيها نفسي». استمرَّ طوق الضحك كمنجاة بالنسبة لنادية مع انتقالها إلى ألمانيا، إلى مدينة لا تعرف فيها أحداً: «اندمجتُ حينها إلى درجة الذوبان، واشتقت لفكرة أن أروي دعاباتٍ يَضحك الناس لها، وحزتُ في الجامعة لقب أمينة سر النكت البايخة». فيما بعد وبصدفة بحتة ستجد نادية منشوراً على فيسبوك من صديق قديم، ليس إلا عمار دبّا نفسه، يُعلن فيه عن ورشة ستاند – أب كوميدي أونلاين، ستكون بداية طريقها قبل أن يصبح الستاند- أب جزءاً من حياتها بعد سنوات: «في عرض التخرج من الورشة الثانية التي التحقت بها في برلين، شعرتُ للمرة الأولى منذ عشر سنوات أن لدي ما يدفعني إلى الخروج من المنزل ومواجهة البشر».

هل يمكن تعليم الفكاهة؟

مع ارتباط الفكاهة وفن إلقائها إلى حدٍ بعيد بعوامل شديدة الفردانية وعناصر متداخلة؛ من طريقة نقلها والخبرات الشخصية والقدرة على استقراء المفارقات من الظواهر الاجتماعية والثقافية المحيطة بفنان الستاند – أب، وحتى الموهبة، فإنه من المشروع أن يتمَّ التساؤل حول مدى أهمية وفائدة ورشات التدريب في مجال الإلقاء الكوميدي.

«في فترة قبل تأسيس التجمّع، أذكر أنني حضرتُ أحد عروض عمار دبّا، وقدَّمتْ إحدى المشاركات فقرة أثارت إعجاب الحاضرين، وكانت هناك ملامح تَقدُّم واضحة في ما قدمته، كوننا استمعنا من قبل إلى فقرتها. واستمعنا إلى مُشارِكة أخرى قدمت عرضاً ملفتاً، وتبيَّن أن كلاً منهما قد شاركتا في الورشة التي كان عمار دبّا يُديرها أونلاين حينها، وحينها جئنا بفكرة أن تُقام هذه الورشات على أرض الواقع». تروي غيداء عن التجربة التي ألهمتها لتأسيس تجمع بّرة تالنت، وترى أن لهذه الورشات أثراً واضحاً على أداء المؤدين وتطور حرفتهم. مع تنوع واختلاف أساليبهم وأساليبهنّ: «هناك عدة عناصر للنظر فيها وتطويرها: الكتابة هي أحدها فقط، وهناك أيضاً ضبط التوتر، والأداء. إمضاء أطول وقت ممكن على الخشبة مفيد أيضاً، والتنقل بين مدن مختلفة ونوع جمهور مختلف وحجم جمهور مختلف أيضاً. وأياً كانت النتيجة يجب أن يتحدى الفنان نفسه. مثلاً، كان من المفيد لمن تخرَّجوا من الورشات أن يؤدوا نفس ما أدوه في عروض تخرجهم في عرض فرط الاحترام. الفارق أن الجمهور كان 80 أو 30 في العروض التي سبق وأن قدّموها، ولكن هناك قرابة 300 شخص في عرض فرط الاحترام، وهو أمرٌ مثيرٌ للتوتر، إذ لم يمض الكثير من الوقت بعد وقوفهم للمرة الأولى على خشبة مسرح، ومع ذلك كانت هذه التجربة مفيدة وضرورية وفرصة يصعب تعويضها».

يرى عمار دبّا أيضاً أن الستاند أب هو حرفة يمكن تطويرها: «درستُ الستاند أب وكيف يتم تركيب الكلمات لبناء كل جملة في الفقرة الكوميدية، من الإحاطة بمعلومات عن خلفية الموضوع، ومن ثم الوصول للخاتمة. في بداية مسيرتي في مجال الستاند أب كنت أشاهد الكثير من العروض وأطبع محتواها إن توفر مكتوباً. حاولت حينها تحليل النكتة، وأرى أنه فن خاضع للتطور مثل أي فن آخر. حالياً ما يحدث أننا نحاول فهمَ كيف توصل الكلمةُ فكرةً ما، سواء كان القصد كوميدياً أم غيره، وكيف تعمل طريقة الإلقاء كحامل لهذه الفكرة». 

ترى غيداء أيضاً أن الستاند أب هو حرفة يمكن تطويرها، وتروي من ملاحظاتها كيف بات جزء من الفنانين، بعد العمل المتواصل، يفكرون بصيغة الستاند أب كوميدي (set up – punch line): « أسعى دوماً للاطلاع على التجارب المختلفة من لقاءات وما هو مكتوب حول الستاند أب كوميدي حول العالم، حتى أنني أتابع الوكلاء وأخبار الوكلاء. هناك عقبات نتعامل معها دون شك، ابتداءً من كوننا نتحدث بلغة هي ليست لغة البلد الذي نقيم فيه، وكوننا نتحدث عن مواضيع ربّما لا تعني حتى كل من يتحدث لغتنا. في ظل هذه الظروف، نسعى لتطبيق وتطوير معايير حرصاً على جودة الأداء وتطوره من قبل الكوميديانز. كأن لا يخرج أحدهم بعرض قبل تجريب الماتيريال عدة مرات من قبل. وأسعى بتحديد الـ( line-up) – ترتيب لائحة المشاركين في كل عرض –  أن يعكس هذه الرؤية، وكيف نرتب الفقرات بحسب المحتوى الذي يقدمه كل من المؤدين ومن يعاني من التوتر أكثر من غيره وغيرها. جاء ذلك بعد أن قضيت وقتاً أحضر عروض أوبن – مايك مختلفة، وأحاول استخلاص دروس مستفادة منها على مختلف الصعد».

تجاوز الضوابط، كلها

هناك بالفعل من فناني الستاند – أب حول العالم من يقدم نفسه كنسخة «نظيفة» من الكوميديا المناسبة لكل أفراد العائلة، يقدم نكاتاً بارعة حقاً عن أسلوب العيش والحياة الصحية والسخرية منها دون معارك كبرى، ولكن يصعب بالعموم الحديث عن الستاند أب كوميدي دون الحديث عن علاقته الشائكة بالرقابة، سواء التقليدية الحامية لبنى السلطة السياسية والدينية الأبوية، أم تلك الحساسيات المفرطة التي تفترش مساحاتٍ أوسع في الخطاب العام كل يوم، والتي تبدو مواجهتها أمر أكثر إرباكاً مع ارتباطها بقضايا فئات تسعى إلى الخروج من قوالب تهميشها والتمييز ضدها. ولكن، كيف نتصرف إزاء تلك النكات الشريرة المضحكة والمبدعة للغاية، والتي تدفع في المرء شعور سعادة لحظي تحفزه حرية التفوه بهذه الأشياء الطريفة اللئيمة؟

يرى عمار أن فن الستاند أب كوميدي لا يزال إحدى المساحات القليلة جداً التي تقف في وجه المُحافَظة بكل أشكالها؛ التقليدية منها والمرتبطة بثقافة الصحوة (Woke-culture): «لا أهاجم هنا ثقافة الصحوة ذاتها، وجوانبها التي تدعم الفئات الأقل تمكيناً، بل أتحدث عن تجلياتها النخبوية والديكتاتورية، التي تسعى لإخراس الناس وكَنسلَتهم. إذا دخلت عرضاً وسمعت نكتة لم تُعجبك، حتى لو كانت بالغة القسوة، عن طفل مصاب بمتلازمة داون. هذا مريع! نعم، خصوصاً لمن يمر بتجربة قد تحفزها هذه النكتة. ولكن في النهاية لم يقم أحد باختطاف هذا المُشاهد وتَغميته بوضع كنزته على رأسه وجلبه إلى العرض بطبون سيارة بيجو مُكلبَشاً. هي نكتة ’إذا طلعت لبرة وشربت كاسة شاي بتخلص القصة‘. العروض، وخصوصاً الأوبن مايك، مساحات حرة لنتفاعل مع بعض ونعرف بعض أيضاً. برأيي الستاند أب كوميدي هو أحد آخر القلاع في العالم. أما في العالم العربي، الوضع مختلف والمعركة لا تزال طويلة وقاسية».

بالنسبة لغيداء، ترى أن منع شخص أو نكتة من التواجد في المكان هو نفاق إذا كنا ندّعي حرية التعبير: «هل أتوجه فقط بما أقدمه لمن يشبهني؟ يؤدي الكوميديانز فقراتهم بحرية، وأجمل ما في الأمر أن الكوميديان يتلقى ردة الفعل مباشرة، سواء قوبل بالصمت أو الاستهجان، وشأن الكوميديان أن يلغي هذه النكتة من عرضه بعد ذلك أو يطورها. ما يهم أن يتوفر فيها عنصر الإمتاع والإضحاك».

قد ينتقد البعض جزءاً مما يجدونه غير حسَّاس فيما يُقدَّم في العروض، ولكن للتجمُّع رأياً واضحاً تجاه هذه القضية كما تشرح غيداء: « نتلقّى بعض التذمر أحياناً، ولكني لا أؤمن أن حرية التعبير انتقائية. إن كانت نكتة تحفز مشاعر سلبية لدى أحد فهذا شأنه. هو مجرد كلام لا عنف فيه ولا أذى فعلي، وعقوبته أيضاً يمكن أن تكون كلاماً، وبإمكان الشخص ألّا يضحك وهي أكبر عقوبة للكوميديان، أو أن يخرج من العرض، ولكن الكوميديان ليس مسؤولاً عن مشاعرك أو رصد التروما الخاصة بك ليتجنّبها. هدفنا أن نقدم عرضاً جيداً، وفيه إتقان للأداء بقدر ما نستطيع. نحاول اتباع معايير فنية لا معايير رقابية. على الرغم أن المحتوى كله هو حصيلة تجريب وإعطاء ملاحظات بشكل مستمر، ولكن ذلك يخصُّ المحتوى وليس الرقابة الأخلاقية والصوابية. صحيحٌ أن جزءاً مما نفعله هو بزنس، ولكن أيضاً هذا لا ينفي وجود رؤية ومعايير نحاول تطبيقها».

يرى طارق من جهته أن حرية التعبير لا تزال في وضع مأزوم عموماً، رغم أن العروض تتحدى سقف المحرمات بأشواط شاسعة كل مرة ودون مواربة، وهناك تَقبُّلٌ عموماً لما يُحكى: «مرة واحدة فقط إجانا تهديد بالقتل، الحمدلله». ولكنه يرى أمراً إيجابياً في حساسية جزء من الجمهور للمواضيع الهوموفوبية والذكورية، وأن جزءاً كبيراً من الجمهور الذي يحضر هذه العروض البرلينية لا يتقبَّل الكوميديا الشائعة المبنية على ما هو ذكوري وعلى التعميمات: مثل «النساء لا يعرفنَ كيف يقدن سيارة» التي تحضر في كم كبير من الكوميديا العربية والأميركية أيضاً: «كون الجمهور حساساً يجعل المهمة أصعب، ولكن ذلك يدفع الكوميديان للتفوق على العُرف السائد وعلى نفسه أيضاً ليجد مواضيع جديدة أو مواضيع قديمة من زاوية مختلفة. أحب فكرة أنني مضطر للانتباه إلى الكلمات واستخدامها بدقة، وهو موضوع يثير اهتمامي وأحاول دراسته واختباره على الدوام».

بمتابعة العروض، يمكن ملاحظة ثيمات رئيسية تأتي من استلهامٍ من النوستالجيا السورية ومن ثقافة عيش تتأقلم مع المكان الجديد وظروفه، وتؤثر فيها في الوقت نفسه. يروي الكوميديان ليث مثلاً من خبرته كطبيب عن حالة العشق السورية لمضادات الألم الأقوى عياراً، وهي الرغبة التي تكبحها ضوابط المؤسسة الطبية الألمانية، وخيبتهم والتشكيك في مدى كفاءته المهنية إن توانى عن وصفها لهم. تحضرُ أيضاً فقرات ساخرة من تفاصيل ومفارقات في حياة المُصاحَبة والعلاقات الجنسية، يقدمها كل من المؤدين والمؤديات وبما يشمل العلاقات على اختلاف أطيافها من غيرية وكويرية، في ظاهرة غير مسبوقة على نحو واسع في الحالة السورية، أي الجرأة في الحديث عن هذه المواضيع في مساحات علنية. كذلك هو الأمر بالنسبة لمواضيع تمسّ الأديان، سواء بتاريخها أو تجلّياتها وأثرها في حياة المحيطين بنا.  قد تتردد هنا تساؤلات أو انتقادات من قبيل: هل نحن مشغولون بالجنس لهذه الدرجة؟ وهل مجرد التطاول على ما هو حسّاس ومُقدَّس لدى فئات واسعة يكفي لخلق دعابة؟ ربما يكون الحديث عن «كسر تابو» جنسي أو ديني مُتقادِماً لدى الحديث عن أجناس تعبير أخرى مثل الكتابة الأدبية على وجه الخصوص، والتي تواجه بذاتها حتى الآن شتى أشكال القمع والرقابة التي تصل حد السجن في دول عربية، ولكنّ لمحةً على ردود الفعل والتعليقات الساخطة التي تحمل كماً من العنف من بابٍ طهراني على بعضٍ من محتوى الستاند أب العربي الذي يُنَشر على السوشَل ميديا، تشير إلى أن معركة تجاوز هذه الحدود قائمة وأن تحديها لم يقطع بعد شوطاً كبيراً، وأن «التطاول» جزء واجب ربما من هذا الصراع لانتزاع مساحات أكثر حرية.

«جزء ممّا نفعله هنا هو مقاومة بشكلٍ ما» تقول غيداء: «قد يقول كثيرون: لمَ اللغة العربية فيما أستطيع حضور عروض بالإنكليزية؟ الكثير من الانطباعات التي نقلها إلينا من حضروا العروض أنهم دُهشوا من إمكانية الحديث في مواضيع حساسة باللغة العربية على المسرح أمام الحاضرين. حتى الكوميديانز أنفسهم لم يكونوا ليتوقعوا هذه الجرأة من أنفسهم». ترى غيداء أنه من الواجب مع ذلك اتّباع ضوابط أخرى لضمان أمان المؤدين وعدم تقييد حريتهم: «أتابعُ بنفسي كل التفاصيل المحيطة بالعروض، من الإعلانات المنشورة على فيسبوك وإنستغرام، وكيفية توجيهها وإدارتها بما لا يعرِّض أي من الفنانين ممّن يتعامل معنا لأي خطر. وأقفُ على باب أماكن العرض لمتابعة الوضع والانخراط بأحاديث مع الحاضرين وسؤالهم عن مدى معرفتهم بالمحتوى الذي نقدمه، والكوميديانز مع مرور الوقت يَخطون خطوات أوسع ويتحلون بمزيدٍ من الجرأة. أيضاً نحرص على إعلام الحاضرين بقواعدَ تضمن راحة المؤدين على الخشبة دون أن يتعرضوا للمضايقة والمقاطعة. يحدث أحياناً أن يخرج الناس إذا لم يعجبهم، لكن هذا نادر، ربّما باستثناء حالة واحدة أن قام أحدٌ برد فعل علني. أجد من المهم أن نكون مسؤولين، أمام من يحضرنا ومن يؤدي على حد سواء، في مواجهة أي ترهيب أو تهديد».

على الرغم من مساهمة الفنانين والفنانات المساهمين في العروض بتحدي حواجز وسلطات مُكرَّسة، وما قد يخلِّفه ذلك من أثر تراكمي في الحياة الاجتماعية المحيطة بهم، لكنهم لا يبدون قادمين إلى هذا العالم من باب حمل لواء قضايا وادعاء القدرة على تغيير المجتمع. 

فبحسب نادية الهادية: «بوضوح، أولويتي هي أن يضحك الناس في العرض. أؤمن بأثر للفنون لكنني لا أعد نفسي أبداً بأن أكون ’رائدة تغيير‘. لا يعني ذلك أنني لا أشعر بالسعادة والرضا عندما أتلمّس تفاهماً من نوع ما بيني وبين حاضرين قد يكونون محسوبين على بيئات محافظة لكنهم يضحكون على نكاتٍ عن الجنس خارج إطار الزواج. برأيي هي ليست عملية تغيير من اتجاه واحد، بل تفاعل وتقارب بيني وبين من يستمع إلي، هناك مراحل تسبق الدعابة؛ هي قيامي بشرح بعض التفاصيل عن نفسي وجزء من حياتي حتى تتضح المفارقة في النكتة أكثر، وهنا أبحث عن لغة مشتركة قدر الإمكان، فأجد أنني على العكس أسعى لإيجاد نقاط تفاهم أتقدَّم فيها ممّن هم أمامي أكثر من كوني أبحث عن إحداث تغيير».

بالنسبة لطارق، يرى أن دافعه الأساسي أيضاً هو هدف الترفيه وإتقان الصنعة: « تُحركني فكرة أن أحاول تقديم ما هو خاص وغير متوقع وغير مطروق. ترك الأثر يهمني بالمعنى الاجتماعي، أن أترك أثراً لدى من يحضر ويخرج مُستحسِناً للعرض. أحب أيضاً تجاوز ما تفرضه القواعد والقوانين والأعراف من ضوابط، وأن أجد جوانب مضحكة غير متوقعة في ظاهرة ما يتمُّ نقاشها».

مهما بلغت درجة ارتباط تطور مشهد الستاند أب كوميدي السوري بالترفيه وصناعته، لكن يبدو من الصعب عزله عن الظرف السوري الشتاتي وارتباطه بواقعٍ نشأ بالأساس مُعَشّقاً بنوازع النجاة والمقاومة والصراع مع السلطة. وحتى إن لم تتبدَّ هذه المفاهيم بشكل مباشر فيما يقدَّم من عروض، لكنّها تتحرك كدوافع في خلفية السياقات التي ساهمت في تشكيل هذا المشهد، والتي لا تزال حاضرة في يوميات اشتباكه وتفاعله مع محيطه ومتلقيه.