كلماتٌ قليلة بين أزعر تائب وشرطي مُستجِدٍّ على أعراف المهنة في الأحياء الشعبية كانت كافية لتجنيب فرنسا انتفاضة جديدة، فقد اقتنع هذا السلفي الذي يستلهم محمد علي كلاي أن انتفاضة أحياء جديدة لن تختلف كثيراً عما حدث عام 2005، وأن النيران لن تُشعِلَ إلا المرافق العامة التي يستعين بها فقراء الأحياء أو المتاجر التي يعملون فيها، في ظلّ «عالم لا يبالي». ولكن قصة فيلم البؤساء(2019)، الحائز على جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان، لن تنتهي بذلك السلم الأهلي، والطفل الذي قامت الشرطة بتشويه وجهه حَضَّرَ انتقامه على نار باردة لنصل إلى نهاية مفتوحة، لا نعرف فيها إن كان الشرطي سيضغط على زناد مسدسه كي يستبق زجاجة المولوتوف التي يحملها فتى الضواحي.
ولكن، ماذا حدث حقاً؟
يبدو إذن وكأنَّ انتفاضة 2023 قد جاءت لتؤكد استحقاق مخرج الفيلم لادج لي، ابن هذه الأحياء والمُعتقَل السابق بتُهم متعددة ليس أبرزها الاعتداء على الشرطة أو عمدة بلدته، التقديرَ النقدي والجماهيري الذي ناله، فعوالم الفيلم تبدو شديدة التقارب مع عوالم هذه الأحياء، بل ويبدو منطق انفجارها أشبه بنسخة قليلة التحريف عن سيناريو الفيلم. تبدو الانتفاضة، من ناحية أخرى، ورغم أيامها القليلة، مُشابهة لانتفاضة 2005، فانتفاضة هذا العام التي بدأت أيضاً بمسيرة بيضاء للاحتجاج على قيام شرطي بارتكاب جريمة قتل ﻷحد شبان الأحياء، المراهق نائل مرزوقي، بحجة عدم إطاعته لأمر التوقف، سرعان ما تَحوَّلت إلى أعمال شغب وتكسير ونهب أقرب للعبثية. الفارق هو أن كلفة هذه الأيام الستة قد تجاوزت 650 مليون يورو، أي حوالي ثلاثة أضعاف ما تَكلَّفته فرنسا في ثلاثة أسابيع كانتها انتفاضة 2005. فرغم أن عدد السيارات المحترقة لم يتجاوز الخمسة آلاف، أي أقل من نصف عددها في 2005، إلا أن هذه الأحداث تسببت بإصابة أكثر من 700 شرطي واحتراق وسلب وتضرر ما يتجاوز الألف مبنى، لم تتوقف عند الـ 250 مخفر، بل تجاوزتها إلى بلديات ومتاجر بل ومكتبات، عدا عن أكثر من عشرة آلاف حريق في حاويات القمامة. أحداث شغب قام بها ما لا يتجاوز 12 ألف مراهق وشاب، يتراوح معدل أعمارهم بين 14 و18، في 550 حي وبلدة، ثُلثاها مُصنَّفٌ إدارياً كأحياء شعبية.
قد تُغري هذه التشابهات البعضَ لاستحضار ذلك الاقتباس الشهير حدَّ الابتذال لماركس، عن تاريخ مأساوي لا يكرر نفسه إلا كمسخرة بعد وقوعه كمأساة، ولكن صخبَ صور هذه الانتفاضة ترافقَ مع خَرَسٍ سياسي شبه مطلق، وكأننا في عالمٍ لا تنفع فيها السياسة: عالم بلا مستقبل، لا شيء فيه مهم، ومن لا ينتهز فيه الفرصة لسرقة أحذية نايك لا يعرف كيف يعيش، وذلك في كنف واحدة من أكثر دول الرفاه تَمسُّكاً بمبادئ العدالة في توزيع الثروة ومحاربة الفقر؛ وهو ما يجعل هذا الاقتباس أقلَّ إثارة للاهتمام، بل تبدو هذه الانتفاضة، المكرورة، أقربَ إلى لغز بآلاف الأسئلة لا يثير إلا الذهول والقلق.
هي حدثٌ مجتمعي مُعقَّد يطرح الكثير من الأسئلة لفَهمه واتّخاذ موقف منه. أسئلة لا تبدأ مع تناول علاقة الأحياء الشعبية بالشرطة في بلاد أعلنت ولادة ميثاق حقوق الإنسان والمواطن، أو علاقة الأحياء الشعبية وأحفاد الهجرة والاستعمار بالجمهورية الفرنسية في نسختها الراهنة. أسئلةٌ لا تنتهي عند محاولة فهم سبب صمت هذه الانتفاضة وعُقمها السياسي، بل عدميّتها، مقارنةً بالتعبيرات السياسية الخصبة التي أنتجها الأميركيون السود بعد مقتل جورج فلويد، أو كتلك التي أنتجها باقي الفرنسيين في احتجاجاتهم، كما في أزمة التقاعد أو الستر الصفراء. هي أسئلةٌ تصعب الإجابة عليها حتى على الفرنسي المُقيم جوار هذه الأحياء، يضاف إليها أسئلة أخرى، تطرحها قطاعات واسعة في العالم العربي، عن سبب فشل أبناء الأحياء الشعبية في الاندماج رغم نجاح آخرين، بمن فيهم لاجئون سوريون، وعن مدى إمكانية تأثير «ثقافتهم الإسلامية» و«تربيتهم البطريركية» على سلوكهم وقدرتهم على الاندماج في فضاء ثقافي ذي قيم ليبرالية وديمقراطية.
الأحياء الشعبية؛ واقع اجتماعي بائس
تُصنَّف أغلبية الأحياء التي شهدت هذه الانتفاضة بوصفها أحياءَ شعبية وفق المعهد الوطني للإحصاء والدراسات الاقتصادية.يوفر هذا المعهد صفحة مرجعية، مليئة بالأرقام والإحصائيات السوسيولوجية والديموغرافية، لفهم أحوال هذه الأحياء، وهي مصدر الأرقام التي نذكرها في هذا المقطع. ولكن هذه الأحياء تمتد على رقعة أكثر اتساعاً من خارطة الانتفاضة، حيث يتناثر في جميع الأقاليم الفرنسية قرابة 1300 حي شعبي يقطنها 4.8 مليون، الجزء الأكبر منهم فرنسيون وإن تجاوز معدل المهاجرين (21%) أي ضعف المعدل الوطني، ويتكثف حضورها في أحزمة المدن الكبرى كباريس ومارسيليا وليون، بالإضافة إلى الشمال الفرنسي.
أرقام المعهد، سالف الذكر، يمكن أن تُزوِّدنا بمدخل متماسك لفهم الواقع الاجتماعي لهذه الأحياء، حيث يتجاوز معدل الفقراء المعدل الوطني بثلاثة أضعاف تقريباً، 42 بالمئة مقابل 14 بالمئة. البطالة فيها أكثر ارتفاعاً بثمانية نقاط، ونسبة ما يسمى بالعمل البائس أكثر ارتفاعاً بستة نقاط، والنساء فيها أقل اندماجاً بسوق العمل. هي أحياء فتية بعائلات كبيرة، يتجاوز فيها معدل هذه العائلات ومعدل من هم دون الـ15 المعدل الوطني بستة نقاط. يواجه أبناء هذه الأحياء صعوبات أكبر في الاندماج بسوق العمل لأسباب متعددة، من بينها أسماء أبنائها المنحدرين من المستعمرات الفرنسية السابقة.
رغم أن الأجانب لا يشكلون إلا خُمس سكان هذه الأحياء، إلا أن قسماً كبيراً من الأخماس الأربعة الباقية ينحدر من الهجرة الملونةلا يمكن الحصول على أرقام دقيقة لحجم «الأقليات الإثنية» في الأحياء الشعبية لامتناع المعاهد الإحصائية المتخصصة عن دراسة وإصدار هكذا أرقام.، أي من آباء وأجداد وافدين من المستعمرات المغاربية أو الإفريقية، ويشكِّلُ الإسلام والاستعمار الفرنسي مناهلَ معتبرة في بنائهم لتصوّرهم عن أنفسهم وعن علاقتهم بالجمهورية والتاريخ الفرنسي. يَُترجَمُ ذلك بحضور لافت لتعبيرات الثقافة الإسلامية في الفضاء العام في هذه الأحياء بخاصة، وفي الفضاء العام الفرنسي بعامة. الحجاب هو أكثر هذه التعبيرات وضوحاً وإشكالية، وتأتي مظاهر أخرى، فولكلورية أكثر منها دينية، لتُعزِّزَ من حضور هذه التعبيرات، كالأزياء التقليدية المغاربية والإفريقية ومطاعم الحلال ومحلات الجزارة. تأتي مظاهر أخرى أكثر دينية، كاحتشاد المساجد والأرصفة المجاورة لها بمُصلّي يوم الجمعة، لتزيد من المسافة بين بعض سكان هذه الأحياء وقطاعات واسعة من الفرنسيينقرابة أربعين بالمئة من الفرنسيين يعتبرون أنفسهم ملحدين، وثلث آخر يعتبر أن لا شيء يربطه بالدين، وفقاً لاستبيان رأي أُجري على عينة من 50 ألف فرنسي.، ممّن تبنوا علمانية لائِكية لا تخلو علاقتها بالدين وتعبيراته، المسيحية قبل المسلمة، من الازدراء. وتختلط هذه التعبيرات الدينية الإسلامية بخلفيات وثقافات وطنية شديدة التنوع لتُنتِجَ مظاهر تبدو أحياناً وكأنها قد تجاوزت في فولكلوريتها، بل وتخلُّفها في بعض الأحيان، بلدان المنشأ، وإلّا فما الذي يفسر تجاوز عدد «مكاتب» الرقى الشرعية في مقاطعة سانت دوني عددها في بعض أكبر العواصم الإسلاميةيقدم كتاب «إنشالله، الأسلمة بوجه مكشوف»، الذي ساهم في تحريره صحفيان مرموقان، هذه الأرقام، ضمن مسح صحفيّ متوازن لمظاهر الأسلمة التي تعيشها فرنسا.. لا بد من التذكير أن شرائح لا تتوقف عن الاتساع من أبناء هذه الأحياء تعرف علاقة شبه مقطوعة بأديان أجدادها، ولكن ذلك لا يمنع من وجود شرائح أخرى تتقوقع على نفسها في فُقاعات سلفية. حضور التعبيرات الإسلامية في الفضاء العام، ودفاع الفرنسيين من أبناء هذه الثقافة عن هذه التعبيرات لتوكيد حقهم في المواطنة، بعد صمت أبناء الجيل الأول الملتزمين بمقولة «الغريب الأديب»، كانت ولا تزال مصدراً لا ينضب للسجالات والحملات الإعلامية، بل وشكَّلَت، في ترافقها مع الركود الاقتصادي ونزع الصناعة وتراجع مكانة فرنسا الجيواستراتيجية، رافعة من روافع اليمين المتطرف. فهذا اليمين، الذي يستفيد من تواطئ إعلامي لا يتوقف عن النمو، يحاول اختصار الملون في صورة الأزعر والمتشدد، ويقول إن الواقع الفرنسي في انحطاط دائم بسبب الجريمة وقلة الأمن اللذين تَسبَّبَ وجود هؤلاء الملونين في تناميهما واستفحالهما. ورغم ضخامة التحديات التي يفرضها التنوع الكبير الذي تعرفه فرنسا وتعقيد دينامياته، فإن الحديث عن استفحال الجريمة وقلة الأمن و« تَوَحُّشِ المجتمع»، وهي الثيمة التي أطلقها اليمين المتطرف لتتبناها مؤخراً الحكومة الماكرونية، ليست إلا ادعاءات تُكذِّبها الارقام. فعلى «العكس من الأفكار الشائعة، العنف في مجتمعاتنا لا يتوقف عن التراجع»، وفقاً للباحث لوان ميشيلي. وفرنسا خير دليل على هذه القاعدة، حيث تؤكد دراسة أرقام الشرطة في العشرين سنة الأخيرة على تراجع عدد جرائم القتل، بل وعلى تراجع عدد الاعتداءات الفيزيائية المسجلة، أو ما يعرف إعلامياً بـ «العنف المجاني»، وهي الاعتداءات التي يُتَّهم عادة أبناء الأحياء باختلاقها. بدلاً من الغرق في أرقام الإحصاءات والدراسات السوسيولوجية، يكفي النظر في الخارطة الانتخابية لليمين المتطرف، فأكثر من يصوتون ضد الملونين و«تَوحُّشِهم» هم أبناء الأرياف المهمشة حيث يلامس عدد الملونيين وأحيائهم أدنى معدلاته، في حين يندر أن يصوت أبناء المدن الكبرى التي تستضيف الكثير من هذه الأحياء لهذا اليمين.
غيتوهات السكن الاجتماعي؛ فخٌّ بيروقراطي من نوايا حسنة
بالعودة إلى أرقام المعهد الوطني، لا بد من ذكر رقم مفتاحي آخر، فالمعهد يذكر أن ثمانية من كل عشر شقق في هذه الأحياء هي شقق اجتماعية، بنتها وتبنيها الدولة والبلديات لحل أزمة السكن للفقراء ومحدودي الدخل، وهي نسبة شديدة الارتفاع بالمقارنة مع باقي فرنسا، فرغم أن هذه الأحياء لا تمثل إلا سبعة بالمئة من المقيمين في فرنسا، إلا أنها تحتضن أكثر من 37% من مساكنها الاجتماعية.
رغم أن نسبة هذه المساكن الاجتماعية تبدو أقلَّ الأرقام سوداوية، بل وشكلاً من أشكال التضامن الاجتماعي مع هذه الأحياء، إلا إن فهماً أكبر لتاريخها وسياقات بنائها يشكل واحداً من مفاتيح فهم مشكلة هذه الأحياء وحلولها. فقد ازدهر بناءُ أغلب هذه الأحياء في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي لاحتضان الطبقات العاملة، بمُهاجريها، في مصانع المدن الكبرى في ظل اقتصاد ديناميكي وحيوي عرفته فرنسا في فترة ما بعد الحرب. هي مَساكنُ وأحياء احتضنت قسماً وازناً منها البلداتُ العمّالية، التي سيطر على أغلبها الحزب الشيوعي الفرنسي وترك ما تبقى للحزب الاشتراكي الديمقراطي، وقام بتشييدها كبار المعماريين الفرنسيين، الذين حلموا بتحويل هذه العمارات الهائلة التي يتجمع فيها آلاف المواطنين في مئات الشقق السكنية إلى مدن مستقلة ويوتيوبية. ولكن عقد السبعينيات وحرب العام 1973 بين دول عربية وإسرائيل، جاءت لتُعلنَ نهاية مرحلة «الثلاثينيات المجيدة» ببحبوحتها وحيويتها، وتُدخَِل فرنسا في مرحلة من تباطؤ النمو الاقتصادي وارتفاع معدلات البطالة، وهو أمورٌ رافقتها هجرة العمّال الفرنسيين من هذه المُجمَّعات وصعود اليمين المتطرف والصحوة الإسلامية، ليبقى في هذه اليوتيوبيا عمّالٌ مهاجرون، مغاربة وأفارقة، فقدَ كثيرون منهم عملهم بعد أن انتهت مرحلة إعادة الإعمار الفرنسية، التي اقتضت مجيئهم بناءً على خشونة أيديهم لا على تحصيلهم العلمي.
بل وتحولت هذه التجمُّعات إلى ديناصورات متطلبة وغير قادرة على إرساء حيوية اجتماعية إيجابية، بل ومُشجِّعة لكل أنواع الديناميات الاجتماعية السلبية؛ يكفي أن تَترُكَ فيها قمامة أحدهم بعضاً من آثارها على المصعد كي تسمم صباحات مئات وأحياناً آلاف القاطنين، أو أن يتواجد مراهق أزعر موهوب ليُحوِّلَ أبناء البناية إلى عصابة. مدينة نانتير والتجمع السكني الذي عاش فيه نائل يبدو خير مثال على ذلك، فقد شَيّدت هذه المدينة الأبراجَ الثمانية عشر، التي كانتها ضاحية نائل، في نهاية الستينيات بعد افتتاح جامعة نانتير وقيام الثورة الطلابية، على أنقاض عشوائيات الصفيح التي تَكوَّمَ فيها مهاجرون مغاربة وأفارقة في مشاهد تُذكِّر بعشوائيات مصر والبرازيل. هذه الضاحية، المسماة بضاحية بابلو بيكاسو، والتي سُجِّلَت في التراث الإنساني لليونسكو، استحالت اليوم إلى وحش بيتوني، تهلهلت جدرانه وواجهاته وتعطلت مصاعده، لا يجد سكانه لأنفسهم مَعملاً يُشغلّهم، ولا مدارساً تؤهلهم للعمل في تجمع ناطحات السحاب في منطقة لا ديفانس التي تجاورههم، بسبب اقتصارها على عالم البنوك والخدمات المالية، بل ويجرؤ تجّار الحشيش على وضع لافتات على مداخلها تخاطب السكان بالقول: «الجيران الأعزاء، الجارات العزيزات، كما لاحظتم فقد عدنا. لسنا هنا كي نُكركب أيامكم. نحن هنا للعمل».
تَحوَّلت هذه الأحياء، بعد نزع الصناعة وقلّة الطلب على اليد العاملة، إلى غيتوهات تجمع المهاجرين وطلبة اللجوء والفرنسيين الأكثر بؤساً. فشروط استقبال فرنسا للاجئين والمهاجرين عند وصولهم لا تُقارَن في رداءَتها بجيرانها، ولنا في تَعامُل الدولة الفرنسية مع موجة اللجوء السوري، رغم تواضع ارتداداتها الفرنسية، مثالٌ شديد الدلالة. دولٌ كألمانيا والسويد وهولندا قَدَّمت للوافدين السوريين، بل وأَجبرتهم على اتّباع، مجموعة من الإجراءات التي تضمن اكتسابهم الحد الأدنى من المعرفة اللغوية ومن المهارات التي تؤهلهم للاندماج، في حين وجد الوافدون إلى فرنسا أنفسهم قبالة فراغ إداري ودولة أكثر هزالة بكثير، تتعامل معهم بمنطق التجميع في الغيتو، رغم أن الإنفاق الحكومي على المساعدات الاجتماعية في فرنسا أكبر ممّا هو عليه في تلك الدول.
السوري الأقل هشاشة، الذي يمتلك معارف سابقة في فرنسا، أو الذي يجيد بعضاً من لغتها، يتمكَّنُ من مناورة البيروقراطية الفرنسية للحصول على سكن خاص أو على سكن اجتماعي في حي مختلط، فيتجاوز فخَّ غيتو البدايات ويتمكّن من استئناف حياته في شروط أكثر كَرَماً مما عرفه السوريون في باقي الدول الأوروبية، في حين يجد السوري مقطوعُ الصلة بفرنسا نفسه قبالة مُساعدين اجتماعيين عاجزين، غالباً ما تقتصر حلولهم على شُقق هذه الأحياءكما أسلفنا، السكن الاجتماعي المدعوم في الدولة متمركز بنسبة 37% في هذه الأحياء، وهو ما يعني أن احتمال إقامة المهاجر، الأكثر هشاشة، في هذه الأحياء شديدُ الارتفاع، الأمر الذي يسبب الإحباط ويؤدي إلى تعثُّر مسار اندماجه ويزيد على هشاشة هذه الأحياء هشاشته. التي يرفض أغلب العارفين بالحال السكنَ فيها، ممّا يوقعه في ما يبدو وكأنَّه فخٌّ بنيوي تنصبه بيروقراطية الجمهورية الفرنسية لمُهاجريها. بل وقد يَسعَدُ البعض بهذا الفخ ويبحث عنه، فيُعاين سكنه من حيث عدد الغرف والمساحة ويَنسى مُعايَنته من حيث الشرط الاجتماعي الذي سيكبر فيه أبناؤه، ولكنه سرعان ما يصطدم بالواقع الاجتماعي فيه، فيضمُّ صوته إلى تلك السيدة المحجبة التي اشتكت في حديثها مع رئيس الجمهورية أن ابنها لا يصدق أن في فرنسا أناساً يحملون اسم بيير.
رغم محاولات الدولة الخجولة للاستثمار في هذه الأحياء أو التجمعات بهدف تحسين مستوى حياة قاطنيها، إلا إن واقعها لا يتوقف عن التدهور، ليبدو أن الحل الأكثر جذرية يكمن في تفكيك هذه الغيتوهات وفي توزيع المساكن الاجتماعية على كامل التراب الفرنسي، وتجذيرها في نسيج المجتمع الفرنسي عبر إجبار البلديات، اليمينية خصوصاً، على احترام الكوتا الخاصة بها من المساكن الاجتماعية، وهو ما يرفضه ما يزيد عن نصف البلديات الفرنسية خوفاً من رفض السكان والعقاب الانتخابي، ليبدو أمراً شبه مستحيل في ظل الانكماش الهوياتي الذي لا يتوقف عن التنامي.
اندماجٌ في الجمهورية، انسلاخٌ عن الأحياء
رغم مأزق هذه الأحياء، إلا أن الكثير من أبنائها يتمكَّنون من الهرب من واقعهم عبر المدارس الحكومية وجهود الجمعيات الأهلية والمنح الدراسية وغيرها من الروافع الاجتماعية، وهو ما يُظهره ببهاء فيلم ما بين الجدران الذي صَوَّره الكاتب والمعلم السابق فرانسوا بيجودو مع عدد من أبناء هذه الضواحي، وتربعوا من خلاله على سجاد مهرجان كان بعد فوزهم بالسعفة الذهبية. بل ويستفيد بعض هؤلاء الأطفال من حاراتهم، ومن قدرتهم على الإفلات من الدراسة ومن رقابة أهلهم المشغولين بسعيهم لأرزاقهم أو المنغلقين في قواقعهم، ليتحولوا إلى نجوم تحتفل بها فرنسا. زين الدين زيدان هو ابن هذه الضواحي والشخصية الأكثر شعبية في فرنسا لسنوات طويلة، وكذلك هي حال الممثل الفرنسي السنغالي عمر سي. شخصيات أخرى حازت على نجاحات مبهرة في عالم كرة القدم، كبينزيما وفرانك ريبيري وكيليان امبابي وعشرات نجوم كرة القدم الذين غزوا الدوريات الأوروبية الكبرى، وكذلك هي الحال مع نجوم الراب الذين تَحوَّلوا إلى نجوم عالم الموسيقى في فرنسا. الممثل والكوميدي الفرنسي المغربي جمال دبوس استطاعَ أيضاً التسلُّلَ إلى عالم التلفزيون، وتعريفَ الفرنسيين على جيله وحارته وهمومها، ومهَّدَ الطريق لعشرات الكوميديين الملونين الذين شكَّلوا جيل جمال دبوس، ودافعوا عن أحيائهم وعَرَّفوا الفرنسيين على همومها. هذه الوجوه المعروفة إعلامياً لا تشكل إلا جزءاً يسيراً من نجاحات أبناء هذه الضواحي، فوسائل الإعلام لا تلتفت إلى النجاحات العادية، والمشكلة الأكبر أن الأغلبية الساحقة من هذه النجاحات تتكلل بانسلاخ هؤلاء «الناجين» عن عالم الأحياء الشعبية، ليتركوا شققهم الفارغة لعائلة بائسة جديدة تحاول أن تبدأ مشوارها. باختصار، نجاحات أفراد هذه الأحياء ليست إلا تحديات جديدة تُضاف إلى القائمة. فرات العاني مثالٌ جيد وقريب، بوصفه واحد من احتمالات الهجرة السورية في فرنسا، فهذا الصحفي الفرنسي العراقي، لوالدين لاجئين من الطبقة الوسطى، والذي تمكَّنَ من النجاة من بؤس نانتير والتحوُّل إلى مخرج أفلام وثائقية وصحفي بارز يغطي أحوال العراق وفرنسا لكبريات وسائل الإعلام، نشر في أعقاب مقتل نائل نصَّاً مؤثراً عن حياته في الحارة التي ترعرع فيها هو ونائل، مُستذكِراً ماضي حارته وعنصرية الشرطة وقلة اكتراث المجتمع الفرنسي بذلك الحي الذي سكنه فتىً قبل أن يغادره ليتنقل بين البلدان والعواصم.
الأحياء الشعبية وصورة المهاجر والفرنسي «المُلوَّن»
لا بد في هذا السياق من التأكيد على أن الأحياء الشعبية وانتفاضتها، لا تمثل إلا جزءاً من واقع «الإنسان الملوّن» في فرنسا. فهذه الأحياء لا تمثل إلا 7 بالمئة من عدد السكان، في حين أن تقديرات نسبة الولادات الفرنسية من الذكور والتي تحمل اسماً منحدراً من الثقافات «الملوَّنة»، وبخاصة العربية والإسلامية، تصل إلى 19 بالمئةمع التعسُّف في اعتبار أن جميع سكّان هذه الأحياء ينحدرون من الهجرة، ودون احتساب المهاجرين غير الحاصلين على الجنسية الفرنسية من أصول مغاربية أو إفريقية، والذين يقارب عددهم الثلاثة ملايين.، ما يعني أن ما لا يقل عن ثمانية مليون فرنسي «مُلوَّن» لا يعيشون في هذه الأحياء. بل وتؤكد دراسة هذه الأسماء أنه «خلافاً للأفكار المرسلة، فإن أحفاد الجيل الأول الذي يمتلكون أسماء كعبد القادر وكريم قد أصبحوا أقلية بشكل كبير، وأن الأسماء باتت تعكس الميراث الثقافي لبلد الجذور بالإضافة إلى المعايير المهيمنة في فرنسا». مثال آخر على هذا الاندماج يأتي من مقاطعة ساندوني، فهذه المقاطعة التي تحتوي على أكبر نسبة من المسلمين في فرنسا، أكثر من 45 بالمئة داخل الأحياء الشعبية وخارجها، والتي تحتوي على أكبر عدد من الأحياء الشعبية، قرابة 63 حيّاً، هي ثامن أغنى المقاطعات الفرنسية وواحدةٌ من أقل المقاطعات من حيث عدد المتقاعدين، وبالتالي من أكبر الممولين للتضامن الاجتماعي، أي أن «مولود الذي يعمل في ساندوني، يمول ميري المُقيمية في مقاطعة الفار (المتوسطية العجوز والفقيرة)، والتي تصوت لإيريك زيمور» على حد التعبير الساخر لأحد الخبراء في تقرير من صحيفة اللوموند.
رغم هذه الحسبة الإحصائية البسيطة والمتاحة، إلا إن تياراً واسعاً من وسائل الإعلام اليمينية، والمملوكة بأغلبها من قبل عصبة من أكبر الثروات الفرنسية، والتي تشهد تجذراً متزايداً لخطاب ورجالات اليمين المتطرف، يحاول اختزال ملوني فرنسا في صورة أبناء الأحياء الشعبية، لتتحول الجرائم التي تُنتِجُها حالة التعفن التي تعيشها هذه الأحياء إلى علامة فارقة في هوية كل إنسان مُلوَّن، وليتحول لون البشرة إلى إدانة لا سبيل إلى التحرر منها.
عنف بوليسي أم عنصرية بنيوية
تُضاف إلى البؤس الاجتماعي والاستعصاء التاريخي الذي تعيشه هذه الأحياء معاملةٌ بوليسية فريدة من نوعها. فالعنف البوليسي، داخل الأحياء الشعبية وخارجها، تحوَّلَ إلى ظاهرة لا تتناسب مع الصورة التي تحاول الجمهورية الفرنسية الخامسة تسويقها. تكبَّدت حكومة ماكرون في لحظة احتجاجات الستر الصفراء، على سبيل المثال، إدانات رسمية من قبل الاتحاد والبرلمان الأوروبيين والأمم المتحدة على العنف البوليسي الذي ظهر في مواجهتها للاحتجاجات، حيث تسببت قوات حفظ النظام بإصابة أكثر 2500 مواطن، 24 منهم فقدوا عيناً، وخمسة فقدوا ذراعاً. مقاطع الفيديو المسربة، والتي تظهر عنفاً وحشياً غير مبرر من قبل الشرطة، لا تتوقف عن الظهور بل والتحول إلى تريند عالمي، كذلك المقطع الذي يصور هجوم عناصر من الشرطة على شاب أسود وضربه ضرباً مبرحاً وانتقامياً بحجة عدم ارتدائه كمّامة على عتبة بيته في فترة الحجر الصحي.
إلا أن هذه الاعتداءات تتكثَّفُ لتبلغ ذروتها، بل وتتحول إلى العُرف السائد في التعامل مع الأحياء الشعبية، فشبكات تجارة الحشيش التي تنشط في هذه الأحياء توفر للشرطة حجة ذهبية تُبرِّر اعتداءاتها وتُحوِّلُ قاطني هذه الأحياء إلى ما دون المواطنين، بل إلى متهمين حتى تثبت براءتهم. تُضيء على هذه المقاربة، شبه الاستعمارية، للأحياء الكثير من الشهادات والأعمال الفنية والأدبية، مثل فيلم البؤساء الذي افتتحنا به المقالة وفيلم الكراهية الحائز على السعفة الذهبية في كان عام 1995. والمدخل الرئيسي لها هو استغلال الشرطة لحقّها في القيام بعمليات التحقق الأمني عبر طلب الهوية من المواطنين، للتحرّش بهم والتعبير عن سلطتها وسطوتها، فالشاب «المُلوَّن» عرضة لتفتيش الشرطة أكثر بـ 20 مرة من المواطن أبيض البشرة، وتفتيشٌ من كل ثلاثة يتحول إلى ملاسنات وتدافع جسدي. الأرقام والإحصاءات تجعل اعتبار هذه الاعتداءات بمثابة «أخطاء فردية» أقرب إلى نكتة سمجة، فالأكاديمي إيمانويل بلانشار، الذي يذكرنا أن عدد قتلى الشرطة الفرنسية يتجاوز من ضعفين إلى خمسة أضعاف عدد قتلى دول مجاورة كألمانيا وفرنسا، يؤكد أننا لا يمكن أن نفهم سبب ارتفاع هذا العدد إن لم ندرس علاقة الشرطة بالتركة الاستعمارية الفرنسية. هذه الفضائح والإحصائيات تؤكد أن أعرافاً وتقاليدَ راسخة هي ما يكمن وراءها، وهو ما يذهب البعض إلى اعتباره انحارافاً بوليسياً للدولة الفرنسية وعنصرية بنيوية يُعاني منها هذا الجهاز، وإلا فما الذي يبرر تجرؤ ثمانية آلاف عنصر من هذا الجهاز على الانتماء لمجموعة واتس آب يتبادلون فيها بكل أريحية النكات العنصرية والمعادية للسامية، أو تواطؤ الشرطة مع المدعي العام بل والعمدة في تضليل عائلة أدما تراوري عن أسباب مقتله في مخفر الشرطة .
رغم هذا السجلّ الحافل من الاعتداءات، التي لم يكن مقتل المراهق نائل آخرها، لم تقم الحكومات المتتالية على فرنسا، بيمينها ويسارها، بأي مراجعة حقيقية لعقيدة حفظ الأمن والتقاليد العنصرية الراسخة في جهاز الشرطة أو حتى برامج تأهيله، بل على العكس. حكومة اليساري فرانسوا هولاند، مثلاً، كانت هي من أقرَّ حق الشرطة في إطلاق النار على من لا يستجيب لأمر التوقف، وهو ما حدث مع المراهق نائل، وما يتسبب بمقتل مواطن فرنسي كل شهر وفقاً لإحصاءات 2022. حكومة ماكرون بدورها قامت بالاتّكال على الشرطة وقوات حفظ النظام في التعامل مع أغلب أزماتها، وصولاً إلى استخدام الشرطة لتفتيش الحقائب والتأكد من خلوها من طناجر قد يطرق عليها المتظاهرون احتجاجاً على إقرار ماكرون لقانون التقاعد. اتكاليةٌ جعلتها مدمنة على هذا الجهاز، فباتت تبدو وكأنها تخافه، ليقتصر دور وزير داخليتها، المتهم بالتحرش والفساد، واليميني المتطرف غير المعجب بـ«رخاوة» خطاب مارين لوبين، إلى ناطق نقابي باسم الشرطة، لا يتوقف عن رشوتها، سواء بالتشريعات كمحاولة تمرير قانون يمنع نشر فيديوهات يظهر فيها عناصر الشرطة، أو بمبالغ هائلة كان آخرها إنفاقاً حكومياً إضافياً بمقدار 15 مليار يورو.
جمهورية متردية بإيديولوجية مُحافظة؟
في مواجهة أسئلة الاندماج والهجرة، وبالإضافة إلى إدمان الحلول الأمنية، تعرف شرائح واسعة من المجتمع السياسي الفرنسي، لا تبدأ بالماكرونية وبقايا الحزب الاشتراكي الديمقراطي ولا تنتهي باليمين المتطرف، إدماناً متزايداً على علمانية مُقاتِلة، بعيدة تماماً عن روح تشريعات 1905 التي أقرَّت قانون فصل الدين عن الدولة. حيث تشتعل وسائل الإعلام بقضايا وتصريحات وسجالات لا تتردد الصحافة الأنجلوساكسونية بوصفها بالهستيرية، لم يكن آخرها ذلك النقاش البائس عن ضرورة حظر البوركيني، أو لباس البحر «الإسلامي»، لخدشه «هيبة الروح الجمهورية». نقاشات تُظهر أنَّ هذه العلمانية ليست إلا دوغمائية محافظة راغبة في الهرب من هذه الأسئلة، والدفاع عن الوضع القائم والسردية الوطنية الفرنسية التقليدية. بل ولا تتوقف مظلة هذه التكتيكات الدوغمائية عن الاتساع لتجعل من هذه العلمانية المُقاتِلة البُعدَ الوحيد الممكن لمقولة الجمهورية، ما يحولها إلى ترسانة إيديولوجية شاملة، ووسيلة رخيصة للهرب من مواجهة أسئلة أكبر تطرحها التغييرات المتكاثرة التي تواجهها، كتراجُع مكانة فرنسا الجيوستراتيجية وتحولها إلى قوة متوسطة وتآكل الهيمنة الإيديولوجية لجهاز الدولة على مجتمع بات أكثر تنوعاً وأكثر طلباً على المشاركة في صناعة القرار. وهو ما تختصره عالمة الاجتماع سارة مازوز في المُراجَعة المُعنونة طوطم اسمه الجمهورية، والمنشورة في دورية Le crieur، عبر قولها إن «الجمهورية باتت تُستخدم كعنوان معياري يسمح بإزاحة وتجويف التساؤلات الملموسة عن الطرق التي يمكن أن يتحقق بها وعدُ العدالة في الواقع المُعاش». يتضح ذلك أيضاً في اتهام اليساري جان لوك ميلونشون، المرشح الرئاسي الأقرب إلى قلوب أبناء الأحياء، بالخروج من «الحقل الجمهوري» في كل تصريح يحاول من خلاله الدفاع عن قضايا هذه الأحياء.
يشكل الردُّ الماكروني على الانتفاضة الراهنة واحدة من أكثر التعبيرات كاريكاتورية عن هذا التوجه، فالماكرونية تُنكر تماماً وجود أي عنصرية في جهاز الشرطة، بل وتَجِدُ أن الحكومات الفرنسية المتتالية قد استثمرت الكثير من الأموال في هذه الأحياء دون الحصول على أي نتيجة. ذلك رغم أن أي دراسة جادة توضح أن الاستثمار الإضافي الذي تبذله الدولة في هذه الأحياء خجولٌ حدَّ الغياب، 8 يورو للفرد شهرياً، ورغم أن تقريراً، هو تقرير بورلو، كان ماكرون قد طلبه لتصحيح أوضاع هذه الأحياء ثم تجاهله تماماً، قد خلصَ إلى صياغة ما يمكن اعتباره خطة مارشال للأحياء. بل ولم يتردد الرئيس الفرنسي في اختزال الأزمة إلى بُعد تربوي، ليَعِدَ بتشريعات تعاقب الأهالي مالياً على حماقات أبنائهم، فيزيد من بؤسهم بؤساً.
لا يقتصر الأمر على المجتمع السياسي الفرنسي، حيث يُلاقي هذا الخطاب شرائحَ اجتماعية لا تتوقف عن الاتساع، وهو ما تشهد عليه، بشكل من الأشكال، حملة جمع التبرعات لعائلة الشرطي الذي ارتكب جريمة قتل نائل، والتي تجاوزت المليون وستمائة ألف يورو في أيام قليلة، بمشاركة أكثر من مئة ألف مواطن، في حين لم تتجاوز حملة جمع التبرعات لوالدة نائل ثلث هذا المبلغ. يلتقط الأنثروبولوجي والمؤرخ إيمانويل تود لحظة المظاهرة المليونية، التي خرج فيها الفرنسيون لإدانة الإرهاب الإسلامي ضد صحيفة شارلي أيبدوحين قام إسلاميون بالهجوم على مقر الصحيفة وقتل 12 من العاملين فيها.، لدراسة هذا التغيير الاجتماعي الذي تعيشه فرنسا، حيث يعتبر في كتابه من هو شارلي أن خارطة المظاهرة تعكس استفاقة ما يسميه «الزومبي الكاثوليكي» في المجتمع الفرنسي، فخارطة المدن والبلدات الأكثر مشاركة في هذه المظاهرة تتقاطع بشكل كبير مع خارطة المدن والبلدات التي لم تعرف قطعاً شاملاً مع ميراثها الكاثوليكي، وأبناؤها، علمانيو العقيدة، ترعرعوا في بيئات متدينة نسبياً ولم تقطع مع مسيحيتها إلا في الثلث الأخير من القرن الماضي. هذه الشرائح تُشكِّلُ ما يمكن اعتباره حاضنةً شعبيةً لهذه الإيديولوجيا الجمهورية المحافظة، والتي تتنامى الإسلاموفوبيا في صفوفها. فهذه المظاهرة «التي كان كل شيء فيها سيكون موزوناً لو أن مانويل فالس (رئيس الحكومة الاشتراكي حينها) لم يهدد بحبس الغائبين عنها»، على حدّ التعبير الساخر للفيلسوف آلان باديو، والتي غاب عنها أبناء الطبقات الشعبية والأحياء الشعبية وعُمّال الأقاليم، «كانت تهدف إلى التوكيد على سلطة اجتماعية، وهيمنة» بحسب تود، هي هيمنة فرنسا البيضاء بشرائحها المُتعلِّمة، الراغبة في التأكيد على دستورية حق شارلي أيبدو في السخرية من الأديان والمقدسات قبل إدانة للمقتلة.
بنزيما والجمهورية؛ سيرة تنضح بالدلالات
تُشكِّلُ سيرة اللاعب الفرنسي الجزائري كريم بنزيما مع منتخبه الوطني واحدة من أكثر الأمثلة دلالة على علاقة الجمهورية، بنخبها والكثير من شرائحها الاجتماعية، مع الأحياء الشعبية. فهذا اللاعب المُتوَّج بالكرة الذهبية، والذي شهدت الملاعب الإسبانية والفرنسية على تميزه ونموذجيته الرياضيةوفقاً لتصريح اللاعب، رداً على تصريح لرئيس الوزراء الفرنسي الذي يرفض إعادة التحاقه لعدم نموذجيته، لم يحصل بنزيما على أية بطاقة حمراء، وحصل على 11 بطاقة صفراء فقط فيما يقارب 550 مباراة.، يمثل تقاطعاً ملفتاً للكثير من أسئلة الجمهورية الفرنسية: جذوره في المستعمرة الجزائرية السابقة، ونشأته في أحد الأحياء الشعبية في محيط مدينة ليون، بالإضافة إلى ديانته كمسلم، وسلوكه الشخصي، كل ذلك حَوَّله إلى سؤال مستفز لا تتوقف عن إثارته نخب اليمين المتطرف، واليمين الجمهوري، بل ولا يتوقف عن تعكير صفو شرائح وازنة من يسار الوسط. ورغم أن فيه الكثير ممّا يذكرنا بزين الدين زيدان، الشخصية الأكثر شعبية في فرنسا لسنوات طويلة، بما في ذلك العثرات المسلكيةأُدينَ بنزيما بسنة مع وقف التنفيذ لتدخله كوسيط في حالة ابتزاز للاعب آخر من المنتخب الفرنسي. فقد قام أحد أصدقاء طفولته بابتزاز لاعب بشريط جنسي للحصول على مبلغ مالي، ويبدو أن بنزيما تورَّطَ في وساطة، أقرب للتسلية، لتحقيق مأرب صديق طفولته، وهو ما أدخله في زوبعة قضائية استمرت لستة أعوام، يين 2015 و 2021. زيدان بدوره عرف عثرات مسلكية أقلَّ فضائحية، حيث قام في عام 2006 بنطح مُدافع ايطالي في نهائي كأس العالم.، فإن بنزيما يفترق عن زيدان في بعض التفاصيل. جاء زيدان، وتتويجه بكأس العالم، في فترة جاك شيراك الذي سَوَّقَ لحملته الانتخابية عبر التوكيد على رغبته في ترميم «التمزق الاجتماعي»، في حين جاء بنزيما في فترة خَبَت فيها تلك الإرادة السياسية، بل وتحوّلَ فيها التلاعب بأسئلة الهوية والتمزُّق الاجتماعي إلى واحدة من ضمانات النجاح الانتخابي. بنزيما المشهور بلعبه الجماعي وذوبانه في روح الفريق وامتثاله لتعليمات مُدربيه، بل و«وطنيته الضريبية»تتمثل هذه الوطنية في إصراره على دفع ضرائبه في فرنسا رغم التفضيلات الضريبة التي كان سيحصل عليها لو دفعها في مكان إقامته الإسباني، وفي توطين الشركة التي تدير حقوق صورته في فرنسا أيضاً رغم ضرائبها المرتفعة. يفترق عن زيدان في تفصيل آخر أكثر أهمية. لقد رفض الاندماج على الطريقة «الجمهورية» الفرنسية، فابنُ الأحياء الشعبية لا يصدح بغناء النشيد الوطني الفرنسي في افتتاحيات مباريات المنتخب، ولم يقطع حسب زياد ماجد «مع جذوره الاجتماعية المتواضعة ولا حتى مع أمكنة إقامته السابقة لنجوميّته. فظلَّ الرجلُ على وفاء لرفاق طفولته وجُلّهم مثله من أصول مهاجرة، تماماً كما لم يشأ أهله الطلاق مع بيئتهم الشعبية والانتقال للعيش بعيداً عنها. يُضاف إلى ذلك أن بنزيما أظهر خلال صعوده … تصالحاً بين صورة النجم المحترف كما يُروَّج لها في مخيّلة إعلانية وتجارية فرنسية و’غربية‘ عامة، وبين هويّته كمسلمٍ فخور بدينه يصوم رمضان ويشارك على تويتر وإنستغرام وغيرهما من المنصّات الاجتماعية في نشر صورِه مُمارِساً طقوس عبادة، أو حتى في اعتماد هاشتاغ ’الحمد لله‘ كمُلازم لإعلان إنجازاته وأهدافه ومشاريعه وطموحه». باختصار، لم تستطع شرائح واسعة من الفرنسيين ابتلاع اللاعب بعد رفضه الذوبان في البوتقة الفرنسية، ولا ابتلاع تصريحاته التي تتحدث عن «مُدرِّب راضخ لقسم عنصري من الفرنسيين»، لتتحوّل حماقاته المسلكية، التي لا تتجاوز حماقات نجوم آخرين لطالما غُضَّ الطَرفُ عنهالم يتأثر أربعة من لاعبي المنتخب الفرنسي (كمينغسلي كومان وهوغو لوريس ولوكا هيرنانديز وبول جورج إنتاب) بالأحكام القضائية الصادرة بحقهم في قضايا مرتبطة بالعنف الزوجي أو القيادة في حالة سكر. لاعبون آخرون في رياضات أخرى شعبية أيضاً عرفوا تسامحاً مماثلاً، بل لم يضطر رئيس الفيدرالية الفرنسية لكرة القدم، وهو أحد المسؤولين الأساسيين عن إقصاء بنزيما، لتقديم استقالته، رغم دعاوى التحرش الجنسي الكثيرة، إلّا عندما تحدث باستخفاف عن زين الدين زيدان.، إلى مدخل لإقصائه من المشاركة في المنتخب الوطني خلال منافسات بطولة أمم أوروبا لعام 2016 أو في كأس العالم الأخيررغم أن السبب الرسمي لعدم مشاركة اللاعب في المونديال هو إصابة في الفخذ، إلا أن تعليقات اللاعب على صفحة حسابه على إنستغرام خلال المونديال، كقوله ليلة النهائي فيما يشبه الكيدية المقهورة إنه «غير مهتم أصلاً»، تركت الكثير من الظلال على السبب الحقيقي لعدم مشاركته، وهو ما تردَّدَ صداه في عدد من الصحف الكبرى كصحيفة الباريزيان.، وهي معاركُ كبرى ساهم فيها كبار أعلام اليمين وزعمائه السياسيين، بل ورئيس الحكومة اليساري، واكتست أبعاداً رمزية عميقة، واستقبلها أبناء هذه الأحياء بمرارة شديدة عبَّرَ عنها الكوميدي جمال دبوس بقوله: «هؤلاء الشبان يمثلون الكثير من الأشياء، خاصة في الضواحي. ألا يوجد أيٌّ من ’ممثلينا‘ في منتخب فرنسا!؟… لا نسمح للأحياء الشعبية بالتطور، لا نحولها إلى وادي السيليكون، ولا نسمح لأبنائها بالتطور إنسانياً واجتماعياً واقتصادياً، ثم نأتي لنُدينهم على ما يكونونه. كريم بنزيما، وكذلك حاتم بن عرفة، يدفعان ضريبة الوضع الاجتماعي لفرنسا اليوم».
صخبُ «ضجيجٍ وروائح» منزوعِ اللسان
لم تحاول السطور السابقة إلا أن تنير على بعض الدروب الواجب استكشافها لفهم ذلك الصمت السياسي المدوي، الذي رافق الصخب الهائل الذي أحدثته انتفاضة الأحياء الشعبية لعام 2023. فهذه الأحياء لم ترفع خلال انتفاضتها شعاراً سياسياً مُعتبَراً، بل ولم تتجاوب مع محاولات يسار جان لوك ميلونشون للتحوّل إلى ناطق سياسي باسمها، رغم كثافة الأصوات التي جاءته من هذه الأحياء في الانتخابات الرئاسية لعام 2022. بل واقتصرت في انتفاضتها على شرائح عمرية صغيرة، فعزف عنها بشكل شبه ساحق من قطعوا الربع الأول من عمرهم، لتبدو تمرداً عدمياً لثلة من المراهقين، رغم بلاغة الحدث الذي فَجَّرها والتردي الهائل في تعامل الجمهورية الفرنسية مع تحدياتها. بل وبدت، في أعمال الحرق والتكسير والنهب، متسقةً مع كليشيه «ضجيج وروائح» العنصري الذي حاول من خلاله الرئيس السابق جاك شيراك اختزال ملوّني الأحياء في واحدة من خطبه، إلى درجة أن مُعلِّقاً يسارياً جذرياً كفرانسوا بيجودو خلص إلى اعتبار هذه الانتفاضة نكسةً، بالمعنى الاستراتيجي للكلمة، لمسار اليسار وهذه الأحياء نحو التحرُّر.
قد يُساعدنا فهم مأساوية واقع هذه الأحياء الاجتماعي ودينامياته، والقطيعة الإيديولوجية بينها وبين شرائح واسعة من الفرنسيين الجمهوريين، على فهم هذه عدمية الأحياء الشعبية الفرنسية وصمتها السياسي، ولكن ما يمكن أن يثير من الاستغراب، للوهلة الأولى، أن هذه الأحياء لم تستفد من تاريخ نضالاتها السياسية الذاخر في التعبير عن نفسها. ولكن مآلات تلك النضالات، سرعان ما تبدو وكأنها تُساعدنا على فهم عدمية اليوم. ففي نهاية السبعينيات، جاءت نضالات العمّال المهاجرين في معاملات السيارات في الضواحي الباريسية لتنعش نضالاً نقابياً كان في حالة موت سريري، إلا أن هذه الدينامية النضالية سرعان ما اصطدمت بانقسام هوياتي عبَّرت عنه أحداث مصنع تالبو بواسي، حيث انتهى العمال المضربون، وأغلبهم من المهاجرين، مُحاصَرين من قبل العمال الفرنسيين، وهو ما اضطرهم للاستنجاد بقوات حفظ الأمن ليضمنوا الخرج سالمين من وسط حشود عمالية تهتف «العرب إلى الفرن، والأفارقة إلى البحر». مسيرةُ العرب، أو المسيرة ضد العنصرية ومن أجل العدالة التي استلهمت غاندي، لم تشهد نهايات سعيدة بدورها، فهذه المسيرة التي انطلقت من مرسيليا في بدايات الثمانينات لإدانة الجرائم العنصرية التي استهدفت أبناء هذه الأحياء، بعشرات قليلة، وصلت إلى باريس وقد انضمَّ إلى صفوفها عشرات آلاف الأشخاص، واستقبلها الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران، ولكنها لم تشهد صدىً أبعد من ذلك، بل وتَحوَّلت إلى مثال مدرسي للطُرُق التي يحتال فيها السياسيون على حدث مجتمعي كبير لتفريغه من مضمونه التحرري.
صحيح أن هذه النضالات لم تُغيّر في الواقع الاجتماعي الذي يعيشه أبناء هذه الأحياء، غير أنه لا يمكن إنكار أنها بذرت بعضاً من الفضول في قلوب من تبقى من الفرنسيين، فبدأت تتسرب إلى المشهد الإعلامي والسياسي أسماءٌ وشخصيات باتت اليوم من ركائز هذا المشهد، كالكوميدي جمال دبوس والسياسي عزوز بيجاج، وهي دينامية لم تتوقف عن الاتساع، ليبدو اليوم وكأن أبناء المهاجرين الملونين وأحفادهم يشغلون على شاشات التلفاز مساحة تتجاوز وزنهم الديموغرافي. المشكلة أن هذه الدينامية التي تضمن للأفراد اندماجاً في عالم الجمهورية، تُعزِّزُ انسلاخهم عن عالم الأحياء الشعبية الذي ترعرعوا فيه. هي دينامية ناقصة لا تدمج الأحياء في نسيج الجمهورية، وتكتفي بسلبها كفاءاتها ومواهبها. والبيان المنضبط والمليء بعبارات من نوع «التعويل على الحسّ المواطني»، الذي أصدره نجم الأحياء وابنها، اللاعب الشهير كيليان امبابي، وقلّة اكتراث المنتفضين به، واحدٌ من الأمثلة على ذلك الاندماج/الانسلاخ. في هذه الأحياء، قليلون من يحظون بما حظي به بنزيما، بحيث يستفيدون من مواهبهم وتأهيلهم ليندمجوا في عالم الجمهورية مُغادرين عالم فُتوتهم. في هذه الأحياء كُثُرٌ حَظوا/ابتُلوا بما حظي/ابتُلى به بنزيما، نزقه واعتداده بنفسه وقلة اكتراثه بجمهورية لا تكترث به، تُنكر همومه وتقول لأمثاله، كما قال ماكرون لأحد العاطلين عن العمل، إنه إن عبرَ الشارع يمكن أن يجد له عملاً. بعضهم يُصدِّقُ الجمهورية وخطابها فيقوم، كما يقول المفكر أوليفيه روا ساخراً، بطلب العمل عند بائع الحشيش الذي ينشط في شارعه، أو يشارك في انتفاضة كي يزهو بما سرقه من متاجر حيّه.