«لقد اقتحموا الشقّة، أخذوا زوجي من قلب منزلنا في الرابعة صباحاً، ولا أعرفُ عنه شيئاً منذ أيام، أنا وحيدة، وحامل على وشك الولادة».

كان صوتها يرتجف، أمّا أنا فكنتُ أقف في طابورٍ طويل في أحدِ مكاتبِ التحويل كي أستلمَ مبلغاً زهيداً عن عملٍ أنجزته. نحن في شهر نيسان (أبريل) وقت الظهيرة، وازدحامٌ مروريّ خانق. شتائمُ وصراخٌ يعلوان في السماء ثم يهبطان فوق رؤوس المارّة في أحد أفقر مدن الجنوب اللبناني، عربات بيع الفواكه والخضار منتشرة بشكلٍ عشوائيٍّ كثيف، وكلابٌ هزيلةٌ تتسكّع بين الجموع غير الآبهين لوجودها. للمتسولين مساحات كثيرةٌ يركنون إليها، يخطوا الناس بتثاقلٍ، بدت لي وجوههم أليفة، وكلّ شيء كان يسير ببطءٍ شديدٍ.

أقرّرُ العودة إلى منزلي سيراً على الأقدام، أحاولُ تفادي أكوام القمامة المُلقاة على جوانب الطرقات، يعلنُ عمّال البلديّة عن إضرابات مستمرّة عن العمل ثمّ تَغرقُ البلدة في القمامة ليومين أو ثلاثة، وفي بعض الأحيان يستمرّ الوضع إلى أكثر من ذلك. أكملُ المشي، أفكرُ في المكالمة التي باغتتني، ثمّ ألوم نفسي على ردّي لتلك السيّدة. ربّما كان يجدر بي أن أسمعها أكثر، ربّما كان عليّ أن أسألها أكثر، لكنّي تذكرتُ أيضاً أنّه كان عليّ أن أحمي نفسي وسط هذه الفوضى.

العام الفائت، ذهبتُ إلى الأمن العام اللبناني كي أُجدّد إقامتي، حين وصلتُ كان الموظّفون يهمّون بالمغادرة، صعدتُ يومها الطوابق مثل المجنونة، قليلة هي المرّات التي أُجبِرُ فيها نفسي على تقبّل فكرة أنّه يتوجّب عليّ الدخول إلى مبانٍ وهيئات حكوميّة، رجالها يرتدون زيّاً موحداً، وثمّة أسلحةٌ ظاهرةٌ على جنباتهم. وقتها أبرزتُ ورقة تثبتُ أنّ لديّ بدلاً شهريّاً أحصلُ عليه عبر منحةٍ دراسيّة، فهذا شرطٌ أساسيٌّ للحصول على الإقامة الدراسيّة، ومعه تعهّدٌ بعدم العمل، وأوراقٌ تثبت وجود موارد ماليّة تكفي للمعيشة. نَظرَ الموظّف إلى الورقة مُطوّلاً وقال: «منحة مُموّلة من قِبل الاتحاد الأوروبيّ» وفتر بشفتيه، «حسناً الاتحاد الأوروبيّ، علينا أن نُدقّق في هذه المؤسّسة وتمويلها». رُفِضَ طلبي في المرّة الأولى، ثمّ حصلتُ على الإقامة بعد أن عاودتُ المحاولة مرّة ثانية، هكذا هي حقوقنا علينا أن نُلحّ في سبيل انتزاعها، وكانت آخر مرّة أحصلُ فيها على الإقامة.

الهزيمة رقم واحد

مرّ عشرون يوماً على مكالمة «فاطمة» -سأسميها هكذا- وبصوتها الذي سيلازمني أوقاتاً كثيرةً، لم أبارح غرفتي منذ ذاك اليوم، ولم أرَ الشارع إلّا عبر نظراتٍ سريعة من شرفة المنزل. صوت فاطمة عنى لي شيئاً يومها، كان يعني أنّه على موقفنا أن يكون واضحاً إزاء ما يحصل، لا ينبغي أن نصمت عن هذا الخراب، لكنّني كنت عاجزة عن التفكير. كان زوجها من الرجال الذين اعتقلتهم السلطات اللبنانيّة تعسّفاً في منطقة جونية، ثم رَحَّلته إلى سوريا ضمن حملة الترحيل التي قلبت حيوات مئات الآلاف من اللاجئين-ات السوريين-ات في لبنان رأساً على عقب.

شاهدتُ الكثير من الفيديوهات التي تُصوّر مشاهد اقتياد لاجئين سورّيين من منازلهم، ثمّ تكديسهم في شاحناتٍ كبيرة. بالنسبة لي لم تكن تلك المشاهد، أنا اِبنة الغوطة الشرقيّة، غريبة. العنفُ لم يكن غريباً، لكنّي لم أَشَأ أن أشاهده يتكرّر مرّةً ثانية في زمنٍ آخر، وهو في كلّ الأحوال لم يكن أقلّ قسوة ولا أقلّ إذلالاً.

بدأَ هاتفي يرن، مئات التعليقات تحت منشور أسأل فيه السوريين عن رغبتهم في الكلام والتعليق على القرارات التعسفيّة والترحيل، كنتُ أعلم أن ما كتبته بلا قيمة، ماذا يعني أن أسأل من لم يخرجوا من منازلهم أياماً عديدةً؛ ماذا عن الذين خسروا أعمالهم؟ ماذا عن الذين يموتون من الخوف ثمّ الجوع لأنّهم خائفون من النزول إلى الشارع في مناطق كان التشديد الأمني والمداهمات فيها أقسى من غيرها؟ حاولتُ التفاعل مع جميع التعليقات، أَجمعُ الملاحظات وأُدوِّنها، أسألُ في حال كان التعليق يحتمل شرحاً إضافيّاً، ودموعي تنفر من عيوني.

أذكرُ أنّ رجلاً يقيم في ضيعة صغيرة أصرَّ على محادثتي في صندوق الرسائل الخاصة، أرسلَ الكثير من التسجيلات الصوتية، قال لي يومها: «لم أعد أريد شيئاً، أتحدّث معك الآن وعيوني تحوم في المكان وتُراقب النوافذ من الخوف، نحن بلا أيّ ثمن صدّقيني، مفروضٌ علينا الدخول والخروج في ساعات مُحدّدة، يُمنَع خروجنا بعد الساعة السادسة من المنزل. منذ ثلاثة أشهر فرضت علينا البلديّة دفع مبالغ معيّنة شهريّاً (إتاوات) لا نعرف سببها، على الرغم من أنّنا ندفع إيجار المنزل وفواتير الكهرباء والمياه وضريبة للقمامة، فيما نتقاضى يوميّاً أربعة دولارات 400 ألف لبناني، ثم يقولون الأمم تُعطينا بالدولار، ألا تعتقدين أنّ هذا أصعب من الترحيل؟».  

كنّا كسورّيات وسوريّين في لبنان نتوقّع حدثاً يتعلّق بأوضاعنا القانونيّة في البلد، على وقع الفراغ الرئاسي وما يحيط به من تخبُّطات داخلية من جهة، واقتراب موعد مؤتمر بروكسل لدعم سوريا والمنطقة من جهة ثانية. توقعنا زيادةً على رسوم الإقامة والمزيد المزيد من خطابات الكراهيّة والعنصريّة، لكن لم يخطر لواحد منّا أن تتكرّر مأساة الحواجز، ولا المداهمات ولا الاختباء، ولا أن يُحمَّلَ رجال ونساء في شاحنات ثم يُرمى بهم على الحدود، بين أيادي الفرقة الرابعة. لطالما اعتقدنا بأنّ تلك الكوابيس صفحات من ماضٍ مريرٍ طويناها حين هربنا من سوريا.

يسألني صديقي بعد مرور شهر، هل ما زلتِ خائفة؟ الاعتراف بالخوف ليس سهلاً، قد يُساء فهمه، قد يعني هزيمة وهامشاً ينهشنا فيه المتربصون لاخفاقاتنا، لكنّه صديقي، من القلّة الذين كنت أستطيع أن أبوح لهم-ن بهذا الخوف. أجبته: لا أعلم، ربّما. أتعلم؟! لم أكن أعلم أنّني جبانة.

لا المُهدئات ولا أقراص ميلاتونين المُنوّمة باختلاف عياراتها قد فعلت شيئاً، كنتُ أنتظر أن تشرق الشمس، ثم آخذُ حماماً دافئاً وأنام. فكرت مرّتين بأن أحزم حقيبةً صغيرة أعود بها إلى سوريا، كنت أريد فقط إنهاء هذه التجربة القاسية ولو كان ثمنها دمي، لو كان ثمنها شقاءً أبديّاً. صوت أمي وحده الذي كان قادراً على أن يعيد إليّ إمكانيّة التفكير بقليل من العقلانيّة، هي لا تتحدّث كثيراً، جُملها دائماً غير مكتملة وتقطع بينها بأُدعية لي بالتوفيق واليُسر، لكنّني فهمتُ أنّها لا تريد أن تخسر فرصة اللقاء بعد تسع سنوات على الغياب، فهمتها دون أن تنطق بها.

انكِسار

أعيشُ برفقة خمس نساء غيري في شقة كبيرة، نحن ثلاث سورّيات، وثلاث لبنانيّات، لا أشياء كثيرة مشتركة بيننا، إلّا أنّنا كنا جميعنا نبحث عن حياة أفضل. نتقاسم إيجار المنزل، وفواتير الكهرباء والإنترنت.

 في نهاية «الكوريدور» تقع غرفتي على اليسار، في الغرفة المقابلة لغرفتي تعيشُ «مي»؛ سأسميها هكذا. 

في منتصف شهر نيسان، فرغت اسطوانة الغاز، ما يعني أن ننتظر يومين ريثما أقوم بجمع ثمنها من شريكاتي في السكن. في صباح اليوم التالي، سألتني مي عن رغبتي في شرب القهوة، استغربتُ السؤال، وصَمَتُّ دون إجابةٍ واضحةٍ، بعد ذلك أحضرت طبقاً من الستانلس، وأَغرَقت قطنة بحجم راحة اليد بالكحول وثبتتها في منتصف الطبق ثمّ أشعلتها بخفّة، وصار الطبقُ مَوقِداً، نصبت ركوة القهوة فوقه حتى كادت تغلي، نظرنا إلى بعضنا بطرفِ عيوننا نريد أن نحكي أشياء كثيرة، قالت بصوت منخفض: «كنتُ أفعل هذا في ركن الدين منذ سنوات».

الهزيمة رقم إثنان

لا أحد من اللاجئين السوريّين يريد أن يستوطنَ في لبنان، كلّها إشاعات وأكاذيب، كما أنّ لا أحد يريد أن يعي ذلك.

منذ فترة قصيرة، كنا نتجمّع أنا وأكثر من خمسين لاجئاً ولاجئةً سوريّين في منظّمة الهجرة الدوليّة في بيروت، وبيننا أطفال. أخذوا هواتفنا وأغراضنا، ثم علّقوا على أعناقنا بطاقة مُشدّدين على أن تبقى ظاهرة بما يكفي، هكذا صارت أسماؤنا بأرقامِ البطاقات. فحصٌ طبيٌّ شامل لجميع من قرّرت مفوضيّة شؤون اللاجئين منحهم فرصة ثانية من أجل حياةٍ كريمةٍ في بلادٍ نائية، لا نمتلك رفاهيّة اختيارها، إذ تدرس سفارات دول العالم الأول هذه الملفّات ثمّ تختار كلّ منها بعناية تبعاً لقدرتها على استيعاب وفود «اللاجئين المفيدين» لهذه الدولة. في عام 2022، أعادت 13 دولة توطين 7.490 لاجئ ولاجئة سوريّة مقيمين في لبنان. ورغبةُ اللاجئين في السفر إلى بلد لجوء ثانٍ لا تَخفى على أحد، وتَظهر جليّاً على مواقع التواصل الاجتماعي في البحث عن طُرُق للهروب بأيّ وسيلةٍ كانت؛ من إعادة التوطين الذي قد يستغرق سنوات وصولاً إلى الهجرة غير الشرعيّة.

يومها تحولّت قاعة الانتظار الشبيهة بصفٍ مدرسيّ، والمليئة بمقاعدٍ خشبيّةٍ، إلى مُلتقىً اجتماعيٍّ يبوحُ فيه اللاجئون بمخاوفَ لم يكونوا ليتلفّظوا بها خارج حدود هذه الغرفة، وأصبحت بدايةً للتعارف واستدعاء الذكريات، وتكوين صداقاتٍ تمنّوا لو يصطحبونها معهم إلى بلد اللجوء الثاني عاجلاً غير آجل، وكلّ ذلك بمسحةٍ من أسىً مُغلّفٍ بظرافة ما، وقدرة على احتواء ما يجري.

الإقرار بالهزيمة

الآن، لا مفرّ من الألم، ولا مفرّ من شعورٍ مثلَ لطخة عارٍ على جبين مَن بَذلَتْ جهداً ولم تستطع أن تُحرّك قشّةً في هذه البلاد طيلة سنوات عديدة.

إنّها السنة الثالثة وكان من المفترض أن تكون الأخيرة في الجامعة في اختصاص اللغة الإنجليزية وآدابها، توجّبَ عليَّ أن أمتحنَ في بضع موادٍ منذ أيامٍ، تطلّبَ الأمرُ ذهناً صافياً، وإيماناً بقيمة ما أفعله، كنتُ وقتها غارقة في بُؤسي، أَسيرُ وأَجرُّ أقدامي ورائي، حاولتُ دون فائدة، كنتُ قد أعلنتُ استسلامي.

أبحثُ على الإنترنت عن وصفاتٍ لتقليل الشعور بالهزيمة أو لتبديد الرغبة في لوم النفس، أضع صوراً شخصيّة على إنستغرام، صلتي الوحيدة مع العالم الخارجي كي لا أموت من التفكير، كي أشعر بأنّي ما زلتُ على قيد الحياة، أستقبل تفاعلات الأصدقاء والصديقات والقلوب التي يرسلونها بحبٍّ كبيرٍ.

أتعثّرُ بنصائح «إنستغراميّة» من قبيل: «ركّزي على تمارين التنفس»، «ولا تنسي متعتك الذاتيّة»، «هل احتضنتِ وحوشكِ الصغيرة اليوم؟». في النهاية، لم يكن الأمر يتعلّق بفاطمة وبزوجها مجهولِ المصير، ولا حتّى بولدِهما الذي قُدِّرَ له أن يفتح عينيه على الدنيا ليختبر معنى اليُتم والتشرّد، ولا بالأشخاص الذين قابلتهم ولا حتى الذين قرأتُ تعليقاتهم فحسب؛ كان الأمر أكثر تعقيداً وأكثر من أن يكون مسعىً لتبسيط إنسانيتهم أو إنسانيتنا.

أحاديثُ لاجئين سوريّين في بلدٍ ينهار ثمّ تُرمى فوق أكتافهم أسباب انهياره، هي أحاديثٌ لا تنتهي عن هواجس جماعيّة بالموت والهزائم وعن دفاعهم المرير والمستمر عن النفس.

يبقى الأكثر إيذاءً وهتكاً لإنسانيّتنا هو ضرورة التأقلم مع نوعيّة عيش كهذه؛ عيشٌ مُرهِقٌ ومُقلِقٌ وعبءٌ على حامله.