في محاولة للالتفاف على مفاوضات ونقاشات مجلس الأمن بشأن تجديد قرار دخول المساعدات عبر الحدود في سوريا، قام مندوب النظام السوري في الأمم المتحدة بتسليم رسالة تسمح للمساعدات الإنسانية الأممية باستخدام معبر باب الهوى لمدة ستة أشهر، مع وضع عدد من الشروط ضمن الرسالة من بينها: 1- تنفيذ المساعدات بالتعاون والتنسيق الكامل مع الحكومة السورية. 2- عدم التعامل مع السلطات في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، مع خصّ حكومة الإنقاذ والحكومة المؤقتة بالذكر في الرسالة. 3- تجديد المطالبة بالسماح للهلال والصليب الأحمر بالإشراف على الاستجابة في مناطق شمال غرب سوريا. 4- إضافة إلى ذلك، ذكّرت الرسالة المانحين بالتزاماتهم بدعم الدولة السورية في برامج الإغاثة والتعافي المبكر وإعادة الإعمار.
تبدو الرسالة وكأنها جاءت نتيجة فشل أعضاء مجلس الأمن على مدار أيام في التوصل إلى صيغة قرار يوافق عليها الجميع، وتراشقهم الاتهامات بالمسؤولية عن التعطيل، ولكنها عملياً تُحاول أن تُنهي حقبة امتدت تسع سنوات، كان قرار عبور المساعدات فيها بيد مجلس الأمن، وكان عنوانها التفاوض والتوظيف السياسي من قبل أعضاء مجلس الأمن لتجديد القرار.
تَغيُّر سلوك النظام
خلال الأعوام الأخيرة، غيّرَ النظام السوري من أسلوب تعامله مع العديد من الملفات الأممية، سواء الملفات الإنسانية أو الحقوقية، فهو يحاول أن يكون أكثر انخراطاً وتواجداً وتجاوباً مع الآليات الأممية، ليكون ضمن اللعبة ويفرض سرديته، بدلاً من أن تُفرَض عليه قرارات تُكلِّفه وتُكلِّفُ حلفاءه جهوداً في التفاوض. هكذا أصبح أكثر تجاوباً مع آليات مجلس حقوق الإنسان، وأكثر تواجداً في المقاعد الأُممية، فنجح في الحصول على مقعد في المجلس التنفيذي لمنظمة الصحة العالمية، وقدَّمَ تقريراَ موسَّعاً ضمن الاستعراض الدوري الشامل لحالة حقوق الإنسان في سوريا بغير عادته.
بعد الزلزال، تَجنَّبَ النظام قراراً جديداً من مجلس الأمن، حيث كان المجلس قاب قوسين أو أدنى من السماح باستخدام معابر إضافية نتيجة تَعطُّل معبر باب الهوى إثر الزلزال، فأعطى الأسد الموافقة للأمم المتحدة لاستخدام معبري باب السلامة والراعي لمدة ثلاث شهور، جدَّدها لاحقاً بدلَ أن يُفرَض عليه ذلك. و يبدو أنه تعلَّمَ من درس الزلزال، إذ يناور اليوم بالطريقة نفسها حول المعبر الأساسي وهو باب الهوى.
ماذا يستطيع مجلس الأمن أن يفعل؟
ردّاً على رسالة النظام، وجهت الأمم المتحدة رسالة إلى مجلس الأمن تُعلِّقُ فيها على رسالة النظام السوري مبرزة بعض التحفظات. تقول رسالة الأمم المتحدة إن رسالة النظام يمكن أن تكون مُرتكزاً قانونياً يَسمح لها بالعمل عبر الحدود، ولكنها تَحدُّ من مبدأ أساسي ووظيفة أساسية للأمم المتحدة وهي التنسيق والانخراط مع كافة الأطراف، كما أنها تفرض التنسيق من خلال الهلال والصليب الأحمر اللذين لا يملكان أي تواجد في المنطقة.
فعلياً، ونتيجة رفض النظام السوري للتدخل عبر الحدود مدّة تسع سنوات، استمرَّ مجلس الأمن بإصدار القرارات التي تُفوض الأمم المتحدة بالعمل عبر الحدود دون موافقة النظام واحداً تلو الآخر. تجاهلَ هذا الإجراء على مدار سنوات عدة تحليلات قانونية أكدت على إمكانية العمل عبر الحدود دون موافقة الدولة صاحبة الأرض ودون موافقة مجلس الأمن، حيث عمل مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية UNOCHA مع جامعة أوكسفورد في عام 2014 على تحليل قانوني لإمكانية العمل عبر الحدود، كما قامت مجموعة من المنظمات السورية بالتعاون مع غرنيكا 37 بإصدار تحليل قانوني لسيناريوهات العمل عبر الحدود دون موافقة الدولة أو مجلس الأمن. كانت جهود المُناصرة لفرض هذا التأويل القانوني تتصاعد في العامين الماضيين.
تَجنَّبَ النظام كل السيناريوهات السابقة، وتراجعَ خطوة ليضع يده في هذه اللعبة بدلاً أن تُفرَض عليه وبدلاً من الاستناد كل مرة على فيتو شريكه الروسي. تُحاول رسالة النظام لمجلس الأمن أن لا تترك له المساحة للتدخل، وأن لا تترك المساحة لوكالات الأمم المتحدة لتستجيب دون موافقته. فعلياً، تسعى رسالة النظام إلى فرض معادلة جديدة بدل أن يتفاوض الروس كل عام في المجلس للحصول على مكاسب.
يستدعي الوضع الجديد عملاً من الاستشاريين القانونيين لدى الدول المُساندة لمبدأ لاستجابة عبر الحدود، للعثور على حلّ لا يترك استجابة وكالات الأمم المتحدة في الشمال السوري تحت سيطرة النظام السوري.
ماذا يمكن أن تفعل الأمم المتحدة؟
في عام 2020 أوقفت الأمم المتحدة عملياتها في شمال شرق سوريا مباشرة بعد قرار مجلس الأمن بحصر العمل عبر الحدود في معبر وحيد هو باب الهوى، ولم تبحث عن بدائل. استمرت الاستجابة الإنسانية في الشمال الشرقي بتنسيق من منتدى المنظمات غير الحكومية، وبتعاون من حكومة كردستان العراق لتيسير العمليات اللوجستية.
كان ذلك مُقلقاً دائماً لأنه يعني أن التطمينات من الوكالات الأممية بشأن رغبتها في العمل بغض النظر عن القرار قد لا تكون جدية، وقد يحدث ذلك في شمال غرب سوريا أيضاً، حيث استجابة الأمم المتحدة أوسع بكثير من شمال شرق سوريا ولديها العديد من الأدوار في المنطقة هي التالية:
1- التمويل : تستقبل الأمم المتحدة حصة كبيرة من التمويلات التي تخصص للاستجابة الإنسانية في شمال غرب سوريا، وتقوم بتنفيذها عبر الشركاء من منظمات إنسانية سورية ودولية.
2- الدور اللوجستي: تملك الأمم المتحدة قدرات لوجستية أعلى بكثير من المنظمات الغير حكومية، وفي العديد من القطاعات مثل الأمن الغذائي، والصحة.
3- تنسيق العمليات الإنسانية: تقوم الأمم المتحدة من خلال منصاتها بتنسيق الاستجابة الإنسانية، وتحتكر بطريقة أو بأخرى ذلك و خاصة موضوع تقييم الاحتياجات و التخطيط.
4- التنسيق بين الأطراف: هذا دور محوري في عمل الأمم المتحدة خاصة الأطراف غير الحكومية في شمال غرب سوريا، والتي تدير المعابر من الطرف السوري.
5- الدور التقني: حيث تقوم وكالات الأمم المتحدة، كل في اختصاصها، بقيادة قطاعات الاستجابة المتعددة تقنياً.
ما هو الممكن عملياتياً؟
الخطر المُتوقَّع يصبح واقعاً يوماً بعد يوم، والنظام السوري يزيد من تدخله بالاستجابة الإنسانية يوماً بعد يوم، ومع تاريخه الطويل في الفساد وإفساد الاستجابة، فإنه لا يمكن ترك ذلك دون بدائل.
إذا أصرت وكالات الأمم المتحدة على عدم تجاوز مبدأ السيادة في القانون الدولي، فإن الاستجابة التي بقيت حبيسة قرارات مجلس الأمن ستصبح تحت وطأة تدخلات النظام السوري، وعلى الرغم من أن ردَّ الأمم المتحدة على رسالة النظام يحمل تحفظات بنبرة واضحة، إلا أنه يؤكد أن من الممكن استخدام الرسالة كمستند قانوني لعملهم.
عملياً، يمكن من خلال التعاون بين المانحين الدوليين والمنظمات غير الحكومية الاستعاضة عن عدة أدوار تقوم بها الأمم المتحدة، خاصة التمويل الممكن عبر المنظمات غير الحكومية السورية والدولية بدل أن تمررها عبر الأمم المتحدة، وهذا يمكن أن يُحدِثَ وفراً في المصاريف الإدارية العالية لوكالات الأمم المتحدة.
الدور اللوجستي يبدو أكثر تعقيداً، ولكن يمكن الاستعاضة عنه، خاصة أن هناك جزءاً كبيراً من اللوجستيات تتم حالياً من خلال عمليات شراء مباشر تقوم بها المنظمات السورية في تركيا، أو من دول أخرى عبر المعابر التجارية.
بينما تبقى أدوار تنسيق الاستجابة الإنسانية والتنسيق مع باقي الأطراف، والقيادة التقنية للقطاعات وعملية تقييم الاحتياجات ووضع الخطط الاستراتيجية، هي الأدوار الأكثر تعقيداً والأصعب تعويضاً، خاصة مع عدة عوامل يأتي على رأسها: 1- التنافس على التمويل والديناميكيات السلبية بين المنظمات غير الحكومية. 2- الدور التركي في شمال سوريا. 3- مخاوف المانحين من تَعامُل المنظمات الإنسانية مع التنظيمات الموجودة في شمال غرب سوريا، وأخيراً: 4- احتكار دور التنسيق من قبل الأمم المتحدة لسنوات وعدم وجود بنى محلية للتنسيق. تجلَّى ذلك بشكل واضح خلال الزلزال، حيث كانت هناك فجوة تنسيق واضحة نتيجة تَعطُّل إدارة الاستجابة في غازي عنتاب بعد تَضرُّرها بالزلزال.
ليس من مصلحة السوريين في شمال غرب سوريا انسحاب الأمم المتحدة لأي سبب من الأسباب، وستبقى الاستجابة عبر الحدود هي الشكل الأفضل لهم، حيث لا يمكن بأي شكل الاعتماد على استجابة إنسانية من دمشق ذات التاريخ الطويل في الفساد وتسييس المساعدات. إبقاء عمل الأمم المتحدة في شمال غرب سوريا يحتاج من المانحين الدوليين تحركاً أوسع، لكي يدفعوا وكالات الأمم المتحدة لتجاوز موافقة النظام أو موافقة مجلس الأمن للعمل عبر الحدود. قد يبدو ذلك صعباً، وقد يكون لدى الولايات المتحدة الأميركية والمملكة المتحدة وفرنسا رأيٌ آخر، سواء كأعضاء مجلس أمن أو كمانحين إلى جانب باقي المانحين الدوليين الكبار كالاتحاد الأوروبي وألمانيا، ولكن هناك بشكل أو بآخر قبولاً من جانب هذه الدول لوضع خطط بديلة في حال توقف قرار عبر الحدود نهائياً.
في سيناريو أكثر تعقيداً، وفي حال انسحاب الأمم المتحدة، فإن على المنظمات الإنسانية أن تعمل جادة على إيجاد آليات تنسيق وحوكمة محلية للاستجابة الإنسانية.