تُشاركُ ليلى، اسم مستعار، (37 عاماً) صوراً على حسابها على إنستغرام، أخيراً مع زوجها وأبنائها في صورة واحدة ومكانٍ واحد، تبتسم وإياهم، لكن لا أحد يُدرك أن استعادة حياتها العائلية وإثبات ذلك للمجتمع عبر الصور كانت نتيجة مساومةٍ خاضتها بينها وبين نفسها، فقد ضحّت بنجاحها المهني في قطاع غزة، بعد أن كانت بين خياري استكمال حياتها كامرأة مستقلة وناجحة برفقة طفلين والدهما مهاجرٌ منذ سنوات، أو أن تنضمّ إلى زوجها في بلجيكا لتبدأ من الصفر حياةً مهنية وعائلية بفُرص نجاح مجهولة.
منذ سنة اتخذت ليلى قراراً بالاكتفاء من تجربة الحياة في غزة، ليس بسبب سوء ظروفها المعيشية، وإنما بسبب الضغط المجتمعي الذي بات يحاصرها بأسئلة كثيرة عن حالها وعلاقتها بزوجها وأطفالهما، وملاحقتها بإشاعاتٍ عن انفصالهما. تقول: «في العام 2015 ولأسباب تتعلق بزوجي وعمله، انتقل إلى السكن في الضفة الغربية، وتحديداً مدينة رام الله، وكان الاتفاق أن أنتقل للعيش معه هناك، لكن لأسباب سياسية، كحال العديد من العائلات، لم نستطع استصدار تصريح مغادرة من قطاع غزة إلى الضفة، فهذا الأمر مرهونٌ بمزاج الاحتلال، وبقيَ الحالُ هكذا لسنتين ونصف، لم يكن بإمكان زوجي العودة إلى غزة، وبدأتْ من هنا فكرة الهجرة إلى أوروبا، القرار الذي اتخذناه سوياً».
ليلى واحدةٌ من عشرات النساء اللواتي هاجر أزواجهن من قطاع غزة لأسباب متعددة أبرزها الاقتصادية والسياسية، رغم أن 72% من الأزواج المهاجرين لم يكن لديهم فرصة عمل مسبقة تنتظرهم في بلاد المهجر، و38.9% هاجروا لأسباب سياسية، وذلك وفقاً لدراسة لم تُنشر أجراها مركز شؤون المرأة في قطاع غزة على عينة بحثية بلغت 244 زوجة هاجر أزواجهن وبقينَ عالقات في القطاع، حيث أن 82.4% من الأزواج المهاجرين لم يأتوا لزيارة زوجاتهم و أسرهم منذ أن تركوا قطاع غزة، وبالنسبة نفسها لم تسافر الزوجات لرؤية أزواجهن.
تتابع: «تجربتي استمرّت ست سنوات ونحن نبحث عن لم شملنا في إحدى الدول، خلال آخر عامين، قبل اتّخاذ قرار الانتقال للعيش مع زوجي في بلجيكا، تعلّقت كثيراً بالعيش في غزة، كان لديَّ كل ما أريده، بيت وسيارة ووظيفة ممتازة ومكانة اجتماعية مرموقة وشبكة علاقات واسعة سهّلت حياتي كثيراً، كيف أترك كل هذا الإنجاز؟ دافعتُ عن مُنجزي بقدر ما استطعت، ولكن في النهاية استسلمت عندما استنزفني الأذى النفسي الذي تعرّضتُ له من المجتمع، وكانت حرب 2021 آخر ما رغبتُ في عيشه أنا وأولادي في غزة، وهنا تنازلت».
«لم تكن تجربة الانتقال سهلة، تحديات المعيشة والبلد الجديد، التأقلم على وجودنا معاً، سوياً، تأقلم الأولاد على وجودِ والدهم، وتقبُّلِه هو لشخصياتهم وأسلوب حياتهم وتربيتهم التي كانت كليّاً تربيتي، لكننا استطعنا التجاوز والتعاون في الأشهر الأولى وتأقلمنا على العيش معاً ونعيش حياة مستقرة الآن». هي بذلك واحدة من النساء المحظوظات اللواتي بقيَ أزواجهن على تواصل معهنّ بعد الهجر، في حين أن 7% من السيدات لا يعرفنَ مكان الزوج بعد هجرته بحسب المصدر السابق.
في حالةٍ من نوع مختلف، تروي «سهام»، وهو اسم مستعار لسيدة في مطلع الأربعينيات، ما آلت إليه أحوالها؛ هاجر زوجها منذ ست سنوات وطلقها مؤخراً بعد أن بدأ حياة جديدة في بلد المهجر، تاركاً إياها وأطفالهما الستة، بعد زواج استمر لـ 18 عاماً، يواجهون مصيراً قاهراً بعد أن طردها أهل زوجها من البيت وانتقلت إلى السكن مع أهلها، وبين العائلتين تعرّضت للعنف والقهر والحرمان، وحاولت العائلتان فرضَ الوصاية عليها وعلى حياتها كونها امرأة بحاجة إلى الدعم المعنوي والمادي.
تصفُ علاقتها بزوجها خلال الـ18 عاماً الماضية: «كانت العلاقة ممتازة جداً، بالكاد نَشَبَت بعض الخلافات، وكان داعماً ومحباً لأطفاله، اتفقنا أن يسافر لمدة سنة للبحث عن فرصة عمل وبعد ذلك يقوم بلم شملنا أنا والأطفال، وقد كان على تواصل دائم معنا في الفترة الأولى».
تستدرك: «بدأت المشاكل بسبب عدم وجود مصدر دخل لنا، ولم يكن يُرسل لنا أي نفقات بل كان يطالب بتحويل الأموال إليه. وبدأ يتنقّل بين البلدان بهدف الحصول على الإقامة دون أن يحصل عليها فعلاً، وكلما طلبت منه الرجوع كان يرفض، حتى أنه أصبح يقول بصراحة إنه لا يريد منا الالتحاق به مستقبلاً، ومن ثم قام بحظر الاتصال بي وبالأولاد». وفقاً للدراسة المذكورة سابقاً فإن 46.7% من الزوجات لم يُرسِل لهنّ أزواجهنّ أموالاً بصورة منتظمة، وعانت 69.2% من الزوجات من انخفاض مستوى المعيشة، و33.1% أوضحنَ أن عائلات أزواجهن يتقاسمون معهن المال في حال إرساله.
في حالة سهام، فرض والد زوجها ووالدته وصاية كاملة على أموالها وحياتها الشخصية، وعندما قطع زوجها الاتصال بها وتعاظمت المشاكل بين الطرفين، قاموا بطردها والأطفال من منزلهم الذي يقع في البناية السكنية نفسها، بينما توجّهت هي لطلب الطلاق عن طريق محامٍ خاص قام برفع قضية طلاق، وتم الطلاق بعد سفر الزوج بثلاث سنوات وقطع الاتصال بها كلياً، ولم تتمكن حتى اللحظة من دفع تكاليف المحامي، ما اضطرها للتوقيع على «كمبيالة قبض» لدى المحامي ليتم الطلاق، بالإضافة إلى هشاشة وضعها الاقتصادي والاجتماعي والنفسي جرّاء هذا الظرف، فلجأت إلى واحد من المراكز المعنية بتقديم العون للنساء المعنفات أيضاً، في محاولة منها لحل مشكلاتها النفسية والاجتماعية والاقتصادية. بدأت بتلقي بعض الخدمات لكنها لازالت في أول الطريق وتحتاج الكثير من التدخلات لتكون مؤهلة للحصول على منحة صغيرة لبدء مشروعها الصغير لإعالة أسرتها وسداد الديون المتراكمة عليها، ومن أهمها تكاليف المحامي. ووفقاً للدراسة، لم تؤد الهجرة إلى الحد من فقر الأسر، بل انخفض دخل الأسر التي يقل دخلها عن ما يعادل 300 دولار شهرياً من 66.5% إلى 62.3%، وارتفعت نسبة الزوجات العاملات في عينة الدراسة من %6 إلى 9%.
عن لجوء الزوجات إلى مراكز الحماية في المؤسسات الأهلية، تتحدث د.عبير المشهراوي، مديرة إدارة الحالة في مركز الأبحاث والاستشارات القانونية والحماية للمرأة: «تَصِلُ إلينا الحالات من عدة جهات، سواء كانت بشكل ذاتي أو عن طريق مراكز أو مؤسسات أو مستفيدات أخريات أو المحاكم أو السفارات أو الشرطة المجتمعية، يلجؤون إلينا لطلب الخدمة القانونية لأن النساء اللواتي هاجر أزواجهن يكُنَّ في وضعٍ معلّق، وتطالب بعضهن بالنفقات دون تحصيل أي شيء كون الزوج مسافراً خارج البلاد، لكننا نستطيع أن نقوم بالتفريق القضائي بسبب الهَجْر والسفر من خلال نشر مستبدل بالجريدة وإعلان أقرب العصبات وإعطاءهم موعد جلسة لإحضار وكالة قانونية، أو عمل إجراءات السفر للالتحاق بالزوج، وإلا يتم التفريق القضائي بكامل حقوقها».
وتتابع: «يتم أيضاً تقديم خدمات أخرى؛ كالخدمة الاجتماعية (الوساطة الوِدّية) لتحصيل نفقة من أهل الزوج بطريقة ودّية أو توفير سكن لها ولأطفالها والمساعدة في التعليم، بالإضافة إلى الدمج في جلسات الدعم النفسي الفردي والجماعي والدمج في تدريبات الرعاية الذاتية والدفاع عن النفس، والدمج في برنامج التمكين الاقتصادي».
خيار طلب المساعدة من المؤسسات الأهلية العاملة في قطاع الحماية والمرأة بسبب هجرة الأزواج هو أيضاً ما فعلته سارة، اسم مستعار، (26 عاماً)؛ زوجها مهاجر منذ عام ونصف من عمر زواجٍ دام سبعة أعوام. كان زواجاً مستقراً إلى أن ساءت أوضاع الزوج الاقتصادية وقرّر الهجرة بحثاً عن فرصة أفضل، تقول سارة: «ترك لنا زوجي مبلغاً من المال لمصروفنا، لكنه وَضَعَه مع ابن عمه، وكنت على تواصل مع ابن عمه للحصول على المال كلما احتجت، تطوّر الحديث فيما بيننا وأصبح يبتزني ويطالبني بعلاقة عاطفية ويلاحقني. لم أعرف كيف أتصرّف، شعرتُ بالذعر وكان التوتر بادياً عليّ كلّما كلّمته، إلى أن قامت حماتي بأخذ هاتفي وتفتيشه وقراءة المحادثات وإبلاغ زوجي، وبعدها تم طردي من البيت».
نوع الوصاية الذي حاول الزوج فرضَهُ على زوجته في غيابه أدى إلى تدمير العائلة، نظراً لوضع رجل آخر في موضع سلطة على زوجته ما سهّل عليه استغلال هذا الموقع، وأدى انكشاف الأمر إلى تحميلها وِزرَ ما حدث، فعادت إلى العيش مع أهلها برفقة أطفالها الثلاثة، حيث يتم التعامل معها بشكّ وريبة، خصوصاً من قبل إخوتها الذين يحملونها اللوم كاملاً عمّا حدث، ولا يعيلونها أبداً، بينما قطع زوجها التواصل معها نهائياً، واضطرت للّجوء إلى مركز حماية متخصص بالعنف ضد النساء للحصول على الدعم النفسي والاجتماعي اللازم، بالإضافة إلى حقوقها المالية والأسرية، كبديل عن الدعم العائلي المفقود.
تُنفِّسُ عن غضبها وقلقها: «أشعرُ أني منبوذة ويلومني الجميع، وألوم نفسي أيضاً أني لم أطلب المساعدة لكني خفت أن لا يصدقني أحد، أنا قلقة ومتوترة دائماً، شديدة العصبية وأفكر دوماً كيف انهارت حياتي بسبب هجرة زوجي، كنا نعيش بسعادة».
تدخّلت المؤسسة التي لجأت إليها في عدد من جلسات الوساطة الودّية مع أهل الزوج لدفع نفقات الأطفال واحتياجاتهم، حيث أن الزوج ليس موظفاً ولن تستطيع تحصيل نفقة بشكل قانوني من راتبه المستحق عبر البنك، كما تم الاتفاق على إحضار ممتلكاتها وممتلكات أطفالها من بيتهم الذي طُردوا منه.
وعن معاناة هؤلاء النسوة التي لم يسبق وأن تناولها القطاع الحكومي أو الخاص حتى في إحصائياته الرسمية وخدماته، يقول د. زياد طه، منسق وحدة الأبحاث في مركز شؤون المرأة: «لا توجد بيانات رسمية حول هجرة الأزواج، وترتّبَت على هذا صعوبةً في الوصول إلى عينة البحث الذي أجراه المركز حول أثر هجرة الأزواج على الزوجات، فالتركيزُ رسمياً على هجرة الشباب دون هجرة الأزواج، ولقد قابلنا 244 زوجة من اللواتي هاجر أزواجهن للحصول على معلومات يمكن تعميمها بهذا الشأن».
أما عن آثار هذه الظاهرة وضرورة رصدها فيتابع: «من المهم دراسة هذا الواقع نظراً لملاحظة زيادة عدد الحالات والشكاوى التي تَرِد إلى أقسام مركز شؤون المرأة من زوجات لمهاجرين يعانينَ ظروفاً قاسية وأوضاعاً حياتية صعبة، وارتفاع معدلات الهجرة خلال العقد الأخير في فلسطين عامة وقطاع غزة بصفة خاصة، وظهور العديد من المشكلات الأسرية الناجمة عن هجرة الزوج بما يمثّلُ خطراً على واقع الزوجة والأسرة. تزايدُ العنف بأشكاله المختلفة ضد الزوجة بسبب غياب الزوج، بل ومن الزوج نفسه بصورة مزدوجة وحادة، وأخيراً عدم التفات المؤسسات وصانعي القرار لانعكاسات الهجرة السلبية والحادّة على الزوجة والأسرة».
يمكن القول أن النساء ممّن يواجهنَ هذا الظرف يختبرنَ أسوأ ما في تجربتَي الشراكة والوحدة في آن معاً، فهنّ وحيدات في صراعهنّ مع شبكةٍ من «الأوصياء»، ابتداءاً من الدوائر الأقرب ممّن يعتبرون أن حق الوصاية انتقل إليهم من الزوج الغائب، وحتى دوائر أبعد من المجتمع المحيط. بالإضافة إلى اضطلاعهنّ بالمسؤوليات الأسرية كاملةً في حال وجود أطفال مع غياب الزوج عن المشهد.