بُعيد التأسيس «الرسمي» لتنظيم القاعدة عام 1989، وإثرَ عملياته الأولى البارزة، كالتفجير المزدوج للسفارتين الأميركيتين في عاصمتي كينيا وتنزانيا في 1998، أو استهداف المدمرة الأميركية يو إس إس كول في ميناء عدن اليمني في الربع الأخير من العام 2000، وكذلك عقب هجمات 11 أيلول (سبتمبر) 2001 الزلزالية، تردّدت في وسائل الإعلام العربية والدولية أسماء أهم قادة التنظيم ومنظّريه ومنفّذي هجماته، واستُعيدت مراراً سيرة التنظيم وجذوره الأولى، الفكرية منها والسياسية، وخصوصاً مرحلة الجهاد الأفغاني ضد الاحتلال السوفييتي والظاهرة التي أُطلق عليها اسم «الأفغان العرب» أو «العائدون من أفغانستان».
باتت، على سبيل المثال لا الحصر، أسماء الفلسطيني عبد الله عزام والسعودي أسامة بن لادن والمصرييَن أيمن الظواهري وأبو حفص وسيف العدل والكويتي سليمان أبو غيث واليمني أنور العولقي، مألوفة في نشرات الأخبار والبرامج الوثائقية والتحقيقات الصحفية والمقالات والتعليقات السياسية. وسرعان ما تواترت كذلك أسماء تنظيمات جهادية انضوت بشكل مباشر تحت راية القاعدة أو شكّلَ الأخيرُ مصدرَ إلهامٍ لها، امتدت من إندونيسيا في أقاصي الشرق الآسيوي، إلى تنظيمات سلفية جهادية في المغرب العربي.
في السنوات الأولى لصعود نجم الإسلام الحربي ذاك، بدا كل من العراق وسوريا بعيدَين إلى حد ما عن التداعيات المباشرة والهائلة للظاهرة الجهادية، فلم يعرف البَلَدان تأثيرات واسعة لمُحاربي «الإلحاد» السوفييتي العائدين إلى بلدانهم، ولا هما شهدا هجمات بارزة لتنظيم القاعدة وأشباهه، ولا احتوت قوائم قيادات التنظيم ومنظّريه المشهورين أسماء سورية وعراقية معروفة، وبدا أبو مصعب السوري استثناءً، وإن كان ذا شأن (ليس عديم الدلالة أن أبرز قادة الجهاد العراقي في المرحلة الأولى اللاحقة للغزو الأميركي كان أردنياً وليس عراقياً، أي أبو مصعب الزرقاوي).
لكن ذلك كله كان على وشك أن يتغير، نتيجة عوامل متعددة ومتداخلة فكرية وثقافية وسياسية واجتماعية، قديمة وجديدة وطارئة، تَشارَكَ فيها العراقيون والسوريون بشكل لافت.
فإلى حدود مشتركة تمتد على نحو 600 كم، خضع العراقيون والسوريون لعقود من حكم نظامين بعثيين عائليين أمنيين بالغي الشراسة والفظاعة، وهذا ما أدى إلى تعزيز خيال جمعي ذي هوى إمبراطوري من جهة (وهو ما يتقاطع بشكلٍ أو بآخر مع أحلام الخلافة الإمبراطورية لكتلة وازنة من تيارات الإسلام السياسي)، يتلاقى مع إعدام السياسة في المجتمع من جهة أخرى.
أما الحدث المفصلي المُتمثل بالغزو الأميركي للعراق عام 2003، فشكّلَ، إضافة إلى نتيجته المباشرة وهي انبثاق مقاومة إسلامية مسلحة له، بداية غير مباشرة لوقوع بغداد المباشر تحت النفوذ الإيراني بطموحاته الإمبراطورية كذلك، والذي سيتوسع على مدى السنوات اللاحقة في دمشق المجاورة، وهو ما سيقود بدوره إلى ردود فعل سنّيّة عنيفة تجاه محاولات الهيمنة التي ارتَدَتْ لبوساً طائفياً فاقعاً.
الغزو المذكور أعلاه، مثّلَ كذلك بدايات مبكرة لتشكل ظاهرةٍ جهاديةٍ سورية، إذ يلاحظ ضيف البودكاست دياب سرّية (المؤسس المشارك في رابطة مفقودي ومعتقلي سجن صيدنايا) أن أغلبية المقاتلين والمتطوعين السوريين الذين عبروا الحدود بين البلدين في آذار ونيسان من عام 2003 (بتنظيم وتسهيل شبه علني من النظام)، لم يذهبوا بدوافع جهادية، وغالبيتهم، أيضاً، لم تُشكل مشاركتهم المحدودة في الحرب إلا حدثاً عابراً في حياتهم سرعان ما تجاوزوه، بيدَ أن «صناعة» حثيثة للتطرف داخل السجون والمعتقلات الأمنية السورية، وأبرزها سجن صيدنايا حيث كان سرية شاهداً مباشراً خلال اعتقاله السياسي بين 2005 2011، لعبت أدواراً تأسيسية في تغيير ذاك المشهد.
الصناعة هذه، والتغيُّر الذي طرأ على نِسَب الاتجاهات الأيديولوجية للمعتقلين في أفرع الأمن السوري المختلفة، وكذا التبدُّل في نِسَب المعتقلين الإسلاميين تحديداً، لمصلحة ارتفاع السلفيين والجهاديين و«العائدين من العراق» أو الذاهبين إليه على حساب معتقلي حركة الإخوان وغيرهم، كان شاهداً عليها كذلك ضيف البودكاست رياض أولر، المعتقل السياسي التركي في سجون النظام السوري، والذي قضى فيها أكثر من عقدين.
تُمثِّلُ القصة الجهادية بعد عام 2003 عموماً، وقصة جهاديي صيدنايا خصوصاً، فصلاً رئيسياً من القصة السورية العامة قبل وبعد 2011، وتُعين بشكل كبير على فهم جانب من جوانب التحولات التي أصابت الثورة السورية في حِقَبها المختلفة. ومن هنا تأتي أهمية الشهادة المباشرة القيّمة لكل من أولر وسرّية، لتُساعد الراغبين في معرفة بعض تفاصيل المشهد السوري (والعراقي) في عقوده الأخيرة، ذاك المشهد الذي شكل جزءاً أساسياً ودموياً ومأساوياً منه تنظيمٌ حمل بداية اسم: الدولة الإسلامية في العراق والشام.