يكاد أن يكون تَطوُّرُ المؤسسات التعليمية في حلب إبّان حقبة الانتداب الفرنسي أحد الفصول المجهولة في تاريخ النهضة التعليمية الحديثة في بلاد الشام. فقد كان الاعتقاد السائد على مدى عقود من الزمن أن فكرة إنشاء «كلية الهندسة» في حلب، التي أصبحت نواة جامعة حلب، كانت وليدة مرحلة ما بعد الاستقلال أو ما يُسمى بــ«العهد الوطني». بيد أن القراءة الدقيقة والمتعمِّقة للصحف ومصادر التاريخ المحلي تَكشفُ عن مدى افتقار هذا الاعتقاد إلى المصداقية.
تناقشُ هذه المقالة المحاولة المبكرة لإنشاء مدرسة هندسية ذات مستوى جامعي في حلب إبّان الشطر الأول من حقبة الانتداب الفرنسي، التي جرى تجاهلها في التأريخ الرسمي لسوريا الحديثة. كما سأحاول أن أتناول الدوافع والملابسات التي كانت مصدر الإلهام وراء إنشاء هذه المدرسة ذات المستوى الجامعي، بالإضافة إلى الأسباب التي وقفت خلف إخفاقها.
يمكن إرجاع تاريخ فكرة إحداث مدرسة ذات مستوى جامعي و/أو مدرسة عليا جامعية للهندسة في حلب إلى مرحلة كانت ما تزال فيها حلب دولة شبه مستقلة، تتمتع بحكم ذاتي في ظل ما يُسمى بـ«الاتحاد الفيدرالي للدول المستقلة ذاتياً في سوريا»، الذي ضمَّ، بالإضافة إلى دولة حلب، كلاً من دولة دمشق ودولة العلويين.
ويعود تاريخها إلى أواخر عام 1924 على وجه التحديد، حينما دُشِّن «قصر الناعورة» خلال فترة ولاية حاكم دولة حلب العام، مرعي باشا الملاّح (1853-1930)؛ إذ وقع اختيارُ مسؤولي دولة حلب على هذا المبنى الفخم الذي افتُتِح حديثاً والواقع خارج باب الفرج، الذي كان أحد أبواب أسوار مدينة حلب القديمة، ليكون مقراً لأول «مدرسة عليا للهندسة» في حلب.محمد راغب الطبّاخ، إعلام النبلاء بتاريخ حلب الشهباء، (حلب: دار القلم العربي، 1923-1926 [1988])، 3: 442.
ولا يمكنُ عزلُ تَحرُّك دولة حلب نحو إنشاء هذه المؤسسة عن الشكاوى التي أشار إليها القنصل البريطاني في حلب، والتي ما انفكّت عن إثارتها للرأي العام، بشأن المبالغ الضخمة المُقدَّمة من حكومة حلب إلى الجامعة السورية في دمشق، التي تبعد مئات الكيلومترات عن حلب؛ إذ كان شبّان حلب المؤهلون محرومين من الحصول على التعليم الجامعي نظراً لارتفاع تكاليف السفر والإقامة، بينما تمكّنَ الشبّان الدمشقيون من متابعة دراساتهم الجامعية في تخصصات مثل القانون والطب في مدينتهم من دون أي صعوبة تُذكر.Despatch No. 97 from W. Hough, Aleppo, to Secretary of State for Foreign Affairs, 15 July 1924, [FO371/10160], in Records of Syria, 1918-1973, (Cambridge: Archive Editions, 2005), Ed. Jane Priestland, 3:358.
ومن المهم بصفة خاصة ملاحظة أن مصدر القلق البالغ لدى كبار المسؤولين المحليين والأعيان في حلب، بعد تحولها من «دولة تتمتع بالحكم الذاتي» في إطار الاتحاد السوري إلى «ولاية» ضمن دولة سوريا المنشأة حديثاً في عام 1925، كان مكمنه المحافظة على فائض الميزانية الذي حققته خزينة حلب عام 1923 (يُنظر الجدول أدناه)، ما مكّنَ من إقامة وإكمال العديد من المشروعات العمرانية الحيوية في حلب عام 1924.للاطّلاع على الدورات المالية لدولة حلب خلال الأعوام 1921 و 1922 و 1923 و 1924 يٌنظر جان بك مراد، حياته وأعماله، (حلب: 1927).
يُظهِر الجدول المرفق أعلاه أن الميزانية العامة لدولة حلب كانت واقعة في عجز مالي في عامي 1921 و1922، بلغ مجموعه 263955 ليرة سورية، جرى سداده بمبلغ الإعانة التي منحتها المفوضية العليا، بينما بلغ مجموع الأموال المُخصَّصة للأشغال العامة خلال عامي 1921 و1922 مبلغ 92212 ليرة سورية فقط. ولم تبدأ المعالجة الفعّالة لهذا العجز إلا ابتداءً من عام 1923، عندما انتهجت دولة حلب سياسة مالية رشيدة تقوم على ضغط الإنفاق الحكومي، وإلغاء المديريات العامة، وتقليص حجم الموظفين، وتخفيض الرواتب، وتحسين الجباية الضريبية، ما أدى إلى سداد مبلغ الإعانة المقدمة من المفوضية العليا بالإضافة إلى تحقيق فائض مالي بلغ 322625 ليرة سورية في عام 1923، و568384 ليرة سورية في عام 1924؛ وذلك على الرغم من الاعتمادات المالية الضخمة المخصّصة لتمويل المشروعات العمرانية والإنمائية في حلب ومنطقتها، التي بلغت 106044 ليرة سورية في عام 1923، وهو المبلغ الذي تَضاعفَ ثلاث مرات في عام 1924 وحده ليبلغ 323064 ليرة سورية.
أدّى إنشاء الدولة السورية الجديدة إلى مخاوف في حلب بشأن اضطرارها إلى توفير الجزء الأكبر من الميزانية الاتحادية، بدلاً من إنفاقها على المزيد من مشروعات البنية التحتية في حلب،Despatch No. 22 from W. Smart, Aleppo, to Secretary of State for Foreign Affairs, 17 March 1923, in Records of Syria, 1918-1973, 3:159. لا سيّما في ضوء العجز الكبير في ميزانية دولة دمشق السابقة. وانعكس هذا في رسالة الوداع التي وجّهها المفوّض السامي الفرنسي الجنرال ماكسيم ويغان (1867-1965) إلى حاكم دولة حلب العام، مرعي الملاّح، في نهاية عام 1924، وحاول فيها طمأنته بأن مصالح حلب على وجه الخصوص سيجري الحفاظ عليها في ظل دولة سوريا المُنشأة حديثاً.حلب: الجريدة الرسمية، المجلد 6، العدد 365، 8 كانون الأول/ديسمبر 1924، ص 2.
تَرافَقَ إنشاءُ الدولة الجديدة بتشكيل حكومة مركزية في العاصمة دمشق، ضمّت للمرة الأولى منذ العهد الفيصلي (1918-1920) وزيراً يتولى حقيبة المعارف. وسرعان ما تبنّى وزير المعارف الجديد، رضا سعيد (1876-1946)، مشروعَ دولة حلب السابقة ذات الحكم الذاتي لإنشاء مدرسة عُليا للهندسة في مدينة حلب.
وبحلول شهر شباط (فبراير) من عام 1925، أعلن سعيد في مقابلة مع المُفيد، وهي صحيفة تصدُر في دمشق، أن وزارته قد أنجزت مشروع إنشاء مدرسة عُليا للهندسة في حلب، وأنها سوف تُخرِّج مهندسي الطرق نظراً لحاجة البلاد المُلّحة لإصلاح الطرق القائمة وتحسينها، فضلاً عن إنشاء طرق جديدة.
وأوضح الوزير أن السنة الدراسية الأولى ستكون إعدادية، يدرس الطلاب خلالها الرياضيات العُليا. وأردف قائلاً إن الوزارة وضعت خطة لإيفاد طلاب المدرسة المُرتقب إنشاؤها في بعثات دراسية إلى أوروبا من أجل متابعة دراساتهم العُليا في الهندسة، بهدف رفد المدرسة بهيئة تدريس ذات مؤهلات عالية. وأشار سعيد إلى أن الوزارة خَصّصت الأموال اللازمة في ميزانيتها لتحقيق هذه الأهداف.المُفيد (دمشق)، المجلد 2، العدد 166, 12 شباط/فبراير 1925، ص 3.
لم يكَد يمضي شهران على قيام وزارة المعارف برصد الاعتمادات المالية اللازمة في ميزانيتها السنوية لإنشاء المدرسة تلك، حتى جاءت المفاجأة الكبيرة من وزير النافعة (الأشغال العامة)، حسن عزت باشا أرولات (1871-1931)، الذي رفض المشروع بأكمله على أساس أنه يقع ضُمن اختصاص وزارته وفقاً لما أوردته صحيفة المُفيد. وبناءً على ذلك، حُوِّلَت الأموال المُخصَّصة لإنشاء هذه المؤسسة الجامعية إلى فصل آخر من فصول ميزانية وزارة المعارف.المرجع نفسه، المجلد 2، الرقم 218، 17 نيسان/أبريل 1925، ص 3. وتجدر الإشارة، مع ذلك، إلى أنه لئن أرجعَتْ المُفيد إحباط هذا المشروع إلى وزير النافعة، إلا أن قرار الحكومة بإلغائه لم يكن ليوضَع حيَّزَ التنفيذ إلا بموافقة رئيس الدولة السورية صبحي بركات (1889-1940).
ومن عجيب المفارقات أن أرولات كان أحد الوزراء الثلاثة الذين يمثّلون حلب في الحكومة السورية التي تشكلت بقيادة صبحي بركات، الذي كان يرتبط بتلك المدينة أيضاً. وكان أرولات، المولود في اسطنبول والذي شغل ذات مرة منصب قائد الجيش العثماني الثالث، قد اتخذ حلب موطناً له في أثناء الحرب العالمية الأولى. ويُعزى ذلك جزئياً إلى أسباب سياسية تتمثل في استقالته من قيادة الجبهة القوقازية عقب خلاف دار بينه وبين أنور باشا. ولكن كان ذلك لأسباب اقتصادية أيضاً، نظراً لممتلكاته الشاسعة من الأراضي الزراعية في المنطقة، التي ورثها عن والده الفريق علي محسن باشا (1851-1903)، الذي شغل ذات مرة منصب القائد العام فوق العادة على ولايتي حلب وأضنة وحواليهما في عهد السلطان عبد الحميد الثاني. وقد شغل أرولات منصب المدير العام للنافعة والزراعة بدرجة وزير في حكومة الاتحاد السوري التي شَكَّلها بركات في عام 1922. وبعد إنشاء دولة سوريا في عام 1925، أصبح وزيراً للنافعة والزراعة والإصلاح الاقتصادي في حكومة بركات.للاستزادة بشأن حياة أرولات وأنشطته، يُنظر: The Encyclopædia Britannica, Vol XXXII, 1922, by Hugh Chisholm, 803؛ محمد فؤاد عينتابي ونجوى عثمان، حلب في مئة عام، 1850-1950 (حلب: معهد التراث العلمي العربي، 1993)، 3: 28.
ورغم من أن أرولات كان مواطناً تركياً ولا يحمل الجنسية السورية، يُمكن إرجاع تعيينه وزيراً إلى أواصر القُربى التي تربطه ببركات.كانت صفوت خانم أرولات، شقيقة حسن عزت باشا، متزوجة من رأفت بك بركات أوغلو، شقيق صبحي بك بركات. يُنظر: http://mevlana.net/family_list.html. فقد أحاط بركات نفسه طوال فترة حكمه بحاشية كبيرة من الأتراك، الذين أسند إليهم معظم المناصب ذات النفوذ، ما أثار الاستياء الشعبي تجاهه وإزاء نهجه في الحكم.محمد كرد علي، خطط الشام (دمشق: مكتبة النوري، 1983)، 3: 188.
ولعلَّ السؤال الأول الذي يتبادر إلى الذهن هو: لماذا أجهض بركات وأرولات، اللذين ينتميان ظاهرياً إلى حلب، المحاولة الأولى لإنشاء كلية للهندسة في تلك المدينة؟ ما حرم حلب ومحيطها من مثل هذا المشروع الحَضَري الحيوي، الذي لم يكن تعليمياً فحسب، بل وإنمائياً أيضاً، ببُعديه الاقتصادي والاجتماعي.
وممّا يلفتُ الاهتمام في هذا الصدد ملاحظة أن صحيفةَ المُفيد السورية رصدت بالتفصيل الصراع على السلطة والنفوذ الذي شهدته حلب في ذلك الحين، على خلفية إحجام الطبقة السياسية الراسخة في المدينة عن الاعتراف بزعامة بركات البازغة في حلب. ومما زاد من هذا الإحجام حقيقةٌ مؤداها أن صِلات بركات بالمدينة كانت هشَّة.
كان بركات المولود في أنطاكيا قد تولى قيادة ثورة مسلحة في تلك المنطقة ضد الفرنسيين في أوائل العشرينيات من القرن المنصرم. وأثار تعيينه من جانب الفرنسيين رئيساً للاتحاد السوري في عام 1922، ثم رئيساً لدولة سوريا، حركة معارضة نشطة في حلب. وذهب الرأي السائد في ذلك الحين، وفقاً لتقرير قنصلي بريطاني، إلى أن العفو المفاجئ الذي منحه الفرنسيون لبركات كان أحد البنود السرية لاتفاقية أنقرة، والمعروفة أيضاً باسم اتفاقية فرانكلين-بويون، التي أُبرمت في عام 1921 بين القوات الفرنسية والقوات الكمالية التركية. كما ضغط الكماليون لاحقًا على الفرنسيين من أجل تعيينه رئيساً للاتحاد السوري. ووصف التقرير بركات بأنه تركي من حيث الأصل والتعليم، ومُمثّل للحركة الكمالية في سوريا.Dispatch No. 325/240P from C. Palmer to Secretary of State for Foreign Affairs, 30 November 1922, in Records of Syria 1918-1973, 2: 827-828.
قاطع النشطاء الوطنيون من ذوي النزعة الراديكالية، بقيادة إبراهيم هنانو الزعيم التاريخي لـ«ثورة الشمال» في عامي 1919-1921، بركات. وكانت ثورة هنانو مدعومة في البداية من جانب الأتراك الكماليين، الذين سرعان ما أداروا ظهورهم له بعد استخدام ثورته بوصفها ورقة تكتيكية لتحسين موقعهم التفاوضي مع الفرنسيين.أحمد نهاد السياف، شعاع قبل الفجر: مذكرات، تحقيق محمد جمال باروت، (حلب: 2005)، ص 17.
كما واجه بركات معارضة شديدة من جانب والي حلب آنذاك، مرعي الملاّح، الذي شعر بالقلق إزاء محاولة بركات بناء زعامة سياسية في المدينة عبر إنشاء حزب سياسي باسم «حزب العمال»، ومحاولته جعلَ المناصب الرئيسة في الولاية حكراً على أعضاء ذلك الحزب، وأهمها الوالي ورئيس البلدية ومديري الأوقاف والشرطة. واعتبر الملاّح أن هذا يُعدُّ بمثابة محاولة تهدف إلى الإخلال بموازين القوى السياسية في حلب.المفيد، المجلد 2، العدد 207، 5 نيسان/ أبريل 1925، ص 2؛ العدد 226، 6 أيار/ مايو 1925، ص 2؛ العدد 234، 15 أيار/ مايو 1925، ص 2.
ولذلك ليس من المستغرب أن يُيسِّر الملاّح حملات تقديم العرائض، التي وقّع عليها عددٌ كبيرٌ من سكان المدينة، للمطالبة بإقالة بركات من منصبه بصفته رئيساً للدولة.المرجع نفسه، المجلد 2، العدد 141، 13 كانون الثاني/ يناير 1925، ص 2-3. وفي غضون ذلك، أفادت صحيفة سورية الشمالية، التي كانت تصدُر في حلب، عن مساعٍ تُبذَل لنقلِ الملاّح إلى منصب متصرّف (محافظ) دمشق، التي ربّما كانت محاولة من بركات لإبعاده عن حلب.المرجع نفسه، المجلد 2، العدد 166، 12 شباط/فبراير 1925، ص 2، نقلاً عن صحيفة سورية الشمالية التي تصدر في حلب.
إن من شأنِ وضعِ هذه الصراعات في سياق تاريخي أوسع أن يُظهِرَ بوضوح أن هوية ذات طابع محلي أكبر لدى النخبة السياسية الحلبية، متميزة عن هويتهم العثمانية، قد بدأت بالتكوُّن بالفعل بحلول أوائل العشرينيات من القرن المنصرم، ما رسم قطيعة تاريخية مع الحقبة العثمانية في أعقاب زوال الإمبراطورية العثمانية وإعلان الجمهورية التركية على يد مصطفى كمال في عام 1923.
يبدو أن هذا التوجه السياسي الجديد كان يحظى بدرجة كبيرة من الإجماع على امتداد الطبقة السياسية الراسخة في حلب، بما في ذلك الوطنيون الراديكاليون والمعتدلون. وكان هذا التَحوُّل في موقف الطبقة السياسية في حلب يُعَدُّ إيذاناً بتصميمهم على التحرك نحو الداخل السوري والتزامهم بانتهاج خط الوحدة السورية. ومع ذلك، ولئن كان الوطنيون الراديكاليون، مُمَثَّلين بهنانو، يؤيدون الوحدة السورية على أساس اندماجي، فإن الوطنيين المعتدلين، ممثلين بالملاّح، والي حلب آنذاك، كانوا يفضّلون صيغة وحدوية تتسم بقدر أكبر من المرونة، وتقوم على أساس اللامركزية الإدارية، التي من شأنها، من وجهة نظرهم، أن تحافظ بصورة أفضل على مصالح مدينتهم.للاستزادة بشأن حياة الملاّح وأنشطته وموقفه من الانتداب الفرنسي، يُنظر: FO 371/10164 Aleppo Consul to FO, 26 January 1924, in Records of Syria 1918-1973, 3:303-305؛ حلب: الجريدة الرسمية، المجلد 6، العدد 323، 31 كانون الثاني/ يناير 1924، ص 2؛ ثامر علي مطلق، أعيان حلب ودورهم الإصلاحي: مرعي باشا الملّاح نموذجاً 1866-1930 (دمشق: دار نور حوران للدراسات والنشر والتراث، 2022).
بناءً على ذلك، يمكن للمرء أن يتساءل: هل كان الدافع وراء قرار حكومة صبحي بركات، بحرمان حلب من هذه المؤسسة الجامعية، هو رغبته في معاقبة تلك المدينة على عدم قبولها بزعامته؟
كان لافتاً في هذا السياق اتخاذُ حكومة ولاية حلب خطوة رمزية، ولكنها تحمل في طياتها تحدياً من نوع خاص، نحو افتتاح مبنى كلية الهندسة الجديدة في شهر تموز (يوليو) من عام 1925، أي بعد ثلاثة أشهر وحسب من قرار الحكومة المركزية إلغاءها.
تضمّنَ حفلُ الافتتاح، الذي غاب عنه أعضاء الحكومة المركزية بدمشق واقتصرت المشاركة فيه على مسؤولي الولاية المحليين والأعيان، كلمةً ألقاها مندوب المفوض السامي الفرنسي في حلب. وتحدَّثَ المسؤول الفرنسي فيها عن الجهود التي بُذِلت لإتمام هذا المبنى وفق طراز معماري غير مسبوق في حلب، وذكر أن الكلية كانت إحدى المشروعات العمرانية المتبقية الجاري تنفيذها في المدينة، في إشارة ضمنية إلى المشروعات العمرانية التي دُشنت في أواخر عام 1924، وقد سبقت الإشارة إليها أعلاه.
وفي مسعى للتخفيف من حدة المخاوف المتزايدة لدى الحلبيين، بشأن إهمال حكومة دمشق المركزية لمصالحهم الاقتصادية والتنموية، شدّد المندوب أيضاً على أن الأموال الاحتياطية لحكومة حلب، البالغة ستمئة ألف ليرة سورية، يجب أن تبقى في حلب ذاتها. ووفقاً لما ذكره المندوب، فقد وافقت المفوضية العليا الفرنسية على إبقائها هناك، على الرغم من مُطالبة الحكومة السورية بضم هذه الأموال إلى خزينة الدولة العامة.لسان الحال (بيروت)، المجلد 48، العدد 9541، 17 تموز/ يوليو 1925، ص 2.
لئن ظلّت مدرسة حلب للهندسة مجرّد اسم عُلّق على أحد المباني الحكومية وتداولته الصحافة، إلا أنها أظهرت بوضوح مدى تصميم المسؤولين المحليين في الولاية وأعيان حلب على المضي قُدماً في تنفيذ هذا المشروع العمراني الحيوي، على الرغم من معارضة الحكومة المركزية من جهة، وضرورة تمويل هذه المؤسسة عن طريق المبالغ الفائضة لدى حكومة حلب من جهة أخرى. ومع ذلك، كان على حلب أن تنتظر إحدى وعشرين سنة أخرى لكي تشهد افتتاح كلية للهندسة خاصة بها في العام 1946، باعتبارها أول مؤسسة للتعليم العالي في المدينة، وكانت حينها تَتبعُ للجامعة السورية.
ومما يدعو إلى الأسف أن قصة هذه المحاولة المبكرة قد جرى تجاهلها بشكل منهجي في التأريخ السوري، الذي يزعم أن فكرة هذا المشروع وتنفيذه وُلِدت في مرحلة ما بعد الاستقلال أو ما يُسمى بـــ«العهد الوطني». فقد دأبت الدولة السورية على انتهاج هذه السردية المرتبطة بعملية بناء الهوية الوطنية في مرحلة ما بعد الاستقلال عن فرنسا، والتي لا يمكن أن تُعَدّ بمثابة «تأريخ» بالمعنى الدقيق للكلمة، وكرّستها المناهجُ الدراسية الرسمية في مسعىً لإحداث قطيعة مع ما اعتبرته إرثاً استعمارياً مُداناً.
ربّما يستطيعُ جيلٌ جديدٌ من المؤرخين السوريين التغلُّب على هذا الإرث، والتعامل مع هذه الحقبة المهمّة وإنما المُهمَلَة من تاريخ سوريا المعاصر بقدرٍ أكبر من الموضوعية والمهنية، على نحو يتجاوز الثنائية التقليدية القائمة على المديح في مقابل الهجاء.