هناك مفقودٌ وهناك مَن ينتقمُ له، وبينهما خمسة إعدامات ومجزرة واحدة. كلّ ذلك يحدث في «تحريات كلب» (2019)؛ الحلقتان المُدمَجتان من سلسلة التحريك السعودية مسامير في محاكاةٍ ساخرة لأفلام الأكشن، التي تتمحور حول ثنائية الفقدان والانتقام. ولكن عندما يتبيّنُ أن المفقود هو كتابٌ للشاعر محمد الماغوط، وأن المُنتقمَ له ذائقة شعرية مُرهفة، تُصبِح الحلقة من طراز الكوميديا السوداء التي تتقاطع فيها حِدّة العنف مع برودة الانفعالات. إلا أننا نَفهمُ لاحقاً أن الانتقام للكتاب المفقود يجري على خلفية عملية تُخطّط لها جماعة من العمّال الوافدين المتدينين المناهضين للنظام السعودي، عندها، ستأخذ الكوميديا السوداء أبعاداً سياسية تساهم في إرساء خطاب قومي سعودي معاصر، ظاهرهُ انفتاحي وباطنهُ إقصائي، يحاكي التحولات التي شهدتها السعودية في أقلّ من عقد.
محمد الماغوط، مفقوداً
لدينا رجلٌ خمسيني، حليقُ الذقن، فصيحُ الكلام وقليلهُ، يعترضُ سائق بيك آب على طريقٍ صحراوية مُقفرّة ليسأله بصوتٍ رتيب وبارد، سيُلازمه طوال تحريّاته، عن كتاب «الأعمال الكاملة للماغوط، طبعة أولى، دمشق» الذي استعاره قبل ثلاثة عقود من مكتبة عامة في الرياض ولم يَرُدَّه. يطرح الرجل على السائق سؤالاً يصبح حجّة للمحاكمات الميدانية العديدة التي سيقوم بها: «تستهين بقدسيّة الكُتب المستعارة، وتُعطيها لعيالك بدون إذن». بنبرة حنونة ستُلازمه أيضاً طيلة تحرّياته، سيطلبُ الرجل من السائق أن يلفّ حول رقبته حبلاً دون أن يشدّه كثيراً (خوفاً عليه من الألم). بعدها، سيربطُ الرجل الحسّاس الحبل بسيارته، وسيجلس فيها بهدوء مُحدِّقاً بالمُشاهد، وسيردّد أبياتاً للماغوط: «أحبّ أن أرثي ذلك الرجل، وأنا مشوّه وطريد، في تلك الأقاليم الغائمة». بعدها، سيسحل الرجلُ سائقَ البيك آب الذي أضاع الكتاب بمنتهى العنف والبرودة.
هنا يبدأ أسلوب الرجل الإجرامي والشاعري بالظهور؛ فهو قد يكون سفّاحاً بارداً، إلا أن ذلك لا يعني أنه ليس شاعرياً. في المَشاهد اللاحقة، يستجوبُ الرجل ابن السائق الذي سحَلَه، ثمّ كلَّ من سلّم الكتاب إلى غيره فأضاعه. ويتلو عليهم جميعاً أبياتاً للشاعر السوري الكئيب، بهدوء مريب، قبل أن يقوم بإعدامهم واحداً تلو الآخر، دون النظر في أيّ أسباب تخفيفية لإضاعتهم الكتاب (كالفوضى التي عمّت الرياض، مثلاً، في حرب الخليج الأولى). يُنفّذُ الرجل الإعدامات دون مقاومة تُذكر، وكأن كلَّ من فرّطَ بكتاب «الأعمال الكاملة» لمحمد الماغوط تَقبّلَ عقابه، وذلك على إيقاع موسيقى تصويرية تُحيل إلى كلاسيكيات أفلام الرعب.
لكن مَن هو هذا السَفّاح؟
سيُعرِّفُ الرجل أخيراً عن نفسه بالصوت البارد والرتيب إياه، باسمه الأول دون اسم عائلته، فوظيفتهُ، ثم عنوان عمله: «مازن، أمين مكتبة قدسيّة الكتب في شارع الفرزدق، الرياض». وهنا تأخذ الكوميديا منحىً أكثر عبثية، فالَسفّاحُ المرهَفُ ليس إلا أمين مكتبة عامة في الرياض، مصمّم على إعادة نسخة من كتاب الماغوط إلى أَدراج المكتبة العامة ولو بالعنف لأنّه، أولاً، يعشقُ الماغوط، ولأنّ لديه، ثانياً، حسّاً مهنيّاً. يستندُ السفّاح الشاعري إلى مفهوم ديني كـ«قُدسيّة الكتاب»، مُحاكياً هوس المتطرفين بقدسيّة كتاب الله والدعوة إلى معاقبة كل من يتعرّضُ له. إلا أنه يُطبّق مفهوم القدسيّة على كتاب آخر، كتاب شعري، لشاعر بقيَ على هامش الحقل الثقافي العربي حتى النهاية. فيتجلّى أمامنا السفّاح المُرهَف وكأنه المقابلُ العلماني الشاعري للمتطرفين المتدينين الظلاميين.
تتلاقى تحرّيات مازن، السفّاح المُرهَف، مع تحرّيات شخصيتين ثابتتين في حلقات «مسامير» الاعتيادية؛ «سلتوح بن دخيل الله» وكلبه «ريتشارد كلب الأسد» اللذان يبحثان عن صديقهما «سعد غنّام». فالصديقان المفجوعان بفقدان سعد (الذي اعتدنا عليه غائباً عن الوعي وعديمَ الفطنة في حلقات مسامير الأخرى) يخطّطان للانتقام من جماعة مسلّحة يشتبهان بأنها اختطَفت سعد وقتلتهُ بسبب خلافات مالية.
تتطوّر أحداث الحلقة مع تتالي الإعدامات التي يقوم بها مازن، والتي يكتشف من خلالها أن الكتاب المفقود انتهى عند الجماعة المسلحة إياها، التي قيلَ إنها اختطفت سعد. في مقرّ تلك الجماعة، يكتشف مازن، وهنا الفاجعة، أن الجماعة استخدمت الكتاب الضائع «الأعمال الكاملة للماغوط، طبعة أولى، دمشق» مَسنداً لِساق الطاولة التي يترأّسها زعيمها، أي مجرّد مادة متحجّرة لا أهمية أو دور لها سوى تأمين التوازن للطاولة التي يجلس إليها زعيم المسلّحين. يذرف مازن دمعة أو دمعتين، قبل أن يقوم بفرم جسد الزعيم الإرهابي فرماً، وذلك في ظل غيابٍ كاملٍ للأمن السعودي الذي تُضحكنا براءته وتنصُّله من دوره حتى النهاية.
كوميديا «الخصوصيّة السعوديّة»
تتميّز حلقة «تحريات كلب» الطويلة بطابع فني وكوميدي اعتاد عليه مشاهدو سلسلة «مسامير»، التي أنتجتها شركة «ميركوت» على قناة يوتيوب. في مسلسلات «ميركوت»، لا سيّما في «مسامير»، هوية بصرية فريدة وطازجة تُزاوج دائماً بين مكوّن لغوي وثقافي واجتماعي سعودي شديد المحلية، وآخر شديد الاتصال بثقافة البوب العالمية، لا سيّما تلك التي تصوّرها ثقافة التحريك الأميركية السائدة.
يتميّز أسلوب «ميركوت» بتكثيف المكوّن الاجتماعي والثقافي السعودي، وذلك من خلال تنميط كلاسيكي يقوم على تحديد المجتمع ببضع شخصيات رئيسية، تتميّز بدقة تركيبها وأدائها ولهجاتها، كما بموقعها الفكري والسياسي وتناقضاتها داخل النظام السعودي. هناك، مثلاً، شخصية الثري المُتبجّح بثروته المُستجِدة والذي لا يفكّر كثيراً؛ والبدوي الطيِّب الذي لا يتكلّم كثيراً؛ والعامل الآسيوي ذو العربية الركيكة، الغاضب دوماً، والذي سيتبيَّن في المشاهد الأخيرة من «تحريات كلب» أنه مُلتحقٌ بجماعة مسلّحة تتهيّأ لتخريب المملكة.
على المقلب الآخر من الظلامية، أو بالأحرى، بموازاتها، هناك المثقّف الليبرالي الفصيح المدعو منير (مِن أَنارَ، يُنيرُ)، المُتعالي على أبناء مجتمعه، والذي يبدو أنه لا يختلفُ في جوهره عن المتشدّدين؛ فهو لا يتوانى عن دعوة الآخرين إلى التكفير والهجرة؛ تكفير رجعيّتهم ودعوتهم إلى هجرة تقاليدهم، فيتحوّل إلى أسطوانة مكرّرة لا يستمع إليها أحد. تَظهَر تلك الشخصياتُ الأساسية الثابتة في سلسلة «مسامير» في «تحريات كلب» بموازاة شخصية جديدة، مازن السفّاح الشاعري. هكذا يتخيّل القيّمون على «ميركوت» عناصر المجتمع السعودي المعاصر، بكلّ تناقضاته، ولكن أيضاً بكل تماسكه.
في سياق بحثنا عن المفقود والمُغيَّب، يبدو لافتاً الاختفاء الكامل للشخصيات النسائية في الحلقة. الاستثناء الوحيد هي بثينة التي تظهر في مقدمة الفيلم وعلى هامشه، كمساعدة لـ«مدير أكبر كبير» الذي يستهلُّ الحلقة قائلاً في الإعلان عن فيلم «مسامير» المُقبل: «أخيراً على الشاشة الكبيرة، فيلم مسامير. بثينة، تشمين اللي أشمّه؟ همممم، أشمّ ريحة الأوسكار». تردّ بثينة: «ريحة منظفات، طال عمرك». باستثناء ذلك المشهد اليتيم الذي يُحاكي المشهدَ الشهير من «غود فاذر»، لا نساء في «تحريات كلب»، أي لا صوت ولا صورة لشخصيات نسائية، رغم أنّ مسلسلات «ميركوت» القصيرة الأخرى تحوي شخصيات نسائية تمثّل خطاباً واضحاً يفضح الممارسات القمعية تجاه النساء. تمحو الحلقةُ النساءَ بشكل شديد النفور، شديد السخرية، ليُصبحَ هذا المحو بذاته محاكاةً ساخرة للعقود السابقة التي غُيِّبت فيها السعوديات عن المشهد العام.
تتخلّلُ مشاهدَ «تحريات كلب» المحلية إحالات مفاجئة إلى الثقافة الاستهلاكية والترفيهية الأميركية. فهناك مشاهدٌ تُذكِّرُ بأفلام الأكشن والدراما الأميركية من خلال مقابلتها بين البطء والمباغتة العنيفة اللذين يفعّلهما المونتاج ودرامية الموسيقى، كالإشارات إلى فيلمَي «التيرميناتور» و«الجود فاذر»، وهناك إحالاتٌ لثقافة الاستهلاك المُضحكة في تناقضها مع الشخصيات التي تُمارسها. هناك، مثلاً، مُسنّ يتعشّى كورن فليكس؛ وهناك سعد الأبله يتحدّث عن كيلوت كالفين كلاين الذي يُنسب إلى ثقافة بصرية عالمية تُعلّي المعياريّ من الذكورة البيضاء؛ وهناك سلتوح الذي يجلس على أرض خيمة يلعب فيديو غايمز، في مشهد يُناقض تصوّر المشاهدين عن ألعاب الفيديو بصفتها ممارسة مدنية حديثة غير منسجمة مع ما قد يعتبرونه نائياً وتقليدياً. بموازاة ذلك، تَظهر إشارات واضحة لشركات سيارات وكمبيوترات عالمية تُحيلنا إلى ثقافة الاستهلاك التي تتبنّاها شخصيات «مسامير»، كما إلى الدعايات المدفوعة في البرامج الترفيهية.
للوهلة الأولى، تبدو تلك الإحالات للبوب الأميركي أو الثقافة الاستهلاكية وكأنها متناقضة مع المجتمع المحلي الذي يستهلكها، ليس بسبب وجود تناقض أساسي بين البوب الرأسمالي والصحراء، بل لأنّ تَصوّرنا عن الجزيرة العربية هو شديدُ البساطة، مُشبعٌ بالاستعارات الاستشراقية، رافضٌ لمفهوم التهجين ولمستويات التماثُل المختلفة. هنا تحديداً تَكمنُ الكوميديا التي تُميّز «مسامير»: تَضحَكُ المشاهدةُ، أوّلاً، على التناقض الذي تراه أمامها، وثانياً، والأهم، تَضحكُ على نفسها وعلى مفهومها الضيّق للمجتمع السعودي المعاصر. تكمنُ المعادلة الكوميدية إذاً في تَصوُّر شديد المحلية للثقافة السعودية، يوازيه أداءٌ انفتاحي على ثقافة استهلاك عالمية.
بالرغم من التنقُل الدائم لشخصيات «تحريات كلب» بين حيّزين، الأول سعودي محلّي والثاني عالمي، تَظهرُ إحالات إلى شخصيات ونصوص وموسيقى من الثقافة العربية الأوسع. أساس الحبكة، مثلاً، شاعر هامشي كالماغوط، لم تسترجعه الثقافة السائدة كما فعلت مع شعراء آخرين من جيله؛ وهناك أغنية قديمة لفيروز يسمعها مازن أمين المكتبة، قبل أن يقوم بتنفيذ أحد إعداماته. وكأنّ صُنّاع «تحريات كلب» يقولون: نعرف رموز الثقافة العربية وهامشيّيها جيداً، ونُشير إليهم هنا، لا لثقلهم السياسي أو الثقافي، إنما فقط لقدرتهم على تفعيل كوميديا التناقضات بين الشعبي والسائد، والهامشي المنسوب إلى دوائر المثقفين.
تبرز الكوميديا أيضاً في سخافة سعد المفقود الذي لا يُذكّر بالماغوط، لا من حيث الحساسية ولا الحسّ التراجيدي. بمعنى أن الكوميديا تكمن في التناقض بين عالم الماغوط الشعري وهامشيّته وموقعه الهشّ في الحقل الأدبي العربي، وسخافة سعد الذي يَتبيّنُ لاحقاً أنه لم يُختطَف من جماعة إرهابية كما قيل، بل قضى أيّاماً مخموراً في البحرين، بما في ذلك من إشارة إلى ثقافة اللهو السعودية خارج حدود المملكة. الجد واللهو، الثقافة والجهل، الشِعري والاستهلاكي، كلها ثنائيات تشكّل التنميط الكوميدي الذي تقوم عليه حلقات «مسامير».
لكنّ «مسامير» تتفرّدُ أيضاً بحسّ فكاهي يقوم على إبراز التناقضات ليس فقط عبر ثنائية المحلية/ العالمية، والسائد/ الهامشي، بل عبر التناقض الكامن في لُبّ السردية: التناقض بين المفقود (بوصفه كتاباً) وآلية تحقيق العدالة (بوصفها انتقاماً دموياً)، هو أساس الكوميديا الساخرة. فالبحثُ عن الكتاب تدفع إليه نزعةٌ حداثية، كي لا نقول تنويريّة، تتمثّل بمنطق «قدسيّة الكتاب» الشِعري، يقابلها منطق انتقاميّ يتمثّل بالممارسات الثأرية الفردية الخارجة، وفقاً للمنطق الحداثوي، عن قوانين الدولة الحديثة. نحن إذاً أمام قدسيّة الحداثة في وجه قدسيّة التقاليد، وكأن «تحريات كلب» تُظهر أن المنطق القَبَلي قد يصيب حيناً، وأن المنطق الحداثي قد لا يكون مجدياً أحياناً، واللعب على تناقضات المنطقَيْن هو مدعاةُ ضحك.
لا يشبه «تحريات كلب» السائدَ في الكوميديا العربية، حتى أنه لا يبدو معنيّاً به أصلاً. فهو يضع أسساً لكوميديا جديدة، محلية وذكية في وعيها وتصويرها لفرادتها الثقافية، تبحثُ في المكوّن الاجتماعي السعودي عن عناصر الفكاهة وتبني عليها، وذلك بموازاة إيماءات للثقافة الغربية الاستهلاكية السائدة. هي معادلة شديدة الدقّة لا تلبَثُ أن تكشف عن حدود انفتاحها، كما عن فعاليتها في إرساء خطاب قومي سعودي جديد.
الانفتاح الاستهلاكي لا الليبرالية
يُساهم «تحريات كلب» في تصوّر وطنية سعودية مُعاصرة وترسيخها من خلال الاتكاء على مصطلح «الخصوصية السعودية». يقوم مفهوم الخصوصية على سردية ثقافية وسياسية لا تُثمِّن الأصيل في الثقافة فحسب، بل تُعليه أيضاً كي تُرسّخ منطقاً استثنائياً يبرّر سياسات الدولة المحلية وانعزالها الثقافي عن محيطها. في مقالته الخصوصية السعودية… من الصحوة إلى الفاشية، يؤرّخ الباحث سلطان العامر لمفهوم «الخصوصية السعودية» كخطاب سياسي انتشرَ بعد الحرب العالمية الثانية في السعودية، مُحاكياً منطق «الخصوصية الأميركية»، ومُقدِّماً حجة ثقافية وسياسية لتبرير السياسات الانعزالية التي تبنّتها حركة الصحوة الإسلامية. كانت المعادلة، إذاً، الانعزال حرصاً على الاستثنائية السعودية.
رغم أنّ مفهوم «الخصوصية السعودية» حملَ بُعداً دينيّاً رسّخه خطاب الصحوة في الثمانينيات، يُظهِر العامر كيف بدأ هذا المفهوم يأخذ منعطفاً آخر في العقد الحالي. يشرح العامر: «ففي الوقت الذي تُزال القيود الاجتماعية عن المرأة، وتُسهَّل إجراءات جذب السياح الأجانب للمملكة، وتُفتح أبواب الإقامة المميزة والتجنيس، ويُسعى نحو جذب الاستثمارات الأجنبية؛ نجد جهوداً كبيرة في تصنيع سردية تاريخية وهوية وطنية قائمة بشكل رئيسي على مقولة الخصوصية». بهذا المعنى، وبعدما كان الانعزال دفاعاً عن «الخصوصية السعودية» في العقود السابقة، صار الانفتاح، وإن كان مشروطاً كما سنرى بعد قليل، مُلازِماً لتلك الخصوصية اليوم في معادلة مَفادُها: الانفتاح بموازاة «الاستثنائية السعودية».
ولكن الانفتاح على ماذا بالضبط؟ وما هي حدوده؟
يمزج صُنّاع «مسامير» عن طريق الفكاهة بين الأصيل والدخيل، التراث والحداثة، الأصالة والتهجين، كمكوّنات أساسية في ثقافة المجتمع السعودي المحلية وامتداداتها العالمية. ومن هذه التناقضات، يبرُز خطاب وطني يحتفي، من خلال السخرية، بالتعددية الثقافية الداخلية، فيما يبدو منفتحاً تماماً على ثقافة الاستهلاك العالمية. لكن مع تطوّر أحداث الفيلم، سيتبيّن أنّ «الخصوصية السعودية»، وإن كانت منفتحة، فإنّ انفتاحها يحدّه توجّسٌ واضح من خطر المكوِّن الداخلي غير السعودي والمكوِّن الداخلي الليبرالي.
في «تحريات كلب» إشاراتٌ لا لَبْس فيها إلى الخطر الآتي من الخارج من عدّة أبواب. فالعامل الآسيوي المسلم، مثلاً، ليس مُغيَّباً عن السردية الداخلية السعودية، بل يتحرّك بموازاة الشخصيات الأخرى من موقع لغوي وطبقي وعرقي سيبقى دونيّاً، حتى يتبيّن التحاقُه بالجماعة المسلحة المكوّنة من عمّال عرب وآسيويين إسلاميين. سنكتشف في نهاية الحلقة أنّ الذين قيلَ إنهم اختَطَفوا سعد ليسوا سعوديين، بل عمّال تَشي ملابسهم وذقونهم المُحنّاة ووجوههم المكفهرّة بأنهم متديّنون وأنهم يُضمِرون للسعودية شرّاً. الخطر، إذاً، ليس من السعوديين، بل من أولئك غير السعوديين، والفرق بين المجموعتين هي الأصالة السعودية.
يناقض المشهد الأخير سلاسة الأحداث في «تحريات كلب» وحِرَفية بناء الشخصيات فيها، وذلك بسبب بدائيته ومحتواه السياسي الذي يُقارب البروباغاندا. تُركّز الكاميرا على وجوه «الإرهابيين» في صورة تُحيل إلى معالم الكاريكاتور الأوروبي المناهض للأديان (شارلي هيبدو وغيرها) وامتدادها الأميركي بعد 11 أيلول (سبتمبر)، تلك التي تُصوِّرُ وجه الرجل المسلم في تنميط يُبرز لون البشرة والعيون العابسة والذقن الكثيفة كمُرادفات للغضب والغباء.
فَصورة «الإرهابي» في «مسامير» شبيهة بشكل لافت بصورة بن لادن في حلقات «ساوث بارك»، على سبيل المثال. بالرغم من خاصية التنميط التي تدخل في صلب العروض الكوميدية السائدة، يأخذ التنميط في «تحريات كلب» بُعداً سياسياً شديد الإفصاح عن إيديولوجيا النظام الحالي، إذ أن المجموعات المسلحة لها اسمٌ وعلمٌ أصفر اللون كُتب عليه «حزب اللات»، لا يخفى على أحد تماثله مع حزب الله وعلَمه في لبنان.
لكن كيف يُعقَل أن نشهد في «تحريات كلب» إشارات إسلاموفوبيّة تحت أنظار نظام ما زال يستقي شرعيّته، ولو على مضض، من الشرع الإسلامي؟ ليست، في الواقع، فوبيا من الإسلام، أقلّه بالمعنى الأوروبي، بل فوبيا من أي تنظيم سياسي، وبهذه الحالة، تنظيم شيعي، لا يَعترفُ به النظام السعودي. يصل الخطاب الإسلاموفوبي إلى «مسامير» من الكاريكاتور والتحريك العالمي السائد، وتُستعمَل رموزه في السياق السعودي لتعني «شيعوفوبيا». وإذ يَصدمُ المشهدُ الأخير، الذي يحاكي محتويات البروباغاندا الكلاسيكية، مُشاهدي «تحريات كلب»، فإنّه قد يُذكّرهم أيضاً بأن العديد من حلقات «مسامير» السابقة تحوي فواصل دعائية تحمل رسائل توعوية عن مخاطر الإرهاب الداعشي على المملكة، الإرهاب بصيغته غير النظامية.
مذهلٌ هذا المشهد في قدرته على الجمع بين ثلاثة مصادر للخطر على أصالة المجتمع السعودي: الطبقة العاملة المتمثلة بالعمال الأجانب؛ والهوية الطائفية المتمثلة في انتماء الإرهابيين إلى «حزب اللات» (الشيعي)؛ والهوية العِرقية التي تضعهم في مكان ما بين آسيا وشمال أفريقيا، أي المسلمين غير السعوديين. الإرهابي ليس سعودياً ولا سنّياً، بل أجنبيٌ وشيعيٌ وعاملٌ وافدٌ ينتسب إلى تنظيم عسكري كي يُخرّب أمان «الخصوصية السعودية» وثباتها.
يبدو هذا المشهد الأخير شديد السخافة، ودخيلاً على الحلقة شديدة الذكاء والحساسية الثقافية، وكأنّ «يداً إلهية» أسقطته على الحلقة، أو كأنّ إرادةً سياسيةً تدخّلت في اللحظات الأخيرة كي تصوّب الحلقة وتحذّر مشاهدي «ميركوت» على السوشيال ميديا من مخاطر التنظيمات العمالية و/أو الشيعية العابرة للحدود القومية السعودية، والمتّهمة بتهديد أمن المملكة. يأخذ هذا المقطع أبعاداً أكثر خطورة في سياق النزاع الطائفي في المنطقة، لا سيّما الموقع الهشّ للأقلية الشيعية في النظام السعودي وتاريخ اضطهادها، تحديداً منذ السبعينيات.
ولكنّ الهويات الطبقية والعرقية والطائفية ليست وحدها ما يشكّل خطراً على «الخصوصية السعودية»، بل الداخل الليبرالي أيضاً. يبحثُ مازن عن كتاب الماغوط لدى فنّان مشهور تُصوّره «تحريات كلب» في قالب هوموفوبي كلاسيكي: صوته رفيعٌ وحادّ، مخارج حروفه ركيكة، لا يُخفي حركاته المخنّثة تحت العباءة النسائية التي تغطي ملابسه الزهرية والبنفسجية، هو الضيف العزيز لدى «السفير النروجي»، بما في ذلك مِن تَوجُّس من دَور السفارات الغربية في إرساء خطاب ليبرالي داعم لحقوق المثليين ومنافٍ للمُتخيَّل من الأصيل السعودي. يَنظرُ مازن إلى ذلك الكائن الليبرالي الذي شذّ عن أصالته وأضاع كتاب الماغوط، ويقتله، ولكن قبل ذلك، يأمره: «اتكلّم عربي». فأمام لسان المُخنَّث الناقص والركيك، يَسترجعُ مازن شاعرية الماغوط في عربيّة قحّة: «انظر… عقربُ ساعتك يتثاءب، وعقربُ ساعتي يمدّ رأسه خارج الإطار». فلا بدّ للفنان المخنّث المُستلَب للغرب أن يتكلّم العربية، أن يتمّ تطهيره من شوائبه الليبرالية الغربية وإعادته إلى حيّزه الثقافي واللغوي العربي، ولو للحظات قبل إعدامه.
تفتخر الوطنية السعودية الأصيلة بتعدّدية المجتمع السعودي من دون أن يَعني ذلك تَقبُّلها للخطابات الطبقية أو الطائفية أو العرقية، التي يُفترض بأن العمال الوافدين يُسوِّقون لها، ولا الخطابات الليبرالية التي تُسوِّق لها شبكة العلاقات التي تربط السعوديين الخارجين عن قِيَمِ النظام بالسفارات الأوروبية. أمام هذين الخطرَين، خطر الإرهاب والليبرالية غير النظاميين، تبرز شخصيات مثل الأب المُهمِل، والفنان المُستلَب للغرب، والحارس الخائن، والعامل الوافد المُخرِّب، وكلها شخصيات تفشلُ في دورها الحمائي لخصوصيّة السعوديّ أو تُعرّضه لمخاطر الخارج. تلك الشخصيات سوف تسقط، سوف تُعدَم، وهنا، ستضحكون كثيراً، على يد «مازن، أمين مكتبة قدسية الكتب، شارع الفرزدق، الرياض». سيتولّى أمين المكتبة العامة السفّاح والمُرهَف مهامّ المحافظة على «كتاب» المجتمع السعودي الأصيل على اختلاف أطيافه. هو من سيُحاسِب من يخرّب المؤسسة الرسمية وممتلكاتها المادية، والتي يُراد بها تنويراً، ولو بالقوة. وكأن هناك قدسيّة للكتاب، دون محتواه؛ «فيتيش» الشكل وليس المضمون (نحن نتكلّم عن شعر الماغوط في النهاية). لا يَقرَبُ المثليّ شديدُ التغريب ولا العاملُ الآسيوي (الشيعي) شديد «الشرقية»، الأصالة السعودية. ولئن كان كلاهما دخيلاً عليها، وجبَ طردهما في مشاهد إقصائية تُربكنا سخريتُها من الصوابية السياسية.
لكن ما المشكلة في غياب الصوابية السياسية؟
هناك تَوجُّهٌ عام لدى «مسامير» لمحاكاة التحريك الكوميدي السائد في الثقافة الأميركية منذ عقدين على الأقل، والذي يركّز على حدّة الشخصيات ووجهها ولهجتها وأدائها الصوتي، ويصوِّرها في حالة انحطاط شخصي وأخلاقي بما ينافي الصوابية السياسية. يَسخر التحريكُ السائد من أصحاب القضايا الهويّاتية الكبرى بصفتهم مروِّجي خطابات باتت مُهيمنة، فيصبحون هدفاً طبيعياً للنقد الساخر (حلقة «ساوث بارك» عن المورمون أو حقوق المثليين وحلقة «فاميلي غاي» التي تسخر من المعتقدات الكاثوليكية، على سبيل المثال لا الحصر). وعلى غرار تلك المُقاربات الساخرة، يتناولُ صُنّاع «مسامير» شخصية العامل الأجنبي أو المثلي وغيرها من الشخصيات الهامشية داخل المجتمع السعودي بخفة ودون مواربة أو قلق من تطبيع ثقافة إقصائية.
ولكن هل بات العمّال الأجانب والمثليون في السعودية أصحاب قضايا مُهيمنة؟ وما معنى أن يُحاكي خطاب «مسامير» الكوميديا الأميركية الساخرة من الصوابية السياسية من داخل النظام السعودي الذي لا يتوانى عن ممارسة سياسات قمعية للأفراد والجماعات، بالرغم من أدائه الانفتاحيّ الباهر؟ بمعنى آخر، هل يمكننا فعلاً انتقاد الصوابية السياسية في نظام سياسي غير ليبرالي؟ ألا يحيلنا ذلك النقد إلى ممارسات إقصاء الفئات الأكثر هامشية في الأنظمة الفاشية؟
قد تكون المَشاهد الإقصائية والإلغائية بمثابة فواصل دعائية، توعوية، توجيهية حول مخاطر التنظيمات العمّالية والشيعية والمثلية والعرقية، قد فُرضت على الحلقة فرضاً. لكنّها قد تكون أكثر عضوية، تُعبّر عن ظاهرة سياسية وثقافية واجتماعية، يصفها سلطان العامر بأنها «تيّار جديد، يسمّي نفسه بالتيّار الوطني، يجمع خليطاً غير متجانسٍ من الأفكار اليمينية، والفاشية، والعنصرية، والسلطوية». بهذا المعنى، قد تتفاعل هنا إيديولوجيا النظام مع ذلك التيار الوطني الجديد الذي يعود ويتجانس معها، في محتوى بصري كوميدي يُقَدَّم لجيل جديد من السعوديين على السوشيال ميديا.
في مفهوم الوطنية السعودية الجديد، لا يزال هناك «خصوصية سعودية»، إلا أن مُكوِّنها الانعزالي التاريخي تمّ استبداله بمكوّن انفتاحي يحرص على الانتقائية. فالانفتاحُ لا يأخذ ثقافة الاستهلاك كما هي، بل يُغربلها كي تُصفَّى من شوائبها الليبرالية، كما الطائفية، والعرقية، والجنسية، أو أي مكوّن هويّاتي وسياسي آخر يُعرِّضُ «الخصوصية السعودية» للخلَل.
وكأن في المجتمع السعودي الذي تتخيّله «ميركوت» رُزمة ممارسات قد تكون عنيفة وإقصائية ومعادية للقيم الليبرالية، إلا أن بُعدَها المتجذّر الأصيل يعوِِّم، في نهاية المطاف، بُعدها الإقصائي. فتُظهر «تحريات كلب» الثقافة السعودية من خلال التنوع الذي يميّز المجتمع السعودي الذي يبدو وكأنه يتعايش مع تناقضاته ويحتويها من خلال إرساء خطاب قائم على أهمية الكتاب ولو بالقوة، وعلى تماسك النظام ولو بالعنف، وكل ذلك في قالب فُكاهي شديد الذكاء، سيُضحكك كثيراً، ولكنه سيجعلك تفكّر بدور هذا الخطاب الكوميدي الفني في ماكينة الخطاب الإيديولوجي الناشئ في السعودية، لا سيّما بعد اعتلاء محمد بن سلمان الحكم.
يوجّه «تحريات كلب» أنظار مشاهديه (الذين قارب عددهم الثمانية ملايين) إلى الداخل السعودي الأصيل، الذي يجب أن يفتخروا به وبتجانُسه مع ثقافة الاستهلاك العالمية، لكن أيضاً إلى الخارج الليبرالي والإرهابي الذي يجب أن يرتابوا منه. ولا ضير من العنف، إن قام بإرساء الأمن والحفاظ على المتخيّل من الأصالة السعودية. يحدث كلّ ذلك من دون أيّ أثر للنظام السعودي الحالي، لأنّ الإيديولوجيا، وهنا جمالها، هي في كلّ مكان.