9.6 مليار يورو ما بين مِنَح وقروض مُيسَّرة. هذا الرقم هو الحصيلة الأبرز لنهاية مؤتمر «دعم مستقبل سوريا والمنطقة» السابع في بروكسل. رقمٌ أعلى من متوسط ما يُقدَّم في هذا المؤتمر السنوي، وأقلّ بنحو مليار دولار من المبلغ الذي كانت وكالات الأمم المتحدة قد صرّحت بأنها تحتاجه قُبيل عقد المؤتمر. عنوان الرقم الموعود به يُخفي تحته العديد من التفاصيل التي تحتاج للانتباه؛ أبرزها تبدّلاتٌ في ترتيب صدارات الدول والجهات المانحة تُشير إلى توجهاتٍ سياسية واقتصادية هي بِنتُ المرحلة الجيوسياسية الحالية، وأيضاً صعودٌ كبيرٌ في نسبة القروض المُيسَّرة مقابل المِنَح مقارنةً بالسنوات السابقة. ورغم أن القصد الأول للمؤتمر هو حشدُ الدعم المالي للعمل الإنساني في سوريا ومحيطها، إلا أن القسم الوزاري من الاجتماعات هو أيضاً مكانُ تبادلِ رسائلَ سياسية، وهذا العام كانت مبادرة التطبيع العربي مع النظام سطراً أولَ لهذه الرسائل.
صباح وزاري
هذا المؤتمر السنوي هو الحَدَثُ الأهم لحشد الدعم المالي للجهود الإنسانية في سوريا، لكن يومَ الاجتماع الوزاري فيه يبدو يوماً عادياً في روتين بروكسل، عاصمة بلجيكا ومقرّ المؤسسات المركزية لكلٍّ من حلف الناتو والاتحاد الأوروبي (بمفوضيته ومجلسه وكل الوكالات والمؤسسات التابعة له، وأحد مقرّي برلمانه الاتحادي)، ما يجعل المدينة خلية نحلٍ بيروقراطية عملاقة، خصوصاً في «الحيّ الأوروبي» الذي يحوي مقرَّات المؤسسات الاتحادية الأوروبية الأهم: أبنيةٌ ضخمةٌ متجاورة، وبين أقسامها المختلفة جسورٌ معدنيةٌ وزجاجية تختصر للعابرين بينها ضرورةَ النزول إلى الشارع. تحت هذه الجسور عشرات البدلات الرسمية، والـ«بادجات» المُمغنطة لعبور النقاط الأمنية الكثيرة على بوّابات الأبنية وفيما بين قطاعاتها، تمضي بمرتدي البدلات من وإلى مكاتبهم واجتماعاتهم. نوعُ الـ«بادج» ولونُ شريطته التي تُعلَّق على العنق يبدوان مزيجاً من الرتبة العسكرية وجواز السفر، بما يمنحانِه من امتيازات عبورٍ بين مختلف أقسام الأبنية للموظفين والزُوَّار، ومن اضطرارٍ لعبور التفتيش الأمني أو إعفاءٍ منه، في يوميات المنظومات البيروقراطية الكبرى كهذه الأوروبية في بروكسل.
وفودٌ من 57 دولة ونحو 30 منظمة دولية، على رأسها وكالات الأمم المتحدة المختلفة، التقت صباح الخميس البروكسِلي الاعتيادي في مبنى «أوروبا»، التابع للمجلس الأوروبي، والواقع مقابل مقرّ المفوضية الأوروبية المُضلَّع الضخم. وعلى زاويةٍ من مدخل المبنى العملاق، الذي يُزيّنه عملٌ فنيٌّ مخروطي الشكل وهائل الحجم، مكانٌ مخصصٌ لكي ينتظر الصحفيون أولى تصريحات الواصلين الذين قد يوّدون الاقتراب من الكاميرات والمايكروفونات، وإطلاق أطراف خيوط مواقف دُوَلهم قبل بدء الاجتماعات. لم تحصل مزاحمةٌ على تقديم التصريحات، إذ لم يقترب من الركن الصحفي لتقديم تصريحاتٍ غيرُ وزراء خارجية العراق والأردن، إضافةً لممثل الأونروا.
فؤاد حسين، نائب رئيس الوزراء العراقي ووزير الخارجية، كان أبكرَ الواصلين، ليُصرّح للصحفيين أنه يتوقع «نقاشات حادّة» حول مبادرة الجامعة العربية لإعادة العلاقات مع نظام الأسد، متابعاً أنه والوفود العربية الأخرى قادمون للدفاع عن هذا الموقف، ولمناقشة الأوروبيين بأن الخلاف السياسي لا يجب أن يكون مُعرقِلاً للتعاون في الشؤون الإنسانية. وفي كلمته خلال الجلسة الافتتاحية، جَدَّدَ وزير الخارجية العراقي دفاعه عن المبادرة العربية، مُضيفاً إلى ذلك دعم العراق للرفع الجزئي للعقوبات على النظام السوري بعد الزلزال، وداعياً لتوزيع المساعدات الإنسانية «عبر الحدود ونقاط العبور المتاحة». كذلك، أشار نائب رئيس الوزراء العراقي إلى ضرورة إيجاد حلٍّ نهائي لأزمة مخيّم الهول، ورأى في كلمته أن تسوية الأزمة السورية غير ممكنٍ إلا عبر السُبُل السياسية، وبالشكل الذي «يتماشى مع متطلبات قرار مجلس الأمن 2254».
عند وصوله إلى مبنى «أوروبا» صباح الخميس، قدّمَ أيمن الصفدي، وزير الخارجية الأردني، مفاجأة الصباح حين أعلن للصحافيين أن الأردن بصدد اقتراح إنشاء «صندوق دولي لتوفير بيئة ملائمة للعودة الطوعية للاجئين السوريين إلى سوريا». وفي حديثه الأول هذا مع الصحفيين، ذكرَ ما أكّده لاحقاً في كلمته في الجلسة الافتتاحية من أن الأردن هو البلد الأكثر استقبالاً للاجئين نسبةً لعدد السكان، وأن اللجوء السوري على البلد يشكّل ضغطاً ديمغرافياً كبيراً على البلد وإمكاناته، مُذكِّراً بأن هناك 200 ألف سوريٍّ وسورية وُلِدوا في الأردن منذ عام 2011، وأن ثمة تراجعاً «لافتاً وخطيراً» في الدعم المقدّم للأردن. وبعد دفاعه عن المبادرة العربية وخيار «خطوة بخطوة»، أشار الصفدي: «تجاوزنا قدراتنا بكثير، ونحن نقرع جرس الإنذار، والجواب النهائي هو عودة السوريين الطوعية لبلدهم مع ضرورة تسريع الجهود على أساس افتراضاتٍ معقولة لحلّ الأزمة السورية». ورغم تكرار مقترح صندوق دعم العودة الطوعية في الكلمة، لم تَرشَحْ معطياتٌ أو تفاصيلُ أكثر لهذا المقترح، الذي تشير المعطيات المتوافرة بشأنه حتى الآن إلى أنه مبادرة أردنية جديدة، ولم يكن جزءاً من مداولات القمة العربية المُنعقِدة مؤخراً في السعودية، ولو أنه يبدو متناغماً مع مُخرجاتها.
وزير الخارجية اللبناني عبدالله بوحبيب تحدّثَ خلال الجلسة الافتتاحية أيضاً، مُقدِّماً ملامحَ ورقة عمل لبنانية بخصوص «النازحين السوريين» نَشَرت الصحافة تفاصيلها في الأيام الأخيرة. اشتكى بوحبيب من تقاعس المجتمع الدولي عن دعم لبنان، مُذكِّراً أن البلد يحوي «أكثر من مليون ونصف المليون ‘نازح’ سوري»، ومُحذِّراً من أخطار النزوح السوري على «النسيج الاجتماعي في لبنان»، مشيراً إلى أن توتراتٍ قد تقع بين لبنانيين وسوريين اليوم بسبب المزاحمة على فرص العمل. وقال بوحبيب إن «النزوح» السوري «يُؤثّر على الاقتصاد والبيئة»، و«وفق البنك الدولي، يتكبّد لبنان قرابة 5 مليارات دولار سنوياً نتيجة استضافة النازحين». كما أكّد بوحبيب استعداد بلاده للتعاون مع الجهات الدولية من أجل ضمان وضعٍ كريمٍ وعودةٍ طوعية للسوريين إلى بلادهم وفق القانون الإنساني الدولي، إلا أنه حذّرَ من أن لبنان «لن يتحمّلَ أن يصير مخيم لاجئين عملاق في شرق المتوسط». وفي الشق السياسي، عبّر بوحبيب عن دعم لبنان للمبادرة العربية، مشيراً، ضمن تأكيده على حديث الوزير الصفدي عن «الطروحات الواقعية والمنطقية للحل»، إلى أنه يخشى من أن القرار 2254 سيواجه نفس مصير قراراتٍ سبقته عصيّة على التنفيذ، مثل 242 و425.
شملت جلسة الاجتماع الوزاري الصباحية، والتي افتُتحت بكلمةٍ بروتوكولية مُسجَّلة للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريس، كلماتٍ لرؤساء وفود كل من تركيا؛ السفير فاروق كايماكجي، ومصر؛ السفير بدر عبد العاطي، ولم تحمل الكلمتان جديداً بالنسبة للمواقف المعروفة لبلاديهما بخصوص الأزمة الإنسانية واللاجئين ورؤى الحل في سوريا، وكذلك كلمة لغير بيدرسن، المبعوث الأممي الخاص لسوريا، أشادَ فيها بالجهود المتجددة لتنشيط اللجنة الدستورية، داعياً الوفود للمساهمة في رفع المعاناة الإنسانية عن الشعب السوري، وللاستماع لكلمات ونصائح ممثلي غرفة دعم المجتمع المدني والمجلس الاستشاري النسوي خلال كلماتهم في الجلسات المسائية.
وعدا عن كلمات ممثّلي دول الجوار والمسؤولين الأممين، شملت الجلسة الصباحية مداخلاتٍ لمقرِّرات الجلسات النقاشية التي جرت في «يوم الحوار»، وهنّ: رولى الركبي المديرة القُطرية في مؤسسة النساء الآن؛ وأماني قدّور المديرة الإقليمية لمنظمة سيريا ريليف؛ ورولا بغدادي المديرة التنفيذية لمؤسسة دولتي؛ وماريانا كركوتلي الناشطة في مجال حقوق الإنسان والمؤسِّسة المُشارِكة لمبادرة حقوقيات.
الأوروبيون ليسوا بصدد تغيير سياساتهم
على هامش الجلسات الوزارية الصباحية، عقد الممثل السامي للشؤون الخارجية للاتحاد الأوروبي ورئيس المؤتمر، الإسباني جوزيب بوريل، مؤتمراً صحفياً أشار فيه إلى أهمية الاتحاد الأوروبي ضمن المسألة السورية كونه «أكبر المانحين للعمل الإنساني»، مؤكداً أن الاتحاد يقف «مع الشعب السوري في محنته». وفي الشق السياسي، أشار بوريل إلى أن الاتحاد الأوروبي ليس بصدد إجراء تغييراتٍ في سياسته الحالية تجاه سوريا، مؤكداً أن «لا استئناف للعلاقات الدبلوماسية ولا تمويل لإعادة الإعمار ولا رفع للعقوبات قبل التأكد من أن النظام السوري منخرطٌ في عملية سياسية انتقالية»، مؤكِّداً أن الاتحاد الأوروبي حازمٌ في إصراره على «تطبيق القرار 2254 بشكلٍ كامل». ودافع بوريل في كلمته عن العقوبات الأوروبية «المفروضة على النظام السوري وحلفائه، وليس على الشعب السوري»، مبرِّءاً العقوبات من الوضع المعيشي المتردي في سوريا، والذي عزاه «لقمعية النظام وفساده». وأشار الممثل السامي كذلك إلى أن الاتحاد الأوروبي ثابتٌ في التزامه بمبادئ العدالة والمحاسبة، وفي دعمه لضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان في سوريا ومحاسبة مرتكبيها.
لم يُخفِ بوريل كذلك أن الاتحاد الأوروبي والجامعة العربية «ليسا على وِفاق» بخصوص الخطوات التطبيعية الأخيرة مع النظام، مُضيفاً:«يرى شركاؤنا العرب أن سياستهم الحالية هي السبيل لتحسين الأوضاع وإيجاد حلٍّ للمسألة. نحن لا نعتقد ذلك، ولكن سنستمر بالتعاون معهم. لكنّني أشدد على أن سياستنا تجاه المسألة السورية لم تتغيّر».
وفي ردّه على سؤال الجمهورية.نت حول موقف الاتحاد الأوروبي من التقارير المتوالية عن انتهاكات جسيمة بحق اللاجئين السوريين في لبنان، خصوصاً ما يتعلق بالترحيل القسري، وكيفية تعامل مبدأ «الدعم المشروط» للدول المضيفة مع هكذا تقارير، أجاب بوريل بأن الطريقة الوحيدة للتعامل هي عبر الحوار مع السلطات اللبنانية، وأشار:«نحن على علمٍ ببعض هذه الأحداث، ولا يمكننا أن نقبل بأن يتم ترحيل اللاجئين قسراً دون تَوَافُر شروط عودةٍ آمنةٍ وكريمةٍ لهم». وأضاف بوريل رداً على الجمهورية.نت: «هذه الممارسات قد أثبتت أنها غير عملية أيضاً، إذ نعلم أن كثيراً من المُرحّلين يعبرون الحدود مرةً أخرى، وكأنك تطردهم من الباب ليعودوا من النافذة، وهذا ليس حلاً للمسألة». لكنه أشار أيضاً إلى ضرورة تَفهُّم إلحاح لبنان في ضرورة دعمه لتلبية الاحتياجات: «إذ أننا لو قارنّا مستوى معيشة اللبنانيين واللاجئين في لبنان فسنجد أنّ كليهما يعيشان أوضاعاً سيئة. لكي يتمكّنَ لبنان من استضافة اللاجئين فعليه أن يتلقى دعم المجتمع الدولي، وهذا أحد أهداف مؤتمرنا هذا».
وبعد مؤتمرٍ صحفي لرئيس المؤتمر واستراحةِ غداء، استُكمِلَت الجلسات المسائية مع مداخلاتٍ سوريّة من سوسن زكزك كممثلةٍ عن المجلس الاستشاري النسوي؛ وبهجت حجار ممثلاً عن غرفة دعم المجتمع المدني؛ ومداخلات أخرى لمسؤولين في منظماتٍ إنسانية دولية كبرى، قبل أن يُصار إلى عرض تفاصيل الدعم الموعود من مختلف الجهات المانحة، من دولٍ ومؤسساتٍ دولية وبنوكٍ تنموية.
يوم الحوار
ينقسم مؤتمر بروكسل عادةً إلى يومين؛ في أوّلهما يلتقي ممثلون عن هيئاتٍ إنسانيةٍ وإغاثية، وممثلون عن جمعياتٍ ومؤسسات مجتمعٍ مدني سوريون، من الدواخل السورية المتعددة ومن مختلف دول الشتات، مع ممثلي مؤسساتٍ عاملة مع اللاجئين السوريين في دول الجوار وممثلين لمؤسساتٍ إنسانية وحقوقية دولية، وسفراء وممثلين عن البعثات المختصة بسوريا، في «يوم حواري» تُنقَل خُلاصاته عبر متحدثين مختارين ومُقرَّرين إلى الجلسات الوزارية في اليوم الثاني. وفي كلا اليومين لا حضور لدبلوماسيي النظام السوري، ولا لممثلين عن أيٍّ من هيئات المعارضة.
وقد جرت جلسات «يوم الحوار» تحت قبة مقرّ البرلمان الأوروبي في بروكسل، ثالث الأبنية الاتحادية العملاقة المُحاطة بغابةٍ من أبنيةٍ مكتبية أقصر في حيّ بروكسل الأوروبي. قاعةٌ برلمانيةٌ عملاقة، شَغلَت منصّة المتحدثين-ات فيها مساحةً فارغةً أمام منبر الرئاسة الذي غُطّي بلافتةٍ عملاقة تحمل اسم المؤتمر، وشغلَ أقلَّ من نصف مقاعدها الثمانمئة بقليل حضورٌ يتوزعون ما بين ممثلين عن مؤسساتٍ سورية ومن دول الجوار وموظفين ودبلوماسيين دوليين، فيما خُصِّصت للصحافة مقاعد الشرفة المُطلّة على القاعة، من حيث تابعت الجمهورية.نت مجريات اليوم. خلال الجلسات، حصل أن رفعَ كثيرٌ من الحضور أياديهم لطلب مداخلات، فكان المشهد سيبدو بالنسبة لداخلٍ إلى القاعة دون أن يعلم ما يجري فيها وكأنه تصويتٌ برلمانيٌّ ما.
انقسمت عناوين نقاشات «يوم الحوار» -عدا جلسات الافتتاح والختام- بين جلسةٍ إحاطية عن منظوراتٍ عامة للمجتمع المدني في المنطقة على ضوء جولةٍ استشاريةٍ مَوَّلها الاتحاد الأوروبي؛ وأخرى عن تلبية الاحتياجات الأساسية وتقديم الخدمات الأولية والتعافي المبكر؛ وثالثة عن فُرَص العمل المدني على المستوى المحلّي ودعم قياداته؛ وجلسة ما قبل ختامية عن العدالة والمحاسبة.
وقد حضرت أفكارٌ عديدة بشكلٍ متكرر خلال الجلسات الأولى، مثل صعوبات العمل الإنساني والمدني في مختلف مناطق السيطرة في سوريا وفي دول الجوار، كما حضر التركيزُ على الحيوية والقوة التي أظهرها المجتمع السوري خلال محنة الزلزال، إذ أطلق استجابةً عابرةً للحدود، الخارجية منها وما بين مناطق سيطرة قوى الأمر الواقع، رغم كل الصعوبات والقيود وضعف الموارد، كانت أسرع وأكثر رشاقة من ردّ فعل الهيئات الأممية العملاقة. ثمة ضرورةٌ للبناء على هذه الحيوية والعمل معها ومن خلالها كما أشار مداخلون ومداخلات، وكذلك تبرز ضرورةٌ لبناء جسورٍ أكبر للعمل المشترك بين الداخل والشتات. العمل الصحي مثالٌ بارزٌ على نجاحٍ في تعاون الداخل مع الشتات، إذ أمكنَ تأسيسُ قطاعٍ صحي يغطي حيّزاً كبيراً من احتياجات مناطق متعددة من سوريا، كما أشارت أماني قدّور في مداخلتها.
أيضاً، تبيّنَ من الجلسات الأولى أن مفهوم «التعافي المُبكِّر»، الذي يتبنّاه الاتحاد الأوروبي وجهاتٌ داعمة أخرى برامجياً، يثير تحفظاتٍ كثيرةً بين الفاعلين السوريين، إذ يوحي بانتقالٍ إلى مرحلةٍ تاليةٍ لانتهاء أسباب الأذى المتجدد، كما أنه غير واضحٍ سياسياً في علاقته مع الحلّ السياسي، عدا أنه -في حالة سوريا- لا شيء فيه «مُبكِّر» كما تهكّمَ مناقشون له في القاعة وفي أروقة المؤتمر، حيث استمر النقاش حول المصطلح المثير للجدل بعد انتهاء الجلسات. وقد تفاعل أندرياس باباكونستانتينوس، مدير الجوار والشرق الأوسط في هيئة الاتحاد الأوروبي للحماية وعمليات العون الإنساني (DG-ECHO)، في مداخلته مع هذه السجالات، مُدافِعاً عن المصطلح وضرورته لتأمين احتياجاتٍ تتجاوز الاستجابة الطارئة من أجل استدامة حلولٍ معيشية تسمح باستجابة أفضل وأكثر فعالية، حسب تعبيره، مشيراً إلى أن المصطلح ليس «سجالياً»، بل إنه «أمر حاصل» وجزء من عمليات الاتحاد الأوروبي منذ مدة.
جلسة المحاسبة والعدالة، ورغم كونها الأخيرة قبل الكلمات الختامية، كانت أكثر الجلسات إثارةً للتفاعل وللمشاعر، بسبب حساسية الموضوع وشجونه، وأيضاً بسبب المداخلة النضالية التي قدّمتها وفا علي مصطفى في إدانتها لمسار التطبيع وتمييع مسؤولية النظام عن جرائمه، ومرافعتها عن مركزية قضية المعتقلين والمعتقلات في سوريا. احتوت الجلسة إحاطاتٍ عن الآلية الدولية والمُحايدة والمستقلة لسوريا (IIIM)، وعن مسار القضايا الخاصة بسوريا التي يعمل عليها الادّعاء العام الفرنسي، وعن محاكمة كوبلنز في ألمانيا.
قد تكون تسمية «يوم الحوار» مُبالَغاً بها، من حيث أن الحوار الواسع غير مُتاح، فالتنظيم قائمٌ على جلسات بِعدة متحدثين-ات، وحيّز محدود لطرح الأسئلة بالنسبة لحجم الحضور الكبير. لكنها فرصةٌ سنويةٌ مهمة لاجتماع فاعلين وفاعلات من مختلف مناطق سوريا وشتاتها تحت قبةٍ واحدة، للتعارف والتواصل وتبادل وجهات النظر والتفكير. الندوات والجلسات الحوارية التي تُنظَّم عادةً في الأيام السابقة لمؤتمر بروكسل هي أيضاً فرصةٌ مُعزِّزة لتقديم برامج أو تقارير مهمة، أو لتقديم فرص نقاشٍ سوري- سوري بين فاعلين وفاعلات مدنيين من خلفياتٍ واختصاصاتٍ مختلفة.
اختُتِمَ «يوم الحوار» بكلمة لهيلين لو غال، مديرة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا للهيئة الأوروبية للعمل الخارجي (EEAS)، قدّمت فيها ما أكّده جوزيب بوريل صباح اليوم التالي من خطوطٍ أساسية للسياسة الأوروبية تجاه سوريا: لا علاقات دبلوماسية ولا تمويل إعادة إعمار ولا رفع عقوبات قبل المضي قدماً في عمليةٍ سياسيةٍ حقيقية.
قبل هذه الكلمة الختامية للسيدة لوغال، ذكّر مايكل كوهلر، نائب مدير DG-ECHO في مداخلته أننا صرنا في «بروكسل 7»، وتساءَلَ إن كان سيكون هناك بروكسل 8 و10 و12. أشار كوهلر إلى أنه يتمنى ذلك ولا يتمناه في آنٍ معاً: يتمنى أن تنتفي الحاجة لمؤتمر بروكسل، لكنه في الوقت نفسه يتمنى استمراره لأن ذلك يعني استمرار الالتزام بدعم العمل الإنساني في سوريا وجِوارها. ذاك التمنّي وعكسه كان شعور كاتب هذه السطور وهو عائدٌ من تغطية المؤتمر بين الأبنية البيروقراطية الزجاجية المزدانة بالعلم الأزرق ذي النجوم الصفراء: هذه البُنية العملاقة، وعبر شبكة إجراءاتٍ بيروقراطيةٍ مُعقَّدة، تُقدِّم سنوياً مؤتمر بروكسل الذي يلبّي جزءاً غير كافٍ، وإنْ مهمٌ للغاية، من الحاجات الإنسانية السورية؛ وهي نفسها البُنية المُسوَّرة التي تُنتج، من بين ما تنتجه، العوامل اللازمة لكي تحصل كوارث مثل غرق سفينةٍ على سواحل اليونان ووفاة 78 شخصاً على الأقل غرقاً، حسب الأرقام المتوفّرة حالياً. جزءٌ من الغَرقى، وفق الأنباء المُتاحة، سوريون وفلسطينيون-سوريون. غرقت السفينة في مجال عمل فرونتكس، قوّة حماية الحدود الأوروبية التي تُدار من مكتبٍ ما من داخل إحدى هذه الأبنية الرمادية ذات العلم الأزرق.