رجا: عام 2019 زرتُ معرض الصحافة العالمية للصور World Press Photo في مونتريال. كان المعرض يضم مجموعة صور تحمل توقيع محمد بدرا. كنتَ قد التقطتَ تلك الصور في مدينة دوما بريف دمشق بين 2013 و2018، خلال فترة تَعرُّضها للقصف الشديد على يد قوات النظام السوري. في اليوم التالي، في صف الـ «ميديا برودكشن» كان المحاضر يستعرض إحدى صورك ويتكلم عن تكوينها وخصائصها وخيارات المصوِّر والزاوية والضوء ومنسوب الأشخاص الظاهرين في الصورة مع المباني وأنقاضِها. شخصياً، كنت أشعر بقطيعة مع كلام المحاضر عن الصورة. باعتباري أدرى -على الأقل من بقية الزملاء- بما جرى ويجري في سوريا، ولم أقتنع بأن المُصوِّر كان قد فكَّرَ فعلاً بكل هذه الاعتبارات قبل التقاط الصورة. شعرتُ بأن الأستاذ جرّدَ الصورة من سياقها الحربي وأضفى عليها رفاهية امتلاك المصوِّر للوقت وصفاء الذهن. تخيلتُكَ تأخذ الصورة على عجل، خوفاً من سقوط صاروخ هنا أو تجنباً لرصاصة قناص هناك. هل كنتُ محقّة في تصوري؟ أم إنني أنا الأخرى أسقطتُ مخاوفي الشخصية وتصوُّري عن المدينة على ظروف التقاط الصورة؟ بمعنى أدقّ: إلى أي درجة يمتلك المصوّر، في بيئة حرب، رفاهية هندسة اللقطة؟
محمد: اسمحي لي أن أبدأ بمثال لتبسيط المسألة. إذا فكرنا بالمراحل الأولى لعملية تَعلُّم لغة جديدة، في البداية نحاول تركيب الجملة بأبسط شكل ممكن لتكون صحيحة. في بدايات تَعلُّم اللغة الفرنسية كنتُ أفكر دائماً بالتكوين السليم للجملة، ومع الممارسة تصبح اللغة فعلاً لا واعياً مبنياً على أُسس واعية. هكذا التصوير. التصوير بالنسبة لي مستوحىً من دراستي للهندسة المعمارية. ما قاله المُحاضِر عن خياراتي في تكوين الصورة كان صحيحاً. كان هناك جانب واعٍ لهندسة اللقطة، وآخرُ لا واعٍ متأثرٌ بخلفيتي كرسّام ومشروع مهندس معماري يعي ماهية التكوين أو المشهد المثالي والمنظور.
رجا: ما تصفه بالمشهد المثالي أو التكوين الصحيح، هل تحاكمه وفق معايير جمالية أم بمنظور الصح والخطأ؟
محمد: لدي إحساسٌ بالصح والخطأ في الصورة، إنما ليس كمفهوم مُطلَق للصح والخطأ بل بحسب تقديري الشخصي له.
رجا: في الحرب، يغيب الصح كشرط إنساني، فالموت والدمار والجوع والحصار، كلها ظروف مُنافية لمفهوم الصح؛ كيف وجدتَ الصح خاصتك وسط الرصاص والأنقاض والجرحى والأرواح المفارقة للمدينة؟
محمد: في رأيي، الصورة الواقعية هي الصورة الصحيحة. أحياناً تتحامل علينا اللغة، وتعجز عن وصف معنىً محسوس وواضح في الذهن لكنه يتحجّم إذا ما حاولنا شرحه بكلمة أو عبارة. أحياناً، الواقعيُ يكون غير مقبول أو غير مرغوب، لكنه يستمدّ شرعيته من كونه واقعاً.
رجا: هل هذا ينطبق على أي حدث واقعي بالمطلق، أم تقصد واقعَ الحرب وما تفرضه من ضرورات توثيقية؟
محمد: سيبدو جوابي على هذا السؤال فظَّاً ويمكن أن يُفهم بشكل سلبي، لكن أنا اليوم، كمُصوِّر، أحاول أن أرى الحدث بالعين ذاتها بعيداً عن هالته وقدسيته. رهبة التقاط الصورة هي ذاتُها بالنسبة لي، وكذلك ضرورة أخذ لقطة مطابقة لما أراه أمامي، سواء كانت لحظة سعادة أم معاناة؛ المشهدُ مشهدٌ وعيني هي المسؤولة عن تثبيته. خلال المجازر التي وقعت في دوما، حين كنت أمسك الكاميرا وأستعدُّ لالتقاط الصورة، كنت أنفصل بشكل تلقائي عن كوني جزءاً من المشهد وأتحول لعينٍ ترصده فقط لأحظى بأفضل زاوية للتصوير. بالمناسبة، أنا أحبُّ كلمة منظور. أتذكر معلمة الرسم التي علمتني ما يُعرَف بنقطة الفرار أو التشريد، وكيف أن العناصر كلها تتلاشى ويبقى المنظور. فأنا اليوم أمام أي مشهد أبحث دائماً عن منظوري ونقاط فراره . ليس فقط بغرض التصوير، إنما بغرض الرؤية أيضاً. خلال المجزرة، وأعرف أن كلامي قاسٍ لأنه حتى فعلُ الرؤية كان قاسياً حينها، كنتُ أريد أن أرى الأشخاص بمنظور صحيح، مع محاولة احترام خصوصيتهم التي ربما انتُهكت أحياناً نتيجة عدم قدرة المُصوِّر على اتخاذ القرار الصحيح حينها، ونتيجة عدم النضج الفوتوغرافي وربما الأخلاقي وسط الحرب. كان لا بدّ من بعض التجاوزات الأخلاقية وما يتبعها من ندم وانهيارات نفسية كي نستطيع قياس الموقف وحساسيته، لكنّي لا أحبذُ محاكمة الماضي بأفكار الحاضر والمستقبل. في لحظة المجزرة، أنا والشخص الذي أُصوِّره، كلانا ضحايا. ضحيةٌ تصوِّر ضحية. في فترة لاحقة استطعتُ تطوير منظومتي الأخلاقية وحساسيتي تجاه المواضيع، وبصراحة لا أتمنى لو أنني لم ألتقط هذه الصورة أو تلك، لأن أمنياتي لن تغير شيئاً مضى بل ستكون عبارة عن عملية جلد للذات. باختصار، أنا لست فخوراً ولست نادماً. اليوم، ومع الممارسة والتعلُّم، تعلّمتُ كيف أجمع بين الصورة الاحترافية واحترام خصوصية الأشخاص والأماكن في الوقت نفسه.
رجا: في العصر الحديث، عند تغطية الحروب والكوارث يبرز سؤال إشكالي عن «أخلاقيات التصوير»، وهل لدينا الحق بتصوير الضحايا وعرض صورهم بما تحتويه من عنف أو قسوة، أم يتوجب علينا الامتناع عن ذلك حفاظاً على خصوصيتهم ومشاعر ذويهم. في حالتك محمد، أعي تماماً أنك كنت تتشارك مع الضحايا الذين صَوَّرتَهم درجة الخطر واحتمالات الموت نفسها. لم تكن مُصوِّراً مبعوثاً من وكالة أجنبية جاء خصيصاً ليصور الضحايا، لكني أرغب بالتوسع معك في الحديث عن هذه النقطة، واسمح لي أن آخذ مثالاً إحدى الصور التي التقطتها في دوما بعنوان بحر من دم ونَشرَتها وول ستريت جورنال. في الصورة مُسعفٌ يضمد جرح طفل، وأرضية المشفى مغطاة بالدماء. بالنسبة لي هذه من أقسى الصور في مجموعتك على الإطلاق. حَدِّثني عن الصورة من منظورك.
محمد: ما وصفتِهِ هو الصورة، لكن دعيني أحدثكِ قليلاً عن المشهد كاملاً. أرضية الغرفة كانت مغطاة بمزيج من الدم ومطهّر سافلون، والطفلُ الجريح في العمق، وأحد الأشخاص يقوم بتجميع السوائل في مكان واحد بغرض التنظيف، وأنا قرّرتُ أن آخذ صورة لمشهد امتداد بقعة الدم نحو سرير الطفل كمُحاكاة لطوفان، وتمثيلاً لفكرةِ أن العنف، المتمثل في الدم، لم ينتهِ. كنتُ أرتجفُ بشدة وقتَ التقاط الصورة، وكلّما استعدتُ تلك اللحظة تحضر عناصر المشهد كاملة في رأسي: رائحة السافلون، الطفل على السرير، والدم. في ذلك الوقت كنت قد أخذت موافقة الأطباء والمسعفين بأن ألتقط صورَ ما بعد القصف، أي في مرحلة مداواة الجرحى، فكانت النتيجة أن صور ما بعد القصف كانت أكثر تأثيراً من صور لحظات القصف. لكن أريد سؤالكِ، هل انطباعكِ عن الصورة مَردُّهُ لوجود الدم حصراً؟
رجا: بالإضافة إلى كمية الدم الكبيرة، يوجد في عُمق الصورة طفل جريح، وهنا بشكل أوتوماتيكي لا بد أن تربط الدم بجرح هذا الطفل. كمية الدم ودرجة لونه كانت طاغية في الصورة. حساسية الناس للدم متفاوتة، فمثلاً صورة جريح فيها كمية كبيرة من الدم يمكن أن تكون أقسى بكثير من صورة جثة بدون دم.
سأستعينُ بمثال من خارج السياق السوري، وبعيداً عن نتاجك الفوتوغرافي، لأشرحَ فكرتي عن أبعاد تصوير الضحية وعرض الصور. كيمبرلي خوانيتا براون، هي بروفيسورة وباحثة من المجتمع الأسود الأميركي، تتركز أبحاثها على تقاطعية الأدب الأفريقي-الأميركي والأفريقي في الشتات، ودراسات الثقافة البصرية، ولا سيما التصوير الفوتوغرافي، وتهتم بشكل خاص بالعلاقة بين المرئي وذاتية السود، حيث تدرس كيف يتم تصوير الأجساد السوداء، والموت الوشيك، والطرق التي يمكن أن تسبب بها هذه الصور معاناة جماعية. تقول براون خلال إعدادها لبحث عن سالي هيمنزغر (امرأة سوداء كانت مُستعبدة من قبل الرئيس الثالث للولايات المتحدة الأميركية، توماس جيفرسون، مع حوالي 600 آخرين من السود)، إن الرئيس جيفرسون كان يعتبر أن «أحزان السود عابرة»، وتتساءل: ما الذي جعله يعتقد، كمُستعبِد، أن الأشخاص السود لا يحزنون؟ وتضيف: لفترة طويلة في الولايات المتحدة الأميركية، كانت أغلفة المجلات تستعرض أشخاصاً من ذوي البشرة السوداء إما موتى أو على وشك الموت. ومن هذه الدراسة استخلصَتْ براون مقولتها: إن اشتراط وجود معايير أخلاقية لا يجب أن يُفرَض عند التقاط الصورة فحسب، وإنما عند النظر بالعين المجردة إلى الموضوع المُراد تصويره، وما تطلبه وكالات الأنباء، وما يقبل الناس رؤيته، أيضاً. ومن خلاصة تجربتها في التدريس والأبحاث، تعتبر براون أن تمادي وسائل الإعلام باستعراض صور أشخاص سود خلال تَعرُّضِهم للتعنيف أو موتهم الوشيك أو جثثهم أو استعبادهم، جعل من هذه الصور مادة اعتيادية للمُشاهد يمرُّ عليها مثلها مثل أي محتوى يومي يظهر على الشاشات أو على أغلفة المجلات. بالعودة إلى السياق السوري ومنطقتنا بشكل عام، إذا أسقطنا فكرة براون على صور الفلسطينيين أو السوريين أو غيرهم من شعوب المنطقة التي تواجه الموت والاعتقال والتعنيف بكثافة، أرى أننا في مرحلة ما بدأنا فعلاً بالتطبيع مع رؤية صور قاسية للضحايا قادمة من هذه المناطق، وكأن عتبة الصدمة لدينا ارتفعت مع مرورِ الوقت وكثرةِ التعرُّضِ لهذه المشاهد.
محمد: أنا ضد هذا الطرح واعتبره طرحاً أبيضَ ومستفزاً. عندي صورة يعود تاريخها لـ 21 آب (أغسطس) 2013، فيها 1600 شهيد ماتوا خلال خمس دقائق بقصف كيماوي على مدينة زملكا بريف دمشق. السياق مختلف، نحن كنا نواجه موتاً غير مسبوق وتَصرَّفنا على أساس الحدث. عندي صور قاسية فعلاً، وكذبتُ عليكِ عندما قلت إنني لا أندم على التقاطها؛ نعم أتمنى لو أني أغلقت العدسة في بعض اللحظات. حتى على الصعيد المهني، لكن كي أكون صادقاً مع نفسي، أنا أتمنى في المستقبل إذا اطَّلعَ شخصٌ في بداية تعلُّمه للتصوير الفوتوغرافي على تجربتي وتتبَّعَ مراحلها، أن يرى كيف بدأ الخط الزمني بصورة بسيطة غير احترافية، ووصل إلى صورة بسيطة واحترافية (نوعاً ما). لو قمتُ بحذف صورة واحدة سأكون منافقاً. أؤمنُ أنه أحياناً لا بدَّ من وجود شخص يعتبره الآخرون وحشاً، وربما انتهك حرمة الضحايا، لكي تصل الصورة ويتطوَّرَ لدينا فيما بعد مفهوم «أخلاقيات التصوير». الميزان الأخلاقي الشخصي في تلك المرحلة كان أن أضع نفسي مكان الشخص الذي أصوره، فلو قبلتُ الصورةَ على نفسي أقبلُها على غيري. لو كنتُ آمناً وكان الشخص الذي أمامي في خطر ويحتاج مساعدتي، لم أَكُن لألتقطَ الصورة.
رجا: ضربتُ لك مثال الباحثة براون ليس من مبدأ أن هذه الصور مؤذية للمتلقي، إنما باعتبارها لا تراعي خصوصية الضحية؛ ماذا لو أن الضحية لا تريد أن تُرى أو أن تكون مكشوفة بهشاشتها وألمها على الملأ؟ ألا يحق لنا أن نخلق مسافة مع ألمنا وأن نُبقي على رهبته، أوليسَ من المفروض أن تُثير معاناتنا صدمة واستهجاناً مثل معاناة أي مجموعة أخرى من البشر؟
محمد: في حالتي أرى أن هذا السؤال عبثيٌ لأنه يحاكم محتوىً بأثر رجعي، أي بعد الحرب، في الوقت الذي أمتلكُ فيه رفاهيةَ التفكير والتحليل. نحن كنا نصور كردة فعل على عمليات القصف. عندما كنت أبدأ يومي في سوريا خلال الحرب، كنت أعرف أنني في نهاية اليوم سأكون إما قتيلاً أو جريحاً أو ناجياً. كنتُ أصوِّرُ كموظف وكجزء من السلسلة الاجتماعية في المجتمع الذي أنتمي له ولقضاياه، مثلي مثل الحدّاد أو الطبيب أو المسعف أو البائع، كلنا كنا عمالاً وموظفين نعيش في هذا المكان ونحاول خلق منظومة أنشطة غير مسلّحة ومجتمع مدني طبيعي إلى حد ما. أنا لم أكن المُصوَّر الجنوب إفريقي كيفن كارتر، صاحب الصورة الشهيرة التي التقطها في السودان عام 1993 لطفلة على وشك الموت جوعاً بينما يتربّص بها نسر للانقضاض عليها. لذلك أنا لم أملك الدافع للذهاب لتصوير الحملة العسكرية الروسية على أوكرانيا، كي لا أَتحوَّل لكارتر. في دوما، أنا كنت طفلة ثانية جائعة وقريبة من النسر بالدرجة نفسها، كنت طفلة جائعة صوَّرَت طفلة أخرى جائعة. الفرق بيني وبين الضحية أن الحظ كان حَليفي والقذيفة كانت دائماً تسقط إلى جانبي وليس فوقي.
أُذكِّرُ نفسي دائماً بهذا الكلام: كل ذلك كان يحدث ضمن مجتمع يعيش ظروفاً خاصة. صُوَري في دوما هي ردة فعل، أنا لم أصنع هذه الصور، بشار الأسد ومن لفّ لفه هم الذين صنعوها، تماماً مثل عندما سأل أحد الضباط النازيين بابلو بيكاسو عن لوحته الشهيرة غيرنيكا Guernica، التي رسمها عام 1937 عقب قصف الطيران الألماني على مدينة غيرنيكا الإسبانية: هل هذا من صنعك؟ أجابه بيكاسو: لا هذا من صنعكم أنتم. لو كان الموضوع عائداً لمحمد بدرا؛ أنا أرغب أن أصور بيلا حديد وليونيل ميسي.
رجا: أتفهّمُ حساسية هذه النقطة، لكن هذا لا يلغي أنني بحاجة لأن أسمع رأي مُصوِّر محترف عاش تجربة الحرب، ولديه بضعة صور يمكن أن تُعَدَّ إشكالية بالنسبة للبعض من حيث خصوصية الضحايا.
محمد: بالعكس تماماً، سؤالك عن الموضوع مهم جداً، لكني غير متفق مع السؤال الأخلاقي بحد ذاته وفي سياق تجربتي حصراً. في إحدى المرات سألتني صديقة إن كنت أخذتُ موافقة أحد الأشخاص قبل تصويره، أجبتها بالإيجاب لكنها لم تكن الحالة العامة. لم تكن الظروف مواتية دائماً لأخذ الموافقة قبل التصوير، كنتُ أقدّر ذاتياً ما إذا كان السياق يسمح بالتصوير أم لا. بالنسبة لي لم أكن أشعر بصوابية سؤال امرأة تحضن طفليها وتبكي ما إن كانت تسمح لي بتصويرها، لكن كان من الممكن التفكير في السؤال ما بعد التقاط الصورة؛ هل يمكن لي الاحتفاظ بها واستخدامها. طبعاً أنا أتحدث هنا عن محمد بدرا عام 2015.
رجا: أعتقد أن مفهوم الخصوصية يتضاعف في حالات الهشاشة مقارنة مع لحظات الفرح أو الانتصار، فمفهوم «قوة الهشاشة» وأهمية إظهارها أحياناً، هو مفهوم حديثٌ بعض الشيء. تَقبُّل لحظات الضعف ومشاركتُها مع الآخرين ليس بالأمر السهل، ويحتاج الكثير من العمل على المستويين النفسي والاجتماعي.
كيف يتعامل محمد بدرا اليوم مع موضوع طلب موافقة الشخص/الأشخاص قبل تصويرهم، خاصة في لحظات ضعفهم أو هشاشتهم؟
محمد: لا يمكن أن أعطيكِ جواباً حاسماً، سأتصرّفُ حسب السياق وتبعاً لما يمليه عليَّ إحساسي، وإذا كان لا بد من السؤال وكان ذلك ممكناً بالطبع سأسأل وأطلب الموافقة قبل التصوير. أريد أن أعود إلى سؤالك وأسأل نفسي بشأنه: هل فعلاً كان مُستفزاً أو مفاجئاً بالنسبة لي؟ كي أكون صرحاً معك، أنا دائماً أطرح السؤال الأخلاقي على نفسي كنوع من المراجعة الذاتية التي أعتبرُها أفضلَ وسيلة لفهم خياراتي السابقة كمُصوِّر، أولاً لأن بعض خياراتي المتعلقة بخصوصية الضحايا لم تكن الأفضل، ولأني أطمح أن تكون تجربتي المهنية ذات معنىٍ، لذلك فإنها لا بدَّ أن تمر وتتطور عبر النقد. أحياناً أتّخذُ مواقفَ دفاعية تجاه أسئلة معينة رغم اعترافي بأني ارتكبت تجاوزات، لكن ما يهمني هو ألا أغمض عيني وأتصرف كأن شيئاً لم يكن. بدأت أعتبر نفسي مصوراً محترفاً في 2015، وأعترف أنه كان بإمكان بعض الصور أن تحقق غايتها بأقل الخسائر، بمعنى أن تحقق الشرطين التوثيقي والأخلاقي، تماماً مثل لاعب الشطرنج المحترف الذي يعرف كيف يأكل الملك دون أن يخسر الفيل، لكن للأسف أحياناً تتجلّى لك الحركة الأمثل بعد انتهاء المعركة.
في مرة كنت أشاهد مقطع فيديو على يوتيوب عن الرسام البلجيكي رينيه ماغريت، وبعد انتهاء الفيديو ظهر لي تلقائياً فيديو يحكي عن فيلسوف، اسمه جورج بيركلي، يطرح السؤال الفلسفي التالي: «إذا سقطت شجرة في غابة ولم يكن أحدٌ بالجوار ليسمع سقوطها، فهل تصدر صوتاً؟». في تلك اللحظة أردت أن أصرخ «وجدتها، وجدتها» كأنني أرخميدس، هذا هو السؤال الذي كنت أبحث عنه. الأذن التي سمعت صوت سقوط الشجرة هي التي أعطتها فعل السقوط، والصور التي صورناها هي الشاهد، هي التي جعلت فعل حصول المجزرة حقيقياً. المصورون السوريون عَرَّفوا العالم على الحرب السورية. ذاكرة العالم اليوم عن الحرب العالمية الثانية مقترنة بالصور، وبناء عليه نتخيّل أن أحداثها جرت بالأبيض والأسود. الصورة التي رآها العالم عن الحرب في سوريا، سواء كانت سلبية أم إيجابية، صنعها المصورون والإعلاميون والصحفيون. في حوار للناقد البريطاني جون بيرجر مع المصورة والكاتبة الأميركية سوزان سونتاغ، يناقش بيرجر فكرة الحلم وكيف أن الحلم يولد لحظة أن يستيقظ النائم ويقرر الحديث عنه. بخلاف الحلم، المجزرة جدية ومحسوسة، لكن بالنسبة لمن لم يعشها أو يشهدها فإنها تحصل لحظة معرفته بحدوثها. لم يكن هدفي من التصوير توثيق جرائم الأسد، هناك العديد من المنظمات المختصة بالتوثيق، كان هدفي أن نكون مرئيين ومسموعين، كان هدفي الفعل بحد ذاته. الآن أشعر بالتقاطع مع فكرة البروفيسورة التي ذكرتِها قبل قليل. نعم، لديها الحق بالقول إنهم يريدون أن يكونوا مرئيين أقلّ، ويمكن أنهم قد تَوصَّلوا إلى هذه الخلاصة نظراً للاختلاف في عمر التجربة وطبيعتها.
رجا: على ذكر جون بيرجر، أرغبُ بالحديث معك عن ما يسمى في التصوير the male gaze، أي نظرة المصور/المتلقي الذكر، التي تمثل أكثر المواضيع إشكالية في التصوير الحديث، وقد ظهرت هذه التسمية عام 1972 في كتاب لجون بيرجر. يمكن تعريف نظرة المصور الذكر بأنها طريقة تصوير النساء من وجهة نظر يفترضها الرجال المغايرون جنسياً، وتتم من خلال: الرجل خلف الكاميرا، وجهة نظر البطل أو الشخصية الرئيسية في الفيلم أو الإعلان أو المسلسل، والجمهور من الذكور. من خلال نظرة الذكر تظهر الشخصيات النسائية مجرد جسد أنثوي يتم تصويره من أجل المتعة البصرية للشخصيات الذكور والجمهور من الذكور. ويقول جون بيرجر إن هذه النظرة ليست حكراً على السينما والتلفزيون، بل تتعداها إلى الرسم والتصوير. أنتَ تعاملتَ مع نساء في بيئة محافظة، واليوم تُصوِّرُ نساء عاملات في مجال الفن والأزياء والسياسة، وتطرقتَ في حديثك عن المصورة سوزان سونداغ لمفهوم المسافة من الشخصية والنظرة الشهوانية في التصوير. كيف تتعامل اليوم مع هذه الجزئية؟ وهل كان هذا الموضوع من ضمن شواغلك خلال مسيرتك المهنية؟
محمد: لا يمكن إنكار أن مجال التصوير عموماً في سوريا والعالم كان وما يزال محتكراً من قبل الرجال، وبالتالي كان خاضعاً لنظرة الرجل. ونتيجة قلّة المُصوِّرات النساء اللواتي صادفناهن في عملنا في سوريا، لم يتسنَّ لنا رؤية صور نساء من وجهة نظر مُصوِّرات نساء، وأعتقد أنه حتى المصورات النساء كن يصورن من وجهة نظر الذكر باعتباره مرجعاً في الصورة، عدا عن أن هناك الكثير من النساء الذكوريات بسبب نشأتهنّ في مجتمعات ذكورية أصلاً. لا بد أننا نمّطنا النساء من غير قصد. قد أكون أنا نمّطتُ امرأة ما عندما افترضتُ أنه لا يُمكنني تصويرها لأنها لن تقبل. في دوما تحاشيتُ تصوير النساء كثيراً، وهذا أيضاً تنميط غير واعٍ. حتى في أوروبا، ووفقاً لزميلات مُصوِّرات، ما يزال قطاع التصوير مُداراً من قبل الذكور، ونسبة المُصوِّرات الخريجات أكبر بكثير من الموجودات منهنّ في سوق العمل.
رجا: بالعودة إلى دوما، هل كنت تحاول أن تخلق قصة للصورة (Staged photo)، أم كنتَ تعتمد على المشهد أياً يكن، وعلى ما يمكن أن يحمله لك وللمتلقي من تأويلات؟
محمد: كنت دائماً في حالة بحث عن قصة. إحدى الصور في مجموعة دوما هي لشخص يسند جريحاً ويحمل له السيروم بطريقة دراماتيكية، هذه اللقطة بالتحديد كنت أبحث عنها منذ مدة في محاكاة لتمثال الحرية. وأنا أخذتُ المشهد كاملاً لطفلين وبقعة دم ومسعف ومصاب، لكن عند النشر، اختارت المُحرِّرة أن تقتطع الدم من الصورة وتُبقي على المصاب وحامل السيروم، وأنا ممتن لخيارها لأن الصورة ظهرت معبرة جداً عن المأساة لكن بشكل رمزي. يقول أحد النقاد السينمائيين إن القصص انتهت في العالم، لكن السياق هو الذي يُلهمنا لصناعة أفلام جديدة، وهذا ينطبق على الصورة، القصة مستلهمة من الواقع لكن السياق مني. غالباً ما يبقى السياق عنصراً مجهولاً في الكثير من الأعمال الإبداعية، لكن إذا صادفَ واتَّضح فإنه يمكن أن يغير الكثير من قراءتنا واستقبالنا للعمل. مثالٌ على ذلك الرسّام الهولندي فان غوخ؛ معظم العالم يعرف أنه قطع أذنه لكن قلائل من يعرفون أو يهتمون بمعرفة سياق هذا الفعل. بالنسبة لي تعرّفتُ على سياق قطع الرسّام لأذنه بالصدفة حين كنت أستمع لمقطع صوتي هو قراءة لرسالة فان غوخ لأخيه تيو: «اليومَ قمتُ بإعادةِ تشكيلِ وجهي، لا كما أرادتهُ الطّبيعة، ولكن كما أردتُه أنا أن يكون: عينان. عينانِ فارغتان، وجهٌ أخضرٌ، لحيةٌ كألسنةِ اللهبِ، الأذنُ في الصورة، لم أكن بحاجةٍ إليها، أمسكتُ الريشةَ، أقصد موسَ الحلاقة وأزلتُها، يبدو أن رأسي اختلط عليّ ما بين خارج الصورةِ وداخلها». هذا المقطع من الرسالة وضع بالنسبة لي تجربة فان غوخ الرسّام في سياق مختلف. وبالنسبة لي شخصياً، أصبح أهم إرث تركه رسّام هو رسالة.
رجا: عندما تفكر في المرحلة السابقة وفي تجربتك الإنسانية والعملية، إلى أي مدى ساهمت سنوات دوما في صقل هذه التجربة؟
محمد: أعتبرُ نفسي شخصاً محظوظاً بهذه التجربة، سواء بالأشخاص الذين ساعدوني أو بالتجارِب القاسية التي ربما صقلت كلَّ ما قبلها. في البدايات تعلّمت من أصدقائي العاملين في المجال، وكان ملفتاً للنظر الحالة الفنية التي ظهرت في المدينة خلال سنوات الثورة الأولى. لاحقاً، ومع اشتداد الحرب، كان أهم ما تعلمته هو متى يجب عليّ الامتناع عن أخذ اللقطة، ومتى يمكنني التصوير. في دوما تعلّمتُ ما الذي يعنيه أن أكون ملتزماً وملتصقاً ومتقاطعاً مع مسقط رأسي وقضاياه، تلك القفزة نحو النضج والاعتماد على الذات والاستقلالية حصلت حينها. دوما لم تصقل تلك التجربة، بل خلقتها. تلك التجربة لا تقتصر على مسقط رأسي فحسب، بل على كل المنازل التي حللتُ فيها بعدها، ولا سيما باريس.
رجا: في 2016 حصلت على لقب مصور العام مع مجلة Time، ما هي آلية اختيار حاملي-ات الألقاب، وكيف استقبلتَ هذا التكريم الاعتباري؟ وماذا عنى لك؟
محمد: تختار مجلة التايم كل سنة قائمة «الأفضل» عن فئة الفوتوغراف، والشخصيات العامة، والأفلام والأغاني وغيرها.
لم يتم إخطاري بهذا اللقب إلا قبل شهر من إعلانه. ولا يتم عادة التقدم لهذا النوع من التكريمات، بل يتم تسمية حاملي-ات اللقب من قبل مُحرِّري المجلة. وفي الحالة السورية، تتفوق الصورة والحدث على المصور وتقوم هي بصناعته لا هو بصناعتها. وفي رأيي؛ الألقاب التي تؤخذ إثر أحداث ضخمة لا تحمل موهبة المصور بقدر ما تحمل امتياز وجوده عند اللحظة الحاسمة. أفتخرُ حقاً بهذا اللقب، ولا أحاول التواضع بل أحاول الذهاب لما هو أبعد والبحث عن الإنجاز الحقيقي الذي يُرضي شغفي، وهو أن أصنع القصة لا أن تصنَعني. هناك جزءٌ مني يشعر بالانسلاخ أحياناً، ويعتبر أن عملي كان ارتداداً للمأساة، مجرد ردّ فعل على كل هذا العنف. ما أبحث عنه هو صورة وقصة مُصوَّرة حقيقية، أبحث عن فعل حقيقي لا ردّة فعل. أخاف من التكريم المرتبط بكوني صاحب امتياز سوريتي ولغتي وجنسي وظروفي الاجتماعية التي لم أتدخل في صنعها، في الوقت ذاته الذي يستحيل على آخرين الدخول والوصول لهذه الامتيازات.
في النهاية كان المديح مؤلماً أحياناً، يصفق الجمهور لنا تصفيقهم للقرد داخل السيرك، وكأنه من الغريب حقاً أن يستطيع فردٌ محليٌ صناعة صورة حقيقية عن ما يحدث! إلا أنني أعترفُ أن كلمات مُحرِّري المجلة حينها كانت صادقة لا تحمل استشراقاً أو تنميطاً، وما آلمني كان بعض ردود الفعل بعدها والانبهار الزائد.
رجا: قلت لي إنك تحب تصوير مباريات كرة القدم. حَدِّثني عن خصوصية تصوير المباريات، وما الذي كان عليك تَعلُّمه لتصبح مصوراً لأهم مباريات كرة القدم في فرنسا؟
محمد: التصوير الرياضي يختلف كثيراً عن تصوير أي أحداث أخرى لأنه يحتاج جهوزية عالية للحواس. سأخبرك حادثة طريفة حصلت معي: مرة كنت أقوم بالتصوير في محكمة بباريس، فتقدم مني أحد المصورين وسألني: هل كنت تصور مباراة دوري الدرجة الثانية يوم أمس؟ أجبته بنعم، كنت أتدّربُ على تصوير مباريات كرة القدم. قال، أتعلم أنك أفسدت عليَّ وعلى باقي المصورين عملنا؟ كنتَ تلتقط الصور طوال الوقت، وكان صوت كاميرتك ينبهنا كل بضعة ثوان فنتحفّز ونُجهّزُ عدساتنا للتصوير ظناً منا أن حركة مهمة ستحدث. كان يتحدث بود وبدُعابة، وشرحَ لي أن محترفي تصوير المباريات يعتمدون على حواسّهم بالدرجة الأولى، فيُبقون كاميراتهم جاهزة وينتظرون سماع اقتراب اللاعب ويتوقعون حركته القادمة، وعندها فقط يضغطون زرَّ التصوير. طبعاً كان المصور مُحقاً، لأنني في أول مرة نزلت فيها كي أصور مباراة كرة قدم، ورغم العدد اللامنتهي من اللقطات التي سجّلتها، إلا أنني لم ألتقط صورة واحدة ناجحة بسبب سرعة اللاعبين وعدم معرفتي بالتوقيت الصحيح للتصوير.
رجا: هل الموضوع شبيه بالترقّب والتربّص الذي يعتمده مصورو الحيوانات؟
محمد: صحيح من حيث الترقّب والتنبّؤ بحركة الموضوع المراد تصويره، لكن الفرق أن مصور الحيوانات عادة حرٌّ أكثر من حيث الوقت، وليس محدداً بزمن مثل المباراة التي تبدأ وتنتهي في وقت محدد.
في التصوير الرياضي، من المفيد جداً أن تكوني على دراية بطريقة لعب اللاعبين المهمين في كل مباراة. مثلاً أنا أحب ليونيل ميسي وأتابعه قبل أن أكون مُصوِّراً، وبطبيعة الحال أعرف كيف يلعب وأستطيع تَوقُّعَ حركته، لذا صرت أعرف متى أفتح عدستي وألتقط صورة له. اللاعب امبابي مثلاً من أصعب اللاعبين تصويراً، بسبب سرعته الفائقة في الملعب. أما إبراهيموفيتش، فمعروفٌ عنه أن يحب الاستعراض في الملعب، فأعرف مسبقاً أنه في مرحلة ما من المباراة سيتوقف للحظة ويستعرض بعض مهاراته.
رجا: أشاركك حب ميسي وحب كرة القدم، ولدي الكثير من الأسئلة هنا سأتركها لوقت لاحق. وسؤالي الآن، في مرحلة الاحتراف، كيف بدأت تتعامل مع موضوع حقوق ملكية الصور وحق استخدامها؟
محمد: في الحقيقة أتمنى أن تكون الصور مَشاعاً عاماً، مع علمي أن هذا يضرّ بي بالدرجة الأولى. أنا لا أمانع أبداً استخدام الناس لصوري بشرط ألا يبيعوها. نعم أحرص على وجود اسمي على الصورة، ليس من مبدأ الاستعراض ولكن بالنسبة للوكالات فإن اسم المصور على الصورة هو جزء من الكابشن (معلومات تعريف الصورة). سأستشهد هنا بفكرة دينية لشرح فكرة حق الملكية وصحة المصدر. هناك في الفقه الإسلامي ما يعرف بعلم المتن وعلم السند، بمعنى نقل حديث فلان عن فلان، عن فلان، وهو ما يسمى إسناد. ويأتي علم الرجال المعتمد على منهجية الجرح والتعديل المختص بالرواة ليقومَ بالتدقيق في الرواية. لو أخذنا حديثاً نقلاً عن أحمد بن حنبل، عن بن عباس، عن أبي هريرة عن النبي، فهذا العلم مهمته مراجعة هل بن حنبل قابل ابن عباس فعلاً، متى وأين، وإن لم تتوفر أدلة كافية على حدوث هذا اللقاء فالسند غير صحيح. في سند الصورة، مثلاً أسفل أغلب صوري ستجدين هذه العبارة:
Mohammed Badra/EPA-EFE/Shutterstock
وهذا يعني أن الصورة نُقلت من المُصوِّر للوكالة ثم للموزِّع. أنت تعرفين الآن لو أن هذه الصورة كاذبة أو مغلوطة، إذ بإمكانك تتبع الجهة التي أصدرتها ووزعتها وقامت بتصويرها. لذلك يعتبر الكابشن دليلَ حماية لمُستخدم الصورة قبل أن يكون لي، ولو فَكَّرنا بالموضوع على المدى الطويل، فالاسم والكابشن يُسهّلان عملية البحث عن الصور والوصول إليها.
رجا: في أول دردشة بيننا قلتَ لي إن الإنجاز الذي حَصّلته اليوم في فرنسا لا يعني لك بقدرِ ما لو كنتَ تمارس مهنتك كمصور صحفي في سوريا. قل لي لماذا، وما الذي ستمنحكَ إياه سوريا ولا تجده في فرنسا؟
محمد: ما يربطني بسوريا ليس فكرة الوطنية المُشوَّهة التي صدَّرها لنا البعث، وطنيتي أنا ومعظم السوريين والسوريات مستمدة من ذاكرتنا الجمعية المؤلفة من شريط ذكريات بسيط، فيه مسلسلات رمضانية وسهرات وبرامج تلفزيونية والكثير من النكات المحلية التي لايفهمها غيرنا. قد تبدو هذه العوامل بسيطة، لكنها هي التي تجعل الشخص ابن مكانه. هناك رأي يقول إنك لن تخرج بصور حقيقية إلا من مكان تعرفه جيداً. بالنسبة لي، لا أنفي ولا أؤكد هذه النظرية، لكني اتّخذتُ قراراً بأني أينما كنت سأظل أحاول أن أرى الأشياء بطريقتي وأصورها بطريقتي.
رجا: اعتمادكَ على فن العمارة كمرجعية في تكوين الصورة يدفعني للتفكير في مَفهومَي البناء والدمار بشكل مُجرَّد. أنتَ تعلمتَ كيفية الإعمار وخلق كتلة في الفراغ، وخلال الحرب كان عليك التعامل مع الفكرة النقيضة وهي الدمار وتَفكُّكُ هذه الكتلة وتَحوُّلها إلى أنقاض. كل هذا حدث أمام عينيك وفي مدينتك. لا بدّ أنك دخلت كثيراً من المباني التي انهارت بفعل القصف وتعرفها جيداً، كيف تعاملت على الصعيد الشخصي مع كل هذا الدمار؟ وإلى أي مدى تدخلت مشاعرك في التقاط صور الدمار والأنقاض؟
محمد: من الصعب جداً أن أُحدِّدَ مشاعري وأصفها، أحياناً ينصفنا الأخرون بينما نقسو على أنفسنا؛ مثلاً أنتِ وغيركِ فكرتِ بهذا الجانب، أما أنا ما زلت في مرحلة الإنكار العام، وتأجيل المواجهة مع مشاعري. أرشيفي قاسٍ على الصعيدين الشخصي والمهني؛ كل يوم في دوما كان يغيب شخصٌ من أصدقائي عن الجلسات وعن الصور أيضاً، وكان الحلُّ الأسلمُ لضمان الاستمرار هو تجنّبُ التفكير ومواجهة ما حدث. من ناحية ثانية، وبسبب احتمالات الموت اليومية التي عشناها، أصبحتُ أفكر أني أريد استغلال فرصة أني على قيد الحياة وأنه بإمكاني اختبار مُتَعٍ صغيرة حُرِمتُ منها في بداية مرحلة الشباب، كالمواعدة والحب والسفر وزيارة الأصدقاء وغيرها، وما زلت حتى اللحظة مفتوناً بفكرة أنني حي.
رجا: كمصور، هل تزعجك محاولات حصر تجربتك بسنوات الحرب وصور دوما؟
محمد: نعم تزعجني، أولاً لأن تجربتي كمصور نضجت بعد خروجي من دوما. بغض النظر عن ظرف الحرب، أنا لم أتوقف يوماً عن السعي للتعلُّم والاحتراف، فمهنتي ليست صنيعة الحرب. لذلك أنا أرفض تسميتي بمصور حربي، فذلك الشخص له دوره وخبرته مرتبطة بظروف الحرب وهذا يحتاج طبعاً مهارات عالية، إنما أنا أمتهنُ التصوير سواء كانت هناك حربٌ أم لا.
رجا: يبدأ الخط الزمني لصفحة الإنستغرام الخاصة بك بصور من دوما، وشيئاً فشيئاً يتغيّرُ المشهد ونرى صوراً من باريس. هل تظن أن صوراً حديثة من دوما ستعود لتأخذ مساحة في صفحتك؟
محمد: أتمنى، لكن لا أعتقد أن هذا سيحدث. في حال شهدَتْ سوريا مرحلة سياسية جديدة لا بدَّ أنني سأكون أول المتواجدين هناك، أنا والمصورين-ات السوريين سيكون علينا مسؤوليةُ خلق صورة جديدة لسوريا في ذاكرة العالم، سوريا التي تشبهنا ونُحبّها.