انشغلتْ مُعضلة التدوين الموسيقي قديماً بالسؤال حول كيفية تدوين النغم، وقد كان عليه إشارات قديمة في كتاب الأغاني، وتركَ لنا الكندي ومن بعده الأرموي والشيرازي نماذجَ قليلة على مثل هذا التدوين، المُعتمِد على أحرف الأبجدية بديلاً عن الدرجات الموسيقية والأرقام للإشارة إلى عدد نقرات كل درجة، أي الزمن الذي ستأخذه. ولكن مبْحثَ كيفية تدوين النغم لم يكُن وحده موضوعاً للسؤال، بل تجاوزه أيضاً إلى كيفية تدوين الإيقاع، على الرغم من أنَّ العدد النظري للإيقاعات أقل من الألحان الممكنة. وسنرى أن طريقة التدوين مرتبطةٌ بتصوُّر أوسعَ عن اللغة والكون. لهذا قد يكون من الأفضل الحديث عن «تمثيل الإيقاع» (representation)، أي جعله ماثلاً أمامنا، بدل الاكتفاء بالقول بتدوينه.
ربّما يكون من المفيد بدايةً توضيح أن الهدف الأقصى لعملية التمثيل هي تقديم وصف ناجز جامع مانع لما تحاول تمثيله، مع معادلة تسمح بالسير طرداً وعكساً بين الأصل وتمثيله دون خسارات. أي أن تصف الإيقاع بكل دقة، فلا تفوتك معلومات مهمة عنه، وأنه يمكنك استخلاص الإيقاع تحديداً من خلال الوصف، فلا تتضارب الاحتمالات عند قارئ الوصف إذا ما شاء تنفيذه. ومثل هذا، لا يَستغني طبعاً عن قدرٍ من التجريد للإمساك بجوهر الموصوف دون زخارفه، وهو أيضاً ما كان قد لحظَهُ الرواد الأوائل منذ الكندي حين تحدَّثَ عن إيقاعاتٍ هي «كالجنس لسائر الإيقاعات» ذلك أن الإيقاعات في العالم الفعلي لا تقبل الحصر.
في عُجالة تمهيدية يمكن القول إن جوهر الإيقاع الموسيقي يتطلّب الآن للإمساك به، في رأينا، تحديد تقسيم الإيقاع الداخلي إلى أجزاء، ثم عدد النقرات في كل جزء وشدَّتها وطبيعتها والسكتات ما بينها وسرعة الوحدة الزمنية التي تجري عليها. فمثل هذه المعرفة ستُمكّن القارئ من تنفيذ الإيقاع بغض النظر عن الآلة وعن الزخرفات.
وبحسب ما يلوح لنا، افتتح صفي الدين الأرموي (1216 – 1294 م) مرحلة مختلفة في محاولات تمثيل الإيقاع كتابةً، والابتعاد عن النقاش الفلسفي، مكتفياً بالاعتماد على مقولات الشيخ أبي نصر الفارابي. فيبدو أن سقوط بغداد أمام هولاكو سنة 1258 ميلادي كان علامة على انقلاب في الأحوال، وانتقال في الموسيقى من عصر إلى عصر ومن مكان إلى مكان، فالأرموي، بغداديُّ الإقامة، انتقل تأثيره في ما يُسمّى بالمدرسة النظامية إلى العالم الفارسي بالأخص، مع قطب الدين الشيرازي الذي توفي عام 1311 م. ثم عبد القادر المراغي الذي توفي عام 1435 م. وقد نال الأرموي شهرة كبيرة، وأحاطت المهابة بمدرسته، التي يضم الباحثون إليها عبد القادر المراغي الذي وصل تعليمه إلى مصر. إذ نجد فيها محمد البديوي السيلكوني (توفي غالباً آخر القرن الخامس عشر للميلاد)انظر السخاوي في الضوء اللامع لأهل القرن التاسع. الذي أخذ عن ابن عبد القادر المراغي مباشرة. ولسنا ندري هل نُسِبت «النوبة السيلكونية» إليه أم أنه نُسِب إليها. فقد أشار إلى هذا النوع من الوصلة علي بن عبيد الله السيلكوني في رسالته المكتوبة أيضاً حوالي مطلع القرن السادس عشر (محفوظة ببرلين)، وهذا الأخير ربما كان الوحيد (مع ناصر العودي وسنعود إليه لاحقاً، وهذا أيضاً يشير إلى السيلكونية التي ربما كانت طريقة أو إطاراً للموسيقيين)Eckhard Neubaeur, «Glimpses of Arab music in Ottoman times from Syrian and Egyptian sources». In: ZGAIW 13 (1999-2000), 317-365. الذي نبّه إلى الأهمية القصوى للإيقاع في استجلاب الطرب، ملاحِظاً بحسب ممارسات عصره أن المُنشدين الدينيين المُتخلِّينَ عن الإيقاع أقلُّ تصرفاً في الأنغام وتركيبها من أولئك العارفين بالإيقاع.
إلا أن الإنتاج المحلي عندنا، موسيقى وكتابةً عنها، كان يبتعد عن الإطار الفلسفي، ثم يبتعد أيضاً عن الإطار «النظامي» برغبته في تطوير الحسابات المعقدة لأبعاد النغم ودوائر الإيقاعات. في المرحلة الوسيطة، تفاوتت المخطوطات والكتب العربية، المشرقية خصوصاً، في تناولها لمسألة الموسيقى والنغم، ما بين النقاش الفقهي حول تحريم السماع أو تحليله، وبين بعض كتب صناعة الآلات، وبين تلك التي تناولت من طريق الأراجيز والأشعار مسألةَ الموسيقى والمقامات، وبعض الكتب التي تناولت تفاصيل الصنعة لناحية المقامات، دون أن يخلو الموضوع من ربطها بالطبائع والأخلاط والأمزجة والفلك والإيقاعات، واستمرت متضائلة إلى أن انتهت إلى فترةٍ مديدةٍ لم يكن فيها تقريباً إلا شروحٌ أو سفنٌ هي جمعٌ للموشّحات المغنّاة والمواويل والأزجال والأشغال والقصائد الصوفية. ثم تَجدَّدَ الاهتمام النظري بالموسيقى مع ميخائيل مشاقة، واستمر بأشكال متنوعة بعدها.
لذا سنتناول في هذه المقالة كيفية تمثيل الإيقاع في هذه المراحل المختلفة، بعد عرض موجز لهذه النقطة لدى الفلاسفة الأقدم، لنركّز على مرحلة الأرموي ثم المرحلة الوسيطة وانتهاءً بالقرن العشرين عند كتاب مؤتمر الموسيقى العربية الأول سنة 1932. ويمكن تقسيم هذا التناول إلى مراحل يتقاطع فيها الترتيب التاريخي مع طريقة التناول إلى حد كبير.
ما قبل الأرموي: اللغة أداةٌ ناقصة
في مقالة سابقة على موقع الجمهورية، عرضنا آراء الفلاسفة الأوائل في مسألة الإيقاع، وتحديداً الكندي وإخوان الصفا، والفارابي ومعه الحسن الكاتب، وابن سينا ثم تلميذه ابن زيلة. ويمكن العودة إليها لمزيد من التفصيل، لكن مختصر القول في مسألة تمثيل الإيقاعات تحديداً، أي البحث عن طريقة وافيةٍ لكتابتها عند هؤلاء، أن الكندي (ت. 873 م) يصفُ الإيقاعات بعدد النقرات والأزمنة ما بينها، وهو ما يقوم به الفارابي (ت. 950 م) أيضاً، غير إنه يستعمل إلى جانب ذلك اصطلاح التاء للحركة والنون للسكون. واستعمال التاء والنون هو ما يستخدمه أيضاً الخوارزمي (ت. 997 م) في مفاتيح العلوم وإن بشكل أكثر إبهاماً لأنه لا يوضِح الأزمنة الساكنة بين النقرات، وكذلك حال ابن الطحان«حاوي الفنون وسلوى المحزون»، تحقيق زكريا يوسف، العراق 1971. أيضاً (حوالي منتصف القرن الحادي عشر ميلادي) الذي يكتفي بعدد النقرات ولا يستخدم التاء والنون للتمثيل على الإيقاع.
ويستعمل إخوان الصفا (أواسط القرن العاشر للميلاد)، إلى هاتين الطريقتين، وإلى إيضاح العدد الإجمالي للنقرات مميزين بين المتتاليات وتلك التي هي ثقيلة يتبعها ساكن، أدوات التفاعيل العَروضية المستعملة في بحور الشعر. وهي عندهم في الأصل التفعيلات الخليلة الثمانية، توازياً مع الإيقاعات الثمانية ونظام الكون المبني على المربعات بحسبهم، لكنها بعد ذلك تطورت وتعددت، حتى حسب بعضهم أنها وصلت إلى ستين نوعاً من مشتقات جذر ف.ع .ل. غير أنهم يضطرون إلى إضافة ملاحظات عن أزمنة السكون مثلاً. ويستعملها الحسن الكاتب لكن ليس في الباب الثامن والعشرين الذي يشرح فيه الإيقاعاتالحسن بن أحمد بن علي الكاتب، كمال أدب الغناء، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 1975، ص. 92.، حيث يكتفي فيه بالشرح المُستقى من الفارابي وبعدد النقرات، لكنه يذكرها في الباب التاسع عشر الذي يتحدث فيه عن أوزان الشعر، ويعرُّج فيه على التلحين حيث يشدد فيه على ضرورة التلحين من إيقاع يخالف الإيقاع الشعري في وزنه «فالمتفقة فإنها تكون قليلة البهاء ويكون التلحين فيها غير طائل ولا لذيذ».
أما ابن سينا (ت. 1037 م) فيقترح تغيير طريقة الفارابي واستخدام التاء والنون بشكل مختلف (تن وتانْ وتارْنْ بتسكين الراء والنون)، ثم يقترح، من أجل قلب الإيقاع المنقور إلى إيقاعٍ لفظي، إمكانية حذف سواكن أو تحويل متحرك إلى ساكن بما يسمح بإقامة توازٍ مع أدوات عروضية، إلا أن مشكلة نظامه هذا أنه يسمح بتوليد تفاعيل مختلفة من إيقاع واحد (فكأنها احتمالات للزخرفة عليه فوق ما هي شرح نظري)، وهو ما لا يسمح بمعرفة النقرات رجوعاً من التفعيلة، ويؤوِّل ذلك إلى احتساب المدة الزمنية للإيقاع كهدفٍ يفوق تفاصيل نبراته وسكتاته. بناءً على ذلك، وصل تلميذه ابن زيلةالكافي في الموسيقى، متاح على موقع النجمة الزهراء في تونس، وعلى موقع مكتبة قطر الالكترونية. طبع بالقاهرة 1964 بتحقيق زكريا يوسف. (ت. حوالي 1048 م) إلى اعتبار الإيقاعات بناءاً على عدد وحداتها الزمانية؛ فتحدَّث عن الإيقاع الثُماني والسُباعي والسُداسي… إلخ، أما في وصف إيقاعات محددة فقد استخدم التاء للنقرة المسموعة ورمز الدائرة المفرغة (ه) للسكون، لكنه أضاف إضافة مهمة حين أشار لأول مرة في ما وصلنا إلى تمييز بين نقرات قوية، حيث رسمَ لها خطاً فوق التاء (رمزُ النقرة عنده)، وبين النقرات غير القوية.
ويعني هذا الاصطدام بمشكلة تتابعِ احتسابِ أزمنة السكوت أو بإبدال مواضع النبر والضغوط؛ أن استخدام الأدوات العَروضية كان يؤدي عملياً إلى تشويه تمثيل الإيقاع لحشره في إطار، وإلى تحويل الإيقاع كما رأينا في المقالة السابقة إلى كمٍ محض مع ابن سينا وتوضِح مع ابن زيلة.
كما يعني ذلك عملياً أن تمثيل الإيقاع من خلال الأدوات المفهومية، اللغوية،انظر مثلاً شرح العلامة عبد الله العلايلي لرؤية أبي العلاء المعري للكون التي تتوسل قواعد النحو أداةً للفهم والوصف، في المعري ذلك المجهول، رحلة في فكره وعالمه النفسي، دار الجديد، لبنان، الطبعة الثالثة 1995. بحسب ما كان متاحاً آنذاك في مطلع الثقافة العربية الإسلامية، يؤدي إلى تمثيل غير متكامل، إذ لا يمكن استخلاص إيقاعٍ واحدٍ محددٍ من هذه الأدوات لوحدها دون إضافة، بحيث يتطابق مع طريقة تمثيله. فهو إما ينقُص (لنقص المعلومات عن السكتات)، وإما يزيد حيث يمكن لتفعيلة واحدة تنتُج عن محاولات ابن سينا في الطي وقلب السكتات أن تعني أكثر من إيقاع، كما يمكن للإيقاع أن يؤَدّى بأكثر من تفعيلة تتقاطع مع إيقاعات أخرى، وهذا نبّه إليه ابن سينا نفسه في وعيه البديع بحدود نظامه.
النظاميون ومعاصروهم: مرحلة الوصف بالأدوات العَروضية والدوائر
كان صفيُّ الدين الأرموي (ت. 1283 م) يستعمل الأدوات العَروضية؛ أي الحركة والسبب والوتد والفاصلة، لا كمُحاكاة لفظية بل كأدوات حسابية لاحتساب طول الزمن (وورث ذلك عنه اللاذقي مثلاً، أنظر أدناه، مثلما ورث فكرة تحديد النقرات المهملة وتلك المنقورة فعلاً)فيقول الارموي في «الأدوار» مثلاً عن إيقاع «الثقيل الأول» إن «كل دور من أدواره بإزاء ما يلفظ فيه بثمانية أسباب ثقال فتكون نقراته حينئذ ست عشرة نقرة إلا أنهم يسقطون منها إحدى عشرة نقرة…».، فيمكن إبدالها عنده بالأحرف أ وب وج ود، أو بقيمتها كزمان وزمانَين وثلاثة أزمنة وأربعة أزمنة. غير أن رسم الدائرة أو الكتابة العَروضية لم يكونا كافيَين في ذاتهما للتمثيل الكافي للإيقاع عنده، فاضطره ذلك إلى أن يضيف تعقيداً إضافياً؛ حيث كان عليه أن يوضِح في معظم الإيقاعات أن أول كل من هذه الأدوات العَروضية (السبب والوتد والفاصلة) ينبغي أن يكون منقوراً وآخرها ساكناً، أما ما بينهما فلمن يعزف أن يختار في النقر أو في السكون (وأخذ عنه ذلك أيضاً عبد القادر المراغي في مقاصد الألحان). «فإن الموقّع فيها بالخَيار»، مثلما أوضحَ شارحُ كتاب الأدوار في النسخة المُتاحة على موقع مكتبة قطر الإلكترونية، وفتح الله الشرواني في رسالته،فتح الله الشرواني، رسالة في علم الموسيقى، 1453 م. تقريباً، لها نسخة متاحة على موقع مكتبة قطر الإلكتروني، ص. 81. ومثلما لاحظ أوين رايت في كتابه عن نظرية الموسيقى في القاهرة المملوكية حيث ميّز بين نقرات أساسية وأخرى اختيارية.انظرOwen Wright, Music theory in Mamluk Cairo : the Ġāyat al-maṭlūb fi ‘ilm al-adwār wa-‘l-ḍurūb by Ibn Kurr, 2014
ولا يُشترط، في رأينا، بحسب نص الأرموي، أن يَطّرد ذلك الخيار الزخرفي في كل أجزاء الإيقاع. وهذا ما يولّد احتمالات مختلفة تنتُج عن كل وصفٍ للإيقاع، وبعضها قد يؤدي إلى تغيير عميقٍ في نبرات الإيقاع، حيث لا يستوي في نظر أهل الإيقاع أن يتوالى دُمَّان أو ثلاثة تباعاً، مع أن تكون دُمَّاً واحدة يليها سكون.
ويُصعِّبُ هذا من إمكانية فهم التقسيم الداخلي للإيقاع عند الأرموي، إذ ليس بالضرورة أن استخدام تفعيلتين سيعني أن كل تفعيلة منهما هي قسم من الإيقاع، ففي إحدى صيغ إيقاع «الرمل» عنده في الرسالة الشرفية يقول إنه على وزن «مفتعلاتن فعلن» (أي ستكون قسمته عندها ثماني وحدات زمنية وأربع)، أو قد يكون «مفتعلن مفتعلن» (فيكون سداسياً مرتين). وباستعراض تعريفات الأرموي وسابقيه لإيقاع الرمل يظهر بوضوح التضارب بين التمثيلات المختلفة للإيقاع، وربّما أثر تغييرات حصلت سريعاً في زمن قصير. ويلفتنا في هذه المرحلة الدور الذي تلعبه الدوائر كمفهوم. وواضح أن الدائرة كانت أداةً مهمة للتصوُّر الفكري في ذلك العصر، بما يلوح من اطّراد استعمالها في الشعر والإيقاع وتمثيل المقامات أيضاً وربطها بالأبراج والطبائع والساعات (وصولاً إلى مطلع القرن العشرين مع درويش محمد الحريري القاهري في كتاب صفا الأوقات في علم النغمات).
ففضلاً على المعاني الدينية لرمز الدائرة، من اكتمالٍ وغيابِ البداية والنهاية، فإن الدائرة أيضاً كانت ولا تزال تشكِّل إطاراً بصرياً يسمح بالدوران المتواصل. ومن هنا مصطلح «الدور» بمعنى ما يتكرر. وهو ما يفسّر لماذا لا تزال مستعملة، في إطار الساعات على سبيل المثال، لتمثيل الوقت رغم محاولات سابقة لم تستمر لصناعة ساعات تتحرك عقاربها أفقياً وليس دائرياً. ويبدو أن أصل هذا المفهوم يعود إلى فهمٍ يوناني للزمن،انظر عرض أحمد بيضون لكتاب هنري ـ شارل بويش عن العرفان والزمن (الجزء الأول من في طلب العرفان) في «مداخل ومخارج، مشاركات نقدية»، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، ص.61 ـ 86، وبالأخص ص. 76. وقد يكون تمثيله البصري في الأصل عالة على ملاحظات الفلكيين حول دوران الكواكب والنجوم، واعتبارهم أن مدارات الكواكب دائرية بالضرورة لأنها أكمل الأشكال الهندسية، ولم يتم تجاوز هذا الفهم في المجال الفلكي حتى ثورة العلم الأوروبي الحديث.
بهذا، يمكن طرح فرضية أن نجاح نظرية الخليل في العَروض بُني على تزاوج المقاربة اللغوية الصرفية (اشتقاقات لغوية من جذر فعل) ومفهوم الدائرة، الذي أخذ سحره يتنامى بتأثير توسُّع الاهتمام بعلم الفلك والنجوم والأبراج. ولعل هذا أيضاً ما جذب إلى مجال التمثيل بالدائرة اهتمام الأرموي وتابعيه. واستمر توسُّع موضوع دائرة المقامات إلى عهدٍ قريب، حتى بعد ما هَجَر شُرّاح الإيقاعات هذا الاستعمال، حيث أنه يسمح بتمثيل بصري سريع لاشتقاقات مُفترضة بين المقامات، كما يسمح بإضافة مدارات إضافية كي يمكن تصوير ربط المقامات بالساعات أو بالطبائع والأمزجة أو بالأفلاك.
أما أبو عبد الله شمس الدين محمد بن عيسى بن حسن بن كر البغدادي الأصل، المصري الدار والمولدبحسب ما يقول عنه ابن فضل الله العمري في مسالك الأبصار في ممالك الأمصار ثم يضيف، من ضمن ترجمة طويلة، «لقد غنى فأضحك وغنى فأبكى، وغنى فأنام، فرأيت بعيني منه ما سمعته أذناي عن الفارابي، فصدق الخبر الخبر، وحقق العين الأثر، ورأيت منه واحدا، سبحان من وهبه ما لا هو في قدرة البشر». انظر كتاب رايت المذكور سابقاً. (1282 ـ 1357 م)، في كتاب غاية المطلوب في الأدوار والضروب (حوالي 1344 م)، فيتجاهل كلياً التفاعيل والأدوات العَروضية مثلما لا ترِدُ عنده أية محاولات لرسم الدوائر على طريقة الأرموي. وهو يكتفي بالتاء والنون تمثيلاً للإيقاعات، مع تسمية كل «تن» باسمٍ تفرّدَ ابن كر به في الكتابات العربية وهو «راه»، أي أن كل راه حرفان أو نقرتان، ويحدد عدد أقسام الإيقاع، وإن لم تكن بالضرورة متساوية، كما يحدد نقراته الأساسية المُلزِمة التي يسميها نقرات الأصل، وهي ربما مرادفُ «ضرب الأصل» الذي أشار إليه الأرموي، وهي عنده اثنتان لكل إيقاع في الموسيقى غير المُغنّاة.
وتختلف الأسماء وطريقة العرض وتقسيم الإيقاعات وأنواعها وتنويعاتها عند ابن كر اختلافاً عميقاً وبيّناً عن الأرموي، كما عن المرحلة الأقدم، ما قد يشير ربّما إلى تقليد محلي مصري لم يتأثر حينها بعمق بمدرسة النظاميين، على الأقل في مجال الإيقاع الذي نتناوله هنا. يُشير هذا أيضاً إلى أن كتاب ابن كر يطرح أسئلة هامة عن مدى التمايزات المحلية، وأيضاً بصورة أكثر راديكالية، فإنه يتحدى، بحسب رايت، الشمولية التي يقدّم بها عرض الإيقاعات عند الأرموي، وحتى صحة التعريفات التي يقدمها بشأن الأنغام وإن كان اللاحقون رددوها وعلّقوا عليها.
المرحلة الوسيطة: مرحلة الشرح اللفظي والسكتات الطويلة
استمرّ تأثير نظام الأرموي، الذي حاز شهرة ضخمة إلى حد ما، في اللاحقين. ففي مرحلة مُقاربة ربّما، يكتب مؤلفٌ مجهول ناقلاً عن الأرموي الشجرة ذات الأكمام الحاوية لأصول الأنغامشرح وتحقيق غطاس عبد الملك خشبة وإيزيس فتح الله، الهيئة المصريّة العامّة للكتاب ، 1983.، يعبّر فيه عن الإيقاع بالتاء والنون وكذلك بالأدوات العَروضية كالأسباب والأوتاد، لكن دون جمعها في تفاعيل. غير أنه، بخلاف الأرموي، لا يشير إلى التمييز بين النقرات الاختيارية والنقرات الملزمة.
كذلك فإن محمد بن عبد الحميد اللاذقي (ت. نحو 1495) في رسالته المسمّاة بـ الفتحيّة، وعند حديثه عن إيقاعات معاصرة له، يستخدم نظام الأرموي في كتاب الأدوار، لكن دون رسم الدوائر بحسب النسخة المتاحة على موقع النجمة الزهراء، باستعمال مقولات السبب والوتد والفاصلة، ويرسمها على أشكال تن وتنن وتننن. غير أنه يستخدم التاء والنون دون جمعها في أشكال عروضية من التفعيلات، وهو لا يشير إلى النقرات الاختيارية بل يقول بأنهم يسقطونها ولا يشير إلّا إلى النقرات الأساسية.
هكذا يكون التمثيل في هذه المرحلة مكتفياً بشرح العدد الإجمالي لوحدات الدورة الإيقاعية، وتحديد أيٌّ منها ينبغي أن يكون منقوراً لزوماً، بينما تكون التاء والنون مجرّد أدواتٍ لتسهيل العد لا أكثر، ولا يُقصد بها أي ربط فعلي بالأدوات العَروضية في معناها الإيقاعي. يبدو أن مثل هذا التراجع عن التجريد (وعن الدوائر التي نجدها بالمقابل عند اللاذقي نفسه في رسالة أخرى معنونة زين الألحان في علم التأليف والأوزان) في مقاربة الإيقاع لصالح وصفٍ أكثر مباشرة (العدد الإجمالي للوحدات وأي منها منقور) كان نتيجة لتغير في الممارسة الإيقاعية نفسها، حيث تتميّز الإيقاعات المشروحة بهذه الطريقة بطولها وزيادة الصمت ما بين نقراتها إلى حدود أبعد بكثير مما كانت تعرفه الإيقاعات الأقدم. فاللاذقي مثلاً في الرسالة الفتحية يصف إيقاع «جهار ضرب» أنه بإزاء ست وتسعين نقرة يُطرح منها خمسٌ وثمانون، وأكبر مدة ساكنة بين نقرتين فيه ستصل إلى خمس عشرة وحدة زمنية.
ولعلّ ذلك يشرح التراجع الكبير لفكرة استخدام الأدوات العَروضية في تمثيل الإيقاع الموسيقي، عدا في استعادة ونقل كتابات الأقدمين المتقدمين (كالفارابي وابن سينا والأرموي بخاصة)، وعلى جاري عادة الكتب القروسطية، لكن مع التمييز، مثلما يفعل اللاذقي (في الفتحية) والشروانيفتح الله الشرواني، رسالة في علم الموسيقى، ص. 79. مثلاً، بينهم وبين ممارسات المعاصرين المسميّين بالمتأخرين. كما قد يكون لهذه المقاربة التجريدية علاقة بتغيرات سريعة في وقت قصير من الزمن تعرّضت لها ممارسة لم تكن مستقرة تماماً آنذاك، بما جعل النظام الأسبق قاصراً عن الإحاطة به، ولم تكن الأدوات الجديدة لذلك قد ظهرت بعد. وقد يفسِّر ذلك جزئياً لماذا شهدت هذه المرحلة الوسيطة في العموم تراجعاً في الاهتمام بالإيقاع، وزادت فيها، وفي المرحلة اللاحقة عليها التي يسميها البعض بمدرسة الأراجيز والأنغام، المخطوطات التي تحصر اهتمامها في مجال الأنغام والمقامات وأصولها وفروعها ومركّباتها (كرسائل وأراجيز الصفدي والصيداوي والحصكفي والعجمي والمارديني)، بينما تتجاهل بشكل شبه كامل الجانب الإيقاعي.
المرحلة العثمانية الأولى: مرحلة التمثيل بالتم والتك
بالتوازي مع الدخول العثماني تقريباً نلاحظ هجراً كاملاً لشرح الإيقاعات بالدوائر، وسقوط نظام الأرموي في النسيان. بالمقابل، في هذه المرحلة بدأ التمثيل على الإيقاع باستخدام أدوات جديدة هي التُم، لاحقاً الدُم، والتَك. فرغم إشارةٍ أقدم عند ابن زيلة إلى تمييزٍ بين النقر القوي والنقر الضعيف، لم يستمر هذا التمييز، ولا نستطيع أن نتبيّن بدقة هل أن غيابه في الكتابة يعكس غياباً في الممارسة أم مجرد ضعف الكتابة عن الإحاطة بموضوعها.
وقد يكون من الممكن الظن بأن أصل التأكيد على مثل هذا التمايز أتى بتأثير تُركي، بناءً على أن النماذج الأقدم للتمثيل بالدُم (أو في بعض الاستعمالات الدُم) والتَك تضيف إليهما أيضاً «تكه»، وهذه كانت ولا تزال مستمرة في الممارسة التركية. كذلك تشير هذه المصادر الأقدم مثل رسالة العودي إلى أنهما يسمَيّان في العربية بالطاع والدي (أو الديه). أي أن أدوات التمثيل هنا منفصلة عن أسمائها العربية، ما قد يسمح بالشك في أنها، أي أدوات التمثيل هذه، ربما تكون مستوردة توازياً مع ظهور ممارسة أحدث وإيقاعات أحدث مثل الدويك والنوخت والمصمودي والبليق.
فيكتب ناصر العودي الحلبي، حوالي نهاية القرن السادس عشر، في رسالته الشامية على الأرجح، المعنوَنة بلوغ الأوطار في بيان أسماء ترنم الأطياروهذا اسمها بحسب النسخة الموجودة في السعودية، غير إن باحثين مثل نويباور يكتبون اسمه بالكاف، أي الكلبي وهو ربما تصحيف، ويشيرون إلى الرسالة باسم بلوغ الأوطار في بيان ترنم الأوتار اعتماداً على نسخة في القاهرة. عن أهمية الإيقاع بأن «علم النقرة هو الفن الكامل»، ويقسُّم النقرات إلى طاع ودي (وهو ما سيصبح لاحقاً تُم وتَك)، مميزاً بين إيقاعات أبناء العرب وإيقاعات أبناء العجم، كما يميز بين الإيقاعات التي يُغنّى عليها وتلك التي لأصحاب الطبول بحسب عبارته. ويضع لها رموزاً من الدوائر المفرغة لكن لا تسمح الرسالة، على الأقل في نسختها الموجودة في السعودية والمتاحة لنا، بفهم هذه الرموز.
أما عسكر الحلبي في أواخر القرن السابع عشر للميلاد في مخطوطة راح الجام في شجرة الأنغام،نسختها الموجودة في باريس تشير إلى عام 1083 هجري أي ما يوافق عام 1672 م. فينظّم الإيقاعات مثل المقامات في هيئة شجرة، ولو أن تفرُّعات الإيقاعات عن بعضها غير واضحة في مخطوطه هذا. وهو يذكر قول السابقين في الوتد والسبب والفاصلة، وإن كان ذكره لها يشير إلى تحور مفاجئ ومسلٍّ في معنى هذا القول، حيث أنه يَعتبر أن الأصول مركبة على سببين خفيفين ووتد مجموع هما دُم وتَك وتَكه، أي أنه يُشير إلى «أسماء» النقرات بالأدوات العَروضية وليس إلى قيمتها الإيقاعية والزمنية، بخلاف تاريخ استخدام هذه الطريقة. وفي وصف الإيقاعات يَستخدم دُم وتَك وتَكه فيكتب إيقاع الفاختي على الشكل الآتي «دُم تَك دُم تَكه تَكه»، إلا أن هذا لا يسمح لنا بمعرفة المُدَد ما بين هذه النقرات ولا التقسيم الداخلي للإيقاع المذكور بهذه الطريقة.
وبعد عسكر الحلبي بنحو قرن، أي سنة 1786 ميلادية، يمثّل حسين بن الشيخ أحمد الكبيسي في سفينته، في نُسختها الموجودة في برلين، الإيقاعات بالدُم والتَك أيضاً، موزِّعاً إياها على سطور وبأحجام مختلفة ومسافات مختلفة فيما بينها، وربّما كان ذلك محاولة لإيضاح المُدد الزمنية لها، إلا أن محاولته لا يمكن فهمها إلا بمقارنتها مع ما وصل إلينا بشأن الإيقاعات نفسها في مخطوطات وكتب أخرى.
وقد ظلَّ العرب، منذ ناصر العودي وحتى سفينة الكبيسي في بلاد الشام، يميّزون بين الإيقاعات ذات الأصل العربي وتلك ذات الأصل التركي أو التي هي «لأبناء العجم»، على الأقل كما نرى، إذ لا يوجد مثل هذا التمييز في مخطوطات أخرى.سنجد هذا التمييز لاحقاً في مصر منذ مطلع القرن العشرين، مثلاً مع أحمد أفندي الديك في نيل الأرب في موسيقى الإفرنج والعرب، ص. 74، وفي كتاب محمد ذاكر بيك، الروضة البهية في أوزان الألحان الموسيقية، ص. 7. وإن كان التمييز هذا ليس دقيقاً تماماً، بحسب ملاحظة د. صلاح الدين مرقةSalah Eddine Maraqa, «How Turkish are ‘Al-usulat al-turkiyah’ in Kubaysi’s Safina?» n: Zeynep Helvacı, Jacob Olley, Ralf Martin Jäger (Hrsg.): Rhythmic Cycles and Structures in the Art Music of the Middle East (= Istanbuler Texte und Studien, Bd. 36), Würzburg 2017, S. 211–223. الذي يرى أن الإشارات الواردة إلى هذه الأصولات التركية تدل على اختلاف وتفاوت بينها وبين ما كان منتشراً في الأستانة، وهذا ربما يوضح، في رأيه، بروز تقليد محلي شامي ـ مصري وتمايُزه في ظل الإطار العثماني التركي الأوسع وتأثيره.
وبعد الكبيسي بنحو قرنٍ كاملٍ، يقوم عثمان الجنديشاعر العائلة الخديوية سابقاً، توفي على الأرجح مطلع العقد التاسع من القرن التاسع عشر، وتولى ابنه سنة 1313 هجري، أي حوالي 1895 للميلاد، طباعة كتابه روضة المسرات في علم النغمات، المكتوب على الأرجح قبل قليلٍ من وفاته نظراً لإهدائه الكتاب إلى توفيق باشا. بتدوين الإيقاعات باستخدام التُم والتَك، تاركاً مسافات ما بينها للإشارة إلى السكتات. غير أن الطباعة التي تولّاها ابنه ليست منضبطة تماماً في ذلك، فيمكن ملاحظة عدد من الاختلافات في التدوين عمّا هو سائر، فضلاً على مشكلات تمييز عدد السكتات في آخر الإيقاع أو في وسطه بين النقرات، وغياب تقسيم الإيقاع إلى أجزاء داخلية وغياب الإشارة إلى السرعة. ويبدو أن هذه الطريقة كانت منتشرة؛ إذ تشير إليها أيضاً سفينة الفلك ونفيسة الملك (حوالي 1844 للميلاد) للشيخ الشهاب الحجازي، مع ملاحظة أن بعض النسخ المخطوطة تفصِل التم والتك بنقطة للإشارة إلى السكوت دون تحديد مدته، في حين أن النسخ المطبوعة الأقدم من سفينة الشهاب كانت تستبدله بمسافة.
أما ميخائيل مشاقة (ت. 1888 م) في الرسالة الشهابية في الصناعة الموسيقيةالمكتوبة في ثلاثينيات القرن التاسع عشر بحسب الباحث تيسير خلف، «توثيق الموسيقى العربية: من ميخائيل مشاقة إلى صباح فخري»، القدس العربي، 5 نوفمبر 2021، وهنالك نسخة مخطوطة عنها في القاهرة تعود إلى عام 1262 هجري أي 1846 م. انظر محمد شحتة، «متحف المخطوطات بجناح الأزهر يقدم مخطوطاً عن الموسيقى عمره 200 عام»، صدى البلد، 7 فبراير 2023. ورسالة مشاقة مهداة إلى الأمير بشير الشهابي الذي انتهت إمارته في 1840. طُبعت لدى دار الفكر العربي بتحقيق د. ايزيس فتح الله جبراوي، 1996 م. فيُشير إلى النقرات بالدم والتك، ويُشير إلى أنه يتركّب منها أجزاء الإيقاعات «كما يتركّب شطر الشعر من التفاعيل المكررة»، لكنه لا يشرح الإيقاعات في رسالته الشهابية، ولا يستفيض في التشبيه بين العَروض والإيقاع الموسيقي. بينما كان أستاذه محمد عطار زاده الدمشقي (1764 ـ 1828) يميّزُ بين لفظتي الدم والدوم، باعتبار حرف المد في الثانية يجعلها أطول، وكذلك بين التك والتاك.يشير البعض إلى رنة الأوتار في جداول الأفكار في فن الموسيقار لمحمد عطار زاده (محفوظ بجامعة برنستون) باعتباره مصدر تقسيمه السلّم الموسيقي إلى أربع وعشرين درجة متساوية، والمخطوط غير واضح المعنى. لكن مخطوطاً آخر مُتاح في مكتبة قطر الالكترونية، هو شرح قصيدة الشيخ حسن العطار المصري (1766 ـ 1835) المغربيالأصل بحسب قول الشارح وهو التقاه في دمشق سنة 1810، وتعرف بمنظومة التشريح (المخطوط من 1823 م. والنص الأصلي يعود إلى حوالي 1812م. وذلك بعد أربع سنوات على القصيدة المشروحة) يدلنا على محمد العطار الدمشقي، وبه نبذة واضحة عن الموسيقى، وعن تقسيم الدرجات إلى أربع وعشرين دستاناً متساوية، وعن الإيقاعات وتمثيلها بالدُم والتَك والدوم والتاك. وللمؤلف نفسه شرحٌ لم نعثر عليه لكتاب قانونجه للجغميني يقول إن ضمنه مقالة أوسع عن الموسيقى.
القرن التاسع عشر في الشام: مرحلة تمثيل الدُم والتّك بالرموز المجرّدة
يبدو أن الشام شهدت في القرن التاسع عشر محاولات إضافية للتمثيل على الإيقاعات في كتب مطبوعة ومخطوطات، معتمدة على رموزٍ مجرّدة كالدائرة (مفرغة أو سوداء) والخط (عمودياً أو أفقياً) والنقطة للإشارة إلى السكتات، فضلاً عن علامات إضافية لتقصير أو إطالة المدة الممنوحة للدم (أو التم بحسب اختلاف الكُتّاب) أو للتك وسوى ذلك، مع اختلافات وتنوُّعات ما بين الكُتّاب.
فالكاتب المجهول صاحب سفينة سلافة الحان في الألحانسلافة الحان مؤرَّخة بسنة 1277 هجري أي 1860 م. يقول البعض إن كاتبها محمد الوراق، لكن ليس في المخطوط الموجود في دمشق دليلٌ يدعم هذه النسبة، وفيها أجزاء منقولة حرفياً من سفينة الفلك للشيخ الشهاب. (1860 م.)، يستخدم الدائرة «ه» للتُم والخط العمودي «١» للتَك ومسافة بين هذه الإشارات للدلالة على السكتات. فيكتب إيقاع المدور المصري مثلاً هكذا «١ه ١ه ه ه». إلا أن مشكلة المسافة دائماً هي في عدم وضوح قياسها لزمن السكتات، لذا تبدو هذه الإشارات وكأنها تذكرةٌ للعارفين أصلاً وليست تمثيلاً يسمح لمن لا يعرف الإيقاع بأن يضربه.
ويبدو أن هذه الطريقة استمرّت أكثر من نصف قرنٍ في حلب، حيث أن الشيخ عبد الوهاب السيفي الحلبي، تلميذ الشيخ صالح الجذبة الحلبي، في سفينته نظم العقود (1921)، في نسختها التي كانت في حوزة الشيخ أحمد الأحمر، يستعملها ذاتها لكن مع إضافةٍ ربّما استقاها من كتاب السفرجلاني، أي استعمال نقطة للمسافة الصامتة، ووَضعِ نقاطٍ فوق الخط العمودي أو الدائرة للإشارة إلى تقصير الزمن، وثلاث دوائر «للقفلة» وهي على الأرجح ثلاث دُمات يكون أولها على وحدة زمنية مكتملة، في حين يشترك الدُمان الباقيان في وحدة زمنية أخرى (كأنها ما نسميه اليوم بسوداء يليها اثنان من ذوات السن، أو نوار واثنين من الكروش).
فأحمد السفرجلاني (1818 ـ 1893) في كتاب السفينة الأدبية في الموسيقى العربية (طُبع في سوريا سنة 1308 هجري أي تقريباً 1890 م.، مع الشكر لد. صلاح الدين مرقة الذي زودنا بهذا الكتاب الهام) كان يستخدم الدائرة مفرغةً مثل رقم خمسة «ه»، للدلالة على الدم، وعلامة أفقية «ــ» بدل العمودية للدلالة على التك، لكن بدل المسافة التي كان يتركها صاحب سلافة الحان استخدم السفرجلاني النقطة «.» للدلالة على السكوت زمناً محدداً. غير أن هذا الزمن المحدد ليس بالضرورة موازياً لوحدة زمنية واحدة، ممّا قد يُثير التباساً ويُشكّل نقصاً في طريقة عرضه. ويستخدم أيضاً الدوائر الثلاث، تماماً مثل صاحب سلافة الحان، لكن على شكل مثلث مقلوب إلى الأسفل للإشارة إلى القفلة. وطريقتا صاحب سلافة الحان والسفرجلاني لا تسمحان بتحديد الأقسام الداخلية للإيقاع ولا السرعة بطبيعة الحال.
ويُشابه ذلك ما يذكره البارون ديرلانجيه في الجزء السادس من مؤلفه عن الموسيقى العربيةBaron Rodolphe D’Erlanger, La musique arabe, Tome 6, p. 18. حول تمثيل الشيخ علي الدرويش الدُم بالدائرة المفرغة، والتك بخط عمودي والسكوت بدائرة سوداء، فضلاً عن وضع نقاط فوق أو تحت الرمز للإشارة إما إلى إطالة المُدة المخصصة له، أو إلى تقصيرها على التوالي. إلا أن هذا النظام لم يكن ما استعمله الدرويش في تقريره المقدّم إلى مؤتمر الموسيقى العربية سنة 1932. ونظام الشيخ علي الدرويش هذا مستوحى على الأرجح من نظام أسبق، يذكره البارون، على الأرجح نقلاً عن دراسة الأب كولانجيت، منسوباً إلى الشيخ محمود الكحال الدمشقي والشيخ صالح الجذبة الحلبي، وهو نظامٌ يمثّل الدُمَ بالدائرة السوداء والتَكَ بدائرة مفرغة والسكوت بنقطتين. ويشابه السفرجلاني في استعمال ثلاث دوائر (لكن سوداء) للقفلة، ويشابهه الدرويش في استعمال النقاط فوق أو تحت الرمز للإشارة إلى إطالته أو تقصيره. ولهذه الطريقة العيوب نفسها المذكورة في شأن طريقة السفرجلاني.
تنبغي الإشارة إلى أن هذه المرحلة عينها كانت تشهد في العاصمة العثمانية، قليلاً شمالي حلب، انتقالاً من محاولات تدوين الأنغام من الطريقة الأقدم التي استُعملت فيها منذ منتصف القرن السابع عشر، بالكتابة بالأحرف العربية والأرقام، وصولاً حتى ابتكار أساليب جديدة في القرن التاسع عشر، أي منذ عثمان دده وديمتري كنتمير ثم عبد الباقي ناصر دده، وصولاً إلى هامبارتسوم ليموجيان المتأثر بالتدوين الكنسي الأرمني، ومروراً بالتدوينات القرمنلية المعدلة عن التدوين البيزنطي،- Cem Behar, Inventors of Notation Systems in Seventeenth and Eighteenth-Century Istanbul: The Loneliness of the Long-Distance Runner, 2019 – Cemal Karabaşoğlu, Tradition of Notation in the History of Turkish Music, 2015 – Gökhan Yalçin, Salient signs in letter music notation of Nâyî Osman Dede, Kantermioglu and Kevser- Ali Ergur– Nilgün Doğrusöz, «Resistance and Adoption towards Written Music at the Crossroads of Modernity: Gradual Passage to Notation in Turkish Makam Music», 2015. بينما تجاهل العرب آنذاك مسألة تدوين الأنغام، فبدا وكأنَّ الشطر العربي من الدولة لم يتأثر مطلقاً بمحاولات التدوين بالأساليب المختلفة التي جرت في شطرها التركي أيام الدولة العثمانية، ذلك قبل انتقال الأتراك أنفسهم إلى التدوين بالطريقة الإفرنجية في منتصف القرن التاسع عشر.
مطلع القرن العشرين في مصر: أساليب الحريري والخلعي
في أوائل القرن العشرين، نشهد في مصر عدداً من المحاولات المشابهة للتمثيل على الدُم والتَك بالرموز، فقد اقترح درويش محمد الحريري في صفا الأوقات في علم النغمات في مطلع القرن العشرين استخدام الدائرة المفرغة «ه» للتَك والدائرة السوداء للتُم وعلامة الشرطتين الأفقيتين «=» للسكون أو «÷» لنصف السكون. إلا أن مثل هذا التمثيل لا يُفيد في معرفة المسافة الزمنية بين النقرات سواء تُم أو تَك، كما أنه لا يُشير بوضوح إلى التقسيم الداخلي للإيقاع إلى أجزاء متفاوتة وغير متناظرة.
بدوره، اشتكى كامل الخلعي (1876 تقريباً ـ 1938) في كتاب الموسيقى الشرقي الشهير (حوالي 1904) من أن القراء لم يفهموا الرموز التي كان سبق له أن استعملها في كتاب نيل الأماني في ضروب الأغاني (مصر، حوالي 1901)؛ وهي مزيجٌ من طريقة صاحب سلافة الحان مع طريقة السفرجلاني، أي باستخدام «ه» للتم و «١» للتك ونقطة «.» للسكوت، وكل منها من حيث المبدأ يَشغَلُ وحدة زمنية واحدة. والحق إن استعمالها ربّما شابه بعضٌ من عدم الانتظام في طباعة هذا الكتاب، كما إن تقاربها يجعل قراءتها مربكة بعض الشيء بصرياً.
لذا حاول مقاربة الموضوع بشكل جديد، والحقُّ أن محاولته هذه شكّلت طريقة لدمج طريقتي التمثيل بالدُم والتَك والتمثيل برموز مجردة، حيث قام بابتكار أسلوب لطيف هو المربعات أو الخانات حيث تشكل كل خانة رمزاً على وحدة زمنية واحدة، ويستعمل علامة الزائد + إشارة إلى السكون، فيما يحدد الدُم والتَك (والتكه عندما يشير إلى إيقاعات تركية) بألفاظها.
وفي مسألة السرعة يُميّز الخلعي بين الإيقاعات التي تجري على أساس الوحدة الكبيرة أو المتوسطة أو الصغيرة أو نصف الصغيرة، ويَعتبر الخلعي أن الأولى توازي الروند والثانية البلانش والثالثة النوار والرابعة الكروش (أو ذات السن)، وسرعاتها عنده على التوالي في الدقيقة الواحدة: خمس وعشرون، ثم خمسون، ثم مائة، ثم مائتان. وهذا ليس بالضرورة ثابتاً في الممارسة، لكنه قد يشكل إشارة إلى سرعة تقريبية للإيقاع المقصود.
غير أن طريقة الخلعي، وإن ترك لنا إشارات قليلة جداً على وجود تقسيم داخل الإيقاعات كقوله إن في النوخت الهندي جزءاً ثلاثياً، لا تسمح بتبيُّن تفاصيل هذا التقسيم الداخلي.
القرن العشرين: انتشار التمثيل بالتدوين الإفرنجي
باستثنائَين نسبيَين في أربعينيات القرن العشرين، يمكن القول إن هذا القرن قد شهد انتقال تمثيل الإيقاع إلى طريقة إفرنجية في التدوين. الاستثناء الأول هو على الأرجح مجرد تشاوفٍ بالمعرفة، حيث قام سامي الشوا في كتابه القواعد الفنية في الموسيقى الشرقية والغربية (مصر، 1946 م) بنقل نص رسالة إخوان الصفا بحذافيره دون الإشارة إلى أصله، في فصلٍ عن «الموسيقى العربية» و«الأغاني العربية»، يقصد به إظهار معرفته التاريخية دون أن يرتب على ذلك أي أمر عملي فعلاً. ذلك أن الشوا نفسه في وصفه لإيقاعات عصره يستخدم مصطلحات «الأوزان المصرية» و«الأوزان التركية» و«الأوزان الشرقية»، ولا يكتب «العربية»، ويمثّلُ الإيقاعَ بكتابة الدُم والتَك وتحت كل منها رقمٌ يمثّل المُدة الزمنية التي تستغرقها (أو للدقة المُدة ما بين هذه النقرة إلى تاليتها) وعلامة + للإشارة إلى السكوت. وهو يُفضّل استعمال عدد كبير من المقاييس أو المازورات الصغيرة، كأن يقول إن إيقاع المخمّس هو من ثماني مازورات ثنائية على أن يقول إنه من وزن 16 على 4. لكنه لا يطّرد في تناوله هذا، فيكتب بعد ذلك مثلاً عن الخفيف أنه يساوي 32/4 أي 16 مازورة من وزن 2/4، أو أن المربع يتكون من مازورة ثلاثية وخمس مازورات ثنائية، وهذا ما لا يسمح بتبيُّن التقسيم الداخلي للإيقاع فضلاً على أنه لا يشير إلى سرعته.
وفي تقديرنا أن استعادة رسالة إخوان الصفا ربما كان من أثر انتشار الطباعة وتسهيلها الحصول على الكتب القديمة التي عادت إلى التداول. ولعلّ تلك الفكرة، أي استعادة السؤال حول علاقة الإيقاع بالعَروض بعد أن غاب قروناً، وصلت من المصدر نفسه إلى كاتب سوري آخر لم يشتهر كثيراً هو ميخائيل خليل الله ويردي (1904 ـ 1978) صاحب كتاب طنّان العنوان هو فلسفة الموسيقى الشرقية في أسرار الفن العربي. لكن ويردي الذي رأى أن استعمال الأدوات العَروضية قد يكون نافعاًويردي، الطبعة الثانية، دمشق 1949. رغم أن لكل شخص طريقته وحيله في التعامل مع موضوع الذاكرة وتسهيل الحفظ، إلا أننا لا نرى من النافع حفظاً للإيقاعات ينبني على تجاهل التمييز بين أنواع النقرات ولا يمكن تعميمه على جميع الإيقاعات بشهادة ويردي نفسه، بسبب تتالي السكتات فيها، وقد يؤدي إلى تقسيمٍ خاطئ للأجزاء الداخلية للإيقاع ثم يرسّخ هذا التقسيم الخاطئ بإقرانه في مخيلة الطالب بالتفعيلات في غير موضعها. هذا في مجال وصف الإيقاعات النظرية، أما في وصف الجمل النغمية، فمثل هذا الاستخدام أكثر ابتعاداً عن الممارسة وأكثر عرضةً للخطأ بسبب تنوع السرعات وقسمة الزمن بين النوتات في الاستعمال الميلودي وتتالي الحركات الكثيرة والسكتات والسنكوب والإبطاء وغير ذلك من العوامل الكثيرة التي لا تنطبق على المقاربة الثنائية النظام التي هي مقاربة العروض المبنية على اللغة، وكما قال ابن سينا نفسه فإن «كل مطبوع لفظاً مطبوع نقراً، ولا ينعكس»، والتشديد من عندنا. في تسهيل حفظ بعض الإيقاعات، يؤكد أيضاً أن عدداً من الإيقاعات الأخرى لا يمكن تمثيله بالأدوات العَروضية (ص. 535) للسبب نفسه الذي كان قد أشار إليه ابن سينا أصلاً، أي طول مدة السكوت. كما أن نظرية ويردي تنطلق أصلاً من مماهاة الدُم بالتَك واعتبار أن إبدال واحدتهم بالأخرى «لا يؤثر على شخصيته»، يقصد الإيقاع. ويرى «إن التساهل يُفضي إلى تحسين التلحين»، أي أنه يتخلّى عملياً عن التمايز في النَبر الذي أصبح قاعدة راسخة في الإيقاع عندنا منذ مطلع القرن السادس عشر ميلادي تقريباً. بالمقابل يعتمد ويردي نفسه أحياناً مقاربة أخرى بالأرقام لتوضيح أجزاء الإيقاع، وهي عنده ثنائية أو ثلاثية أو رباعية ولا تزيد. فضلاً على ذلك فإن التمثيل بالأرقام، كأن يكتب النوخت (۲ ۱ ۲ ۱ ۱)، لا يوضِح في رأينا كيف ومتى تندمج هذه الأقسام الثنائية أو الثلاثية أو الرباعية في أجزاء أكبر ضمن الإيقاعات الطويلة. أما في شأن السرعات فهو على غرار الخلعي؛ يثبت سرعات البلانش والنوار والكروش في الدقيقة على 48 و96 و192 على التوالي، وهذا أيضاً ما لا يتفق تماماً مع الممارسة، غير أنه في مكان آخر يقول إن على الملحن أن يُثبت السرعة بالمترونوم ويكتبها.
فإذا ما انتقلنا عن هذين الاستثناءين الناكصين إلى الخلف، إما عن ادعاء بمعرفة تاريخ «الإيقاعات العربية» القديمة أو عن محاولة «تسهيلية» ونمذجة رياضية، فإننا نرى أن كل الكتابات الأخرى قد انتقلت من قبلهما إلى طريقة التدوين الإفرنجية بتنويعات طفيفة من بدايات القرن العشرين.
فبالتزامن مع المؤتمر سنة 1932 تمت استعادة وطباعة كتاب الأميرالاي محمد ذاكر بيك (1836 ـ 1906) المعنون الروضة البهية في أوزان الألحان الموسيقية، لكن المُرجَّح أنه طُبع أولاً عام 1900 أو قبل ذلك. ويستخدم فيه ذاكر بيك أشكال النوتة الإفرنجية في التمثيل على الإيقاعات. وتُرينا حياة ذاكر بيك أن أحد أسباب دخول التدوين بالإفرنجية، سواء في ما يتعلق بالنغم أو بالإيقاع، كان أثر الموسيقى العسكرية، التي كان محمد علي باشا قد افتتح لها خمس مدارس (1824 ـ 1834 م) بحسب ما أورده الدكتور الحفني في مقدمة كتاب مؤتمر الموسيقى العربية الأول. فذاكر بيك كان ضابطاً مسؤولاً في مجال الموسيقى النحاسية العسكرية في العهد الخديوي (عباس باشا ثم سعيد باشا) وتعلّم الموسيقى على أيدي أساتذة من إيطاليا.انظر مقالة عنه (كتبها على الأرجح صاحب المجلة الدكتور الحفني) في مجلة الموسيقى والمسرح عدد 14، سنة 1948
وقد يكون أثر الموسيقى العسكرية متضافراً مع أثر الإرساليات الغربية أيضاً، حيث انتشرت في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كُتبٌ بالعربية لتعليم أصول الموسيقى وتدوينها على الطريقة الغربية مثل كتاب تطريب الآذان في صناعة الألحان، تأليف أدون لوسي الامركاني، الذي طُبع في بيروت سنة 1873م. وقد خلف ذلك أيضاً أثراً على تعليم الموسيقى الدينية المسيحية في مصر كما يبدو في كتاب فن الصوت والموسيقى لرزق الله شحاتة، الذي صدر عن مطبعة المقتطف بمصر، سنة 1901، وهو على ما يبدو متأثر بالمدارس الإنجيلية البيروتية. كذلك انتشرت هذه الطريقة خارج الأوساط العسكرية والدينية، مثلاً مع كتاب أحمد أفندي الديك نيل الأرب في موسيقى الإفرنج والعرب (مصر، 1902)، ويشير أحمد أفندي الديك في فقرة يتيمة من كتابه إلى طريقة العرب الأقدمين باستعمال التاء والنون أو التفاعيل لضبط الإيقاعات، كذلك يشير إلى تناولهم لمسألة السرعة وقسمتها إلى أربعة «أعمدة». لكنه عندما ينتقل من الإطار التاريخي إلى إيقاعات عصره ينتقل إلى الحديث بالتُم (الطاع) والتَك (الديه)، ويدوّنها بالنوتة الإفرنجية على مدرّج من خمسة أسطر مع كتابة التُم والتَك فوق كل نوتة، ويلاحظ أنه، مثلما يفعل ذاكر بيك أيضاً، يقسّم الإيقاعات إلى ميزورات أو أقسام ثنائية قدر الإمكان فيكون المصمودي عنده «مقياسين من ميزان اثنين من أربعة» والمحجر «سبعة مقاييس من ميزان اثنين من أربعة»، وقد يكتبها باللفظ على الشكل التالي أدناه مثلاً، فيقول مثلاً إن إيقاع «السماعي الدارج» مكوّن من «مقياس واحد من ميزان ثلاثة من أربعة الإفرنجي وسير نقراته تَك نوار تُم نوار سكتة نوار»، واستكمالاً للفائدة فإنه يشير إلى الاصطلاح التركي تَ كا (كروش مجموعتين) كما عندما يتناول ميزاناً تركياً مثل الاقصاق.
ونعلم من سيرة سيد درويش وأوراقه، وكذلك من كتاب كامل الخلعي الموسيقى الشرقي، أن مسألة القدرة على «ربط» اللحن بالنوتة الإفرنجية كانت مدار اهتمام كبير من الموسيقيين، وأن قلة فقط كانت تتقنه، ولعل زيادة الاهتمام بهذه المسألة كانت نابعة أيضاً من تعدد الفرق العاملة في المسرح وازدياد عدد أفرادها بما يتجاوز التخت القديم، ومحاولات الموسيقيين في مصر إدخال أنواع من البوليفونية أو الهارمونية البسيطة إلى الألحان الموسيقية في سياق تفاعلهم الثقافي مع الأوبرا والأوبريتات، بخاصة الإيطالية، التي كان حضورها قد ترسّخ في مصر. أخيراً ربما يكون لانتشار البيانو، كآلة تُقبِل عليها الأوساط الراقية وتُعلّمُ بناتِها العزف عليها، أيضاً عاملاً مساعداً لانتشار التدوين بالنوتة الإفرنجية.
أما في مؤتمر الموسيقى العربية الأول الذي عُقد سنة 1932 م، فقد قدّم كلٌّ من البارون ديرلانجيه والشيخ علي الدرويش ومعهد الموسيقى الشرقي بالقاهرة تقارير عن الإيقاعات. ويلاحظ أن أحداً منهم لم يُشِر إلى موضوع استخدام الأدوات العَروضية أو الوصف بالطريقة القديمة (سواء بالنقرات أو بالتاء والنون)، وأن جميع التقارير هذه عرضت للإيقاعات باستخدام أشكال النوتة الإفرنجية، مع توضيح طبيعة النقرة فوق رسم النوتة. فاستخدم أهل المعهد بالاصطلاح المصري الدُم والتَك وحدهما، والنقاط بينهما ترمز إلى السكتات، في حين أن الدرويش والبارون، متأثراً غالباً بالشيخ علي الدرويش نفسه والذي كان قد درس في الأستانة، استعملا التكه والكا بحسب الاصطلاح التركي.
وفي كتاب المؤتمر نرى أن أصحاب التقارير قد طوروا استعمالهم للنوتة الإفرنجية وعدّلوها لتناسب الاحتياجات، بحيث كتبوها من دون المدرّج، وحددوا نوع النقرة كتابة فوق النوتات، محددين الأزمنة بالاصطلاح الإفرنجي (بلانش ونوار وكروش وعلامات السكوت…إلخ)، ورسموا النوتات بحسب اتجاه الكتابة العربية من اليمين إلى اليسار (البارون ديرلانجيه) أو بالاصطلاح الإفرنجي من اليسار إلى اليمين (الشيخ علي الدرويش وكذلك المعهد القاهري)، لكن مع تحويل الميزان بحيث يعكس العدد الحقيقي للوحدات الزمنية في كل طقم أو دورة إيقاعية بغض النظر عن الاستعمال الأوروبي، فيكتب ديرلانجيه مثلاً عن إيقاع ظرفات أنه من ميزان 13/8، ويكتب الدرويش عن نقش السبعة عشر 17/4 خلافاً لتوجه ذاكر بيك وأحمد أفندي الديك.
ونلاحظ أنهم استعملوا القسمة الثنائية والثلاثية والرباعية غالباً للأجزاء الداخلية للإيقاع، وإن كانت تنتِج أحياناً نتائجَ ربما تكون غير مطابقة للاستعمال في الألحان؛ كقسمة ديرلانجيه بخط تحت الأجزاء إيقاع السماعي الثقيل إلى ثلاثي فرُباعي فثُلاثي. أما الشيخ الدرويش فيرسم خطوطاً عمودية بنقاط غير متصلة للفصل بين أجزاء الإيقاع، أو يكتفي أحيانا بتوزيع الإيقاع إلى مجموعات مفصولة بمسافات دون إضافة هذه الخطوط.
كما أنهم أضافوا أيضاً تحديد السرعة المقترحة باحتساب عدد الوحدات الزمنية أو النبضات في كل دقيقة، فعلى سبيل المثال يحدد الدرويش لإيقاع الچنبر (الشنبر) في استعماله الحلبي سرعة 66 نبضة في الدقيقة، بينما يحدد ديرلانجيه إيقاع السماعي الثقيل 152 نبضة في الدقيقة، بينما يقرره أهل المعهد على أنه 132 نبضة في الدقيقة، وهذا على أي الحالين قد يبدو سريعاً بالنسبة للاستعمال المعاصر لنا إيقاع السماعي الثقيل الذي عودتنا فرق الموسيقى العربية على إبطائه،تؤدي فرقة الموسيقى العربية موشح «لما بدا يتثنى» من إيقاع السماعي الثقيل على سرعة 90 في الدقيقة تقريباً، بينما يؤديه الشيخ الصفتي على 120 نبضة في الدقيقة، أي قريب مما أورده المعهد القاهري. أما موشح «أفدي ثملاُ»، وهو أيضاً من إيقاع السماعي الثقيل، فيؤديه الشيخ درويش الحريري على سرعة تقارب 150 نبضة في الدقيقة، أي مقارباً لما أورده البارون ديرلانجيه. لكنه متَّفق مع الاستعمال الأقدم لهذا الإيقاع وإدراجه آنذاك في أواخر وصلات الموشحات حيث يتم تسريع النبض قبل الختام.
ويمكن ملاحظة أن هذه الطريقة الحديثة، التي انتشرت طوال القرن العشرين في كل الكتب التعليمية، لا تزال مستمرة في الفيديوهات المعاصرة التي يرفعها بعض الأساتذة مثل عادل شمس الدين في شرحه للإيقاعات على اليوتيوب أو على مواقع مثل عالم المقامات.
تَغيُّر التمثيل وتَطوُّر الفهم المستمر
سبقت الاشارة في تمهيد هذه المقالة إلى أن الإمساك بجوهر الإيقاع يتطلّب توضيح عددٍ من النقاط:
تحديد تقسيم الإيقاع الداخلي إلى أجزاء: وهو ما تعامل معه الفارابي وابن سينا على أساس التمييز بين تكرارية الإيقاع الموصل وغياب التناظر عن أجزاء الإيقاع المفصّل، أما بعد ذلك فلا تسمح الأساليب الأخرى بتمثيل انقسام الإيقاع إلى أجزاء بشكل واضح. ثم حاول المحدثون التعامل معها من خلال وضع خط عمودي من النقاط غير المتصلة بين النوتات المدونة بالطريقة الإفرنجية.
عدد النقرات في كل جزء وشدتها وطبيعتها والسكتات ما بينها: كانت بعض الأساليب القروسطية تُشير إلى مجمل عدد النقرات المسموعة، ثم انتقلت بعد ذلك إلى الإشارة إلى العدد الإجمالي للوحدات الزمنية مشاراً إليها بلفظ النقرات، باعتبار أن النقرة الواحدة هي الوحدة الزمنية وإضافة تحديد حول أي من هذه النقرات يضرب فعلاً. أما من حيث شدتها وضعفها فقد تكون المحاولة الوحيدة هي عند ابن زيلة. غير أنه وجب الانتظار قروناً بعده، حتى الحلبيين ناصر العودي وعسكر الحنفي، لكي يتم توضيح التمييز بين الطاع والدي، أو الدُم والتَك، لكن مع خسارة توضيح مسافة السكوت ما بينها إلى أن عاد السفرجلاني فالخلعي ثم التدوين الحديث على الطريقة الإفرنجية إلى محاولة حل إشكالية احتساب السكتات.
سرعة الوحدة الزمنية التي تجري عليها: وهذه أشار إليها القدماء، كابن سينا، مميزاً بين أربع سرعات (أو أعمدة). ثم غابت الإشارة إلى سرعة الوحدة الزمنية حتى زمن الخلعي الذي استلهم التدوين الإفرنجي لكنه حصر السرعات في عدد قليل، بينما يسمح التدوين اليوم على الطريقة الإفرنجية باحتساب السرعة بدقة المترونوم.
لكن الهدف ليس القول بأن استخدام الطريقة الإفرنجية أفضل من سواه، وإن كان الوحيد الذي يُحيط بكل العناصر المطلوبة حالياً. وهي على أية حال ليست تدويناً إفرنجياً خالصاً، بل كما رأينا تفاعلٌ محلي مع الأسلوب الأوروبي. فقد يكون من البديهي والمطلوب على أية حال أن يكون اللاحق في مجال المعرفة أوسع إحاطة وأكثر تحسيناً من السابق. وربما تكفي الإشارة في ختام هذه المقالة إلى نقاط ثلاث:
أولاً، صعوبة عملية التمثيل للإيقاع الموسيقي ومرورها بعمليات متعددة، ناحية تارةً نحو التعقيد وأخرى نحو التساهل، في مسارات متعرجة قد تتقدم وتتأخر عن هدفها.
وثانياً، ارتباط عملية التمثيل بعوامل فكرية وغير فكرية، فهي مرتبطة بالعالم النظري الذي تعيش فيه كالأدوات المفهومية اللغوية الأقدم، والدوائر وسحرها القروسطي وارتباطها الكوسمولوجي الذي بقي مستمراً حتى مطلع القرن العشرين، ثم عملية التجريد الحسابي و/أو الرمزي في العصر الأحدث. وهي كذلك مرتبطة بتغيرات الممارسة أو بحوادث تاريخية ضخمة كالاحتلال العثماني ثم الأوروبي، وصدمات الحداثة والتفاعل المحلي مع منتجاتها، بما في ذلك أساليبها في التجريد والتمثيل ومتطلباتها في المعرفة والدقة والإخضاع لإمكانيات الحساب والكم.
وأخيراً، فقد يكون تَطوُّرُ عملية تمثيل الإيقاع، وتعداد عناصره وتقديم المفاهيم التي تسمح بالإحاطة بكل منها وبوصفها، مسألةً لا تنفصل عن التطور الفكري والتاريخي وتغييرات الممارسة كما ذكرنا. لكنها أيضاً قد تكون مسألة لا تنفصم عن فهم الإيقاع نفسه. أي إن كل تغيير في عملية التمثيل قد يشكل أيضاً علامة على تطور في فهم ماهية الإيقاع وماهية عناصره. وقد يكون أن استمرار هذا التطور في المستقبل سيولد حاجة لزيادة العناصر المطلوبة لتمثيل الإيقاع بخاصة وأن تجارب الموسيقى، سواء الغربية أو بطبيعة الحال العربية التي تتلقى التأثير المتعاظم للتقنية وللإنتاج الغربيين، فضلاً عن دراسة أوسع للإيقاعات الأفريقية مثلاً، تنحو نحو تعامل مختلفٍ مع الإيقاع: كتعدُّد الإيقاعات في وقتٍ واحد، بوليريتمي، أو تأخيرات النبر أو تفاوت سرعات الوحدات الزمنية وهو ما تزداد إمكانية فعله بازدياد قدرة البشر على برمجة الآلات…
هكذا لا يكون الوضع الحالي هو نهاية التاريخ، بل مرحلة من عمليات تطور وتبدل مستمرة لا تتوقف عند حد، ما دام البشر مستمرين في إنتاج واستهلاك الموسيقى والإيقاعات.