استغرقت منار سنوات طويلة حتى فهمتْ دوافعَ والدتها عندما كانت تُعاقبها إذا تكلمت بلهجة غير الفلسطينية. وَجبَ عليها إدراك اختلافها منذ طفولتها وهي تنطق كلماتها الأولى في بيتها الصغير وسط مخيم اليرموك: «إحنا مختلفين، مش زي العالم يلي عندهم أرض عنجد، ويحكوا لهجة بلدهم». حافظَتْ أُمُّها على وصفات جدتها الفلسطينية، وعلّقت وسط صالة البيت علم فلسطين لترسيخ فكرة العودة إليها.

بقيَتْ منار في المخيم حتى «اقتلاعها منه» حسب تعبيرها. خرجت أواخر 2012 مع والدتها إثر قصف النظام الذي طال بيتها، فيما بقي شقيقها الوحيد ليخرج بعد ذلك بسنوات إلى ريف حلب الشمالي، ويصل بعدها إلى تركيا.

أكملت منار طريقها إلى هولندا عبر البحر، بينما فضلّت أمها البقاء قريبة، خوفاً من الابتعاد أكثر عن فلسطين. من بيتها المجاور لمخيم اليرموك شهدت قصف النظام الذي استمرّ بوحشية حتى العام 2018. تصفُ والدة منار قصف النظام بالتدميري، يبدأ ولا ينتهي: «كنا نحكي بين بعض، لو باقي فارة خلص قتلتها، إيش لسا بتقصف».

اليوم؛ باتت والدة منار تتغاضى عن مناداتها ماما بدلاً من يَمّا، لكنها لا تساوم كثيراً، فهي تشعر بحصول منار على الجنسية الهولندية كـ«حسرة بالقلب» تحاول مسامحتها عليها، لأن رغبة إسرائيل هي توطين فلسطينيي الشتات «ليسقط حق العودة عنهم». تعيش والدة منار مع أختها على أطراف مخيم اليرموك منتظرةً الرجوع إليه، تستدرك فتقول: «لفلسطين».

لا أعلامَ فلسطينية حيث تسكن، لا صور ولا رموز، وحده مفتاح بيت المخيم معلّقٌ في سلسلة فضية مع مفتاح الدار؛ دار جدها في فلسطين المحتلة. تنتقل أم منار في حديثها بين الدار والبيت، فالدار «هُنَاك» دائماً، والبيت خارج فلسطين ترغب بالعودة إليه، بل إليهما.

هنا

على بعد ثمان كيلومترات فقط عن دمشق، كان مخيم اليرموك. تم تأسيسه عام 1957، وعلى عكس معظم المخيمات في سوريا بقي مخيماً غير رسمي لا تديره الأونروا.

بمساحته التي لا تتجاوز 2.11 كيلومتر مربع، وقبيل الثورة السورية، احتضن مخيم اليرموك 160 ألف لاجئاً فلسطينياً، من ثلاثة أجيال: جيلٌ اقتُلع من فلسطين، وآخر قد يتذكر فلسطين كمآسٍ أو شذرات، وأخيرٌ سيعرف مخيم اليرموك فقط كنافذة على فلسطين والعالم. سيصبح اليرموك فيما بعد في المركز السابع بين أكثر المدن السورية دماراً، بواقع 5489 مبنىً مدمّراً.

هنا المخيم، هنا وُلد أوس، وعاش طفولته. لم يتعرَّف على الشام القديمة والقصاع حتى بداية المرحلة الجامعية. أمّا قبل ذلك فكان المخيم قادراً على تلبية كل حاجاته، بأسواقه ومستشفياته ومدارسه، وحتى محلات الأكل الطيّب.

يحكي أوس: «كان المخيم مستقلاً اقتصادياً بكل ما تعنيه الكلمة، توافرت فيه فروع لبنوك، أسواقه كانت أرخص من المناطق المحيطة، ومع تزايد الاكتظاظ السكاني بدأ يستقطب تجاراً من خارج المخيم، لاستثمار تجاري، وعقاري، وثقافي أيضاً». يضيف أوس سبباً إضافياً لنشاط حركة السوق، وهو لجوء فلسطينيي العراق إلى المخيم، الذين كان بينهم خال أوس. إثر الغزو الأميركي للعراق عام 2003، عاد خاله بسبب إحساسه الدائم بالانتماء لمخيم اليرموك والحاضنة الشعبية فيه.

يؤكد براء هذا الدافعَ وراء العودة إلى المخيم. براء فلسطينيٌ سوري تنقّلَ بين المخيم والمناطق المحيطة به. عندما بدأ النظام بقصف بلدات يلدا وببيلا، لجأ إلى المخيم على الفور؛ يضحك براء: «واحد فلسطيني برات المخيم، انضرب بيته، وين بدو يروح؟ عالمخيم طبعاً».

لجأ الفلسطيني إلى مخيم اليرموك كفعلٍ بديهي، مُراهِناً على أمان الحاضنة الشعبية فيه، وانعزاله عن دمشق بشكلٍ ما، مستغِلاً حرص نظام الأسد على سردية دعم القضية الفلسطينية التي وجدَ الأسدُ الأبُ البلادَ عليها. معظم المراسيم والتشريعات الناظمة لحياة اللاجئين الفلسطينيين كانت قبل انقلاب 1970 في سوريا، وقبل صعود حافظ الأسد للحكم، بدايةً في سنة 1949 حين صدر القانون رقم (450) القاضي بإحداث المؤسسة العامة للاجئين الفلسطينيين العرب، ثم مراسيم تشريعية تتالت حتى عام 1953 وسمحت للفلسطينين مزاولة مهن مثل المحاماة والتعليم وغيرها.

وكان القرار الوزاري الأهمّ بالنسبة لمخيم اليرموك هو قرار تطبيق الأنظمة البلدية عليه عام 1962، وتفويض مؤسسة اللاجئين الفلسطينيين العرب تشكيل لجنةٍ محليةٍ تقوم بمهام المجلس البلدي وتخضع للإشراف الوصائي للمؤسسة. انتهى العمل بهذا القرار في عهد بشار الأسد عام 2018، عندما أصدر مجلس الوزراء قراراً يقضي بإدراج مخيم اليرموك تحت صلاحيات محافظة دمشق وحَلِّ اللجنة المحلية للمخيم.

المخيم، العيش في المؤقت

المخيم في اللغة هو المكان حيث تُنصب الخيام، وقد تكون مؤقتةً أو دائمة. إلّا أن مخيم اليرموك تحوَّلَ إلى مدينة كاملة بشوارع ضيقة وعريضة، وأبنية جديدة، وعشوائيات، وأسواق، ولاجئين فلسطينيين وعائلات سورية انتقلت إليه وعاشت فيه.

«إحنا منتربّى وإحنا عم نتدرب نكره المخيم، هاد مكان مؤقت… مكاننا فلسطين»؛ بالنسبة لبراء، المخيم هو مكان لتوحيد الصفوف، استطاعوا من خلاله التجمُّع ليفهموه جيداً. في البداية، كفلسطينين هُجِّروا من أرضهم، كان عليهم دوماً تذكّر أنه المؤقت حتى لو عرفوا أنهم سيعيشون ويموتون فيه. كان عليهم رفضه، وترقُّب انتهاء حقبة المخيمات، إلّا أنّ مخيم اليرموك، وبحسب تعبير براء، انتهى بأبشع الطرق.

خطوة إلى الوراء

أدركَ أوس معنى قضيته وحقه في عمر مبكر، ويعود الفضل في ذلك إلى النشاط الثقافي السياسي، الذي لاحق فعالياته منذ عمر الست سنوات. وعلى اختلاف الفصائل والحركات الفلسطينية، إلّا أنها كلها في المقام الأول كانت تشرح معنى اغتصاب الأراضي الفلسطينية من قبل الكيان الصهيوني، ومعنى الانتماء واللجوء، بالتزامن مع تمرير أجندتها. أدّى دعمُ هذه المؤسسات المختلفة للنشاطات الثقافية، منذ مرحلة الحضانة وحتى المرحلة الجامعية، إلى التنوع الفكري داخل المخيم، مما أعطاه استثنائيةً خاصة. يقول أوس بتعبير فلسطيني: «هذا التنوع كان يأخذ النقاشات إلى أماكن لطيفة».

تنظيم العمل داخل المخيم أظهرَ التزاماً تجاه القضية الفلسطينية، تجلّى باستمرار الوقفات الاحتجاجية في ذكرى النكبة وتنظيم مسيراتٍ وفعاليات مع أي تطورٍ سياسي أو عسكري في الأراضي المحتلة. هذا العمل كان شعبياً ينخرط فيه الأطفال والمراهقون قبل أعضاء الفصائل والقادة والمناضلين.

تأثَّرَ هذا النشاط بالربيع العربي، ما جعل أوس ينحاز للحراك في سوريا مثل كثيرين غيره من الشباب الفلسطيني؛ في تلك اللحظة كان مواطناً مثله مثل السوري. وفي اللحظات التي يكون فيهاً فلسطينياً فقط، كان مؤمناً بأن النظام السوري يُشابه أي نظام قمعي ديكتاتوري، وأن الشعب السوري يستحق العيش بمعزلٍ عن القبضة الأمنية، وله الحق في المطالبة بالتغيير.

تتفقُ منار مع أوس في انحيازه للثورة السورية، وكذلك براء، الذي رفع عبارة «لن ننسى تل الزعتر» عند انخراطه في الحراك، مؤكداً عدم تصديقه -وكُثُر غيره- وَهمَ دعمِ المقاومة الذي صَدَّره النظام على مرّ السنين. يتذكر براء وجود الوعي المناهض للنظام، الذي اقتصر على الاجتماعات السرية أو النقاشات الثقافية المغلقة. أمّا على المستوى الشعبي فقد كان الحديث مُغيَّباً بسبب القبضة الأمنية: «لما طلعتْ العالم حكتْ هون تجرَّأنا نحكي عالعلن». بالنسبة لبراء، أصبح تبلور النشاط السياسي على المستوى الشعبي واضحاً للعيان بمشاركة شباب المخيم بالمظاهرات.

يؤكد أوس دور مخيم اليرموك كحاضنةٍ شعبية من خلال انخراط شبابه في المظاهرات، واستمرارها لساعاتٍ طويلة قبل فضّها بسبب خصوصية المخيم. أمّا بالنسبة للفاعلين على الأرض، فيقول أوس إننا  «لسنا بحاجة للتاريخ الدموي لبناء حقائق عليه اليوم مقارنة بمؤسسةٍ أمنيةٍ قائمة، لا نعلم بالضبط عدد ضحاياها، اسمها فرع فلسطين. مؤسسة قادرة على تذكير الفلسطيني أنه لا مفر من القبضة الأمنية عند الديكتاتور».
مع اختلاف النشاط السياسي للثلاثة، إلا أنهم اتفقوا كغيرهم من الفلسطينيين، على تورّط فصائل فلسطينية مع النظام السوري، وشراكتها في المسؤولية عن الدمار الواقع على المخيم، خاصةً الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين- القيادة العامة بزعامة أحمد جبريل.

يتذكر أوس المخيم كمكان يُنظّمُ العمل السياسي والحراكَ الفلسطيني في الشتات، ويعتبرُ أنَّ وجوده الفيزيائي ضروريٌّ لاستكمال النضال، لأن استمرار العمل خارجه لا يخدم القضية بسبب تشرذم المكاتب وصعوبة التواصل على أرض الواقع في دمشق. وفقاً لأوس: «في وقتٍ كان تنظيم أي فعالية في المخيم إجراءً روتينياً بسبب استقلالية المخيم وإدارته الذاتية لشؤونه، اليوم تحتاجُ ندوةٌ في المركز الثقافي إلى موافقة من المحافظة ومجموعة موافقات أمنية».

لجوء مضاعف، تغريبة جديدة

بدأت موجة النزوح الأولى مع انتشار السلاح العشوائي، الذي وَزَّعته فصائل فلسطينية مدعومة من قبل النظام السوري، أو متواطئة معه، على مجموعة من الشباب بحجة الدفاع عن النفس، بحسب شهادة أوس، وهو الأمر الذي جعل من المخيم ساحة معركة. دعمت القيادة العامة النظامَ بشكلٍ علني، مما خلق أزماتٍ ونعراتٍ مع المناطق المجاورة لمخيم اليرموك؛ الحجر الأسود والتضامن ويلدا وببيلا، التي كانت تعاني آنذاك من سطوة النظام وهجماته المستمرة.

طورت هذه الأزمات اشتباكاً بين الشباب الفلسطيني المسلّح بقيادة الفصائل الموالية للنظام السوري، والشباب الفلسطيني الذي انحاز للسوريين المسلّحين في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، والذين قدّمَ لهم المخيمُ منطقةً آمنة.

يُلخِّصُ أوس ما حدث بفصيلٍ متعنّت جعل من نفسه عدواً للشعب السوري، وفصائل أخرى تخاذلت في مسألة استثمار هذا السلاح، بحجة عدم القدرة على السيطرة عليه وغياب الاتفاق على رأي سياسي موحد. ذلك فضلاً عن الانقسام الداخلي بعد انحياز كثيرين في المخيم للثورة، ودعم تيارات إسلامية مثل حماس للحراك بحكم ارتباطها مع جماعة الإخوان المسلمين. يُكمل أوس أن الانقسام الداخلي امتدّ ليتأطّر في صراعٍ بين النظام والمُخيّم الذي احتضن الشباب السوري المسلح. تلك المعطيات سهّلت على النظام اتّباع نهجه المعتاد بمحاصرة وقصف أي منطقةٍ تخرج عن سيطرته، ليكون التهجيرُ الكبير.

حماية الذاكرة؛ المقبرة

كان المخيم حالةً استثنائيةً بالنسبة لأوس الذي قضى فيه طفولته واختبر الحب الأول. يحاول الحفاظ على هذه الذكريات في رأسه، مُتجاهِلاً صوراً بقيت في مخيلته عن المخيم.

دخلَ المخيمَ مرةً واحدةً بعد سيطرة النظام عليه، سلكَ الطريق المؤدية لبيت طفولته، ولم يعرفها. حاول رسم الخريطة في رأسه ليعرف أين يسير ولم تنجح معه هذه الطريقة، لذلك خرج ولم يَعُد يوماً بعدها، وذلك ليحافظ على صورة المخيم التي يحب.

أمّا براء، فقد كان خروجه من المخيم يعني خسارة القُدرة على الحلم؛ بقيَتْ له هناك مقبرةُ الشهداء القديمة، حيث دُفن جده، ووالده: «علاقتنا اليوم بالمكان هي العلاقة بالموتى الموجودين فيه. انتهت الحكاية بمقبرة ضُربت، ونُبشت بالكامل».

كما الأحياء، لم يسلَم الأموات من قصف النظام، فقد ألحق القصف المستمر على المخيم الضرر بالمقبرة، لتعود القوات الروسية عام 2018 وتنبش مقبرة الشهداء القديمة بحثاً عن رفات جنود من الاحتلال الإسرائيلي كانوا قد فُقِدوا في لبنان، لتظلَّ المقبرة محاصرةً من قبل الروس ما يقارب ثلاثة سنوات حتى انتهاء عمليات النبش.

عودة، إلى أين؟

في واحدةٍ من أكثر الصور إيلاماً، منتصف كانون الأول (ديسمبر) من عام 2012، هُجِّرَ آلاف الفلسطينيين من مخيم اليرموك، بدايةً إلى مناطق مختلفة من دمشق حيث بقي بعضهم حتى اليوم على أمل العودة، فيما تابعَ آخرون طريقهم إلى خارج سوريا، سواء إلى مخيمات لبنان أو إلى تركيا أو أوروبا.

أكملت منار طريقها وأخذت جنسيةً هولنديةً جعلت منها مواطنةً للمرة الأولى، وجعلت أُمَّها تُخاصمها للمرة الأولى. تتسامح الأم مع ابنتها، وتقسو على نفسها لأنها خاصمتها، فهي أمٌّ تحلُم بالأفضل لابنتها، والجنسيةُ إثبات وجودٍ حصلت عليه منار للمرة الأولى بعد أن عاشت على هامش التصنيف معظم سنوات حياتها. تبذل منار جهداً مضاعفاً في مهجرها، تتكلم بلغة غريبة عن قضيتها، تتنقّل بين حقّها في العودة إلى فلسطين، وحقّها في العودة إلى مخيم اليرموك، فلقد أُبعدت عن الاثنين مرغمة.

يعاني الفلسطينيون مثل السوريين غلاءَ المعيشة، وبحسب مجموعة العمل لأجل فلسطينيي سوريا، فإن 91 بالمئة من الأسر الفلسطينية في سوريا تعيش في حالة فقر مدقع، وأكثر من 200 ألف لاجئ فلسطيني اضطُروا للهجرة خارج سوريا. يحلم بعض الباقين في سوريا بخيمةٍ داخل مخيم اليرموك، سواء من العائلات الفلسطينية التي فضًّلت البقاء، أو التي بقيت مُرغَمةً لانعدام طرق السفر، أو عجزت عن تحمّل كلفة السفر المادية، أو الكلفة النفسية لطرق السفر غير الشرعية وخطورتها.

في أواخر 2021، أصدرَ النظام قراراً يسمح لأهالي المخيم بالعودة دون قيدٍ أو شرط، بعد سلسلةٍ من القرارات التعجيزية الناظمة للعودة إلى المخيم صدرتْ خلال السنوات السابقة، والتي اشترطت الحصول على موافقةٍ أمنية وإثبات ملكية ووجود بيتٍ صالحٍ للسكن.

ومع تسهيلات النظام والترويج لها، شهد المخيم حتى بداية العام الجاري 2023 عودة حوالي ألفي عائلةٍ فلسطينية وسوريّة، وذلك بحسب مجموعة العمل لأجل فلسطينيي سوريا.

يُشكّك كثيرون في مدى جديّة النظام بشأن تسهيلات العودة، خاصةً بعد محاولته تمرير مسألة إعادة تنظيم مخيم اليرموك عبر إقرار محافظة دمشق لمخططٍ تنظيمي جديد عام 2020، ويَجِدون أن موضوع دخول مخيم اليرموك في التنظيم فعلياً مسألة وقت، ولهذا كان تدمير المخيم مُمنهجاً في السنوات السابقة.

يجد براء العودة حقّاً، لكن ليس على المستوى الفلسطيني بالذات، بل لأنّ أهميتها ترتبط مباشرةً بحقّ أي شخصٍ في العودة إلى المكان الذي طُرد منه بالقوة، في حين تجد منار أن المخيم فوقَ ذلك محطةٌ للعودة إلى فلسطين، مثلما كان يوماً نافذتها على العالم قبل أن تكتشف العالم. وبين الطريقتين في النظر للعودة إلى المخيم آلافٌ من الفلسطينيين والفلسطينيات، عاشوا لجوءاً فوق لجوء، وتغريبةً فوق تغريبة، بانتظار العودة.

تحكي منار أنه مع بشاعة كلمة مخيم، إلّا أنه مكانها، إنه «حيث تكون فلسطينية»؛ تقول: «ما حدا بيحلم يعيش بالمخيم، كنا نحلم نرجع على فلسطين الحلوة من هناك»، لكن عودة منار اليوم إلى المخيم تعني عودة حتمية إلى فرع فلسطين. تختم: «إحنا ما كسرنا حاجز الخوف. يمكن بالثورة كسرناه، لكن الآن، صار جسر خوف بينا وبين البلاد، إحنا يلي شفنا القصف والجوع والتدمير غير المبرر، منعرف تماماً إننا غير محميين وعُزّل».

عملَ النظامُ على تجريد مخيم اليرموك من دوره على الصعيد الفلسطيني، وجعل منه شاهداً على واحدةٍ من أبشع الجرائم الذي ارتكبها بحق مختلف المكونات على الأراضي السورية، وقد جعلت تلك الشهادة من سؤال العودة سؤالاً شائكاً، خاصةً مع قيام محافظة دمشق بإزالة أعلام فلسطين وجميع الرموز الفلسطينية خلال إعادة تأهيل مدخل المخيم، بينما لا تزال الشوارع غارقةً في الأنقاض.

من الممكن تَصوُّرُ عالمٍ فيه نضالٌ مستمرٌّ ضد الكيان الصهيوني، لكن كيف يكون شكل النضال ضد النظام الأسدي؟ وكيف يكون التفكير في حقّ العودة، ومعناه ومضامينه، بمعزلٍ عن صور الأسد المعلّقة في الشوارع والمُهيمنة على البلاد؟ وبمعزلٍ عن حكمه الذي انتزع ذاكرة نضال أبناء وبنات المخيم، تاركاً ذاكرةً جديدةً مُشوّهة.