الفهرس

الفصل الأول: السلطة
الفصل الثاني: الخيبة
الفصل الثالث: الثورة
الفصل الرابع: القمع
الفصل الخامس: السلاح
الفصل السادس: الحرب
الفصل السابع: الرحيل
الفصل الثامن: العبرة

يسلط الفصل الرابع الضوء على جهود النظام في قمع المظاهرات، وإصرار وعزيمة المتظاهرين على الاستمرار. بعد مرور اثني عشر يوماً ومقتل ستين سورياً، قرر الأسد الابن أن يخطب بالشعب. أكد العديد من السوريين أنهم كانوا سيدعمونه لو أنه أظهر شيئاً من التعاطف مع من أريقت دماؤهم، أو أعطى إشارات عن تغيير حقيقي في النظام خلال الخطاب. لكن خطابه التلفزيوني الأول للشعب جاء مخالفاً لذلك تماماً، فأخذ ينعت المتظاهرين بالإرهابيين تارةً وبالمخربين تارةً أخرى، وأعلن أن مهمته الأولى هي مواجهتهم بكل الطرائق الممكنة. ذلك الخطاب الشهير أفضى إلى زيادة أعداد المتظاهرين في الشوارع. تصاعدت المظاهرات، وتحولت الهتافات من مطالبة بالإصلاحات إلى مطالبات برحيل الأسد.

أعلنت كل من أميركا والاتحاد الأوروبي وجامعة الدول العربية عقوبات على الحكومة السورية، وبعدها طالبت الأسد بالتنحي. وهكذا، قامت الحكومة السورية تحت هذا الضغط الدولي بفتح حوار وطني مع شخصيات مختارة بعناية لإجراء تعديلات وإصلاحات في الحكومة، كما قامت بانتخابات لمجلس الشعب، وأخيراً ألغت أكثر القوانين إجحافاً في تاريخ سوريا، قانون الطوارئ. لكن النظام استبدل بقانون الطوارئ قانوناً جديداً سمي قانون «مكافحة الإرهاب»، وهو القانون الذي كان يعتقل بموجبه عشرات الآلاف من السوريين بتهم عشوائية تفاوتت من المشاركة في المظاهرات إلى انتماء أحدهم لمدينة شهدت مظاهرات، وفي أحيان كثيرة كان الاعتقال يتم بلا تهم أصلاً! تبدأ مرحلة جديدة من الترهيب داخل المعتقل عبر حفلات تعذيب وحشية، الغرض منها تهديد من هم في الخارج، وإعادة الخوف إلى قلوب الناس عند رؤية من يعود من المعتقل هزيلاً ذاوياً أو جثة مشوهة. كان النظام يثبت للسوريين من خلال تلك الوحشية أنه قادر على ارتكاب أي شيء، وأنه جادٌّ في تنفيذ تهديداته، مثل المجزرة التي قام بها خلال اعتصام سلمي في ميدان الساعة في مدينة حمص، أو ما فعله الأمن من تعذيب وحشي لأحد الأطفال في درعا. تهديدات كان موالو الأسد يكتبونها على الجدران، منها تلك الجملة الشهيرة الذي وضعت الشعب بين خيارين «الأسد أو نحرق البلد».

لجأ النظام إلى القمع المعمّم، منزلاً تلو الآخر، عبر حملات اقتحام مرعبة تقشعرّ لها الأبدان، شملت كسر الأبواب في منتصف الليل، والقتل والاغتصاب والتدمير والنهب في أي وقت. بعض الانتهاكات كإطلاق النار وضرب المعتقلين كان ينفذها مجموعات بلطجية موالية للأسد يطلق عليهم اسم «الشبّيحة». بعد فشل كل تلك الإجراءات بإخماد المظاهرات، قام النظام باقتحام المدن المشتعلة بالمظاهرات بالدبابات وقوات الأمن، كما قام القناصون على أسطح المباني بفرض حظر تجول ببندقياتهم المتأهبة لقنص كل من يخالف، بالإضافة إلى قيام الجيش بقطع الغذاء والخدمات عن بعض المناطق، وتنفيذ العديد من عمليات السرقة والحرق والإعدامات الميدانية. قامت منظمات حقوق الإنسان بتحقيقات مستقلة واتهمت النظام بارتكاب جرائم ضد الإنسانية.

لكن السوريين المعارضين واصلوا المضي في طريق الثورة ضد النظام. بعضهم حمل الكاميرا ووثق المظاهرات وانتهاكات النظام، وهو ما أطلق عليه اسم «المواطن الصحفي»، ومنهم من قام بتنظيم مجموعات عرفت بـ«التنسيقيات» تضم العديد من النشطاء يعملون من مخابئ تحت الأرض ليتفادوا الاعتقال. نظمت مئات التنسيقيات المظاهرات في مختلف أنحاء البلاد، كما شملت مهمتها تأمين المساعدات للمناطق المحاصرة، وتوفير الرعاية الطبية اللازمة للمصابين، بالإضافة إلى العديد من المهمات الطارئة. تجمع كل أولئك الناس بمختلف خلفياتهم ومعتقداتهم تحت سقف واحد في سبيل هدف واحد، وهو اقتلاع ما زرعه النظام الاستبدادي من طبقية وتفرقة وتخوين بينهم، والوصول إلى مجتمع ديمقراطي مدني متضامن. جسّدت تلك الصورة أول أهداف الثورة.

كان محور النزاع في سوريا الصراع بين معارضي نظام الأسد ومؤيديه الذين يرغبون ببقائه أو الخائفين من البديل. هذه الانقسامات السياسية تراكبت مع فوارق اقتصادية واجتماعية. شكلت الطبقة العاملة في الريف والمدن النسبة الكبرى من الثوار، بينما غلب على الطبقة الثرية التردد وعدم اتخاذ موقف واضح مما يجري في البلاد، خاصة في أكبر مدينتين دمشق وحلب. وبالرغم من وجود خليط من جميع الأعراق والأديان في كلا الطرفين، إلا أن الطابع الطائفي أخذ يطغى على النزاع. كانت الأغلبية السنية في سوريا تميل إلى اعتبار الثورة طريقها نحو الحرية والخلاص من كل ما عانته لعقود من انتهاكات وتمييز ومحسوبيات مارسها النظام، بينما تخوّف العديد من أبناء الأقليات من الثورة لاعتقادهم أنها تهدد وجودهم وأمنهم. تلك المخاوف كانت تغذّيها ماكينة النظام الإعلامية بالدرجة الأولى، والتي لطالما روّجت له بوصفه حامياً للأقليات، كما اتهمت الثوار بأنهم مجموعات ممولة من دول الخليج للتآمر عليه وتحويل النظام العلماني في سوريا إلى نظام إسلامي.

ضاعفت إراقة الدماء من تأجيج الطائفية. فَكونُ معظم قادة النظام والشبيحة المؤيدين له من العلويين خلق لدى مواطني الأكثرية السنية شعوراً بأن الطائفة العلوية بعمومها متواطئة مع النظام ضدهم وشريكة في ظلمهم وقمعهم. وفي المقابل، كبرت مخاوف العلويين من موجة انتقام في حقهم إذا ما انتصر الثوار وأسقطوا الأسد، مما زاد في تمسكهم به، لاعتقادهم أنه منجاهم الوحيد من الأفواج السنية الحانقة، حتى وإن كانوا أنفسهم يعانون من فساد النظام ويستنكرون إجرامه. ومع مرور الوقت ارتكب كلا الطرفين جرائم فظيعة راح ضحيتها أبرياء.

ميريام، طالبة سابقاً (حلب)

لو خرج بشّار في خطابه الأوّل وقال «أنا معكم، وأنتم شعبي، وأريد مساعدتكم، وأن أكون معكم خطوة بخطوة» كان سيصبح بلا أدنى ريب أعظم قائد في العالم العربيّ. كانت لديه تلك الفرصة، لكنّه – عوضاً عن ذلك – خرج متسلّحاً بأوهامه حول حبّ الناس له بشكل مطلق، وحول أنّ الشّعب السّوريّ لا يفهم شيئاً، وأنهم سيؤيّدونه مهما حصل. لكنّنا لسنا حمقى كما تظنّ حكومتنا.

جمال، طبيب (حماه)

كنت أعمل في المستشفى حين أدلى بشّار بخطابه الأوّل بعد بدء المظاهرات. تجمّع الأطباء كلُّهم والممرّضون وموظّفو المستشفى أمام التّلفاز لمتابعة الخطاب. كنّا ما يقارب الخمسين شخصاً. تابع الجميعُ الخطابَ يحدوه الأمل. لكنه لم يُبدِ في خطابه أيَّ تفهُّم لمطالب الناس وأسباب تظاهرهم. قال «إن كنتم تريدون الحرب فنحن لها» وقهقهَ بعدها، وتابع وأنهى خطابه فجأة قائلاً «السّلام عليكم.. مع السّلامة». 

لم نصدّق ما سمعنا. الجميع انصدموا، حتى بعض مؤيّديه الذين كانوا في غرفة التلفاز صُدِموا أيضاً. كان من الواضح للأسف أنّ شخصاً غير مؤهَّل حكمَنا لفترة طويلة، وأنّه غبيّ جداً ولا يستحقّ أن يكون رئيسنا.

تيسير، محامي (درعا)

حُوصِرَتْ درعا في 24 نيسان. طوّقوا المدينةَ كاملةً، وأطلقوا الطّيران لمراقبتها. بعدها هاجموها من جميع الجبهات مستخدمين الأسلحة كافّة من مدفعيّة وصواريخ وبراميل. قطعوا الماء والكهرباء والاتصالات.

راح الجنود يقتحمون بيوت النّاس يدلقون الزيت على الأرض، ويُتلفون مؤونة الشّتاء الذي اعتاد النّاس حفظَهُ في خزائن المطبخ كي لا يجدوا شيئاً ليأكلوه أو يشربوه، إذ قاموا أيضاً بإطلاق النّار على خزّانات المياه.

سيطرت قوّاتُ الأمن أيضاً على المستشفى الرئيسي العامّ في المدينة، فأخذ النّاس يعالجون المصابين في المنازل، لأنهم لو أسعفوهم إلى المستشفى ووقع المصاب بين أيديهم فستكون نهايته حتماً. تُرِكَت الجثثُ في الشّوارع، فأخذ النّاس يضعونها في برّادات المستودعات التي تُستخدَم لتبريد الخضار والفواكه. نصبَ الأمنُ القنّاصينَ لإصابةِ كلِّ ما يتحرّك، حتّى الحيوانات. وقسّموا المدينة إلى مربعات أمنية والحواجز، كما منعوا التحرُّك داخل المدينة لقتل أيِّ شكلٍ من أشكال الحياة الاجتماعيّة. ماتت الحياةُ في المدينة كلّياً، وأصبح الجوُّ العامُّ مُرعِباً. تخيّل ما عاناه الأطفال الذين عاشوا تلك الظروف، والمشاكل النفسيّة والاجتماعيّة التي سيعاني منها هؤلاء في المستقبل.

فرضوا حظرَ تجوّلٍ لمدّة ثلاثين يوماً، بعدها سمحوا للنّاس بالخروج لمدّة ساعة أو اثنتين في اليوم. كنت مطلوباً لدى الأمن، لذا لم أَبِتْ في منزلي كي لا يجدوني ويعتقلوني. وبعد رفع الحظر علمتُ أنّهم داهموا منزلي، وحطّموا كلَّ شيء، واعتقلوا ابني واثنين من إخوتي، بالإضافة إلى أربعة من أولاد إخوتي. اعتُقِل ابني وعُذِّبَ عذاباً وحشياً لستّة أشهر، بعدها لجأنا إلى الرّشاوى للإفراج عنه أخيراً.

أصبح اعتقالُ النّاس تجارةَ ابتزاز، مَن كان أهلُه قادرين على دفع الأموال لإخراجه يخرج، أمّا مَن لم يستطع ذووه تقديم أيِّ شيء فإنّ ابنهم يبقى معتقلاً، لا يُعرف مصيره.

عبد الصمد، تاجر (ريف درعا)

دخل النّظام درعا بقوّاته كاملةً، ودمّرها تماماً، وأُوقفَت في تلك الجمعة التي أطلقنا عليها اسم «جمعة كسر الحصار» كلُّ المظاهرات في القرى المجاورة. اعتقلَ النّظامُ جميعَ مَن كان هناك، وامتلأت الباصات بالمعتقَلين، لم ينجُ إلّا مَن استطاع الهرب. بعدها أعاد الأمن جثة الطفل حمزة الخطيب، وهو من أقاربي وكان بمثابة ابني. عُذّب الطفل بشكل وحشي، وغطّت حروق السّجائر وآثار الطّعنات جسمه، كما كُسرت رقبته، وبُترت أعضاؤه التناسليّة. فُجع النّاس بجثّة الصبيّ المُمَثَّلِ بها، وأدركوا أنّ النّظامَ انتهى.

كان وفدٌ قدْ ذهب لمقابلة الرّئيس، ووعدهم أنّه سيعالج المشكلة، لكنّه أرسل لهم تلك الهديّة، كأنّه يقول لهم عبر جثّة حمزة «إمّا أن تخرسوا أو تلقوا مصيراً مثل هذا»، لذا فقد الشّعب الثّقة بالنّظام تماماً. قبل هذه الحادثة كان ما يزال لديهم أملٌ أنّ النظام سيستمع إلى مشاكلهم ويحاول أن يحلّها ببعض الإصلاحات، لكن بعد مقتله عرف النّاس أنّهم في طرف، والنّظام في طرف آخر. الشيء الذي يستطيع قادتُنا فعلَه لنا هو القتل ثمّ القتل، والقتل فقط. قتل الجميع ولا يهم إن كان المقتول مدنيّاً أو طفلاً.

ذهب النّظام أبعد من ذلك، فهو يقول لنا «لن أقتلك فقط بل سأقتل عائلتك بأكملها». أسمع أنّ حكومات بعض البلدان تقوم باعتقال الشخص المطلوب فقط، ولا تعتقل أخاه أو أخته أو أمَّه. أمّا في سوريا فالعائلة كلّها متّهمة، بل الحيُّ بأكمله مُستهدف أيضاً.

آدم، منسّق إعلامي (اللاذقية)

تعامل النّظامُ مع كلّ محافظةٍ بشكل مختلف، فتعامل برفقٍ مع بعض المناطق، بينما اتّجه إلى الصّرامة منذ البداية مع مناطق أخرى مثل اللاذقيّة. وهو أسلوب خبيث وشيطانيّ للسّيطرة على الأوضاع.

استيقظتُ في ليلة على صوت إطلاق نار كثيف، وقرّرت بكلّ غباء أن أركب سيّارتي وأذهب لتتبُّع مصدر إطلاق النّار. وحين وصلت إلى أكبر ساحة في اللاذقيّة وجدت الشبّيحة. كان الشبّيحةُ المسلّحين الوحيدين في تلك الفترة، ما عدا قوّاتِ الأمن والجيش. هم عبارة عن مدنيين غالباً من الطائفة العلويّة، ويعملون لدى أحد أفراد عائلة الأسد، أو لدى إحدى العائلات المقرّبة إليهم، ينفّذون أوامرهم، ويفعلون ما يحلو لهم، ولا يجرؤ أحد على ردعهم.

حين وجدتهم كانوا يجلسون في السّاحة، ويُطلقون النّار عشوائياً في الهواء، وصوت يصدح بأغاني تمجيد الأسد بأعلى صوت في السّاعة الرّابعة فجراً. كانوا سكارى أو مجرّد متهوّرين يتصرّفون بغباء، لكنّهم بالتّأكيد لن يجرؤوا على إطلاق النّار دون أخذ ضوء أخضر من السّلطة. كانت هناك رسالة من النّظام خلف هذه الممارسات مفادُها «نحن مازلنا مسيطرين، وسنحطّم وجه مَن يفكّر بالمقاومة».

كان الشبّيحةُ في حيّ علويّ، لكنّهم بعد عشر أو خمس عشرة دقيقة انتقلوا إلى ساحة أكبر في أحد الأحياء السنّية. يتجوّلون كموكب من العصابات، يوقظون النّاس بإطلاق النّار وصوت الأغاني. كان هؤلاء الرّجال الهائجون يتجوّلون ويستعرضون أجسادهم الضّخمة كأنّهم يقولون للنّاس «لا يخطرنّ في بالكم أن يحدث هنا ما يحدث في المدن الأخرى».

في اليوم التالي مباشرة خرجتْ أوّل مظاهرة في اللاذقية. هتف النّاس: «يا درعا نحن معاكي للموت» بعد صلاة الجمعة، لم يهتفوا بأيّ شيء ضدَّ الحكومة أو النّظام. جاءت قوّات النّظام، وقمعت المظاهرة، سمعتُ إطلاق نار، ودون أن أعرف المصدر كنت متأكّداً أنّهم الشبّيحة. كانوا يستشيطون غضباً لأنّه أُشيع في تلك الفترة أنّ الجهاديّين قادمون من مختلف أنحاء العالم لإبادة العلويّين. سمعتُ بذلك أيضاً بحكم أنّني أعيش في حيّ ذي أكثريّة علويّة. كان العديد من العلويين يكرهون نظام الأسد أيضاً، وأظنّ أنّ النظام يعي ذلك، كما يعي أنّهم – المجتمع العَلَويّ – حجرُ أساسه وذخيرة إنقاذه.

لذا، ومنذ أوّل يوم في الثورة، قال النّظام إنّ تلك الجماعاتِ المتطرّفةَ قادمةٌ لا محالة، كأنّه يقول للعلويّين «تخيّلوا ما سيحدث لكم في حال استلم السُّلطةَ هؤلاء الإرهابيّون». شعر العلويّونَ أن لا خيار لهم سوى مناصرة الأسد والوقوف خلفه حتى النهاية. بعدها خرجت المتحدِّثةُ الرسميّةُ باسم النظام – بثينة شعبان – على التّلفاز لتقول: «أولئك المتطرّفون قدموا ليُحْدِثُوا الفِتنةَ بينَ الشِّيعة و…الخ». هل أنتِ جادّة؟ أطفالنا في المعتقَلات، وحكومتنا فاسدة، وأنت تتحدّثين عن الشّيعة والسنَّة؟ لم أكن أعلم الفرق بين الشّيعة والسنّة إلى حين أُقحمنا في هذا الأمر.. لأنّه ببساطة لم يكن أحدٌ يهتمّ بمثل تلك الأمور! كي لا أُفهَم خطأ، أنا أعلمُ أنّ الخلافَ السُّنّي الشّيعي موجودٌ منذ الأزل، لكن ما قصدتُه أنّه لم يكن مطروحاً في سوريا خلال تلك الفترة، أي أنّ احتياجات الشّعب ومطالبه وأهدافه في 2011 كانت بعيدة عن هذا الأمر كلّ البعد. كانت الأهدافُ إصلاحات سياسيّة، وأن يكون هناك تمثيل ومشاركة ونشاط حقيقيّ للشّعب في البلاد.

رأى المسؤولون أنّ هذه الأهداف تشكّل تهديداً كبيراً على قبضتهم على البلد، وأنّ الحلَّ الوحيد للإبقاء على سيطرتهم الكاملة هو تحويلُ الصّراع من مطالبات بالإصلاح إلى خلاف بين السُّنّة والشِّيعة والمتطرّفين. قاموا بذلك عبر خطاباتهم السياسيّة والمنهجيّة العسكريّة المُتّبَعة، وفعّلوا خطابهم على الأرض عبر ممارساتِ الشبّيحة، كحرق المصاحف والعبث بالمساجد وإلى آخره. هذه هي أدوات السّلطة في تحويل الصّراع، وبالتدريج وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم.

هناك حادثة أخرى أتذكّرها جيداً، في إحدى اللّيالي خرج النّاس إلى الشُّرُفات وهتفوا «حُرّيّة، حُرّيّة، الله أكبر!»، كانوا يصرخون ويضربون على الطناجر والمقالي. حينها كان في الشارع فصيل عسكريّ، ما إن سمعوا الأصوات حتى شكّلوا حلقةً حول الضابط، ووجهوا أسلحتهم في كلّ الاتّجاهات. خدمتُ في العسكريّة لذا أعرف هذه الوضعيّة، نأخذها عندما يأتي العدوُّ من جميع الاتّجاهات، أو عندما لا تعلم جهة عدوّك فتكون هذه الوضعيّة دفاعك الأخير. عدّوا أنفسهم محاطين بالأعداء، وهم في مدينتهم، وكلُّ ما في الأمر هتافاتٌ من الشبابيك…

بذل النّظام كل استطاعته في زرع الطائفيةِ بين أفراد الشّعب، وتجييشِ بعضهم ضد بعض، لخلق بيئة سامّة لا يثقُ فيها أحدٌ بأحد، ولا يعلم أحدٌ مَن المتحكِّم بالسّلطة. لكلّ طرف عدوّ، عدوّ العلويّين هم المتطرّفون والمتشدّدون. وعدوّ السنّة هم الشبّيحة، أمّا الجنديّ فعدوّه إسرائيل أو أيّاً ما أقنعوه أنّه يحاربه. تلك السياسة هي السبب الأوّل لتصعيد الأمور، تعزيز الطائفيّة من قبل النّظام وحاشيته.

كريم، طبيب (حمص)

أقام النّاس في حمص اعتصاماً في 15 نيسان. جاء عنصر أمن وحاول أن يفضَّه، لكن النّاس لم تستجب، فأطلق النّار وقتل سبعة عشر شخصاً. نقل النّاسُ الجثثَ إلى المستشفى التي أعمل فيها، كان المشهد لا يشبه أيَّ شيء رأيته في حياتي. في اليوم التالي، خرج آلاف النّاس في جنازات الشّهداء. وعند انتهاء التّشييع أراد النّاس فعل شيء ما، هتفوا «على السّاحة.. على السّاحة». كان الغضب يتملكهم، فكانت ردّة فعلهم عفويّة. 

توجّهت الحشود نحو ساحة السّاعة في قلب حمص. تجمعوا هناك، وانضمّت أعداد أكبر من النّاس. أُغلقت المحلّات، ونُصبت الخيم. أكلُوا وشربوا وهتفوا وألقوا الخطابات، وحين جاء اللّيل بقوا وناموا في خيمهم. شعروا أنّ عليهم اقتناص هذه الفرصة للبقاء في السّاحة، ليقولوا: هذه ساحتُنا وسنبقى هنا حتّى يسقط النّظام. 

تجمّع عناصر الأمن بالقرب من الاعتصام واجتاحوه، رغم سير المفاوضات بين بعض ممثّلي الاعتصام والنّظام، لكنّ الأخيرَ غدر بهم. 

كنت حينها على سريري في منزلي الذي يبعد ثلاثة كيلومترات تقريباً عن السّاحة. صحوتُ على صوتٍ حسبتُه مطراً قوياً، وحين توجّهت إلى الشبّاك فإذا هو رصاص. كانت قوّاتُ الأمن تهاجمُ السّاحة، والنّاس يُقتَلون. اتّصلت بالمستشفى وطلبتُ منهم أن يرسلوا لي سيارة إسعاف. ما شاهدتُه على الطّريق لا يُصدَّق، كلُّ المدينة خرجَت إلى الشوارع، والنّاس يركضون خائفين لا يعلمون ما الذي يجري.

أطلق الأمن النّار على سيّارة الإسعاف، وكان من المستحيل نقل الجرحى إلى المستشفى، ما عدا واحداً أو اثنين استطاعا الهرب والوصول إليها. لم نتمكّن من فعل أيّ شيء غير الانتظار والبكاء. النّاسُ كانوا يموتون أمامنا، ولم نستطع توفير الإسعافات الأوّليّة لهم.

في صباح اليوم التالي غُسلت السّاحةُ بالماء، ولم يُترك أيّ أثر من آثار المجزرة التي حدثت في اليوم السابق. اختفى المعتصمون ومسحت كلَّ آثار الجريمة، لم يبقَ سوى ثقوب الرّصاص على جدران المباني.

تلك المجزرة كانت نقطةَ تحوُّل في حمص، شعر النّاس بعدها أن لا رجوع للحياة كما كانت سابقاً. كانت نسبة اللارجوع 50 بالمئة، فأصبحت 150 بالمئة.

عبد الصمد، تاجر (ريف درعا)

بدأت الأمور عفوياً بدافع غضب النّاس، لكن بعد فترة لاحظنا أنّ علينا أن نكونَ منظمين أكثر في خطواتنا. بدأ التّنسيق واجتمعنا في الأسبوع الثّاني مع شخصيّات قياديّة ومع كلِّ شخص لديه الحماسة والدافع للانضمام. قُسّمت المهام بينهم، عملت مجموعة في الإعلام، والبعض عمل في تنظيم المظاهرات وتحديد أيّامها وأماكن انطلاقها، والبعض الآخر كتب الخطابات التي تُلقى فيها. وكانت هناك مهامّ أخرى مثل كتابة الشِّعارات، حرصاً على إيصال الرّسالة الصّحيحة من خلالها لأنّها كانت تظهر للعالم أجمع عبر التلفاز. وكان على مجموعة معيّنة حماية معدّات الصوت والمكبّر الوحيد في المدينة، لذا كان مهمّاً إخفاؤها عن النّظام كي لا يصادرها. بالإضافة إلى مجموعات أُوكلت اليها مهمّة تأمين الحماية للمظاهرات. التركيز كان حول تقليل عددِ الشُّهداء في حال اقتحم النّظام المظاهرة. كلّ قرية نظّمت اجتماعاتها على حدة، وفي الوقت نفسه كنّا نتواصل مع ناس يقومون بالنشاط ذاته في المدن والقرى الأخرى، لذا كان يعرف بعضنا بعضاً.

إبراهيم، خرّيج جامعي (ريف حماه)

في كلّ حيّ تكفّل أحد ما بالهتاف، وتكفّل آخر بكتابة اللّافتات، وآخر بالتقاط الصّور…الخ. كما وُضعت مجموعة معيّنة عند مدخل الحيّ مهمّتُها نقل الخبر بسرعة إلى المتظاهرين في حال وصول الأمن، ليتمكّن الجميع من الهرب.

كنّا نصوّر المظاهرات، ونرفع الفيديو على الانترنت لينتشر، بعدها نمسح كلَّ شيء من أجهزتنا حتّى لا يجدوا فيها شيئاً ضدّنا في حال أمسك الأمن بنا. لجأنا إلى استخدام أسماء مستعارة للتّواصل فيما بيننا في المظاهرات، كي لا يستطيع أحد أن يُفصح عن هويّة الآخر في حال اعتُقل وأُجبر على الاعتراف.

في البداية، كانت كلّ محافظة تُطلق تسميتها الخاصّة على المظاهرة، بعدها أصبح المتظاهرون أكثر تنسيقاً فيما بينهم وتوحّدت أسماءُ الجُمَعِ على مناطق سوريا كافّة، ما أضفى قوّة وتأثيراً أكبر على المظاهرات. لم تشارك نساءُ حماه في البداية، لكنهنّ بعد فترة خرجن وشاركن في المظاهرات، وكان لهنَّ دور فعّال. كانت خيّاطة تخيط لنا أعلام الثورة من دون أيّ مقابل، ولو علم بها النّظام لأعدمها على الفور. كانت هناك خطّاطة أيضاً، خطّت لنا لافتات جميلة، كلّها كانت تُجمع وتُخبأ في مكان لا يعلمه إلا النشطاء في الحيّ. كان من غير الممكن إخفاء تلك اللافتات في المنازل لأنّه لو حصل وكُشف مكانها فستكون خطراً على سكّان المنزل كلّهم.

أبو ثائر، مهندس (درعا)

لم نكن حذرين في الأيّام الأولى لانطلاق الثّورة، كنّا نأخذ الجرحى إلى المستشفيات الحكوميّة. حملنا مصاباً برصاصة في قدمه إلى المستشفى صباحَ يوم، وحين عدنا في المساء وجدناهُ مقتولاً برصاصة في رأسه. كان النّظام يقتل الشّباب ويجبر أهاليهم على اتّهام «العصابات المسلّحة» بقتلهم.

قمْنا بإنشاء مستشفيات ميدانيّة، حيث تبرّع أحد أصدقائي بمنزله، وحوّلناه إلى مكان لإسعاف الجرحى. تطوّع أطبّاء وممرّضون وشابّات وشباب للمساعدة، لو أنّهم وقعوا في يد النظام لقضى عليهم في التوّ. كان المصابون يَصلون متوفَّين أحياناً، وأحياناً يموتون أمام أعيننا دون أن نتمكّن من مساعدتهم لأنّنا لا نملك شاشاً لإيقاف النّزيف. أحياناً، كان المصابُ يموت في الليل ولا نتمكّن من دفنه حتّى صباح اليوم التالي. وبسبب انقطاع الكهرباء، لم تتوفّر لدينا ألواح ثلج لوضعها على الجثث، لذا كانت الرائحة فظيعة.

كان هناك رجل يدعى «جابر»، مهمّته البحث عن الثّلج لدى سكّان الحيّ على درّاجته الناريّة، وكان يضطرّ أحياناً إلى السفر بعيداً لجلب الثلج. بعدها قُتل جابر، ولم نتمكّن من توفير الثلج لجثّته.

بشر، طالب (دمشق)

شكّلْنا مجموعةَ تنسيقٍ خاصّة بالحيّ، وكانوا قد قطعوا الإنترنت عنه. لذا لجأنا إلى الإنترنت الفضائي. طُلب إليّ أن أخفي الهاتف الفضائيَّ في منزلي، وكان عليّ أن أستشير عائلتي قبل أن آخذ القرار بنفسي، لأنّ ذلك سيشكّل خطراً علينا جميعاً في المنزل. ووافقت عائلتي على إخفائه لدينا.

طُلب إليّ مرّتين أن أوصل هاتفين فضائيّين إلى نُشطاءَ آخرين لا أعرف أسماءهم الحقيقيّة، ولا أعرف اسم مَن أعطاني الهاتفين، وفي المقابل لا أحد منهم يعلم اسمي أيضاً.

كان على الشخص الذي يعطيني الهواتف الفضائيّة أن يرسل لي إيميلاً قبل أن يتّصل بي. لكن ذات مرّة، وعلى غير العادة، اتّصلَ بي دون أن يرسلَ شيئاً، وطلب إليّ مقابلتَه خلال عشر دقائق. حينها لم أعلم كيف أتصرّف، لذا اتّصلت بإحدى النّاشطات لأستشيرها، ولم تُجِب، فقرّرت الذّهاب، وحين فتحت الباب للانطلاق عاودت هي الاتصالَ بي، وقالت لي: «احذر، هذا الشّخص اعتُقل منذ أسبوع، وقد يكون الأمن يستخدم هاتفه للإيقاع بك»، بعدها طلبت من أحد أصدقائي الذّهاب إلى موقع التّسليم ليرى ما الذي يحصل هناك. ذهب بالفعل، ووجدَ ستَّة عناصر أمن بانتظاري.

لطالما كانت أمّي صارمةً فيما يخصّ دراستَنا أنا وإخوتي، لكن ذات مرّةٍ سمعتُها تتحدّث مع جدّتي التي قالت لها: إنّ عليَّ التركيز أكثر في دراستي، وأنّني في سنة التخرّج من الثانويّة والامتحانات على الأبواب، ردّت عليها أمي «أعلم ذلك، لكن لا أستطيع منعَه ممّا يقوم به، فكلّما تذكّرتُ كيف اعتقلوا والدَه أؤمنُ أكثر أنّ عليه المتابعة». شعرتُ يومها بدعم رائع، وفكّرتُ في نفسي «كم أحبُّك يا أمّي».

بعدها حضر الأمن إلى باب منزلي باحثين عنّي، فاختبأتُ في الغرفة الخلفيّة، وفتحتْ أمّي الباب قليلاً مواربةً نفسَها خلفَه، وقالت لهم بكلِّ هدوء: إنّني أدرس عند أحد أصدقائي، ولا يمكنها السّماح لهم بالدّخول لأنّها وحدها وبلا غطاء رأس. ذُعِرْتُ جداً وفكّرتُ في طريقة لأقفز من الشبّاك وأهرب. لكنّهم طلبوا منها أن أتّصل بهم، ورحلوا. لا أعلمُ كيف استطاعتْ أمّي الحفاظ على هدوئها.

أيهم، مطوّر ويب (دمشق)

كانت هناك جهودٌ ممنهجة لإعطاء صورة سيّئة عن الحراك. من ذلك مثلاً أنّه في كلّ مرّة تعبر مظاهرة في الطريق، يتبعها رجال الشرطة ويقومون بتكسير النّوافذ أو الأضواء، وأحياناً يقومون برشّ الطِّلاء على الجدران. هناك فيديوهات على اليوتيوب توثّق هذه الأفعال، لكنّ النّظام يخرج على التلفاز ويعرض مشاهد وصوراً تظهر تخريبَ الممتلكات قائلاً «هذه الحرّيّة التي يطالبون بها، حرّيّة تخريب البلد وإهانة الأديان.. إلخ».

«ما هي الحرّيّة التي تطالبون بها؟» لطالما واجهنا هذا السّؤال، لذا سعينا دوماً إلى تعريف الحرّيّة. توحّدت الجهود الفرديّة، وتشكلت تنسيقيّات. كان أخي في إحدى التنسيقيّات في جامعته، وكان أعضاؤها ماهرين في الأمور التّقنيّة والكمبيوتر، أطلقوا قناة على اليوتيوب، وأنتجوا من خلالها فيديوهات توضّح أهمّ مطالب الشعب. قالوا: نريد حرّيّة التّعبير، ونريد إطلاق سراح المعتقلين السياسيّين لأنّهم قد يكونون قادة المستقبل، ونريد التخلُّص من المادّة الثّامنة في الدّستور والتي تنصُّ على أنّ حزب البعث هو الحزب الحاكم للبلاد وذو الأكثريّة في البرلمان ممّا يتناقض مع حرّيّة تكوين الأحزاب السياسيّة.

واجهنا أيضاً سؤالاً غبيّاً آخر مثل «مَن هو بديل الأسد؟ إن لم يحكمنا هو فمن سيأخذ مكانه؟». أيّ أحد يتجرّأ ويفتح فمه للحديث عمّا يحصل في البلاد ينتهي به الأمر في السّجن. ألقى النّظام بجميع قادة الثّورة في السّجن ليقول: إنّه لا قادة للثّورة.

مصطفى، حلّاق (سلَميّة)

أنا من سلَميّة، وأنتمي إلى الطائفة الإسماعيليّة، وهي إحدى فروع المذهب الإسلامي الشِّيعي، اضطُهدتْ على مرِّ التاريخ. شخصيّاً أعتبر نفسي ملحداً ماركسياً، لكن طبيعة عملي حلّاقاً تجعلُني أتعامل مع الناس كافّةً بمختلف توجّهاتهم وآرائهم.

أنشأنا تنسيقيّات محلية وضعت الأشخاص المناسبين في الأماكن المناسبة دون النّظر إلى العمر أو الشّهادة أو الطبقة الاجتماعيّة. كان هذا دليلاً كبيراً على أن الشّعب السّوريّ ليس متخلفاً، فقد كنا مستعدين تماماً للحياة الديمقراطيّة. بوصفي ماركسيّاً حلمتُ كثيراً بهذا اليوم الذي يحكم فيه الشّعبُ نفسَه من الأساس دون أيّ طبقيّة أو هرميّة.

أظهر النّظام نفسه ككيان علمانيّ يحارب الطائفيّة، لذا جُنَّ جنونه حين خرجت مظاهرات كبرى من مدينة سلميّة التي يطغى على سكّانها التوجّه اليساريّ، بالإضافة إلى خليط من الأقلّيّات. تلك المظاهرات كان لها أثر كبير لدى النّاس كافّةً في سوريا، لأنّها كذّبت رواية النّظام ودعايته التي قدّم بها نفسه حامياً للأقلّيّات. خرجت أيضاً مدينةُ بانياس ذات الخليط الدّينيّ والطّائفيّ مع مدينة درعا ذات الأغلبيّة السنّيّة. تظاهرنا جميعاً تحت الشعارات والمبادئ السّياسيّة ذاتها ومطالبنا بالحرّيّة واحدة. لم يكن النّظام يتّحدى السّلفيّين أو عملاء خارجيّين، بل كان يتحدّى ثورةً حقيقيّة.

عمل النّظام على التّفرقة بين الأديان مدّة أربعين عاماً ولم ينجح. طبيعة سكّان سلميّة من الأقلّيّة الإسماعيليّة، بينما سكّان حماه من الأغلبية السّنّية. أي من المفترض أن يكره بعضُهم بعضاً. لكن حين قُصفت حماه هرب الآلاف منها، وفتحت سلميّة أبوابها ومنازلها لهم.

بعد أشهر، شنّ النّظام هجوماً كبيراً على سلميّة، واعتقل النّاس من الشوارع ومن منازلهم. هرب خمسة عشر منّا إلى ضواحي دمشق ذات الطبيعة الإسلاميّة المتديّنة، لكنّهم أيضاً فتحوا أبواب منازلهم لنا – نحن الأقلّيّات – وأظهروا لنا الحبَّ والاحترام، لدرجة أنّنا حين كنّا نخرج إلى المظاهرات كانوا يضعوننا في منتصف الحشد ليحمونا في حال أطلق الأمن الرّصاص.

موسى، أستاذ جامعي (حلب)

ركّز النّظام بشكل عامّ على المدن الكبيرة، وكثّف حضوره فيها، ممّا صعّب التّظاهر هناك. كما كان سهلاً عليه زرع جواسيسه في كلّ مكان. مثلاً، لاحظنا في تلك الفترة حضوراً كبيراً للباعة المتجوّلين في شوارع حلب. كانوا في الحقيقة شبّيحةً مدفوعين من النّظام وخاصّةً باعة البطّيخ. لأنّهم كانوا مسلّحين بالسكاكين، ومهمّتهم مهاجمة المتظاهرين فور خروجهم.

في النتيجة، كانت كلّما خرجت مظاهرة بالمئات تتبعها حملة اعتقال بالمئات، وأحياناً كان النّظام يعلم عبر جواسيسه بموعد خروج مظاهرة ولا يعيقها، ليسهل عليه ضبط جميع مَن خطّط وشارك بها واعتقالهم.

كما أنّ الناس في المدن الكبيرة لا يعرف بعضهم بعضاً، فحين يلاحق الأمن المتظاهرين لا يتمكّن الشّباب من الاختباء في أيِّ محل يصادفون، لأنّ المرجح أن يكون صاحبُه عميلاً للنّظام. بعكس الرّيف، حيث يسهل التّظاهر، لأنّ الجميع يعرف بعضه بعضاً، وبالتالي تتوفّر أماكن أكثر ليختبئ فيها الشّباب من الأمن. كما يمكن تنظيم المظاهرة عبر الكلام المتناقل، ويتمكّن المتظاهرون من الهتاف والمسير لساعة أو اثنتين قبل أن يصل الأمن.

غيث، خرّيج جامعي (حلب)

لعبت النّساء دوراً مهماً في ذروة المظاهرات في الجامعة. المحجّبات كُنّ يخفين المنشورات واللّافتات تحت معاطفهنّ الطويلة لأنّهن لا يخضعنَ إلى التفتيش. أُغلقت مساكن الطلّاب الذّكور بسبب كثرة المظاهرات، بينما بقيت مساكن الطالبات مفتوحة، لذا أخذت الطالبات مهمّة تنظيم المعلومات وإرسالها إلى الشّباب. حين يهاجم عناصرُ الأمنِ الشّبابَ في المظاهرات، تقف النّساء في طريقهم لحماية المتظاهرين، ففي وقتها كان لمس النّساء خطّاً أحمرَ لدى الأمن. وبالفعل جاءت نساء كثيرات للإنقاذ.

اعتُقل كثير من الشّباب، وكنا نحن نفكّر في طريقة لمساعدة عوائلهم، حتى لو بأشياء بسيطة، كشراء الحليب لأطفالهم. كنّا ننظر إلى عائلات المعتقَلين كما لو أنّها عائلاتنا تماماً، ونرى أنّ من واجبنا مساعدتها. كان أخي أحدَ المتكفِّلين بمساعدة إحدى تلك العائلات، وذات مرّة شاهده أحد رجال المخابرات يقوم بإيصال مساعدة، فاستُدعِي للاستجواب مرّتين، وكان قد اعتُقِلَ مُسبَقاً لأنّه خرج في مظاهرة. بعدها قرّر أخي أخذ زوجته وأطفاله ومغادرة البلد.

أيهم، مطوّر ويب (دمشق)

سيطر النّظام على دمشق كاملةً، حيث بات عناصر المخابرات منتشرين في كلّ مكان، مثل تلك الشخصيّة في مسلسل صراع العروش، التي تتجمّع حولها الطيور بإشارة منها. الجميل، بل المذهل، في الأمر أنّنا وصلنا إلى مرحلة لم نعد فيها نأبه لهم. نعم كنّا نخاف، لكن كنّا مندفعين بحماستنا. قد لا تدرك معنى أن تُقمَع لسنين وفي لحظة يُرفَع الغطاءُ وتتمكّن من الحديث، ذلك شعورٌ لا يمكن وصفه.

أيقن الجميعُ أنّ النّظام سيسقط في رمضان، لأنّ التجمُّعات في المسجد ستصبح يوميّة بعد صلاة التّراويح عوضاً عن التجمُّع أسبوعياً عقب صلاة الجمعة. الأجواء كانت مفعمةً بالحماس والتفاؤل.

في السّابع والعشرين من رمضان، أي في ليلة القدر، وهي ليلة مقدَّسة يتجمّع فيها المسلمون ليصلّوا ويقرأوا القرآنَ حتّى بزوغ الفجر، يتجمّع كلُّ سنة أكثر من خمسة آلاف مصلٍّ في المسجد القريب من منزلي. يقوم المتطوّعون بإعداد وجبات السّحور للمصلّين ليتناولوها قبل أذان الفجر. ومع أنّني لا أصلّي، إلا أنّني أحرص دوماً على المشاركة في تحضير الطّعام لأنّي أجدها مناسبةً اجتماعيّةً جميلة.

بدأ الناس بالوفود إلى المسجد، كان هناك الكثير من كبار السِّنّ، لكن أيضاً كان هناك عدد كبير من الشباب، كان بعضهم يتزين بأقراط في أماكن متفرّقة من جسده، وبقصّاتِ شعرٍ غريبة، وآخرون يرتدون الشورتات، وهي مخالفة لشروط دخول المسجد، لذا كانوا يقوموا بإنزالها لتغطّي رُكَبَهُم، والنتيجة أنّهم كانوا يكشفون عن مؤخّراتهم. كانت تلك المشاهد رائعةً، تعكس الخليط الاجتماعي الذي تمثّله دمشق. 

أحاط بالمسجد آلافُ رجال الأمن، المنظَرُ كان كلقطةٍ من فيلم الملك آرثر، كانوا يقفون بوجوهٍ عابسةٍ حاملين عصيّهم ودروعهم. وبينما كنّا منهمكين بإعداد الطعام، دار جدال طويل حول إذا كان علينا إعطاء الأمن في الخارج وجبات أم لا؟ كان رأي الكثيرون أنّهم لا يستحقّون، بينما رأى آخرون أنّها ستكون بادرةً جيّدةً لإظهار سِلْميّتنا. هم بشرٌ مثلنا، مجرّد عساكر شباب من المفترض أنّهم يؤدّون خدمتهم العسكريّة.

تجرّأ ثلاثة أو أربعة منّا بحمل الوجبات إلى الضابط، وقالوا له «جئناكم بسلام لإعطائكم الطّعام لأنّكم تقفون هنا طيلة الليل»، فردّ عليهم: «أرجِعوا طعامكم وإلا قتلتُكم».

رُفع الأذان، وقال الإمام «اللّهمّ أجرنا من الأعداء»، فردّد النّاس بعده: «آمين! آمين»، رغم أن معظم من كان هناك لم تكن له علاقة بالدين. بدأ الناس جميعاً يبكون رغم أنّ معظمهم ليس متديّناً. لا أؤمن بالصّلاة كثيراً بقدر إيماني بالشّقّ الرّوحانيّ والعاطفيّ الذي تحمله. هل تعرف الشّعور حين تؤمن بقضيّة وتقف مع مَن يشاركونك الإيمان بها؟ وفي الوقت نفسه جميعكم محاطون بخطر وتستشعرون الخوف ذاته؟

انتهت الصّلاة، وعمّ الصّمتُ. صرخ أحدهم: «حرّيّة!»، وقف الآخرون وردّدوا معه ملء صدورهم. حمل كبار السّنّ أحذيتَهم وهربُوا حين بدأت الضجّة، وتحوّل الأمر إلى معركة. بدأ العساكر برمينا بالحجارة، وهنا أدركنا خطأنا الكبير بتوزيع العصائر بعبواتٍ زجاجيّة، أخذ الناس يقذفونها على العساكر، وصرنا نسمع صوت تكسير الزُّجاج.

وضع النّظام قنّاصيه في كلّ مكان، وأُصِيب أحدُ الشّباب في باحة المسجد في رأسه. هُرِعَ النّاس عائدين إلى داخل المسجد، ولحقت بهم الشرطة، كان بعضهم على الشرُّفة في الطابق الثاني فقاموا بالتسلّق على السّتائر أو القفز إلى الأسفل، لأنّه حين يُقبض عليهم سيُعتَقَلون أو يُقتَلون فوراً. دُمّر كلُّ شيء.

سمعْنا في الداخل أنّ كبار أئمّة دمشق يتفاوضون مع ضابط الأمن. طلعت الشّمس، وقالوا إنّ المكان آمن للمغادرة، وحين فتحنا الباب وجدنا رجال الأمن في الخارج يهتفون «الأسد! الأسد!» قالوا إنّ المنطقة خارج المسجد مؤمّنة، إلا أنّ رجال الشرطة قاموا بمطاردتنا بمجرّد أن قطعنا الشارع. ركضتُ في تلك اللحظة كما لم أركض في حياتي.

أبو فراس، مقاتل (ريف إدلب)

خطف الشبّيحةُ أخي، وأعادوه إلينا مقتولاً تحت التّعذيب بعد ثمانية عشر يوم. لا يمكن تصوُّر كيفيّة موته، أظافر قدميه كانت منزوعة، وخُرمت عظامه بالمثقاب. انتشرت علامات الضرب والحرق في أنحاء جسده كلّها، وكان أنفه مسطّحاً من شدّة الضرب. وبعد حوالي ثلاثة أشهر تواصل معنا بعض الشّباب ممّن أُفرِج عنهم، وقالوا لنا إنّ أخي ما زال حيّاً، وأنّه كان معهم في السجن، لذا فالجثّة المدفونة تخصُّ شخصاً آخر، لكنّنا – لشدّة تشوّه الجُثّة – لم نستطع تمييز أنّه ليس أخانا.

شفيق، خرّيج جامعي (داريا)

كنّا اثنين وعشرين شاباً مسؤولاً عن تنظيم المظاهرات في داريّا، لم يبقَ منهم اليوم سوى ثلاثة. كنّا نجمع نحو 20 دولاراً لشراء أعلام أو مواد لصنع اللّافتات. نخطّط في أيام الأربعاء والخميس ونتظاهر في أيّام الجمعة.

هاجمت قوّات الأمن داريّا في أواخر شهر أيار، وقامت بقطع خطوط الهاتف عنها، كما قطعت جميع شبكات الهواتف النقالة والإنترنت. وداهمت المنازل، واعتقلت جميع من وجدت مِن شباب أمامها، لذا كان علينا أنا وإخوتي مغادرة منزلنا والاختباء في الحقول الزراعيّة.

توقّفنا عن التّظاهر أيّام الجمعة لتجنّب القتال مع قوات الأمن. في النّهاية نحن لا نرغب في حمّام دمّ، وهم إخوتنا. استعضنا عن التّظاهر ببعض الأنشطة السّلميّة كي نثبتَ للأمن أنّنا ما زلنا هنا. كأن نكتب على الجدران أو نعتصم ونحمل الشّموع. بعدها حاصر النّظام المدينةَ مجدّداً واقتحموا منزلنا في الثالثة صباحاً، حطّم العناصر كلَّ ما في المنزل، ووجّهوا الإهانات واللّعنات لوالديّ، وقالوا لهم إنّهم يبحثون عن أولادهم الإرهابيّين.

عاودْنا التّخطيط، وفي ليلة، بعد أحد الاجتماعات، قرّر أخي العودة إلى المنزل، وفورَ وصوله إلى هناك ألقى الأمن القبض عليه، فقد كانوا في انتظاره. بعدها بدؤوا يتّصلون ويساومون أبي قائلين إنّهم سيطلقون سراحه في حال دلّهم عليّ. توقّفت عن الذهاب إلى منزلي قدر الإمكان، ومكثتُ في منزل أحد الشباب من معارفي. طُرق الباب ذات صباح وكانوا هم، قوّات الأمن. هُرعتُ إلى الغرفة الخلفيّة، وحاولتُ الاختباء، لكنّ أحدهم لاحظني، وألقى القبض عليّ. قبلها كنت فخوراً جداً بنفسي أنّهم لم يتمكّنوا من إيجادي، أما حين اعتُقلت فقد تحطمت آمالي.

قادوني إلى التحقيق وهم يضربونني في كلّ خطوة من الطريق. جرّدونا من ملابسنا تماماً في مركز التّحقيق، وأخذوا يسخرون منّا ويبصقون علينا. وبدل أن تُشعرني تلك الأفعال بالذُّلّ كانت تزيدني فخراً وشرفاً. ليس عليك فعلُ الكثير لإخافة النظام وهزّه، كلُّ ما عليك فعله هو أن تصرخ «حرّيّة»، وذلك يكفي. كان نصراً بالنسبة لي أن أُرمَى في السّجن من أجل قضيّة كالثّورة السّوريّة، كنت أقوّي نفسي وأقول إنّ الله سيكون مع أمّي التي أصبح لها الآن ولدان في المعتقَل. كان المعتقَدُ العامّ لدى السّوريين أنّ مَن يدخل المعتقَل ميتٌ إلى أن يُفرج عنه.

تسمع هناك أصوات مَن هم تحت التّعذيب يصرخون ويصرخون. كان المحقّقون يستخدمون ثلاثة أجراس مختلفة لثلاث غرف تعذيب، دخلنا فيها بما يكفي لنميّز بعضها من بعض. كان هناك جرس خاصّ لغرفة التعذيب بالدولاب، وآخر لغرفة التّعذيب بأسلاك الكهرباء، أمّا الثّالث فكان للغرفة الأبشع والأقسى تعذيباً، حيث يعذّبونك إلى حدِّ الموت، ثمّ يتركونك لتتمنّاه. كان صوت باب الممرّ المعدنيّ يشبه ذلك الصّوت الذي كنّا نسمعه في أفلام الرُّعب، كلّما سمعته أخاف وأعتقد أنّه حان دوري، والجميع كذلك. أصواتُ التّعذيب كانت أقسى علينا من التّعذيب نفسه، تخترقك أصواتهم وتقتلك.

ذات مرّة دقّ جرس الغرفة الثّالثة، وتبيّن أنّهم جاؤوا إليّ. أصعب ستّين ثانية في المعتقَل كانت تلك التي جرّوني فيها في ذلك الممرّ، شعرتُ كأنّها سنة، إلى أن ألقوا بي في الغرفة. كنت مغطّى العينين، لكنّني أسمع صوت خطواتهم حولي. لم ينطق المحقّق بكلمة، وبعد نحو خمس عشرة دقيقة لم أعد أحتمل فصرخت «سأعترف بكل ما تريدونه، لكن أسألوني شيئاً!».

بعدها انهرتُ على الأرض، وهنا بدأ المحقّق يضربني، وارتحت حين سمعتُه أخيراً. حصرني داخل الدولاب، وأخذ يضربني بالسوط، ويعدّ، حتّى وصل إلى سبعة وخمسين، وبدل أن يقول ثمانية وخمسين، قال ستة وخمسين. فقال «لا لا لقد أخطأتُ في العدّ، علينا الإعادة من جديد». واستمرّ في جلدي بالسّلك الكهربائي على أنحاء جسدي كلّها، من أصابع قدمي إلى صدري حتى المناطق الحساسة. تصل إلى مرحلة تفقد فيها صوابك، فتتبلّد مشاعرك. 

بعد التّحقيق نقلوني إلى زنزانة جماعيّة مساحتها أربعة أمتار في مترين، يوجد فيها اثنان وخمسون سجيناً. كنّا محصورين داخلها لدرجة أننا لم نستطع النّوم أو التمدّد جميعاً في وقت واحد، لذا كنّا نتناوب على النوم والوقوف. كان الجميعُ يخاف بعضه من بعض، لأنّه قد يعترف أحدهم تحت التّعذيب بكلّ ما أخبرتَه به، كما كان بيننا جاسوس زرعَه الأمنُ لجمع المعلومات.

أصبحت الحياة روتينيةً في الداخل، حفلة تعذيب في الصّباح، وأخرى في اللّيل، تذهب لتُضرَب وتعود. يمكننا استخدام الحمّام مرّتين في اليوم، وعليك أن تدخلَ وتخرجَ وأنت تعدُّ إلى العشرة، وإن تجاوزت العشرة تُضرب. كنّا نتشارك الطّعام ونتقاسمه فيما بيننا لأنّ الكمّيات كانت قليلة جداً ولا تكفي. الجميع متساوون في الزنزانة، المهندس أو الطبيب أو أياً كان، كان ذلك جميلاً ومحزناً في الوقت نفسه. كنّا نحاول – نحن الشّباب – حملَ جلسات التّعذيب عن كبار السّنّ.

كنت أنسى أحياناً شكل والديّ، وأحياناً أخرى أفكّر في كلّ الذين يغيبون عن حياتنا دون أن نلاحظهم. كنت أيضاً ألعنُ مَن هم فوق الخمسين لأنهم سمحوا لهؤلاء أن يحكمونا طيلة تلك السنين. شاهدتُ مرّة برنامجاً على قناة الناشونال جيوغرافيك حيث كان القردُ يقفزُ فوق الشجرة ليحصل على موزة، ويقومون بضربه فيعود وينزل. استمرّوا في فعل ذلك، في حين راقبت القردة الأخرى ما يجري، ولم تتجرّأ حتى على تسلُّق الشّجرة لمرّة. لذا راحوا يأكلون الأوساخ بالرغم من وجود شجرة الموز أمامهم. بعد شهر واحد أصبح القردة يخافون بمجرّد رؤيتهم الموز.

لم يحكِ أبي عن مجزرة حماه أبداً، كان خائفاً من أن تكتشف المخابرات الأمر وتقضي الحكومة على العائلة بأكملها. وصلت الإنترنت إلى سوريا عام 2006، حينها تمكّن جيلنا من القراءة والاطّلاع على مجزرة حماه والمعتقلين السياسيّين.. إلخ. لذا فإنّ جيلنا يعي مدى فساد المنظومة التي تحكمنا وفظاعتها. أصبحنا في مرحلة نتساءل: لماذا لا نستطيع الحصول على الموز؟ إنه هنا، وما علينا سوى المضيُّ إليه. لنُفاجأ أنّ الموز مُفخّخ، وانفجر في وجهنا.

بعد تسعين يوماً في السّجن أخذوني إلى المحكمة حيث كان الجميع نظيفاً ومرتّباً، بينما كنت أبدو كرجل الكهف بشعري الطّويل الأشعث. تعاطف معي القاضي، وأطلق سراحي، وحين فكّوا قيودي، عدت إلى الحياة. نزلت الدرج، وكان الجميع في انتظاري، وأخذوا يقبّلونني حتى إنّي لم أعد أتمكّن من رؤيتهم لكثرتهم. أوّل ما فعلته بعد السّلام على أبي هو سؤاله إن كان أخي ما زال في المعتقَل، وتبيّن أنّه لم يخرج. كان ذلك مؤلماً لأقصى حد. كيف يتم الإفراج عني ويبقى هو هناك؟

توجّهنا إلى المنزل حيث كانت أمّي وخالتي وأخواتي الصغيرات في انتظاري في الشارع. حاولت أن أتماسك وأمسك دموعي، لكنّنا جميعاً بكينا. بعدها جاءنا الزوّار والمهنَّئون يومياً. الأسئلة نفسها دوماً، ماذا حدث لك هناك؟ وكيف عُذّبت؟ لم أقل كثيراً عن حقيقة ما تعرّضت له هناك، لأنّ الجميع كان لديه معتقل في الداخل، ولم أرغب في زيادة مآسيهم.

عدتُ بالتدريج إلى نشاطي السّابق مواجهاً معارضة أمّي الشديدة لقراري، لكنّني قلت لها إنّ من واجبي الخروج من أجل أخي.

كانت أمور كثيرة قد تغيرّت، ولم تعد أعداد كبيرة من الناس تخرج للتظاهر بسبب قمع النظام. لذا كان علينا بذل جهد كبير لتحريضهم مجدّداً نحو التحرُّك. قمنا بتوزيع المنشورات، كنّا نُلقيها ليلتقطها النّاس ونمضي. أو نُطلِق البالونات في السّماء، كما كنّا نُلصق صور المعتقَلين في كلّ مكان، ونكتب أنّ هذا الشخص اعتُقِل لأنّه طالب بحرّيّتك.

وذات يوم وقعتُ في يد قوّات الأمن من جديد، رموني في السيّارة وأخذوني إلى فرع المخابرات. استمرّوا في ضربي طول الطريق وهم يقولون: «كنتَ معتقلاً وخرجتَ واستمرّيتَ بالتظاهر؟ ألم نلقّنك درساً؟». عادتْ إليّ ذكريات الاعتقال كلّها. حين اعتُقِلت أوّل مرّة لم يكن لديّ أدنى فكرة عمّا ينتظرني، بينما في الثانية بات الأمر أصعب بكثير عليّ، لأنّني كنت أعي تماماً ما الذي ينتظرني.

استمرّوا في ضربي لأربعة أيّام، وبعدها فجأة قال الضابط: «هذا يكفي يمكنك الذهاب»، عدتُ إلى المنزل وأنا غير مصدِّق لما جرى. بعد أيّام رأيتُ سيّارات الأمن قرب منزلي، استطاع أحد أصدقائي عبر معارفه التوصُّل إلى أنّهم كانوا يراقبون منزلي منتظرين أن يزورني أصدقائي ليلقوا القبض عليهم. وفي حال لم تنجح الخطّة سيلقون القبض عليّ مجدّداً.

كانوا يستخدمونني كطعم لصيد السّمك. أرسلتُ إلى أصدقائي أنّ عليهم الابتعاد عن منزلي، وبعدها غادرتُ إلى لبنان. كان كل ما قمت به هو دفع رشوة على الحدود فسُمح لي بالعبور.

بلال، طبيب (حرستا)

لا نستطيع رؤية شيء هناك من تحت الأرض، كنّا نعلم بحلول الصّباح حين يتبادل العساكر النوبات، ولا يمكننا معرفة اللّيل من النّهار بغير ذلك.

كنّا ثمانين شخصاً في الزنزانة، ولأنّنا تُرِكنا بلا غذاء تحوّلنا جميعاً إلى هياكل عظمية. كنّا جميعاً مرضى على الدوام، وأُصِيب الجميع بالتهابات في العين. بصفتي طبيباً كنت أحاولُ تقديم المساعدة قدرَ الإمكان، لكنّ الأمر كان مستحيلاً، لذا كنت أطلب منهم أن يغسلوا عيونَهم بالماء جيّداً عندما يحين دورهم في الذهاب إلى الحمّام.

كان السجناء يحترمونني، لذا كانوا يُجلسونني بالقرب من البوّابة حيث أستطيع التنفّس قليلاً ورؤية خيط من الضوء القادم من الممرّ. كانت زنزانتُنا قريبةً من زنزانة النّساء، وكانوا أحياناً يأتون من أجل فتاة معيّنة وينادون باسمها واسم مدينتها. كنّا نعلم أنّهم يغتصبونها لأنّهم كانوا يستدعونها دوماً خلال مناوبة ضابط معيّن. كنت أتمكّن من رؤيتها عبر النافذة الصغيرة في الباب. كان عمرها حوالي ستّة عشر سنة، وبدتْ مريضةً وحالتها مزرية. كانت ترتدي حجاباً، لكنّهم كانوا ينزعونه عنها.

كان معنا في الزنزانة شاب يدعى يوسف. كان يبكي كثيراً من دون أن يخبر أحداً شيئاً. وبعد مضي ثلاثة أو أربعة أشهر أخبرنا أخيراً بقصّته. كان يوسف يعمل سائقاً لدى بلديّة دمشق، وفي الليل يطلبون منه حفرَ الأرض في منطقة قريبة من المطار. وبعد قليل تأتي سيّارة محمّلة بالجثث، كانت مهمّة يوسف رميهم في الحفر ودفنهم مع بطاقاتهم الشخصية حتّى لا يعلم أحد بهم ولا بما جرى لهم، هكذا يكونون قد اختفوا ببساطة. 

وذات مرّة كان يوسف يلقي بجثّة فتاة في الحفرة، وتحرّكتْ فجأةً، فأدرك أنّها ما زالت حيّة، فوضعها جانباً. بعدها جاء الضابط وقال له «ألقِ بها في الحفرة أو سأُلقي بك مكانها». لم يعد بوسعه فعل أيِّ شيء غير أن ألقى بها بالحفرة ودفنها. بعد تلك الليلة لاحقت يوسف الكوابيس، وحاول الهرب من عمله. أصبح مطلوباً من الدولة، واعتُقِل على أحد حواجز النظام. بقي معنا في الزنزانة لفترة قصيرة وبعدها أخذوه، لا نعلم إلى أين.

عمر، كاتب مسرحيّ (دمشق)

حين اعتُقِل والدي كان عمري خمسة وأربعين يوماً، وعندما خرج كنت في العاشرة. لطالما كانت علاقتي به متوتّرة، كان من الصعب عليّ كطفل استيعاب أثر الدّمار النفسيّ الذي يتركه السّجن على المعتقَل.

حتّى اعتُقِلتُ أدركتُ أنّ المعتقَل هو الجحيم بعينه. رعبٌ، وأيُّ رعب! لو كان هناك شيء يمثّل البشاعة على الأرض لكان ذلك الفرع الأمنيّ الذي اعتُقِلتُ فيه. كان الجوُّ حاراً جداً، وكنّا نرتدي سراويلنا فقط. عددنا كبير في الزنزانة لدرجة أنّنا ننام بعضنا فوق بعض، لا تستطيع معرفة جسدك من جسد غيرك. كان عليّ حمل جثّة واحدة على الأقل يومياً. كنّا نحن المعتقَلين حديثاً ما زال يغطّي عظمَنا بعضُ اللحم، لذا كانوا ينظرون إلينا ويقولون «أنت تعال وأنت وأنت»، نذهب معهم إلى الطّابق السّفلي حيث الجثثُ ممدّدةٌ على البطون، والرُّؤوس داخل حفرة الحمّام العربيّ، وعلى الأجساد مكتوبة أرقامُ ملفّاتهم ومهاجعهم. كانت مهمّتنا أن نحمل الجثثَ ونضعها في سيّارة، أحياناً اثنتي عشرة أو ثلاث عشرة جثّة، وذات مرّة حملتُ أربعةً وحدي.

هناك أشياء لا تستطيع الكلمات إيصالها، مثل الرّائحة واصفرار الجلد، مثل التّعذيب والقتل، مثل الأطفال! يا إلهي كان هناك عددٌ كبيرٌ من الأطفال. لا أنسى ذلك الطّفل الذي كان عمره ست عشرة سنة، كانوا قد كسروا ظهره على «الكرسيّ الألماني»، وآخر عمره ثلاث عشرة سنة فقط واسمه محمّد، أذكر حين اقتادوه من وسطه قاومَهم ودفعَ نفسه إلى داخل الزنزانة وهو يبكي ويمسك بطني ويصرخ «ماما». كان يظنّني أمه.

أكثر ما تشعر به في المعتقَل أمران: القنوط واليأس. القنوط لأنّك تجرّدتَ من كلّ شيء فجأة، خسرتَ كل شيء حتّى آدميّتك، تشعر كأنّك حيوان. أمّا اليأس فهو بسبب عدم إدراكك أو فهمك للخراب الدّائر حولك، أنت عاجز تماماً، وليس أمامك سوى الاستسلام لهم ليفعلوا بك ما يريدون. اليأس هو أن ترى أحدهم عاد من التحقيق مغطّى بدمائه، أن ترى غيرك معتقلاً لثمانية أشهر ولم يسألوه سؤالاً واحداً، كان يتوسّل إليهم أن يحاكموه ويعدموه. اليأس أن تستيقظ في منتصف الليل على صوت أحدهم يلفظ أنفاسه الأخيرة، وحين تضرب الباب وتصرخ للحرّاس بأنّ أحدهم في الداخل يموت، يردّ العساكر «اتركه.. سننزله غداً إلى الحمّامات»، ولا تجد مكاناً للنّوم سوى فوق ركبتي هذا الميّت.

بعد خروجي من المعتقَل سألت أبي مرّة، كيف استطاع أن يصبح طبيعياً بعد أن قضى في السّجن كل تلك الفترة، نظر إليّ وقال «من قال لك إنّي عدتُ طبيعياً؟».

فؤاد، جرّاح (حلب)

اعتُقل أخو زوجتي عام 1982. كان منضمّاً إلى أحد الأحزاب اليساريّة، وقُبض عليه وهو يقرأ صحيفة الحزب. كان الابن الأكبر، وكان ينهي دراسته ليصبح طبيباً، لذا كانت العائلة كلّها فخورة به. أُفرِجَ عنه أخيراً عام 1997 بالنسبة إلى أبيه كانت حرّيّته بمنزلة هديّة من الله.

تعلّم اللّغة الإنكليزيّة والفرنسيّة في السّجن، وحين خرج أصبح مترجماً محترفاً. وبسبب ما حصل له تجنّب ابنه الأصغر الخوض في السّياسة نهائياً، وعمل مع أبيه في شركة التّرجمة. كان عمره نحو ست وعشرين سنة ويعيش في الطّابق الثّاني من البناء التي تعيش فيه أخته وزوجها وابنها في الطابق الأول منه، وكان ابنها طالباً في الجامعة.

في آب عام 2012 طرقت المخابرات باب بيت أخته، وفتح ابنها الباب، ودون أن ينطقوا بكلمة أخذوه ووضعوه في السيّارة وبعدها اقتحمت مجموعةٌ من قوّات الأمن المنزل، وفتحوا جميع الخزائن والأدرج، كما أخذوا الهواتف النقالة جميعها. سألوا المرأة عن أخيها فقالت لهم إنه يعيش في الطابق الثاني فوقهم.

صعد إليه بعض العناصر بينما بقي الضابط، بل جلس وشرب الشاي مع زوجها وصديقه وكانوا يشاهدون التلفاز. بعدها أخذوا زوجها وصديقه أيضاً. أخذوا الرجال الأربعة وسياراتِهم وقالوا «الوقت متأخّر، سيقضون بضع ساعات معنا في الفرع، ويمكنهم بعد ذلك المغادرة وحدهم».

اختفى الرّجال الأربعة منذ ذلك اليوم، ولم نسمع خبراً عنهم. حاولنا كثيراً، دفعنا مالاً، حاولنا الوصول لأي شيء دون جدوى.

عمر حميّ اليوم ثمانون سنة، بلغ منه الأسى مبلغه حتى أصبح بقايا إنسان. أمّا أخت زوجتي فرفضت مغادرة دمشق رغم محاولاتنا بإقناعها أن تقدّم طلب لجوء إلى أي مكان، لكنّها لم تقبل وأصرّت أن تبقى بانتظار زوجها وابنها وأخيها.