الفهرس

الفصل الأول: السلطة
الفصل الثاني: الخيبة
الفصل الثالث: الثورة
الفصل الرابع: القمع
الفصل الخامس: السلاح
الفصل السادس: الحرب
الفصل السابع: الرحيل
الفصل الثامن: العبرة

يتناول الفصل الثاني العقد الأول من حكم بشار الأسد من عام 2000 حتى 2010. كان حافظ الأسد قد هيّأ ابنه الأكبر باسل لوراثته، لكنّ موته بحادث سير عام 1994، نقل تطلعات الأسد لابنه الأصغر، طالب طب العيون في لندن. وعندما مات حافظ الأسد عام 2000، كان نجله المرتقب أصغر بست سنوات من السن المحدد في الدستور السوري لعمر الرئيس، وهو أربعون سنة. لذا قام البرلمان السوري بتعديل الدستور بما يناسب سن الرئيس المرتقب. وبعد أن أعلنه حزب البعث مرشحاً وحيداً عنه، فاز بشار بالانتخابات بنسبة 99.7 بالمئة!

رحّب عدد كبير من السوريين ببشار رئيساً جديداً، والذي روّج لنفسه كرئيس شاب يسعى للتطوير والتحديث. وشهدت الحياة السياسية السورية انفتاحاً سياسياً غير مسبوق عُرف بـ«ربيع دمشق»، حيث انطلقت في المجتمع المدني العديد من النقاشات والمنتديات، كما طُرحت مقترحات تطالب بحريات أوسع ودور أكبر للقضاء. بدا وكأن جدران الخوف والرعب بدأت تتداعى، إلا أن الحكومة لم تكن جاهزة للتغيير بعد، فشنّت حملة اعتقالات ومحاكمات للناشطين، وأغلقت المنتديات، وأصدرت بيانات تهديد ووعيد ممّا أطاح بالحركة الوليدة وإنْ إلى حين.

في تلك الآونة، فتحت الإصلاحات الاقتصادية النيوليبرالية البلاد على بضائع استهلاكية وفرص تجارية جديدة، وبدأت الطبقة الوسطى والغنية تتمتعان بتسهيلات غير مسبوقة. إلا أن إطلاق العنان للشركات الخاصة، والتحرير التجاري بلا محاسبة سياسية أو رقابة قضائية مستقلة، صعد بالفساد إلى أعلى مستوياته، فظهرت طبقة جديدة من الرأسماليين المحسوبين على النظام، وعلى رأسه آل الأسد، لفت ثراؤهم الفاحش الأنظار إليهم. ومع تعاظم السلطة والثراء في طبقة النخبة هذه، خسر النظام قاعدته من الطبقة العاملة، التي كانت تعاني من التضخم، والبطالة، والبنية التحتية المتداعية، بالتزامن مع خفض للإعانات والخدمات أدى إلى زيادة الفقر وإلى تفاوت طبقي هائل. كما أدى تجاهل الريف إلى خسارة النظام لدعم المجتمع الزراعي، والذي أخذ يعاني من أزمة جفاف أصابت مناطق واسعة من أقصى شمال البلاد إلى أقصى جنوبها بين 2006 و2010. النظام لم يحرك ساكناً لإنقاذ الوضع.

أصابت حالة مزمنة من اليأس الاقتصادي والتطلعات الخائبة أكثر من نصف السوريين والسوريات الذين كانوا تحت سن الرابعة والعشرين. وبسبب المحسوبيات، أصبحت نسبة كبيرة من خريجي الجامعات عاطلة عن العمل. أدى هذا الاحتقان إلى خروج الناس إلى الشوارع عام 2004 خلال إحدى المباريات في مدينة القامشلي ذات الأغلبية الكردية، حيث بدأ الجمهور يهتف بشعارات مناهضة للدولة وتحولت المباراة إلى مظاهرة كردية.

تحولت المظاهرات الحاشدة إلى أعمال شغب إلى أن اقتحمت قوات الجيش المدينة بالدبابات والمروحيات وقتلت العشرات لتضع حداً للاضطراب الأمني.

رغم شعبية بشار الأسد خلال فترة حكمه لعقد كامل، إلا أن أوضاع الكثير من السوريين كانت تزاد سوءاً. قلة ممن كانوا يطمحون لحريات مدنية أكبر، وقضاء عادل، ومحاسبة حكومية، وفرص اقتصادية عادلة تجرؤوا على الصدح بمطالبهم. كان الحلم بالحرية بالنسبة لمعظم الناس فكرة غبية، أما السعي لها فكان ضرباً من الجنون.

عبد الناصر، مدير (دوما)

استلم بشّار الحكم، وقال إنّه ديمقراطيّ ومختلف عن أبيه. لم نصدقه أنا ولا غيري من المهتمّين بالسياسة، وكنّا نعلم أنّه يكذب، لكننا لم نرغب في أن يذكر التاريخ أنّ السوريين فوّتوا فرصة للتغيير ولم يغتنموها.

يقول جان جاك روسو: «الحرّيّة تُؤخَذ ولا تُعطَى». تلك الفرصة كانت «ربيع دمشق».

جارَينا كلّ الكذب الذي كرّره علينا وحفظناه، وأنشأنا مجموعةً أطلقنا عليها «منتدى» كواحة للنقاشات والمناظرات. بدأنا بالخوض في أمور مهمّة كالتعليم والأمّيّة والعلاقات اللّبنانية السّورية وحرّيّة النّشاط السياسي…

كنا نلتقي في منازلنا الخاصّة، ويلقي أحدنا محاضرة، وبعدها نجلس ونتحدّث. لم نكن نحصل على موافقة رسميّة من الحكومة، لكنّنا كنا نُخبر حزب البعث باجتماعاتنا، وندعو أعضاءه إلى حضورها، لكنّهم كانوا يرفضون… 

صبرَ علينا النظام لفترة وجيزة قبل أن يبدأ بالقلق. بدأ عدد حضور المنتدى من طلّاب الجامعات يزداد، فأصبحنا في نظر النّظام نسمّم عقول الأجيال الشّابّة. وفجأةً أوقفونا واعتبرونا جواسيس، وألقوا بنا في السجن. لاحقتني سيارات الأمن أنا وزوجتي، وبعدها اقتحموا منزلي في الخامسة والنصف صباحاً، واعتقلوني.

حاولنا مرّة أخرى بعد خروجنا من السّجن. كنا مجموعة من المثقّفين والمعارضين الذين وقّعوا على وثيقة أطلقنا عليها اسم «إعلان دمشق»، أكّدنا فيها حرصنا على إصلاحات تدريجيّة وسلميّة، لأنّنا لا نريد أن تنزلق البلاد نحو حرب.

اعتقل النّظام الجميع للمرّة الثّانية، وهذه المرّة تمكّنْتُ من الهرب والاختباء. أثبت ذلك كله أنّ نظام الأسد لم يتغيّر ولن يتغيّر. طرائق التعذيب هي ذاتها، والمخابرات هي ذاتها، والحكومة هي ذاتها. نظام حافظ الأسد بقي مستمراً بعد موته لكن بوجه جديد.

فراس، مهندس كمبيوتر (حلب)

بدأتُ نشاطي السياسي في جامعة حلب عام 2000 في شهر تشرين الأول، تماماً بعد ثلاثة أشهر من تولّي بشار الأسد الحكم. نظمنا اعتصاماً ضد العنف الإسرائيلي الممارَس على الفلسطينيين. قبل ثلاثة أيام من اعتصامنا، نظم حزب البعث اعتصاماً أيضاً ضد العنف الإسرائيلي، لكنّنا لم نشارك فيه. نحن نؤمن بالقضيّة ذاتها، لكن لا ندعمها على طريقة النظام. شارك في اعتصامنا ما يقارب 300 طالب، عطّلنا السيرَ لمدّة ساعتين بمنظر أدهشَ الجميع. كنّا نريد أن نختبر قدرتَنا على تحريك النّاس، كما أردنا اختبار ردّة فعل النظام تجاه الاعتصامات. وبالفعل حصل ما كان متوقّعاً: استدعانا قياديون في الحزب إلى مكتبهم في الجامعة في اليوم التالي. فهموا ما كنّا نحاول فعله، وكانت رسالتهم لنا واضحة: في هذا البلد لا يمكن القيام بأيّة مبادرة سياسيّة إلّا بإشراف الحكومة والحزب.

استمرّت مجموعتنا في العمل بشكل سريّ، ونظمنا اعتصاماً مفتوحاً ضدّ الحرب الأميركية على العراق في آذار عام 2003. عملْنا مع مجموعة رائعة من المجتمع المدني، كانت تضمّ سوريين وطنيين وشيوعيين وشباباً كرداً، كما كان فيها أشخاص من الحركة الإسلامية. كنّا جميعاً نجلس على بطانيّات نمدّها على الأرض، ونستمع إلى أغانٍ ثوريّة ونرفع شعارات. كنّا جميعاً نجلس من الصباح حتى المساء، وبعضنا كان ينام هناك ليلة. وفي إحدى الليالي، حين كنتُ ذاهباً إلى مكان ليس بعيداً لجلب الطعام، سمعت ضجّة عارمة؛ مئات كانوا يهاجمون موقع اعتصامنا ويحطّمون كلّ شيء. علمْنا بعد بضعة أيّام أنّهم من حزب البعث، وأنهم قاموا بمهاجمتنا لأنّنا نظمنا الاعتصام دون إشرافهم.

في عام 2004 أصدر بشار الأسد مرسوماً بإلغاء قانون قديم يضمن وظائف حكومية لخريجي الهندسة حديثاً. بالنسبة إلينا كان المرسوم بمنزلة فسخ عقد بين الحكومة والطلّاب. لذا قمنا بحملة توعية لمدّة عشرة أيام نشرح للطلّاب حقوقهم، وحضّرنا مظاهرة ضد المرسوم. كنّا ما يقارب 1000 طالب في المظاهرة، محاطين بقوى الأمن والمخابرات العسكريّة، وبالطبع لم يغب حزب البعث.

اعتُقل 100 طالب، وطُرد من الجامعة 89 آخرون. حاولنا إحياء جهودنا مرّة أخرى والتعاون مع طلّاب جامعة دمشق. ثلاثة من مجموعتنا ذهبوا إلى دمشق للاجتماع مع طلاب نشطاء في المجتمع المدني. لكن اتضح لاحقاً أنّ المخابرات كانت على علم بالأمر، فاعتقلتهم جميعاً. توقّفت مبادراتنا عند تلك النقطة. أدركنا أنّ الظروف لا تلائم نوعيّة العمل الذي كنّا نقوم به. كان علينا التفكير في طرائق جديدة للتعامل مع النظام.

محمد، معلم (جوبر)

درستُ الأدب الإنكليزي في الجامعة. كانت صديقتي ابنة وزير الماليّة، وقد أخبرتني مرّة أنّ والدها بحاجة إلى مترجم، وفجأة وجدت نفسي في قلب حكومة الأسد، أرى عن قرب كيف تُدار البلد. مهمّتي بشكل عامّ كانت مع بعثات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. كنت أحياناً أتلقّى أمراً خاصاً بأن أصحبهم في جولة في دمشق، وأضيّع وقتهم. كان واضحاً أنّ الحكومة لا تريد التخاطب معهم بشكل جدّي. في أحد الاجتماعات، تلقّى الوزير اتصالاً من الأسد الأب، وأخبرنا أنّ الرئيس طلب منه تعيين سبعين ألف خريج جامعي شاب لديه. حافظ الأسد كان يعلم أنّه لو ترك هؤلاء في الشوارع بلا عمل، سيتظاهرون ضدّه. فحلّ تلك المشكلة عبر توظيفهم في الدولة. ليس عليك أن تكون محلّلاً اقتصادياً لتعلم أنّ هذا الحلّ لن ينفع، لأنّ الدولة أصلاً كانت متضخّمة.

كبرت المشكلة يوماً بعد يوم، وكان لا بدّ من لحظة انفجار.

استلم الأسد الابن السلطة، وحظي بدعم الغرب، لكنّه لم تكن لديه فطنة أبيه. بنى الأب النظام، وحفظ كلّ زاوية فيه، وكانت لديه مهارة جمْع النّاس معاً. أمّا الابن فلم يتربَّ في كنف النّظام. لقد درس الشابّ ليصبح طبيب عيون في لندن، وفجأة وجد نفسه رئيساً للبلد.

سمع الأسد الابن من مستشاريه حين قالوا له أن الاشتراكيّة ولّت، وأن عليه الخصخصة، فالمستقبل هو للرأسماليّة. كلام جميل، لكنّ المشكلة أنّ سوريا أصبحت فجأة مملوكة لعائلتين وأصدقاء هاتين العائلتين، وصارت الحصص والأسهم تُوزَّع بحسب القُرب من عائلة الأسد. فجأة انتشرت في سوريا أجهزة خلوية، لكن شبكة الاتصالات كانت مملوكة لرامي مخلوف، ابن خالة بشار. لم يعد هناك توزيع عادل لمنافع الاقتصاد، والمصلحة العامّة أخذت تسقط في الحضيض. امتلأت المدن بالفلّاحين بعد أن أُصيبَتْ بعضُ القرى بالجفاف، وكثرت العشوائيّات حول دمشق. لم تعد الدولة تستطيع تغطية احتياجات النّاس.

ذات مرة، عام 2006، دخلت بسيارتي إلى الكراج، وفجأة ظهر أمامي طفل، ورمى بنفسه على السيارة، وفي لمح البصر ظهر رجال الشرطة. لم يتأذَّ الطفل لأنّ السيارة لم تكن مسرعة. الشرطة كانت تعلم ذلك، قالوا لي: «انظر.. هي مسؤولية الطفل، لا تقلق، سنساعدك، لكن علينا أخذه إلى المستشفى». أخذنا الطفل إلى المستشفى، وقمنا بعمل صور شعاعيّة له واتّضح أنّ جسمه مليء بالدعائم المعدنية. كانت الصفائح موزّعة هنا وهناك في جسده الصغير، كلّها من جرّاء حوادث سابقة، ولم تصدّق الممرضات كيف نجا من ذلك كلّه.

جاءت الشرطة معي إلى المستشفى، وبعدها ذهبنا جميعاً إلى المركز. قالوا لي: «علينا إنهاء الأمر». هل تعلمين كم المبلغ الذي طلبوه مني؟ ما يعادل 100 دولار، وقاموا بتقسيمها بينهم. حتى في مركز الشرطة، الجميع مشترك في الخطّة ويريد حصته. أخذ الطفل حصّته أيضاً. وقلت له: «لِمَ لمْ تطلب النقودَ منّي مباشرة؟ لم يكن عليك فعل ذلك كلّه والمخاطرة بنفسك». كان واضحاً للجميع مدى البؤس الذي وصلوا إليه.

كلّ ذلك كان نتيجة لما فعله الأسد الأب، عندما وضع عبء أولئك الموظفين على كاهل الدولة وأعطاهم رواتب مرتفعة. هل عليّ لوم الشرطي الذي لا يزيد راتبه عن 100 دولار؟ أثْرت عائلة بشار بعد أن توقف الانسياب الاقتصادي، فتجده وزوجته يرتديان أبهى الملابس ويذهبان إلى هنا وهناك مثل الملوك.

كان يعتقد أنّ الجميع يحبّه، وأنه ليس لديه أيّة مشكلة. لم يكن لديه أدنى فكرة عن أي شيء.

آدم، منسق إعلامي (اللاذقية)

يقولون الطبابة مجّانية وللجميع، لكنّها في الحقيقة سيّئة للغاية. لذلك إذا احتجت إلى رعاية صحّيّة جيّدة عليك أن تدفع. كانت الجامعات أيضاً مجّانية، لكن تغيّر ذلك على زمني، فحين دخلتُ الجامعة كان عليّ أن أدفع رسوماً. التعليم كان سيّئاً أيضاً؛ درستُ الاقتصاد وإدارة الأعمال لكن لم أتمكّن من حضور المحاضرات بسبب الازدحام الشديد وعدد الطلاب المهول مقارنة بحجم القاعة.

ذهبت إلى قاعة المحاضرات في السنة الأولى. كانت تتسع ما يقارب 500 طالب، لكن حين رأيت قائمة التسجيل وجدت أنّ عددنا 3 آلاف طالب في السنة الأولى. قاموا بتسجيل هذا العدد الكبير بهدف الحصول على الرسوم. لم تكن لدى النظام نيّة لإصلاح الجامعات الحكوميّة. لذا سمح بافتتاح جامعات خاصّة تُكلّف رسومُها آلاف الدولارات. زادت الهوّة بين الأغنياء والفقراء، ممّا عقّد كل شيء بعد ذلك.

وائل، خرّيج جامعي (داريا)

تتعرّض للإذلال من موظفي الدولة في حال أردتَ استخلاص أيّة ورقة من الحكومة أو إجراء أيّ أمر حكومي. يعاملونك بازدراء إن لم تكن عضواً في حزب البعث. كان يطلب منّي أبي دوماً الانضمام إلى الحزب للحصول على وظيفة بسهولة، لكنّني كنت أردّ عليه أنّ الحصول على الوظيفة صعب في كل الأحوال.

أذكر أنّي كنت في السوق مع أمّي، وسقطت مني هوّيتي دون أن أنتبه، فتوجّهنا إلى مركز الشرطة، وبلّغتهم بالأمر. قال لي العسكري إنّ فرع الأمن السياسي سيتواصل معي. بعدها تواصلوا معي بالفعل، وطلبوا مني الحضور إلى مكتب الفرع لأنّ المخابرات تقوم بالتحقيق في قضية ضياع بطاقة هويتي. ذهبتُ برفقة أبي، دخلنا إلى الغرفة وألقينا التحية على الضابط الشاب، والذي قد يكون أبي بعمر أبيه. كان يرفع قدميه على المكتب في وجهنا. أخذ أبي يقول له «الله يحفظكم ويحميكم، أنتم من تحمون بلدنا».

سألني الضابط ماذا أدرس، وأين أعمل، وكم عدد أخواتي وإخوتي، وخالاتي. سأل أيضاً إن كان أحد أقاربي قد سافر خارج البلد، أو إن سبق لي السفر خارجاً.

كان يعلم إجابات كلّ ما سألني عنه، لكنه استمرّ في السؤال: «هل تستخدم الانترنت؟ ماهي المواقع التي تزورها؟ هل تصلّي؟».

بعدها سألني: «هل أنت عضو في الحزب؟».

أجبتُ: «نعم، أنا عضو عامل في الحزب»، وتلك رتبة أعلى من العاديّة في الحزب. هنا بدأ أبي بركلي من تحت الطاولة، ورمقني بنظرة المصدوم من كذبي. اعتقدت أنني بهذه الكذبة سأحصل على بطاقة هوية جديدة.

لكن الضابط سألني: «عضو عامل! في أيّ شعبة أنت؟».

أجبت: «في شعبة ريف دمشق».

بعدها سألني عن رقمي الحزبي، وقلت له «نسيته».

قال: «نسيت رقمك الحزبي! حسناً.. متى كانت آخر مرة حضرت فيها اجتماعاً للحزب؟».

قلت له من ثمانية أشهر، وأخبرته أنّنا اعتدنا أن نجتمع كلّ خميس للحديث عن إنجازات الاقتصاد السوري وأمور من هذا القبيل. «من رئيس شعبتك؟» قلت له اسمه فلان الفلاني. كنت أعرف الاسم عبر أصدقاء لي يحضرون اجتماعات الحزب.

رفع الضابط سماعة الهاتف واتصل بأحدهم وقال: «لدي هنا شاب يدّعي أنّه عضو عامل في الحزب، أريد رقمه الحزبي». المرأة التي كانت في الطرف الآخر من الخط بحثت عن اسمي ولم تجده في قوائمهم. أخفض سماعة الهاتف وقال لي: «أنت كاذب».

أصررْتُ على كذبتي، وطلبْتُ منه أن يتصل بأحد أصدقائي في الحزب ويسأل عنّي. كنت متأكّداً أنّ أًصدقائي سيجارون كذبتي. قلت له: «أنا عضو عامل في الحزب، اسأل أصدقائي، الجميع في الحزب يعرفني!».

قال للمرأة على الهاتف إنّي غبي «مو عرفان وين الله حاطه».

هنا بدأت أتصرف بغباء أكبر. قلت: «أنا في الحزب، وحضرت ذلك الاجتماع، وحصلت على هذه الرتبة، وناقشنا في الاجتماع أموراً عدة».

ضحك الرجل وهو يحكي عن مدى غبائي. كنت أقول لنفسي مهما حصل سأستمرّ في كذبتي. كنت أعلم أن كلّ شيء يمكن حلّه ببعض المال في النهاية، ومن الممكن أن يبيع أبي سيارته لإنقاذي إذا اضطره الأمر.

أخرج أبي سيجارة وأشعلها للضابط، وشكره على «الأمن والرخاء» الذي نعيش به في سوريا بفضل جهودهم.

أخيراً أمرنا الضابط بالمغادرة، قبل أن يبدأ أبي الصراخ في وجهي وتأنيبي. قام بعد ذلك بالاتصال بأحد أصدقائه في حزب البعث، وقال له صديقه: «لا تقلق، سأسجّله في الحزب، ليس كعضو عامل فقط، بل برتبة أعلى بعشر سنوات».

يبدأ الفساد من الأعلى ثم ينزل للأسفل، فيطال الجميع.

حمودي، خريج هندسة (حلب)

لا أذكر أحداً من زملائي يقول إنه يريد أن يصبح رئيساً، أو رئيس وزراء، أو أي شيء من هذا القبيل. لم تكن لدينا أحلام كبرى. كان الطفل بالكاد يحلم بفتح متجر صغير أو شيء من هذا القبيل. فما هو المستقبل الذي كنا سنحصل عليه؟ مئات المتاجر!

هذا الطفل الذي تربى على الحلم بالمتجر يشاهد أمامه طفلاً على طريقه ليصبح عالم صواريخ. سيشعر أنه لا شيء، وسيقاتله. النظام شجّع ذلك. لم يكن يتحكم بالموارد فحسب، بل كان يعلّم الناس أن يكونوا خصوماً لبعضهم.

هذا ما شعرت به خلال دراستي الجامعية. كان لدي شغف كبير بهندسة الرياح، وقمت بتصميم عنفة رياح في مشروع تخرّجي. كانت عنفة صغيرة، لكن الأولى من نوعها في تاريخ جامعة حلب. وقد استغرقت مني ثلاثة أشهر من العمل الدؤوب، وكنت فخوراً بذلك.

أخبرني أستاذي أني سأحصل حتماً على أعلى علامة. لكنّ طالبين حصلا على نفس العلامة. لم يقوما بأي شيء، لكن صدف أنهما كانا على علاقة وثيقة بالهيئة التدريسية.

كان الأمر محبطاً ومؤلماً. كان لدينا الكثير من الأذكياء الذين يعملون بجد في سوريا، لكن لم يكونوا يجدون تقديراً يُذكَر. لم يساعدهم أحد على تحقيق أي شيء.

مسعود، ناشط (القامشلي)

تبنّت الحكومة سياسة «الحزام العربي» في الستّينات لتغيّر التركيبة السكانية في المناطق الكردية. كان الهدف تعريب السكّان وتغيير أسماء المدن والقرى الكردية إلى أسماء عربية. أصدر نظام البعث قانوناً ينفي عن الأكراد حقّهم في الحصول على بطاقات الهويّة الشخصية. حتّى جدّي الذي خدم في الجيش السوري سحب النّظام منه الجنسيّة السورية. لم يكن جدّي ولا كثر مثله يملكون أيّة أوراق تثبت أنّهم سوريون. وهو ما ساعد النظام في تعريب مناطقهم.

بعض الأكراد حصلوا على بطاقة هويّة وأوراق ثبوتية، وآخرون لم يحصلوا عليها. كان الأمر عشوائياً. أخي مثلاً يملك بطاقة هويّة، أي يعتبر مواطناً، بينما أنا لا أملكها.

أنا من ضمن 400 ألف كردي تقريباً بلا بطاقة هوية. المشكلة الكبرى التي نواجهها أنّنا لا نستطيع امتلاك شيء. سجّلت عائلتي منزلنا باسم عمّي، الذي شاءت الصدفة أن يحصل على الهويّة السورية، بينما مستودع أعمالنا كان باسم عمّي الآخر، والسيّارة باسم شخص ثالث، وهكذا. كنا في حاجة إلى موافقة من الأمن السياسيّ وأمن الدولة للمبيت في فندق، مثلاً. كُنّا نُعامَل باحتقار في الجهات التي نستخرج منها تلك الموافقات، لذا كنت أكره السفر.

نادر، ناشط (رأس العين)

قامت الانتفاضة الكرديّة عام 2004 حين كان عمري خمس عشرة سنة. خرجنا للتظاهر، وكانت تلك بداية مرحلة جديدة خلقت داخلنا وعياً. رحنا ننظّم التجمّعات ونناقش مسائل عدّة تهمّنا. تجرّأ الناس على الحديث عن وضعنا ككرد. بعد عام من الانتفاضة، قمتُ مع مجموعة من الشباب بإنشاء مكتبة سرّيّة تحوي كتباً تحكي عن الثّقافة الكرديّة. كانت تلك الكتب ممنوعة، لكنّنا كنّا نتداولها بين بعضنا في السرّ، نخبئها تحت ستراتنا ونتبادلها ليلاً.

موسى، أستاذ جامعي (حلب)

كان الجميع يشعر بالظلم بسبب التفرقة الطائفية في التوظيف. حمص، مثلاً، مدينة مختلطة ذات أكثريّة سّنّيّة، إلا أنّ معظم الموظفين الحكوميين من الطائفة العلوية. وفي حلب، التي لا يوجد فيها علويّون، معظم الوظائف يشغلها علويون. لو توظّف هؤلاء على أساس الكفاءة، لا بأس، لكن ماذا يعني أن صاحب مؤهّلات عالية لا يحصل على وظيفة، بينما يحصل عليها آخر من طائفة أخرى بسبب واسطته ومعارفه؟

كان هناك شعور دائم بالظلم، وقد زاد بعد التغيرات الاقتصاديّة. توقع الناس توظيفاً أوسع وازدهاراً للجميع، لكن التحول نحو اقتصاد السوق زاد من ثراء طبقة اجتماعيّة معيّنة على حساب طبقات أخرى. كان لرجال الأعمال والضبّاط الكبار المقرّبين من النظام فرصة ثراء سريعة، ليس بمجهودهم أو قدراتهم بل بسبب علاقاتهم القويّة مع السلطة.

تولى رجال الأعمال الصاعدون تعهّدات لمشاريع أخلّت بالعديد من العلاقات والتقاليد الاجتماعية. في حمص مثلاً تعيش طوائف عدة في حالة من الانسجام، لكن هؤلاء أتوا وطرحوا مشروعاً جديداً اسموه «حلم حمص»، والذي هدف حينها إلى هدم حمص القديمة. حاولوا إقناع المُلّاك ببيع منازلهم بالترهيب تارة وبالترغيب تارة أخرى. كان لتلك المشاريع بُعد طائفي بسبب تفكيكها للبنية التاريخية للمدينة. تكرّر الأمر في مدينة حلب، حيث هُدّمت المباني القديمة المحيطة بالقلعة، وتحوّلت إلى أماكن سياحية. حلب مدينة محافِظة، وكان للكثير من تلك المباني أهميّة دينيّة.

الفقر كان يرتفع طوال الوقت. كل تلك العوامل تراكمت خلال عشر سنوات من حكم بشار الأسد. الفقير أصبح أفقر، والشعب زاد غضبه يوماً بعد يوم.

أنس، طبيب (الغوطة)

كان الفساد يتفشى أكثر فأكثر، حتى بات علينا دفع الرشوة لنتمكّن من السّفر لتأدية فريضة الحجّ في مكّة! نعم، كان ثمة فساد في السابق، لكنّه وصل إلى حدّ استولى على شيء، فيما كل شيء يسوء أكثر فأكثر حتى فاض الكأس بالناس. كانت هناك مشاكل كثيرة يعاني منها البلد إلى حدّ مثير للسخرية. كان يجب أن يخرج أحد ويقول «لا» ببساطة.