لم يكُن في مخيّلة الأخوَين السوريَّين، هاني ومحمد عمران، أن تَسوْقَ لهما الأقدار الهجرةَ إلى الصومال. لم يُفكرا يوماً أنهما سيكونان في بلد يبعد عن موطنهما آلاف الأميال، لكن ظروف الحياة الصعبة في سوريا أجبرتهما على اتخاذ هذا الخيار. لم تكن  رحلة الأخوين عمران إلى الصومال محلَّ ترحيبٍ لدى أصدقائهما أو أقربائهما في سوريا، ومع ذلك اختارا تلك المغامرة، حسب تعبيرهما. 

عند وصولهما إلى مقديشو بدأَا البحث عن العمل والوظيفة لتدبُّر وضعهما المادي، وسرعان ما وجدا ضالتهما هناك، إذ عمِلَ كلٌّ منهما طبّاخاً في إحدى مطاعم مقديشو، ما جعل حياتهما تستقرُّ مادياً إلى حدّ كبير، في بيئة مختلفة تماماً عن سوريا التي عاشا فيها منذ الصغر. 

يقول هاني: «لقد عشنا تجربة صعبة في البداية بسبب اختلاف الثقافات والعادات بين البلدين، لكنني مسرور بالترحيب الواسع الذي قدّمه لنا الإخوة الصوماليون لدى وصولنا إلى مقديشو». أما محمد فقد عبَّر عن سعادته بالعيش في بيئة تختلف كثيراً عن بلده الأم: «كأي مواطن هُجّر من بلده، أشعر أنني في الغربة بعيدٌ عن أهلي ووطني وهذا يؤلمني كثيراً، ولكن مع هذا لن أُخفي عليك سعادتي الغامرة بتواجدي هنا في مقديشو». 

ورغم أن الأخوين سمعا عن مخاطر الحياة في الصومال، التي تُستخدَم كمضرب مثل عن الدولة الفاشلة، لم يأبَها لتلك التحذيرات وقرّرا الهجرة إلى الصومال بحثاً عن حياة أفضل، مثلهما مثل غيرهما من السوريين الذين قصدوا أماكن أخرى من العالم.

في ضيافة الجالية السورية في مقديشو

صباح الخير من مقديشو. أتوجَّهُ إلى مكتب الجالية السورية في حي هدن في مقديشو لمقابلة الدكتور محمد عبد الحميد صالح، رئيس الجالية، مستقلاً «بجاج» (التوكتوك)، وهو وسيلة النقل الأكثر شيوعاً في مقديشو. التنقُّل في مقديشو ليس سهلاً نتيجة الظروف الأمنية، ويوجد في كل مكان سيارات عسكرية وجنود مدجّجون بأسلحة رشاشة على طول الطريق. يَشيعُ أن تصطدم عينُك عند التجوّل بمنظر حاويات مملوءة  بأكياس رمل، بالإضافة إلى حواجزَ خرسانية ثقيلة في تقاطعات المدينة، ما يجعل مقديشو تبدو وكأنها مدينة أشباح.

«الجالية السورية»، التي أقصد مكتبها، عبارة عن لجنة إدارية مكوّنة من رئيس الجالية ونائب المدير، بالإضافة إلى سكرتير اللجنة وأعضاء آخرين. شكَّلت الحكومة الصومالية والأمم المتحدة هذه اللجنة الإدارية بتاريخ أواسط تشرين الأول (أكتوبر) عام 2021. ومن أهم أسباب تشكيل مكتب الجالية السورية في مقديشو، بحسب وثيقة صدرت من الحكومة الصومالية: «تسهيل التنسيق ونشر المعلومات المتعلقة بالجالية السورية، والتعاون مع المنظمات الحكومية وغير الحكومية العاملة في قضايا اللاجئين السوريين، وذلك بسبب غياب تمثيل رسمي للسلطات السورية في الصومال».

مكتب الجالية السورية في مقديشو

تقوم الجالية السورية بمهام عدة، من بينها مساعدة اللاجئين السوريين المُقيمين في الصومال والتنسيق مع السفارات العربية، بالإضافة إلى الدعم الطبي والقانوني للسوريين. تُنظِّم الجالية أيضاً أمسيات شعرية وأدبية وفعاليات لتعريف الصوماليين بالثقافة السورية. وهناك تنسيقٌ دوريّ بين الجالية السورية ومفوضية اللاجئين والنازحين التابعة لوزارة الداخلية، حسب تصريح رئيس الجالية، ويتم تمويل الجالية السورية من قبل أعضاء الجالية بالإضافة إلى المنظمات الدولية، مثل المفوضية السامية لشؤون اللاجئين، ومنظمة الهجرة الدولية.

تاريخ تواجد السوريين في الصومال 

يعود تاريخ تواجد السوريين في الصومال إلى حقبة الحكومة العسكرية السابقة، بزعامة محمد سياد بري، في بداية السبعينيات من القرن الماضي. كانت الجالية السورية تقطن في كثير من أحياء العاصمة، كما أكد لنا  رئيس الجالية السورية في الصومال، الدكتور محمود عبد الحميد صالح، في حديثه مع الجمهورية.نت: «التواجد السوري في الصومال يعود إلى أيام حكومة سياد بري، حيث كانت هناك علاقة وطيدة بين الصومال وسوريا، وكان لسوريا تواجدٌ دبلوماسي رفيع، والسفارة السورية كانت في منطقة زوبي في مقديشو …كانت سفارة كبيرة تأخذ مساحة واسعة في قلب العاصمة الصومالية»، ويتابع الدكتور صالح: «تواجُد السوريين ليس في مقديشو فقط، بل في جميع مناطق الصومال، حتى في هرجيسا في صومالاند».

لم تكن العلاقة بين الصومال وسوريا دبلوماسية فقط، حيث كان بينهما تعاون عسكري، فأيام حافظ الأسد شاركت كتائبُ من القوات الصومالية في حرب تشرين 1973. وزار حافظ الأسد الصومال خلال تلك الفترة، حسب الدكتور صالح.

يُقدِّر مكتب الجالية أن عدد السوريين المقيمين في الصومال يتجاوز الـ 20 ألفاً، معظمهم يعيش في العاصمة مقديشو، بينما آلافٌ آخرون ينتشرون في الأقاليم الصومالية الثمانية عشر. وبحسب تصريحات رئيس الجالية السورية في الصومال فإن السوريين وصلوا إلى الصومال في فترات مختلفة، يرى أنها تتركز حول ثلاث مراحل أساسية: المرحلة الأولى كانت في السبعينيات من القرن الماضي، حيث كان تواجد السوريين أكبر بكثير من الوقت الحالي، وبعد انهيار الحكومة الصومالية 1991، نزحت آلاف العوائل السورية التي كانت مُقيمة في الصومال، ولم يبق إلا عدد قليل. أثناء بحثنا عن تاريخ تواجد السوريين في مقديشو تمكّنتُ من زيارة أحد الأحياء القديمة في العاصمة مقديشو، وقيل لي أن هذه البنايات القديمة تعود للسوريين الذين كانوا المقيمين في مقديشو آنذاك، حسب شهود من تلك المنطقة.

المرحلة الثانية لهجرة السوريين إلى الصومال كانت مع بدء خروج اللاجئين السوريين من سوريا بعد 2011، وكانت هذه الهجرة مُقتصرة على أصحاب المهن وذوي الكفاءات العلمية، كما يقول عبد الحميد صالح: «الهجرة الثانية كانت بعد الحرب في سوريا، وبدأ استقطاب السوريين ذوي الكفاءات المتعددة،  خاصة في المجالات الطبية مثل طب الإنسان والجراحة وطب الأطفال والنسائية، بالإضافة إلى المهندسين في مجالات البناء والإعمار والمهندسين في المجال الالكتروني والبرمجة، وعمّال البناء والمتخصصين في ورَش البناء والطبّاخين، والحلّاقين والمدرّسين في الجامعات والمدارس وغيرهم». 

أما المرحلة الثالثة من الهجرة إلى الصومال فقد كانت قبل ثلاث سنوات، إذ قَدِمَ عدد كبير ممّن كانوا قد اختاروا السودان كملجأ أول، وعقب تدهور الأوضاع الأمنية والاقتصادية في السودان انتقلوا إلى الصومال عبر إثيوبيا. استقرّ معظم السوريين لدى وصولهم إلى الصومال في المدن الكبيرة، مثل العاصمة مقديشو وهرجيسا وغاروي كيسمايو وغيرها من المدن، واستأجروا شققاً سكنية حسب استطاعتهم. 

دوافع  هجرة السوريين إلى الصومال 

تَرْجعُ أسباب هجرة السوريين إلى الصومال إلى ثلاثة عوامل رئيسية: تردي الأوضاع المعيشية والأمنية في كل من سوريا والسودان، خصوصاً في السودان عقب إطاحة نظام البشير ودخول البلاد في حالة من عدم الاستقرار والصراع على السلطة، ما أجبر السوريين هناك على البحث عن ملاذ آخر. أما العامل الثاني فهو البحث عن فرص العمل، خصوصاً ذوي الكفاءات المهنية مثل الأطباء والمهندسين والطباخين والمستثمرين. وقد أعرب كثير من الأطباء السوريين عن أنهم وجدوا فرص عمل مناسبة لهم، كما يقول الدكتور غيث الزعبي، الأخصائي في طب الأسنان وجراحة الفكين: «الكثير من الأطباء السوريين لم يجدوا فُرصاً متاحة  في دول غنية مثل الخليج العربي، ولم يجدوا من يستقبلهم في ظل معاناتهم الكبيرة في بلدهم، لكنهم وجدوا في الصومال فُرَص عمل جيدة وعائد مالي أفضل بكثير مقارنة بالوضع في سوريا».

المشفى الصومالي السوري

لا يتطلّب الحصول على فرص العمل بالنسبة للسوريين إجراءات صعبة، وهي مرتبطة بالمؤهلات العلمية والخبرة العملية، وفي هذا يتساوى السوريون مع المواطنين الصوماليين، وأحياناً يتم إعطاء السوريين الأولوية  في مجالات الطب والطبخ والهندسة المعمارية، كما صرّحَ لنا رئيس الجالية السورية. 

وعلى الرغم من شحّ فرص العمل في الصومال وارتفاع نسبة البطالة فيه إلى نحو 70 بالمئة، هناك وظائف شاغرة في القطاعات الصحية والمعمارية والمطاعم والهندسة، بالإضافة إلى المشاريع الاستثمارية. 

يتقاضى الأطباء السوريون رواتب جيدة مقارنة مع الرواتب في بلدهم، حيث يصل راتب الطبيب الأخصائي نحو  2.500- 3.000 دولار في الشهر، مع مزايا أخرى إضافية، حسب ما نشره حساب فرص للسوريين في الخليج والصومال في الفيسبوك. يعرض الحساب كثيراً من الوظائف الشاغرة في الصومال  للسوريين مع ذكر الرواتب ومزايا أخرى مُغرية وطريقة التقدّم للحصول على تلك الوظائف، وهذا ما سهّلَ على الكثيرين من ذوي الكفاءات الحصول على فرص عمل في الصومال وهم متواجدون خارجه. ويتم إبرام عقود العمل عبر شركات التوظيف. 

أما العامل الثالث من عوامل هجرة السوريين إلى الصومال فهو سهولة الدخول لحاملي جوازات السفر السورية، حيث لا يُطلب من السوريين فيزا مُسبقة، ويتم الحصول على الفيزا عند الوصول. يقول الدكتور صالح: «السوري الذي يحمل جواز سفر لا تُطلب منه فيزا الدخول مسبقاً، بل يحصل عليها في المطار، ورسوم الفيزا عبارة عن 40-50 دولار. ولا يحتاج الوافد إلى أوراق إقامة، وإقامة السوريين في الصومال مجانية ولا تتطلب رسوماً، ويُعامل معاملة المواطن الصومالي». وقد سهّلت هذه الحالة من تمكّن عوائل سورية كثيرة من العيش دون عوائق في الإقامات والثبوتيات. 

حضور السوريين في مقديشو واستثماراتهم 

يعيش السوريون جنباً إلى جنب مع الصوماليين في الحياة اليومية، نتيجة العمل المشترك أو التعامل فيما يتعلق بالتجارة. وهناك تفاعل وتعاون مشترك بين السوريين والصوماليين في جوانب متعددة، وذلك رغم الفوارق الثقافية واللغوية بينهما. تُمثّل اللغة والتفاهم إحدى التحديات التي تواجه السوريين المقيمين في الصومال، ومع ذلك تجد كثيراً منهم يحكي اللغة الصومالية مع مرور الوقت بشكل أفضل، خصوصاً الأطفال والشباب، الذين يمثلون الشريحة الأكثر تفاعلاً مع الصوماليين. أما بخصوص الصورة الشائعة عن السوريين في الصومال فهي صورة إيجابية بشكل كبير، وأثناء التقصي عن العلاقة بين السوريين والصوماليين، قابلتُ عدداً من الصوماليين الذين حادثتُهُم عن نظرتهم تجاه السوريين بشكل عفوي، وكلهم أكدوا لي أنهم يعتبرون السوريين شعباً طيباً وإيجابياً، بل ذهب بعضهم إلى وصف السوريين بالإخوة والأشقاء. تحدثُ صعوبات أو خلافات بسبب سوء التفاهم، خصوصاً عند التعاقد الوظيفي، ويتم حلّ الإشكاليات إما عن طريق الجالية السورية التي تقوم بتسوية معظم الصعوبات التي تواجه السوريين، وإما عن طريق المحاكم التي تقوم بحل الخصومات قضائياً.

تحدّ الأوضاع الأمنية في العاصمة الصومالية مقديشو من عدد الاستثمارات السورية فيها، لكن العديد منها موجود، مثل المشفى السوري-الصومالي، ومطاعم مثل «مال الشام» و«الوردة الدمشقية»، وهي من أشهر المطاعم السورية في المدينة، وتزدحم دوماً بالزبائن من السوريين والصوماليين.

 

يرى الدكتور محمود صالح، متفائلاً، أن النشاط الاستثماري السوري سينتعش في السنوات القادمة أكثر بكثير مما هو عليه الآن: «بسبب تحسُّن الأوضاع الأمنية في مقديشو. هناك مشاريع استثمارية كثيرة يخطط لها رجال أعمال سوريون خلال العام الجاري». 

يتعافى الصومال من ويلات الحرب التي دامت أكثر من ثلاثة عقود، وقد حان الوقت لإنشاء مبادرات اقتصادية يقودها صوماليون عادوا من المهجر، كما ساهم السوريون في جزءٍ مُهمٍّ من تلك المبادرات الاستثمارية التي تجري في مقديشو. 

الظروف الأمنية والإنسانية 

معظم اللاجئين السوريين في مقديشو يعانون آلام الغربة وفراق الأهل والأحباب، وبغض النظر عن العدد القليل الذي وجد ضالته في مقديشو، فإن غالبيتهم يعيشون في معاناة ويصارعون تحديات الحياة الجديدة. من أهم الصعوبات التي يواجهها القادمون السوريون الجدد في مقديشو؛ التكيُّفُ مع الواقع والبيئة الجديدة والأطعمة الشعبية الصومالية، بالإضافة إلى غلاء الأسعار والمعيشة وارتفاع أجرة المنازل بشكل جنوني في العاصمة. ليس غريباً أن ترى في شوارع مقديشو أفراداً أو عوائلَ سورية تمتهن التسوّل في الطرقات بعد أن ضاقت بهم سبل العيش. وعلى الرغم من تقديم مساعدات من قبل الأمم المتحدة والمنظمات الإغاثية، فإنها لا تكفي لسدّ هذه الاحتياجات، خصوصاً في ظل الأزمات الاقتصادية الحادة التي تشهدها الصومال بسبب الجفاف الناجم عن تَغيُّر المناخ. 

يعاني السوريون، مثلهم مثل المواطنين الصوماليين، ظروفاً أمنية وإنسانية صعبة، ويُشاطرون الصوماليين صنوف آلام الهجمات والانفجارات الإرهابية التي تحدث في مقديشو بين الحين والآخر. ففي الثامن عشر من كانون الأول (ديسمبر) من عام 2013 قُتل ثلاثة أطباء سوريين، حسب وكالة أسوشيتد برس، في هجوم ميليشياوي.

وحسب سجلّات مكتب الجالية، كان آخر ضحايا الأوضاع الأمنية الصعبة من السوريين هو الطبيب مهند أحمد علي، ابن محافظة اللاذقية، الذي كان أحد ضحايا الهجمات في مقديشو عام 2019، إثر إنفجار أصاب سيارته وأودى بحياته على الفور.