إنها الساعة السابعة صباحاً في دمشق، تخرجُ مريم للتمشية الصباحية في أحياء دمشق وتعود بعد ساعة إلى منزلها، الذي هو مكتبُها أيضاً، تنجز أعمالها اليومية وتستقبل الأصدقاء فيه، لينتهي يومها قبل الحادية عشر مساءً. تُحافظ على هذا الروتين منذ سنة ونصف بناءً على توصيات طبيبها النفسي، ولا تسمح لأي تغيير مفاجئ بعرقلة مسار يومها.

عندما زارت العيادة النفسية أول مرة منذ ثلاث سنوات، اعتقدَتْ أنها ستجد أجوبة لكل أسئلتها، لتعرف فيما بعد أن رحلة العلاج في سوريا ستتطلّبُ ثلاثة أطباء، ومحللاً نفسياً، ومعالجاً نفسياً، قبل وصولها إلى تشخيص مرضها. تقول مريم: «الطبيب الأول شَخّصني بالاكتئاب خلال خمسة عشر دقيقة. واظبتُ على تناول الأدوية التي وَصَفها، زادت حالتي سوءاً بعد شهرين، وعند مُراجعتي له طلب مني رفع جرعة الدواء بعد عشر دقائق».

لم يدفعها رفعُ جرعة الدواء فحسب إلى تغيير الطبيب، بل كذلك تَشخيصُهُ لاثنين من صديقاتها بالاضطراب نفسه مع وصفة أدوية مماثلة. نصحها صديقها بعد تجربتها هذه بزيارة مُحلّل نفسي، وهنا كانت صدمة مريم. تحكي لي قصتها بمزيج من الدهشة والتشويق، تجحظ عيناها وكأنها في رحلة اكتشاف قارّة جديدة لتشخيص اضطراب نفسي يُعيق حياتها: «محلل نفسي في دمشق، رائع! ذهبتُ طبعاً فالغريق يتعلق بقشة، وأنا كنتُ أكثر من غريقة، كنتُ على حافة الموت. جلسةُ التحليل كانت تشبه الأفلام، بيت من الستينيات هو مكتبُ المحلل، جلسَ باستقامةِ عارضات الأزياء على بعد ثلاثة أمتار عني، وترك أمامي كوب ماء ومنفضة سجائر إذا رغبتُ بالتدخين، وأخذ يتحدث عن أجدادي».

لا تحاولُ إخفاءَ انبهارها بجلسة التحليل النفسي، إلا أنها تتحدث عن انفصالها عن واقع دمشق، فالحياة هنا شاقة وقاسية أكثر من جَدَّتها التي تسببت لها بصدمات طفولتها. ولكن قبل الغوص أكثر في تجربة مريم، لنَعُد إلى الأسئلة البديهية قليلاً.

أين الطبّ النفسي في سوريا؟

عالمياً، أقرّت الأمم المتحدة مبادئ حماية الأشخاص المصابين بمرض عقلي وتحسين العناية بالصحة العقلية عام 1991، وتم التصويت عليه بالإجماع، لكن تبني هذه المبادئ لا يعني بالضرورة تطبيقها.
في سوريا وقبيل انطلاق ثورة 2011، كان مجالُ الصحة النفسية من المجالات الناشئة والحديثة، وعلى وجه التحديد تمركزت مراكز الرعاية الكبرى في محافظتي دمشق وحلب.

في سوريا ثلاثة مشافي صحة نفسية حكومية تابعة لوزارة الصحة: مشفى ابن خلدون في حلب، بِسعة مئتي سرير، وفقاً لمدير المشفى بسام حايك: «يعود تأسيس المشفى إلى العام 1943، إلى أن صدرَ المرسوم الجمهوري رقم 26 لعام 2002 القاضي باعتباره هيئة عامة صحية علمية تدريبية باسم الهيئة العامة لمشفى ابن خلدون، من أجل أن يقدم خدماته لسبع محافظات هي حلب وإدلب واللاذقية والحسكة ودير الزور والرقة وحماة».

الثاني هو مشفى ابن سينا في ريف دمشق، الذي يُغطي المحافظات السبعة الأخرى، وتصل طاقته الاستيعابية إلى 720 مريضاً. وبحسب تصريحات سابقة لأيمن دعبول، مدير مشفى ابن سينا: «يبلغ عدد الأخصّائيين النفسيين في المشفى اثنين لكلّ 480 مريضاً».

وأخيراً، مشفى ابن رشد، وهو الأحدث. افتُتحَ عام 2013، وهو تَوسُّعٌ للمرصد الوطني لرعاية الشباب الذي كان مخصصاً لعلاج الإدمان فقط، لتضم المشفى قسمين: الأول للأمراض العقلية والنفسية والآخر لعلاج الإدمان، وهو للإقامة المؤقتة وتدبير الحالات الحادة.

أمّا في المشافي التابعة لوزارة التعليم العالي، فقد اقتصرت على شعبة الأمراض النفسية في مشفى المواساة الجامعي، بعد سنوات اقتصر فيها الأمر على عدد من الأسرة ضمن قسم الداخلية في المشفى نفسه. كذلك هناك شعبة نفسية في مشفى تشرين العسكري، التابع لوزارة الدفاع.

من جهة أخرى، كان للقطاع الخاص دورٌ في استحداث مشفيين اعتُبرا الأحدث والأفضل حينها، إلّا أنهما وبالطبع كانا حول العاصمة، وهما: مشفى الصفا في المليحة ومشفى البشر في حرستا.

في كانون الثاني (يناير) عام 2013، تَعرَّضَ مشفى الصفا لغارة جوية من طيران النظام، وهكذا دُمِّرَ المشفى ثم انضمّت تجهيزاته إلى المسروقات على يد قوات النظام، حتى أنه في نيسان (أبريل) عام 2019 تم تجهيز القصر العدلي الجديد في محافظة السويداء بمدافئ مسروقة من مشفى الصفا. أمّا مشفى البشر، فقد خرج عن الخدمة منذ سيطرة فصائل المعارضة على مدينة دوما عام 2012.

جديرٌ بالذكر هنا أنّ عدد المشافي، رغم محدوديته، يفوق قدرة الأطباء النفسيين الذين لم يتجاوز عددهم 45 طبيباً في كل سوريا في العام 2022 بحسب تصريحات أيمن دعبول مدير مشفى ابن سينا، يتمركز قرابة خمسين بالمئة منهم وسط العاصمة دمشق.

قبل الثورة لم يكن الوضع أفضل، وبحسب مقال منشور في مجلة الصليب الأحمر للطبيب الاستشاري في الأمراض النفسية والعصبية مازن حيدر: «كان هناك أربعة وثمانون طبيباً نفسياً، نحو 70 في المائة من العدد الإجمالي في البلد في مدينة دمشق، وأربعة في حلب، وستة في حمص، وخمسة في اللاذقية، وثلاثة في طرطوس، واثنان في حماة، واثنان في الحسكة، وواحد في درعا، وواحد في الرقة. أما محافظات إدلب والسويداء ودير الزور فلم يكن فيها أي طبيب أو أخصّائي نفسي».

حياة داخل أسوار المشفى النفسي

يُقدّم كلٌّ من مشفيي ابن سينا وابن خلدون خدمات الإقامة طويلة الأمد أو الدائمة، وتَحدَّثَ أيمن دعبول في تصريحات سابقة له عن مرضى لم يَسأل عنهم ذووهم منذ 30 عاماً، وقال إن كثيراً من الحالات التي لا يقبل المشفى بقاءَها، أو التي تصبح مؤهلة للخروج بعد تماثُلها للشفاء، لا يقبل الأهل خروجها.

في حوار أجريتُهُ مع يمان القادري، أخصائية علم النفس العيادي، أوضَحَتْ لنا آليات القبول في مؤسسات الرعاية الصحية النفسية: «في تاريخ الطب النفسي، كان التشخيص الذي يؤثر على قدرة الشخص على الاندماج  في المجتمع يؤهله للإقامة في مؤسسات رعاية، لكن مع الوقت تَحوَّلَ هذا المسار مدعوماً بنظرة أكثر إنسانية للمرضى، وبدلائل علمية وأبحاث طويلة المدى أثبتت أن هذا التوجه لا يؤتي ثماره إكلينيكاً على الفرد ولا على صعيد المجتمع. لقد أثبتت الدراسات أن رعاية المرضى ضمن مجتمعاتهم الصغيرة تعود بنتائج أكثر إيجابية. المشفى اليوم هو حاضنة مؤقتة بطاقم طبي تكاليفه عالية من أطباء نفسيين وأخصائيين نفسيين واجتماعيين وممرضين، يعتمد بشكل أساسي على الأطباء لاحتضان المريض لحظة الأزمة، وهي لحظة تُحرِّضها مشكلة أو صدمة يمرّ بها الشخص الذي يعاني من إشكالات نفسية، فتشتد بنتيجتها الأعراض حتى يُشكِّلَ الشخص خطراً على نفسه أو الآخرين. وبالتالي فإن هدف التواجد في المشفى هو احتواء هذه اللحظة لحماية الشخص من إيذاء نفسه أو غيره، لكن عند وصوله إلى مرحلة استقرار يحددها القرار العيادي، فإن الشخص يعود للحصول على الرعاية ضمن مجتمعه».

وتَعزو يمان القادري بقاء بعض المرضى النفسيين في المشافي طوال حياتهم في سوريا إلى غياب خدمات صحة نفسية تأخذ بعين الاعتبار أن الصحة النفسية للناس تتوزع على طيف، وأن استجابتهم للأزمات النفسية تتوزع أيضاً على طيف، وهو الأمر الذي يتطلّب خدمات تستجيب للمجتمع على هذا الأساس، وتضمن تقديم رعاية نفسية دون قولبة الأشخاص، وذلك عن طريق العيادات الخارجية أو الأخصائيين في القطاعين الخاص والعام. يُضاف إلى ذلك غيابُ ثقافة الصحة النفسية في كل مجالات الحياة، سواء في مؤسسات العمل أو المدارس، وعدم وجود دُور رعاية تساعد الشخص على الاندماج في مجتمعه وإعادة تأهيل وظائفه الاجتماعية بعد تلقي العلاج لسنوات طويلة.

الصحة النفسية؛ تريند العصر

نُدرة الأطباء قياساً بالجغرافيا السورية وتعدادِ السكان لم تشكل عائقاً أمام انتشار المحتوى النفسي على مواقع التواصل الاجتماعي، حتى أن مجموعات سورية ذات صلة على تطبيق «فيسبوك» دفعت البعض لتشخيص أنفسهم أو رفاقهم، وشجّعت البعض الآخر على زيارة الطبيب النفسي. كذلك أثبتت الفئة التي تُشجع على التَشافي بالرُقية الشرعية وقراءة القرآن حضورها أيضاً، ليس على نطاق «فيسبوك» فحسب بل في المجال الطبي السوري أيضاً.

«سامر» طالب في جامعة البعث اقتربَ من التخرج، وصارت الخدمة الإلزامية قاب قوسين أو أدنى منه، بينما لا تتيح له قدرته المادية تحقيق حلم السفر. لم يكن خيار الطبيب النفسي يلائم وضعه المادي أيضاً، لكنه استدانَ من أحد رفاقه مئة ألف ليرة سورية لزيارة طبيب نفسي في دمشق؛ نصف المبلغ تكلفة المعاينة ونصفه لطوارئ السفر من مدينته إلى عيادة الطبيب. يقول: «بدأ الطبيب حديثه بكلمة ’سَافِر‘. دفعني ذلك إلى غضب شديد، ولا أتذكر أن الخدمة العسكرية أغضبتني بقدر الطبيب. أغمضتُ عيني وكدتُ أفقد وعيي، تخيلتُ الأرض تنشطر وتبلع الدكتور، لم أسمع كلامه، أتذكر أنه أنهى حديثه وهو يكتب لي وصفة فيها مضاد اكتئاب وخلف الصفحة مجموعة أذكار دينية. فَكَرتْ: أي لعنة إلهية تلك التي جعلت الطبيب يائساً أكثر مني».

في مقابل طبيب سامر، ازداد نشاط الطبيب النفسي تيسير حسون وغيره من زملائه على مواقع التواصل الاجتماعي بعد تفشي فيروس كورونا، إذ قدرّت منظمة الصحة العالمية أن جائحة كوفيد سببت زيادة بنسبة 25% في معدلات انتشار القلق والاكتئاب في العالم. قبل انتشار الجائحة، وبحسب المنظمة، يعاني سوري واحد من بين ثلاثين سورياً من حالة صحية نفسية وخيمة، ويعاني شخص واحد من بين عشرة أشخاص من حالة صحية نفسية تتراوح بين الخفيفة والمعتدلة نتيجة التعرض طويل الأمد للعنف. ووفقاً لتقديرات حكومة الأسد حتى عام 2022، نشرت جريدة الوطن تصريح مسؤولة برنامج الصحة النفسية في وزارة الصحة  أمل شكو عن تسجيل أكثر من مليون حالة اضطراب نفسي خلال السنوات العشر الأخيرة، كانت أعلاها في العام 2018، والتي اقتربت من مائتي ألف حالة.

هذه الأرقام جعلت الاضطرابات النفسية في سوريا فاقعة ومن الصعب تجاهلها بعد جائحة كوفيد-19، فأطلقَ برنامج الأمم المتحدة الإنمائي منصة الدعم النفسي والاجتماعي «فضفضة» عبر الإنترنت، في آب (أغسطس) 2020، بالتعاون مع منظمة الصحة العالمية. وبعد أقل من شهر أنشأ الطبيب تيسير حسون مجموعة «معاً… لثقافة نفسية حقيقية». يشترك اليوم في المجموعة قرابة 65 ألف عضو، ويُعرِّف عنها الطبيب: «مجموعة تهدف إلى نشر ثقافة نفسية حقيقية بعيداً عن الابتذال والسطحية والشعوذة التي تُشوه العلوم النفسية».

لا تقتصر المجموعة على أفكار الطبيب ومعلوماته، بل ينشر مقالات قصيرة لأطباء وأخصائيين آخرين، تتحدث عن المشاعر الإنسانية والتوعية بالاضطرابات النفسية وطُرُق التعامل معها، ويؤكد دائماً على عدم الخوض في موضوعات تتعلق بالعقائد الدينية والسياسية لتَجنُّب الدخول في نزاعات.

على نهج الطبيب تيسير حسون، سار الطبيب مازن حيدر الذي أنشأ العام الماضي مجموعته على فيسبوك «العيادة النفسية الاستشارية د. حيدر»، والتي يروّج فيها لنفسه وعيادته بشكل أساسي، وتضمّ حوالي تسعة آلاف عضو.

يستخدم العديد من الأطباء الفيسبوك لهذه الغاية، بالإضافة إلى مشاركة مقابلاتهم التلفزيونية. فمنذ قرابة الأربع سنوات سنجدُ الأطباء النفسيين يَحلّون ضيوفاً في البرامج الصباحية على القنوات الفضائية الحكومية بشكل دوري، والتي من النادر أن يشاهدها أحد في بثها المباشر بسبب استغلال وجود التيار الكهربائي للغسيل أو الاستحمام أو ما هو أكثر إلحاحاً بالنسبة للسوريين.

أطباء نفسيون آخرون يستخدمون صفحاتهم على فيسبوك لدعم جيش الأسد، مع الترويج إلى عملهم، وهذا ما يدفع شريحة واسعة من المحتاجين-ات لطبيب نفسي إلى الإحجام عن استشارتهم.

كانت هذه تجربة مريم الثانية مع الأطباء النفسيين الذين زارتهم في دمشق. تقول ساخرةً: «كان عندي موعد بآذار لأن بالنسبة إلي ذكرى الثورة حدث قاسي حتى لو ما انتبهت عالتاريخ، انتبهت على مدار سنين إني بهاد اليوم بنهار من البكاء. حسب توصيات كتار حكولي هاد أفضل دكتور بالشام، وفعلاً تابعته على فيسبوك ومبيّن الزلمة فهمان، لحتى شفته كاتب بوست بذكرى الثورة وعم يبوس البوط العسكري. أكيد ما رحت، أنا ما شاركت بالثورة، كنت صغيرة، بس كيف بدو يفهمني أصلاً».

تتحلى مريم بالصبر، فبحسب تجربتها الشخصية: «واحد من ثلاث أطباء نفسيين في سوريا يُجيد صنعته». بعد سنوات مع العلاج العشوائي وتجارب الأطباء عليها، عرفت مريم أخيراً تشخيصها الحقيقي، الذي لم يتحدث عنه أبداً أي مختص زارته من قبل، وفَضَّلَت عدم الخوض في تفاصيل اضطرابها لئلا يُشخِّصَ أحدٌ نفسه بنفسه بناء على كلامها.

بسؤال يمان القادري عن علاقة الطبيب بالمريض تُخبرني: «علاقة الطبيب الجسدي أو النفسي بالمريض هي علاقة خاصة وحميمية، فالطبيب هو المُساعد والمُنقذ. وهذا ما يعطي الطبيب مكانته. عليه أن يكون في محل ثقة لا سلطة، وسُلطته الوحيدة في معرفته وعلمه، يُقدِّمُها على شكل إرشادات ونصائح، والقرار النهائي في أي علاج يكون بموافقة من المريض. والطبيب النفسي بشكل خاص يُقيِّمُ الحالة بأسئلة عن الأفكار والمشاعر حتى وإن لم يرتبط بجلسات أسبوعية مع المريض، فالدخول إلى عوالم الإنسان جزءٌ من عملية التشخيص، ومن ذلك الأسئلةُ عن الطفولة والنوم والأكل والحياة الجنسية والمهنية والإيمان والمعتقدات، وعن الشعور تجاه الحياة، الذي هو بحد ذاته شعور خاص. أسئلة الطبيب النفسي لفهم الإشكالات النفسية هي دخولٌ إلى أعماق الإنسان، والهدفُ من الجلسة لن يَتحقق دون ثقة وطيدة من قبل الشخص بالطبيب، إذ قد يؤدي غيابها إلى تشخيص خاطئ ووصف علاجات خاطئة».

حزب البعث، فرع القيادة النفسية

على مدار السنوات القريبة الماضية انتشرت في سوريا دورات البرمجة اللغوية العصبية وتدريبات التنمية البشرية، التي تتُرجَم كتنمية ذاتية ونفسية أكثر من كونها مسألة موارد بشرية، كبدائل للعلاج النفسي. في حلقة عن علوم التنمية البشرية على قناة العالم سورية، تحكي مدربة التنمية البشرية جيهان يونس عن قدرتها على مساعدة الأشخاص في علاج الفوبيا أو التروما من خلال البرمجة اللغوية العصبية. لتطالب الطبيبة النفسية مرح عزقول، في اللقاء نفسه، بمحاسبة العاملين في هذا المجال.

تؤكد يمان القادري أن هذه الممارسات لا تقوم على أي دليل علمي، وفي الوقت نفسه ترفض كل أنواع الممارسات القمعية، وتدافع عن ممارسات علاجية آمنة تضمن الفائدة للجميع بأقل درجات الضرر، وعن ضرورة توفير بدائل قائمة على منهج علمي وأساسٍ معرفي صلب، وعن ضرورة تمويل المشافي ودعم قطاع الصحة النفسية، عكس ما يحصل في سوريا.

وفضلاً عن الواقع التعليمي المتردي للجامعات السورية، التي يحكم هيئاتها حزب البعث، فإن هذه الجامعات تستضيف برعاية الحزب أنشطة تقترح هذه البدائل عن الرعاية الطبية النفسية. حيث حجز فرع جامعة دمشق لحزب البعث مدرجات في كلية العلوم لإقامة دورات البرمجة اللغوية العصبية، عدا عن دورات أخرى أقيمت في كلية الهندسة، وذلك وسط احتجاج قسم من طلاب هذه الكليات وسخريتهم من إعلانات هذه الدورات. التي استمرت وتوسعت رغم ذلك.

ولم يقتصر تبني التعليم الرسمي للعلوم الزائفة على الجامعات، فقد افتتحت ثانوية البرماوي في درعا ورشة عمل حول البرمجة اللغوية العصبية، ضمت حوالي 150 متدرب ومتدربة. علماً أن الإرشاد الاجتماعي دخل المدارس السورية عام 2002، ليدخل بعدها بثلاث سنوات الإرشاد النفسي، إلّا أن تواجد المرشد النفسي والاجتماعي بقي شكلياً دون أي نتائج إيجابية، وفي أحيانٍ كثر كانت النتيجة سلبية.

تحدثتُ إلى طالبات إحدى المدارس الثانوية العامة وسط العاصمة، لأعرف منهنّ أكثر عن دور المُرشدة النفسية في مدرستهم. في إحدى المشكلات التي واجهت إحدى الطالبات طلبت المرشدة من الطالبة أن تنسى المشكلة، وعندما راجعتها أخرى لتحدثها عن مشكلة عائلية أخبرت والدتها.

في مقال منشور في جريدة الوحدة بعنوان: هل ستنجح كلية التربية برصد واقع الصحة النفسية بالمجتمع؟، وعند سؤال رئيسة قسم تربية الطفل في كلية التربية بجامعة تشرين ريم كحيلة عن تفعيل دور الكلية بشكل أكبر، لفتت إلى ضرورة ترميم مبنى الكلية بسبب تسرب المياه داخل المكاتب من الجدران والنوافذ ومواسير المياه نتيجة الإنشاء الرديء، قبل أن تتحدث على تدريب الكوادر وحاجتهم إلى تمويل مادي وأكاديمي.

خدمات الصحة النفسية ليست رفاهية

«كل من يعملون في العلاج النفسي لا يمتلكون شهادة تؤهلهم للعمل تحت إشراف الطبيب النفسي» بحسب رئيس المجلس العلمي للطب النفسي في سوريا، جلال الدين شربا، خلال لقاء له على إذاعة المدينة التي تَبثّ من داخل دمشق.

في اللقاء نفسه تَحدَّثَ شربا عن واقع الصحة النفسية في سوريا، واستنكرَ غياب قانون يحمي المريض النفسي والكادر الطبي على حد سواء: «منذ زمن الوزير إياد الشطي ونحن نطالب بقوانين الصحة النفسية والعلاج النفسي، وإلى اليوم لا يوجد قانون يحمي المريض أو الكادر الطبي. كل ما يتعلق بالصحة النفسية مرتبط بدرجة اهتمام وزير الصحة بالصحة النفسية».

ضمَّ اللقاءُ الطبيب غاندي فرح أيضاً، وهو مدير عام مشفى ابن رشد للأمراض النفسية في دمشق، الذي بدوره قال إنّ: «خدمات الصحة النفسية حاجة مُلحّة في المجتمع، وليست رفاهية، ولا يمكن غضّ النظر عنها».

منذ فترة توجهتُ إلى إحدى العيادات النفسية وسط دمشق، في سوق مزدحم بالناس من باعة ومُتسوِّقات وعابري طريق. دخلتُ أحد الأبنية التي تفوح منها رائحة الرطوبة، صعدتُ درجات السلم التي تَجمَّعَ عليها رجالٌ تاركين الكراسي داخل غرفة الانتظار للنساء والأطفال. وإذا أردت إضافة شاعرية على المشهد، يُمكنك تَخيُّل سوريا المتنوعة كلّها هناك. بالتدقيق على الملابس سنجدُ المانطو والعباءة والجينز، أما بمحاولة التقاط اللهجات فسنسمعُ القاف تُلفظ بأكثر من ثلاثة طرق.

على يمين الغرفة خمس نساء يُشهرنَ حدادهنَّ في وجهي؛ لم يكسر أي لون سوادَ ثيابهن. تعرفتُ على إحداهنّ، وسأُسميها هنا أم أحمد للحفاظ على سلامتها وخصوصيتها. حدثتني عن بدء زياراتها للطبيب منذ خمس سنوات بالضبط، عندما راجعته بعد خسارة ابنها الذي قتل نفسه بعد أن عانى الأمرّين مع الاكتئاب. تروي قصتها مع اكتشاف مرض ابنها، وتُشكّك في تشخيص الطبيب النفسي، فهلاوسه كانت بعد انفجار حصل تحت بيتهم. تنكر مرضه وموته، وتحاول تصديقهما في الوقت نفسه، فالمرض بالنسبة لها هو الحياة في دمشق؛ الحزن هنا طبيعيٌ وليس مرضاً. يحين دورها عند الطبيب فتقول لي: «بالمناسبة أنا لستُ مريضة، أُراجعُ الطبيب من أجل وصفة المنوّم مقابل أربعين ألف».

على الرغم من سهولة الحصول على المواد المخدرة في سوريا المُصدِّرة للكبتاغون، يصعب الحصول على دواء منوّم دون وصفة طبيب، حيث تطلب الصيدلية وصفة مُوقَّعة ومختومة، إلا في حال كانت الصيدلية لأحد أصحاب النفوذ الذين لا تُدقَّق مبيعاتهم. اللافتُ أنَّ وصفة الأدوية المهدئة عموماً لا يصرفها الطبيب النفسي وحده، بل يتجاوزه اليوم أطباء القلبية والهضمية وآخرون، بحسب من تحدثتُ معهم.

«ميان» تخرجت من كلية الفنون الجميلة، وتحدثت للجمهورية.نت عن فترة الاستعداد لمشروع تخرجها: «مع ازدياد الضغط تسارعَ نبضُ قلبي، تناولتُ حبة مهدئ موجودة في البيت لأن أمي تأخذ أدوية نفسية، ونجوت. في اليوم التالي زرتُ طبيب القلبية لأنني ظننت المشكلة في قلبي، أجرى لي تخطيط قلب أثبت سلامتي، وعند سؤالي بماذا شعرت أخبرته بالضغوطات وأنني ارتحتُ عند تناول المهدئ، ليقول لي: إذا تَكرر هذا تعالي إليّ، لا داعي لطبيب نفسي، هي حالة قلق بسيطة وسيكتب لك أي طبيب على مثل هذه الأدوية».

إعطاء الأدوية العشوائي يجعل زيارة الطبيب كابوساً حقيقياً، فكما حصل مع مريم، تحكي ميان أن خمسة من رفاقها وصفَ لهم الطبيب الدواء نفسه مع التشخيص نفسه، وهذا ما جعل مريم تتوجّه إلى معالج نفسي قبل زيارة طبيبها الأخير الذي نجح في مساعدتها. اقتصرت تجربتها مع المعالج النفسي على ثلاث جلسات، كَرَّرَ عليها خلالها التوصيات المكتوبة على محركات البحث، والتي انطوت على الغذاء الصحي وأسلوب حياة أكثر نشاطاً وتخفيف التوتر.

بينما ينشغل العالم بالحديث عن الوَصمِ والعار المرتبط بالمرض النفسي، لا يزال قطاع الصحة النفسية في سوريا لا يحتمل الحديث عن هذا الأمر مقابل الفجوة العميقة فيه، ومقابل تأخُّره علمياً وقانونياً واقتصادياً، فحتى اللحظة لا يوجد قانون يُنظّم الصحة النفسية في سوريا، ولا يغطي التأمينُ نفقات العلاج النفسي الذي يحتاج مبالغ طائلة، حيث تتراوح مُراجعة الطبيب النفسي لمرة واحد بين الأربعين والستين ألف ليرة سورية، هذا إذا وجدت طبيباً نفسياً في مدينتك.