يُعدُّ كِتاب جاك هالبرستام الذكورة المؤنثة (Female Masculinity) علامة فارقة ضمن الجهود المُساهِمة في رفد دراسات النظرية الكويرية، مُقدِّماً طروحات تتحدى طُرق التفكير القديمة والتي تتناول الذكورة دون النظر في كيفية بِنائها وتحليل ارتباطها بتنوعاتٍ من الذكورة البديلة، والتي يتم وصمها كصورة غير حقيقية أو محرّفة، وبالتالي ترسيخ تعريف للذكورة مُقتصِر على أجساد محددة. يوْرِد هالبرستام في هذا الكتاب محطات من حضور الأنثى الذكورية، مُثبِّتاً تجربتها كجزء من تجربة الذكورة بتنوعها واختلافاتها.
الشيء الحقيقي (The real thing)
ينطلق جاك هالبرستام في هذا الكتاب (Duke University press, 2018) من سؤال: «ما هي الذكورة؟». فعِوضاً عن أن يبدأ بَحثه بمفهوم وتعريفات الأنوثة أو المثلية النسائية، ينطلق من مُساءلة الاعتقاد الذي يجعل من الذكورة حِكراً على جسد الرجل. يتساءل جاك في المقدمة المعنونة بـ(الذكورة دون رجال): «إن لم تكن الذكورة تعبيراً اجتماعياً وثقافياً وسياسياً عن الرجولة فما هي؟». مُقترِحاً الانطلاق من البحث في سبب تعرُّفنا على الذكورة رغم عدم إمكانية تعريفنا لها عوضاً عن الانشغال بإيجاد تعريف، كما البحث عن سبب بَذْلِنا الوقت والمال لدعم نماذج نَثِقُ بها من الذكورة وتمنحنا الرضى. فالكثير من هذه النماذج «البطولية» تعتمد على تبعية النُسخ البديلة للذكورة.
لهذه الأسباب، يرى هالبرستام أن كتابه لا يُقدِّم الذكورة المؤنثة كتقليد للرجولة (maleness)، بل هو لمحة عن كيفية بناء الذكورة كذكورة. أي كيف يتم تأطير ذكورة الإناث لتبدو كتقليد فاشل أمام الذكورة المُسيطرة (dominant masculinity). كما يرى أنه يتمُّ التعاطي مع الإناث الذكور كنُسخٍ مشوهة لكي تبدو ذكورة الرجال (male masculinity) وكأنها الأمر الحقيقي (the real thing). ويتّضح زيف هذه الرؤية عندما نرى،بحسب ما أورد، أن البطولة يتمُّ إنتاجها من خلال وعبر أجساد الإناث والذكور دون استثناء، حيث يعمل هالبرستام على تفنيد الأساطير والفانتازيا التي تجعل من الذكورة (masculinity) غير قابلة للفصل عن الرجولة، ويرى أن الذكورة تَستحضر في المجتمع انطباع «الشرعية والقوة والامتياز»، وغالباً ما تُشير «بشكل رمزي إلى قوة السلطة والتوزيع غير المتساوي للثروة، والتي تمتد متغلغلة في الأبوية وفي منظومة العائلة، وتمثل قوة التوريث…».
الذكورة التي يَكتب عنها هالبرستام هي الذكورة خارج أجساد الرجال البيض من الطبقة الوسطى، هي الذكورة ضمن أجساد السود من نساء ورجال، واللاتينين-ات والآسيوين-ات وغيرها من أشكال الذكورة المختلِفة التي تُظهِر كيف تصبح ذكورة الرجال البيض هي النموذج المسيطر والمعياري.
يقدِّم هالبرستام نموذج جيمس بوند في فيلم (GoldenEye)، والذي تبدو ذكورته منقوصة دون الاعتماد على نماذج أخرى يتم تقديمها في الفيلم كنماذج لذكورة مشوهة لتثبيت ذكورة بوند كمعيار. فنرى مديرة بوند، وهي سيدة أكبر سناً وذات هيئة قوية (بَتش/Butch)، تصفه بأنه فظ و(sexist)، أي يمارس التمييز ضد النساء. وفي موقع آخر، تتهمه السيدة التي تعمل كسكرتيرة بالتحرش. فيتم رسم شخصية بوند كزير نساء ذكوري، وبحسب هالبرستام، فإنه للأسف يبدو تاريخياً من الصعب تصوُّر الذكورة دون ارتباطها بـ«اضطهاد النساء».
بالمقابل يُعطي حضور مديرة بوند هذا التصوُّر الذي يوحي بإمكانية وجود ذكورة دون ارتباطها بالضرورة بكراهية النساء. وكذلك، يقدم الفيلم شخصية مساعد بوند، المخترِع، والذي يوحي بكونه مثلي (nerd and queer) بحسب التنميط الذي يَرسم للأذكياء صورة هشة لا تمتَثِل للذكورة المعيارية. وهذا المخترِع العبقري هو من يعطي بوند آلاته ويشرح له عن استخداماتها. هذه الشخصية بذكورتها المثلية تعطي لذكورة بوند شرعيتها. أي أن ذكورة مديرة بوند ومثلية مساعده، هما ما يعطيان لذكورة بوند معياريتها ويثبِّتانها كنموذج للرجولة «الاعتيادية» (normal)، أي الأمثل. يتسأل هالبرستام ماهي ذكورة بوند أو «الذكورة الملحمية» إن لم تكن عبارة عن شرعية شبكة العلاقات الحكومية السرّية والآلات المتطورة والتجارب العلمية الممولة والمواجهة مع الأشرار.
الحسن صبي (Tom Boy)
يُناقش هالبرستام حضور شخصية الفتيات الشقيّات اللواتي يتمُّ تعريفهن في الثقافة الأبوية كـ«حسن صبي» في الإعلام. ويُبيّن هالبرستام أن صَبيَنة الفتيات تُعتبر أمراً محتملاً اجتماعياً لكونه يُنظَر لها كطفولة متأخرة أو كرفض للبلوغ، وليس لكونها انحرافاً عن الأنوثة وتمرداً على قيمها. يستحضر هالبرستام عدداً من الأعمال السينمائية التي تقدِّم نماذج لفتيات صبيانيات، وكيف يتم تبرير سلكوهن الرافض للأنوثة كَوَلدَنة تُعبِّر عن رفض التخلي عن الطفولة. يقول هالبرستام:
«يغلب أن يتم ربط صَبيَنة البنات أو مرحلة الحسن صبي بالرغبة ’الطبيعية‘ للنزوع إلى الحرية والحركة التي يتمتَّع بها الصِبية الذكور. وعادة ما يتم قراءتها كعلامة على الاستقلال والدافع الذاتي، وأحياناً ما يتم تشجيع هذا السلوك الصِبياني إلى الحدِّ الذي تبقى فيه هوية الفتيات حاضرة. لكن يتم معاقبة هذا السلوك عندما يظهر تمثُّل صفات الذكورة (مثل رفض ثياب الفتيات أو اتخاذ اسم صبي…)، وعندما تتجاوز مرحلة الطفولة إلى سن البلوغ، يُشكل السلوك الصبياني أو المائل للذكورة في المراهقة مشكلة تستوجب جهوداً صارمة لتقويمها». ولإيضاح ذلك، يقدِّم هالبرستام عدداً من الأعمال السينمائية التي تحضُرُ فيها شخصية الحسن صبي كطور يسبق «ازدهار الأنوثة». أي بطريقة تحتفي بالتحوُّل من هذه المرحلة الصبيانية إلى الأنوثة والرِقّة.
نموذج فرانكي آدمز من فيلم (The Member of the Wedding) المُقتبَس عن رواية لكارسون ماكولرز؛ فتاةٌ تعيش عزلةً عن محيطها، مع خَوْضها معركة خاسرة ضد الأنوثة (womanhood). تسعى فرانكي لتغيير هويتها عبر تغيير اسمها، وتتساءل «لماذا يُعتَبر تغيير اسمنا أمراً غير قانوني؟»، فهي ترى أن الاسم يرمز لقوة التعريف والهوية والعلاقات وحتى الجندر. وبحسب هالبرستام، لطالما ربط التحليل النفسي بين الرغبة واللغة، يقول «تبْني اللغة الرغبة، وتُعبِّر عن الكمال والخواء – عن الكمال حيث أننا في حالة توق ورغبة دائماً، وعن اللاجدوى لأننا في حالة عدم رضى دائم. تفهم فرانكي الرغبة والجنسانية كأشكال متحجرة للامتثال الاجتماعي. يُتوَّقع منّا أن نرغب أشخاصاً محددين/ات وبطرق محددة. لذا تجد نفسها ممزقة بين الشوق وبين الانتماء. فهي غير قادرة على أن ترغب ضمن الشروط الموضوعة، ولذا تسعى للتخلص من الرغبة بكليَّتها». وهذا الصراع مع اللغة، يضع فرانكي في حالة عجز يرفضه هالبرستام. فهذه النماذج السينمائية التي تُمثِّل عدم فاعلية النساء الرجوليات هي بمثابة عبرة وتحذير. وبدوره، يعمل هالبرستام لتأكيد فاعلية الذكورة المؤنثة ضمن كتابه الذي يقدم نماذج وأمثلة تتحدى السلبية التي تؤطر هذا النموذج.
يستخدم هالبرستام منهجية كويرية، حيث أنه يجمع بين منهجيات مختلفة ليُنجز بحثه. وينطلق من رؤية ترفض الطرق الأكاديمية التقليدية التي في أصلها لا تسمح بالتنوع. فيستخدم مزيجاً من الدراسات النقدية والإثنوغرافية والتصنيفية وأبحاثاً أرشيفية وغيرها. ويُبيّن معرفته للنقد الذي قد يُلاقيه عمل كهذا، والذي قد يُتَّهم من قبل الباحثين-ات في مجال التاريخ بنقص أدواته في البحث، وكذلك من قبل بقية المختصات والمختصين مما سبق تعداده من دراسات. يقول هالبرستام: «كيف يمكن لنا أن نمضي في دراسات الكوير ونحن في مؤسسة أكاديمية تقليدية؟».
ويشير إلى أن الطرق التقليدية في البحث الاجتماعي المتخصص بالجنسانية تعجز عن تقديم نتائج استطلاع صادقة، فمعظم النساء والرجال لا يشاركن-ون حقيقة ممارستهن-م الجنسانية. ولا يسعى هالبرستام لنفي صحة الدراسات الاجتماعية فيما يرتبط بدراسات الجنسانية والكوير، بل يعمل لِضبط الرغبة الطموحة والتي تتعاطى مع علوم الاجتماع كعلوم طبيعية، ومع معرفته بحقيقة أنها تختص بدراسة الكائن الحي، لكنه يسعى لتعزيز حضور استراتيجيات مثل تحليل السرد والتفسير والتوقع فيها.
بناء الذكورة
يقدِّم هالبرستام مراجعة لكتاب الصبية: الذكورة في الثقافة المعاصرة، وهو كتابٌ حول الذكورة وبحثٌ فكري في مفاهيمها للكاتب بول سميث.
يرى هالبرستام أن سميث ينطلق في تحليله من نظرة ترى في ذكورة الرجل الأبيض نموذجاً للانطلاق إلى تفكيك الذكورة. وهذه الرؤية هي ما يرفضه هالبرستام: «يرى سميث أن علينا العودة للذكورة المسيطرة لتفكيك الذكورة، لأن معادلة الرجولة، فضلاً عن موضوعة الذكورة، هي ما يُعطيها الشرعية الاجتماعية. وبالضبط لأن ذكورة الرجل الأبيض هي ما يُعتِّم على نماذج الذكورة جميعها، علينا تحييدها لتسليط الضوء على النماذج الأخرى المُغيَّبة».
يفترض سميث في مقطع من كتابه أن الرجولة تتمايز بحسب الامتيازات والسلطة، ولكنها بمجملها (أي رغم اختلاف الطبقة والعرق والامتيازات و…)، تمتلك امتيازات أبوية تضعها في مكانة هيمنة على النساء. وكمحاججة على هذا الرأي، يُبيِّن هالبرستام أن سميث يُبسِّط مصطلح «النساء» و«الرجال» ويضعهما في ثنائية متناقضة ثابتة غير متغيرة. وبحسب هالبرستام، فإن هذه الرؤية تَعتبر النساء ضحايا المنظومة الأبوية بشكل دائم، كما تجعل النساء حبيسات العلاقات الأبوية وغير قادرات على الخروج من المنظومة. يقول هالبرستام: «ما الذي يمكن لسميث في هذه الحال قوله لمونيك ويتنغ، التي ترى أن المثليات لسن نساء لأنهن غير منخرطات في العلاقات المُغايرة التي تنتج الاختلاف الجنسي على شكل علاقات القوى. وما الذي يمكن له قوله لجوديث بتلر في نظريتها المؤثرة، مشكلة النوع، والتى ترى أن الجندر هو (نسخة دون أصل) وأن العلاقات الجنسانية والجندرية المُسيطرة هي علاقات مشبعة بالاعتمادية المريضة على الآخر، والتي تضعهم في حالة مخاطرة. وما الذي يمكنه قوله لجاك هيل، الذي يرى أن العلاقات الجندرية ضمن نظرية الجندر والتي نستخدمها كمرجع لا ترتقي أو لا تشمل ما يُنتجه المجتمع من علاقات جندرية بديلة. هل النساء المسترجلات (بَتش /butch) هن نساء؟ وهل الرجال العابرين/ات هم رجال؟».
وبهذا يُبيّن هالبرستام أن سميث لم يستثمر بما يكفي في مشروع الذكورة البديلة أثناء دراسة الذكورة. ورغم أن الذكورة هي موضع الفصل الأخير لبحث هالبرستام، فإن جهده موجَّه لتقديم ذكورة النساء كنموذج حقيقي وله مصداقية. وضمن قِصَّته الشخصية كثيراً ما تم اعتباره كصبي في طفولته، في المقابل، كثيراً ما تم إجباره على التمثُّل بمعايير الأنوثة أو التشبه بنموذج الأنوثة في مراهقته. ومع الاستمرار في تحدي الأطفال غير واضحي الهوية الجندرية حول هويتهن-م، يَخلِق الخطأ المتكرر، الحاصل عند التعاطي مع الفتيات الصبيانيات وعدم تحديد هويتهن الجندرية واعتبارهن صبية، تأكيداً على هويتهن الذكورية. وحتى عشرينياته، وجد هالبرستام أن التصنيف الأنسب لفئته الجندرية هو البَتش.
إشكالية الحمامات العامة
يناقش هالبرستام موضوع الحمامات العامة والإشكالية المُرتبطة بهذا الفضاء المبني على رؤية جندرية محددة. ويرى أن النظريات النسوية التي ظهرت قبل ثلاثة عقود ناقشت موضوع الجندر بطريقة تتحدى التقسيم الذي يجعل من الذكورة والأنوثة ثنائية جوهرية وذات قطبية ثابتة. وبالتالي تبعاً لهذا، لماذا لا يتم اعتبار التنوع ضمن الجندر، والتعامل معه ضمن فئات غير محدودة. لذا يتساءل هالبرستام: «لماذا لا زلنا نعيش في عالم يَفترِض أن الأشخاص الذين ليسوا برجال هم نساء، ومن هم لسن نساء هم رجال (وحتى أن أولئك الذين ليسوا رجال ليسوا بأشخاص!)؟». وبحسب هالبرستام، هناك قلة ممّن تنطبق عليهم المعايير المجتمعية لمفهوم الذكر والأنثى، ولأن الحدود بين الذكورة والأنوثة مطاطية، فهناك عدد من الأفراد الذين واللواتي قد يصعب تحديد نوعهن-م الاجتماعي. وهذه المساحة التي تعكس ضبابية الجندر يتم التعاطي معها كانحراف أو كنُسخ مشوهة.
وبرأي هالبرستام، مع ازدياد اللَبس حول هوية الطفلات الصبيانيات، يتم إنتاج معرفة جديدة ترتبط بهوية ذكورية. يقول: «حتى منتصف عشرينياتي، وجدت أخيراً كلمة تصف تكوين الجندر الخاص بي، ألا وهو البَتش (butch). لذا في الفصل الخاص بهذا الموضوع، أصف الطرق التي تقوم بها البَتش (butch) بتأكيد ذكورتها، والتي غالباً ما يتم تحديها وتهديدها وانتهاكها».
يرى هالبرستام أن التشدُّد في حراسة هذا الفضاء يزداد في المطارات، والتي تُعتَبر أماكن عبور، ويفترض بها على العكس من ذلك، محو هذه الحدود. لكن في حقيقة الأمر، تصبح هذه الحمامات، أماكن لتحديد هويات الأفراد الجندرية. تعرَّض هالبرستام للعنف في أكثر من موقف عند استخدامه لحمام السيدات من قبل سيدات لم يتوانين عن استدعاء أمن المطار. وفي إحدى المرّات وعند دخول هالبرستام حمامات النساء، أخذت سيدتان بتهديده باستدعاء الشرطة بطريقة تعمدتا به السخرية والاستهزاء منه. ويدل هذا على عدم وجود خوف حقيقي لديهن من وجود تهديد محتمل اتجاههن، بل على رغبتهن بتعريضه للأذى والاعتداء عليه. أي أنهما عمدتا لتسلية أنفسهن بتهديد هالبرستام بالشرطة بطريقة تنِمُّ عن عنف وعدائية غير مبرّرة بالخوف بل بالكراهية.
ويبدو أن «شرطة الجندر، هن-م جزءٌ من إشكالية أكبر. فالأفراد اللواتي والذين يُنظَر لهويتهن-م كانحراف (deviant) عن نموذج أساسي، لا يتم التعاطي مع هويتهن-م بتنوعها وبما تحتويه من جزئيات متنوعة. افتراض أن هناك هوية جندرية موَّحدة ومنسجمة مع تفاصيلها هو إلغاء لِطَيفٍ من الجزئيات المتنوعة للهوية».
وبحسب هالبرستام، كيف يمكن لنا تصنيف «ما يُعتبر بيولجياً كأنثى، والتي قد يتم التعاطي معها كذكر في حالات، وفي حالات أخرى كبَتش، والتي لا تَعتبِر نفسها امرأة، لكن تبقى على مسافة من فئة ’الرجال‘؟». هذا ما يُعتبر بحسب هالبرستام «كحالة متعددة الأبعاد من الصيرورة والكينونة». ومما يؤكد عليه هالبرستام، أن البَتش ليس مجرّد شكل يتم بحثه ضمن تصنيف المثليات كما هو شائع.
صناعة الذكورة
يعتقد البعض أن ظهور النساء القويّات (virile women)، يرتبط مؤخراً بالحركات النسوية ونشاطها وبظهور مساحات حرية وتسامُح اجتماعي، والتي أمكن ضمنها الحصول على حريات جندرية أكبر، بينما يرى هالبرستام أن النساء ذوات الصفات المرتبطة بالذكورة، موجودات عبر التاريخ ولهنَّ بصمة تاريخية تتحدى منظومة الجندر التقليدية بما يمتدُّ لأكثر من مئتي عام مضت. واعتبار هذه الفئة الجندرية كنموذج للمثليات هو إنكار لخصوصيتهن التاريخية، وإخفاءٌ للتنوّعات ضمن علاقات الرغبة بين الجنس الواحد. كما يعكس هذا اعتبار هذه النماذج مجرّد انحراف عن التصنيفات الجندرية التقليدية، ويلغي ميّزات وخصوصية هذا النموذج. لذا يعمل هالبرستام في كتابه ليؤكد على مساهمة النساء في بناء الذكورة الحديثة، وكما يُبيّن أن ذكورة تلك النساء تقع ضمن تنويعات من الذكورة، ومع الاستمرار في العمل بالبحث ضمنها، سيَظهر لنا المزيد من النماذج الفريدة المتعددة والمتنوعة. ويعكس هذا تحدي الدراسات والأبحاث التي سَعَت لتقليص التنوعات الجندرية ضمن قائمة محدودة، لضبط هذا التنوع وهذه الأنشطة الجنسانية المختلفة ضمن الثقافات الجنسانية غير المسيطرة أو السائدة (subcultures). يقدِّم هالبرستام عدداً من دراسات الذكورة كنموذج يبحث في العلاقة بين الرجولة (manliness) وبين إنتاج الأمة والطبقة وحتى التواصل الاجتماعي المرتبطة بالذكورة والجنسانية، لكن يتم ذلك دون الأخذ بكيفية مساهمة النساء الرجوليات (masculine women) ضمنه. وكَردٍّ على كتاب صورة الرجل: خلق الذكورة الحديثة والذي يعرِّف فيه جورج موس الذكورة «بكونها الطريقة التي يؤكد فيها الرجال ما يعتبرونه رجولتهم»؛ يُظهر هالبرستام أنه رغم تطرق موس لذكورة النساء، يصفها بطريقة تضعها خارج نطاق الذكورة، بطريقة تجعلها على طرف نقيض من «الذكورة العادية»، ولمنع الخطر الذي تشكله رجولة النساء (mannish women) على الذكورة المسيطرة، يتم تعريف الذكورة من خلال الفصل بينها وبين النساء.
وعند النظر إلى النماذج التي تُنتجها ذكورة الرجل الأسود، والمثلي، والمهاجر، وحتى النساء الرجوليات، يتضح التهديد الذي تشكله هذه النماذج على قيم رجولة الطبقة البيضاء المتوسطة. ويأتي هذا كحافز للمنظومة المسيطرة لتستمر بتعزيز الرجولة ليس «كرجولة» بل «كذكورة»، أي ربطها بالجسد وبطرق السيطرة والقوة.
الحاضريّة المنحرفة (Perverse Presentism)
يؤكد هالبرستام على أهمية عدم إسقاط التعاريف الجندرية الحديثة على العلاقات بين الجنس الواحد أثناء دراسة التاريخ، فهذه العلاقات تدخل ضمن طيف واسع من الأشكال. فقبل ظهور العلاقات المثلية بين الجنس الواحد من النساء (lesbians) بتعريفها الحالي، تنوّعت هذه العلاقات بأشكالها وأسمائها في المراحل التاريخية المختلفة. ففي القرن الثامن عشر تم إطلاق ألقاب مختلفة على النساء الرجوليات (mannish women)؛ منها الزوج (female husband) والرفيقة الرومانسية أو الصاحبة والخنثى. وبحسب هالبرستام، لا ينطبق أي من المصطلحات السابقة على تعريف المثلية بين الجنس الواحد من النساء المُتعارف عليه في وقتنا الحالي. ويستعين هالبرستام بدراسة ميشيل فوكو عن تاريخ الجنسانية ليبحَث في موضوع العلاقات بين الجنس الواحد من النساء، لكونه يرى أن الأخير قد ركز على العلاقات من الجنس الواحد بين الرجال. لذا يرى هالبرستام أن مصطلح المثلية بين النساء مرتبط بسياق نشطت فيه النسوية والخطاب المدافع عن المثلية، لذا لا يمكن استخدام هذا المصطلح وتعميمه على التاريخ والعلاقات الجنسانية ضمنه. ويقدم هالبرستام عدداً من الدراسات التي تبحث في الأشكال المختلفة للعلاقات بين الجنس الواحد من النساء في القرن التاسع عشر، ليستدل على أهمية فهم السياقات التاريخية المختلفة في بناء الجنسانية. ومن هذه الأمثلة ينطلق إلى البحث في تاريخ المحاكم الجنسانية التي تمّت فيها محاكمة نساء بتهم ترتبط بعلاقاتهن الجنسية المثلية. ومن هذه الدراسة يؤكد على أهمية دراسة التاريخ من رؤية تتعمق بالحاضر، كما فعل فوكو بدراسته للسجن، وليس من منظار تقليدي يعتقد أن التاريخ يسير باتجاه تقدمي يحْملُ الأفضل للأفراد، بل من معرفة تُدرِك أن الحاضر هو حتميةٌ تاريخية وليس بالضرورة تطوراً نحو الأفضل.
يدرس هالبرستام حاضر الذكورة الأنثوية من خلال عدسة تُدرك عدم قدرة الباحثات والباحثين على تحديد الشكل الدقيق لهذه العلاقات تاريخياً. وكذلك، تتَّسم هذه المنهجية برؤية تُدرك أنه حتى معارفنا عنها كما نتصوَّرها في الزمن الحاضر ليست كاملة. ومن الأمثلة التي يقدِّمها هالبرستام؛ وجود نساء ذكوريات غيريات يتم تضمينهن دون عناية ضمن فئة المثليات، بطريقة غير مُراعية للفروقات والتنوعات ضمن الهويات الجندرية والجنسانية. ويقدِّم هالبرستام مثالاً عن النساء اللواتي يختَرن أن يكُّن رعاة بقر كنمط حياة، واللواتي قد يبتعدن عن مظاهر الأنوثة التي ترتبط بالرِقّة والهشاشة، وهن لسن بالضرورة مثليات. كما يعطي مثالاً آخر عن النساء الرياضيات اللواتي قد يَكُّن غيريات، ومع ذلك، يخضعن للتدقيق والمساءلة المجتمعية حول أجسادهن الذكورية والتي اخترن لها الصحة، على اختيار نماذج من الأنوثة والتي قد ترتبط بالضعف. أي أن المجتمع قد يضع الصحة والقوة كنقيض للأنوثة. وبنفس الطريقة قد يتعرَّض الرجال الذين يتَّصفون بالرِّقة أو الهشاشة للانتقاد لعدم امتلاكهم أجساداً رياضية وصحية. ولذا، يؤكد هالبرستام على ضرورة منح كل الفئات المتنوعة الحق في البحث الخاص بصيرورتها التاريخية.
بالمجمل، يقدِّم هالبرستام نماذج متعددة عن الذكورة الأنثوية في أقسام الكتاب ويبحث في النماذج السينمائية والأعمال الفنية، ليظهر التنوع ضمن هذه الفئة ويُسلِّط الضوء على الذكورة كممارسة لا تقتصر على أجساد الرجال. يعمل هالبرستام على تمكين النساء الرجوليات وإعطائهن مكانتهن التاريخية كمُساهِمات في صناعة الذكورة بأشكالها المتنوعة. كما يدرس الهوية الجنسانية بتقاطعاتها مع العرق والطبقة والامتيازات ويُسائل المنظومة التي تضع الرجل الأبيض كنموذج معياري للذكورة. يكشف أيضاً عبر هذا الكتاب تاريخاً قلّ ما تم البحث فيه عن الهويات المتنوعة للنساء الرجوليات، ويرصد المغالطات التي تضعهنّ في منظور ثانوي محدود. أتى خيار مراجعتنا لهذا الكتاب من إيمان بوجوب تغيير الخطاب الذي يُهمّش ويضطهد فئات أقلوية جنسانياً مثل النساء الرجوليات، ومن باب ضرورة المساهمة في تعميق فهم هويتنا والبحث في تعاريفها كي تخرج من حيّز العار والخوف والغرابة. عندما نمتلك المفردات لوصف تجاربنا المتنوعة، نمتلك معرفة تتحدى الخطاب السائد، وبالتالي تساهم بالتغيير.