وكان المُصوِّر يَحمل صندوقه معه مثل سلحفاة، وكان يُغطّي رأسه بقماش أسود، والعالم مُعتمٌ مُعتم، والمُصوّر يشدُّ حبلاً مثل سيفون حمامٍ قديم، فيُنيرُ زاويةً من عالمٍ مُعتم، والضوء من بياض المغنزيوم، واللمبةُ إذا أضاءتْ احترقتْ.

وكان المصوّرون، إذا اجتمعوا في وقتٍ واحد ومكانٍ واحد، يحوّلون المشهد إلى حفلٍ لإطلاق الألعاب الناريّة، انفجاراتٌ صغيرة مُتزامنة والكثير من الدخان الأبيض. وكانوا يقولون (a flurry of flashes). ثم يقولون بلسانٍ آخر (Blitzlichtgewitter) مُشيرين إلى عنفٍ خفيٍّ مُرافقٍ للتصوير، «عاصفةٌ من البُروق» تنقلُ لحظةَ التصوير من مجرد لقاء بين لقطةٍ ومُصوِّر إلى حدث أساسي خارقٍ في حد ذاته، والفكرة تقتضي الإحالة إلى قصص الرعب، حيث يولدُ الوحش فرانكشتاين، بينما يضربُ البرق من جميع الاتجاهات.

* * * * *

تناوبتْ عليك في الطريقِ إلى العاصمةِ رؤىً ظننتها أحلاماً. ضيّقَ المُسافر الجالس أمامك مقعدك، وأقلقكَ شخيره. أشفقتَ عليه مُخمِّناً من الأسى في قَصّةِ شَعره أنّه عَسكريٌ كان في إجازة فتَركتَهُ غافياً. انتصفَ النهارُ ونال التعبُ منك وما حنَّ عليكَ ملاكُ النوم. في مدخل المدينة ردّدتَ مع المذياع في باص «زريق» مقاطع من دعاء السفر: اللّهمَّ هوِّنْ عَليْنا سَفرنا هذا واطْوِ عنَّا بُعده، اللَّهمَّ إِنِّي أَعوذُ بك من وعثاءِ السَّفر وكآبةِ المنظر وسوء المنقلب في المالِ والأهل.

والمدينةُ مُعتمةٌ مُعتِمة، وملأى بالبشر والخيبات، والصدأ فيها يغطي جسر الرئيس ويغطي أنفاس العابرين ووجوه السائقين تحت الجسر. حارسٌ ملولٌ واقفٌ على باب المتحف الوطني يُفزعُ المارّة ببندقيةٍ فارغة ويطفئ سجائره في صحنٍ ورقي نشفتْ فيه بقايا مربى المشمش، وأمامه المجرى الجاف للنهر، فَخرُ المدينة، تُرى عند آخره لافتةٌ زرقاء لشركة (Sony) مُنتصبةً فوق النوافذ الألف في بُرجِ دمشق.

دَربُ الحجر الصاعدُ وسطَ حديقة الجلاء مُبتلٌ من مطر البارحة، والزوارُ من الأرياف البعيدةِ توسّدوا معاطِفهم على مقاعد الخشب، منتظرين موعداً من طبيب أو توقيعاً من موظف حكومي.

رائحة البقدونس تفوح من فلافل «المعرض» أول الطلعة، ورائحة التنبك المحروق تفوح من مقهى الكمال وسط الطريق، ورجلٌ ستينيٌ واقفٌ على باب السينما تحت إعلانٍ مُهترئٍ لفيلم شارلي شابلن أضواء المدينة، واللافتات والإعلانات كُلُّها موقَّعةٌ باسم الخطاط «زرزور»، والستينيُ واقفٌ هُناك منذ أربعين عاماً ورائحتهُ بوشار. اسم السينما «الكندي» والمهرجان في عامه الثالث، والفصل ربيع.

* * * * *

وكانت الصورة، حين يُخرِجها المُصوّرُ من العتمة إلى الضوء، هي ما يصنع الخبَر. والمحققون والصحفيون من صانعي الصور، يحملون بصبرٍ كاميراتهم، مُترددين قبل أن يضغطوا الزر مُنتظرين لحظةً تَصلحُ سبباً للحكاية. وكانت نُدرةُ المصورين تقترح أن الزمن كان قاحلاً، شحيحاً بما يستحق الذكر، مُختلفاً عن أيامِنا هذه التي تكثر فيها عدساتٌ تفترضُ أن كُلَّ تفصيلٍ يومي هو حدثٌ مُثيرٌ للاهتمام، وأنّ إحساسنا بالموقف، أي موقف كان، يَكتملُ فقط من خلال التصوير.

وكانت نُدرةُ المصورّين تُحمّلهم عبء الاختيار الدقيق لِما يُحضرونه إلى العالم من صور، فالتصوير فِعلُ خلقٍ ينبغي التريُّث فيه، والمُصوِّر من أسماء الله الحسنى وتفسيرهُ أنّه هو من أنشأ خلقَه على صورٍ مُختلِفة ليتعارفوا بها، وصوَّر كلَّ صورةٍ لا على مثالٍ احتذاه.

مُصورٌ صحفيٌ معروفٌ، منحته الطبيعة عدة قوىً خارقة منها مثلاً التقاط الصور والتواجد أولاً في مسرح الجرائم، كان قد صاغَ شعاراً كرّره المُراهقون: (With great power comes great responsibility) كان اسمه بيتر باركر، أو كما عرفناه لاحقاً الرجل العنكبوت.

* * * * *

مَشيتَ مع الماشين من باب السينما إلى بهوِ فندق الفردوس، تابعاً في العتمة فتاة طويلة، جوزةُ عُنقِها تُضيءُ كلمبةٍ تحت الجلد. شردتَ في الاجتماع التحضيري مع منظمي المهرجان ومتطوعيه، مُكثِراً في دماغك من المقارنات العقيمة والحسابات الباطلة. قضيتَ الوقت مراقِباً أفكار الآخرين، وكُلُّ ما حولك يُلهيكَ عن نفسك. ثم تقاسمتَ مع زملاء لك المهمات في صالات العرض، سعيداً ببطاقةِ تعريفٍ زرقاء عليها اسمك وصورتك، علّقتها في رقبتك طوال المهرجان واحتفظتَ بها بين أشيائك سنيناً.

عَرضَ المهرجان أفلاماً تسجيلية في سينمات الكندي والحمراء في دمشق، إلى جانب بعض العروض في طرطوس وحمص. قُسِّمتْ الأفلام إلى خمسة تصنيفات: المختارات الرسمية، أصوات من سوريا، الطبقة العاملة تذهب إلى الجنة، رجال ونساء، بالإضافة إلى تظاهرة جانبية تحت عنوان «روائع المهرجانات».

احتشدتْ الجماهير حين عُرِض فيلم اثنا عشر لبنانياً غاضباً، واللبنانيون أكثر الشعوب غضباً حتى اليوم. تجاوزَ عدد الزوار عدد المقاعد الموجودة داخل صالة السينما، فوقفتْ صبيةٌ من منظمي الحفل وحيدةً حازمةً على الدرج الصغير تُنظّمُ الدخول وتعتذر لمن وصل ولم يجد مكاناً. الفيلم تصويرٌ لمراحل تقديم مسرحية تحمل العنوان نفسه مع النزلاء في سجن رومية ضمن مشروع العلاج بالمسرح، أثناء إنجاز العمل يُقدّم الفيلم تحليلاً للخلفيات التي أتى منها السجناء، ورصداً لحال السجن وساكنيه. نجح عرضُ المسرحية في النهاية رغم الصعوبات، واستأنس بها السجناء. المحكومون بالإعدام أحبّوا العرض من مدخل خوفهم من الموت، مُفضّلين وجوه المسرح الحيّة على الوجوه الساكنة التي يُرى الموت تحتها في الصور.

نال فيلم زينه دكّاش لاحقاً جائزة المهرجان كأفضل فيلم.

* * * *

وكان المُصوّرُ ينظرُ ثم يضغط الزر لواحدٍ من مقصدين: كشفُ الحقيقة أو عرض الجميل، مُحوِّلاً النظر من فعلٍ مُجرد إلى وسيلةٍ لخلق الاهتمام الذي يدفع المشاهد إلى النظر من جديد.

وكان المُصوّرُ، في المقصد الأول، يؤرشف الحياة؛ مُعتبراً أن الكاميرا أداةٌ موضوعية معصومة عن الخطأ، تعرضُ الحقيقة فقط. والصور وسيلته الصادقة للاستحواذ على ما يرى ثم عرضه للمتلقين دون تدخلٍ أو تغيير.

وكان المصوّر، حين استعمل الضوء، قد أعطى الكاميرا في المقصد الثاني دوراً أساسياً في تجميل العالم، إذ أنَّ صور الشيء صارتْ مع الوقتِ مقياساً للجمال أكثر من الشيء نفسه. ثم اعتاد الناسُ أن ينظروا إلى أنفسهم فوتوغرافياً، فأن يرى المرء نفسه شخصاً جميلاً هو بالضبط اعتقاده بأنه يبدو جميلاً في الصور، والواقفُ أمام الكاميرا يتحولُ سلفاً إلى صورة، إدراكُه أن العدسة تُراقِبه يدفعه إلى تغيير حالة الجسدِ وتعابيره، تغيير يُناسب ما يتوقعه من صورته، والصورة في الحال هذه تخلقُ الجميل وتستهلكه، والحاضر في الصورة حاضرٌ دوماُ بوصفه شخصاً آخر.

حَدُّ الفصلِ أدقُّ من أن نضع إصبعنا عليه، وجدلُ الحقيقة والجمال مُستمر. فلاش الكاميرا يضيء جزءاً صغيراً من المشهد، ويسمح للمصوّر بأن يلتقط صوراً كانت مستحيلة دون ضوء، لكن الفلاش في الوقت عينه نوعٌ من التأثير البصري يدفع المتلقي للتركيز على المكان المضيء، تاركاً كُلَّ ما تبقى في الظلام، وفاصلاً في الحال هذه بين الصورة وسياقها.

التفضيلُ شبه مستحيل، نصرخُ طالبين عرض الحقيقة، ثم نتعب من هولها ونتذكر إعلاناً قديماً لشاشة تلفاز يقول: «الواقع، يا له من خيبة أمل».

 * * * *

تأخرتَ في عبور الشارع باتجاه معهد «ثربانتس» عند حديقة السبكي في حي المهاجرين، لم تستطعْ أن تمشيَ في الظلّ، لم تستطعْ أن تمشيَ في الشمس، ولم تجد بينهما طريقاً. كان اسمُ الشارع عبد العزيز آل سعود وبدّله النظام لاحقاً إلى شارع هوغو تشافيز.

دعا منظمو المهرجان مخرجين وصانعي أفلام عالميين إلى دمشق، منهم الهولندية آلي ديركس، والمخرجان الأميركيّان د.أ.بينيبيكر وشريكته كريس هيغيدس، والمخرج التشيلي باتريسيو غوسمان. جالَ الحضور في المدينة، وشاركوا في لقاءاتٍ وورشات تدريبية مع شبابٍ راغبٍ في أن يعرف أكثر عن صناعة الأفلام وتمويلها بعيداً عن المؤسسات الرسمية وبرنامج السينما الوحيد في القناة الثانية.

طالَ الحديث عن فكرة الحقيقة في الفيلم التسجيلي أثناء نقاشٍ مع د.أ.بينيبيكر، فالكاميرا وسيلةٌ نزيهة في الأساس، مع الجهد فقط يمكن لها أن تُجبَرَ على الكذب، وهذا الجهد في تغيير الصورة هو ما يحوِّلُ صانع الفيلم التسجيلي من مُخرجٍ إلى فنان. ولكي يعطي توضيحاً لدور صانع الفيلم التسجيلي أشار المُخرجُ إلى القطة جونسي في فيلم Alien 1979. وهي مختبئةٌ في زاويةٍ ضيقة ترى منها المخلوق الفضائي واقفاً خلف الرجل، غير آبهةً بتنبيهه أو مساعدته. تُسجل القطة المشهد بعيونها، عيون القطط التي ترى قبلنا، ثم نشاهد لاحقاً ما رأتْ، دليلاً على فظاعةٍ حدثت في مكانٍ مُعتمٍ بعيد.

https://www.youtube.com/watch?v=37697sWp2rQ
القطة جونسي في فيلم Alien 1979

 * * * *

لن يحكي غيرُك حكايَتك، وعينكُ لا قاع لها فكُلُّ ما رأيتَ أصبح مُلْكك.

كُنتَ هُناك، حفظتَ الصور بعد أن انقضى الحدث، حملتها معك، حجارةً سوداء خبأها مُسافرٌ في جيوبه فسرّعتْ غرقه. نقّلتها من بلدٍ إلى بلد ومن ذاكرةٍ إلى ذاكرة، تُقلّبُها حين تشتاق، تُرسلُ نسخاً منها للأصدقاء فزِعاً من موتٍ يُدركُكَ فلا يعرِفك بعده أحد، ثُم تفرُشها أمامك شَحناً للكراهية مُبقياً رغبة الانتقام حيّة بها.

الصور معك، تراها وتنسى، والذاكرةُ ليست مرآةً. كُلُّ صورةٍ هي صورةٌ أخرى، وكلّ حكاية هي حكايةٌ أخرى، وهذا تحديداً ما يوجعُ قلبك، أنه يستحيل العثور على صورة أو شكلٍ أو حكاية ليست صورةً أو شكلاً أو حكايةً لشيءٍ آخر.

المكانُ مُعتم، قِلّةٌ من الناس هُناك صدّقوا حُلم الضوء ثم تَعِبوا لخلق هوامش ضيقة للحركة، مُخاطِرين فيها بكل تفاصيل حياتهم.. أهلُ المهرجان كانوا من هؤلاء، ناسٌ أحبّوا الأفلام ورأوا فيها مبدأ طريقٍ للخلاص، وظلّوا يقطعون وعوداً بأنهم سيرتكبون هفواتٍ جديدة كي نرى الحقيقة سويةً، هكذا تماماً كما يريدون لحياتهم وسينماهم أن تكون.

ونحن صدّقنا ثم غفونا مبتسمين حالمين، لمحنا من فوق الغيوم خطاً، خطاً أبيضاً طويلاً، ضوءاً ظنناه فجراً. ثم استيقظنا، والمكان مُعتمٌ كالسابق، مُعتمٌ كباقي أيام العمر.