نحن الذين شهدنا حصار سراييفو

لن نكسب شيئاً، بالطبع.

تجربةٌ بلا هدف:

كأنك خسرتَ ذراعيكَ وربحتَ كماناً،

كما سيقول راسكو. لن تستطيع

حتى أن تخبر الآخرين عنها. هل تستطيع أن تعيدَ

إبريقاً أثرياً لم يبق منه سوى المقبض؟ سنقفلُ على كل شيء

في الروح وننسى. ولكن، على الأقل، من الآن فصاعداً

سنحظى بلمسةٍ أكبر من احترام-الذات، على ما آمل،

كالمحارب الذي صمد أمام بليون انفجارٍ

ولم يتزحزح، ليخبره وجهه الأبتر

في المرآة بحقيقته. لقد اختبرنا

قدراتنا. أن تعرف ذاتكَ، كان على الدوام

امتياز الضحية…

ماركو فيشوفيتش، شاعرٌ بوسني

سريبرينيتسا

ينتهي طريق الإسفلت، ليبدأ الطريق المرصوف بحجارة صغيرة فجأة. هنا تجد أول لافتة تشير إلى المنتجع الأشهر في يوغوسلافيا السابقة، منتجع غوبير Guber. تشتهر سريبرينيتسا بينابيعها المعدنية والطبيعة الساحرة الوادعة بين الجبال. نصعدُ بهدوء. ربيعٌ بارد. لسنا واثقين من وجود المنتجع، واللافتات القليلة على الطريق كلها تعود إلى عهد تيتو. أول العلامات الغامضة مبنى كبير مُكتمل ولكنه بدون أبواب أو أثاث أو طلاء، يغرق طابقه الأرضي بمياهٍ حمراء تماماً. ليست آسنة. لم تُدمّره الحرب، بل هُجِر لتبقى عظامه ناتئة. نصعد ونمنّي النفس بِحُسن الختام. مقاعد مسقوفة على الطريق، يجلس عليها مواطنون محليون، يشربون الكحول، يضحكون كثيراً، ويملؤون قوارير المياه كي يعودوا بها. مسالمون، يبتسمون للغرباء ويحيونهم. وحدنا غرباء. لا سيّاح هنا. سمعتُ عن المنتجع من فيلم وثائقي أشار إليه في سبعينيات القرن العشرين، ولكنه لم يُشِر إلى الحاضر. المياه حمراء، وتلوّن النُهيرَ الصغير معها بالأحمر، ينزل ونصعدُ. لون الماء الأحمر الصدِئ يغطّي على الأخضر- أحمر مستفزّ باهرٌ صَدوق. نصعد إلى الأعلى، إلى الماضي، إلى ما يشبه جنّةً خاليةً. لا حيوانات برية في الجبال. وحدها العصافير تزقزق كثيراً. ندردش عن مطاعم دمشق، بدون سبب. يطول الطريق، وكلما صعدتَ، تعرّقتَ، وتفتّحتْ مسامات الروح على جمالٍ سماويّ حسيّ. وصلنا إلى مكان محاط بصفائح معدنية، وبابه مفتوح. دخلنا، بدون تردّد. أربع مبانٍ مهجورة كلياً. المنتجع خارج الخدمة منذ عقود. ليس كبير الحجم. طينٌ، ولون الصدَأ يملأ الأرض والعين. نتبع الدرب، إلى خارج المباني. نصعد خمس دقائق. ينتهي الدرب هنا، بدون معنى، وبدون إشارة، وبدون لافتة، بجانب مقعدٍ قديم خشبي ومياهٍ للشرب. كما رأيتُ بعضهم يفعل على طول الطريق، أشرب قليلاً، ثم أبصق فوراً. معدنٌ مُرّ. صدَأ في المكان. في سريبرينيتسا. في الروح. أندم. أشعر بفداحة ما قمتُ به: بصقتُ في النبع الصافي، في الماضي الذي جمعنا، في المستقبل. من يبصق في نبعٍ جارٍ؟ أندم، ولا أستطيع التكفير عما حصل.   

نزلنا إلى البلدة، وأرواحنا عالقةٌ في الأعالي. رأينا جامعاً صغيراً، بمئذنةٍ خشبية قصيرة جداً. الجامع يقع داخل سور البيت، والبيت منفصل عن الجامع، ويشترك معه في الديكور الخشبي. سألنا الرجل الداخل إليه أن يسمحَ لنا برؤيته. وافق فوراً. شيّد الجامعَ أجدادُه في بداية القرن الثامن عشر، وأحرقه الصرب في الحرب الأخيرة. أعادوا بناءه مؤخراً. سألته عن عودته إلى البلدة. قال قبل عشر سنين. لم يرغب في الكلام أكثر. وَدَّعنا بمزيج من الإنكليزية والعربية والبوسنية والتركية.

نتابع النزول، أبنية مهجورة، بعضها مهدوم. يمكن التمييز بين تلك التي أصابتها القذائف وبين السليمة ولكن المهجورة. تجديدات منوّعة: بيوتٌ حديثة تماماً ومريحة، أخرى تجديدها فقيرٌ، كَسُكانها. فندقٌ كبير مهجور. مسلمون وصرب، يعيشون جنباً إلى جنب في البلدة الشهيرة. عاد بعض المسلمين بالتدريج، منذ بدايات الألفية الثالثة. أعدادهم ما زالت قليلة. معظم الأبنية تعود إلى عهد تيتو الاشتراكي، بتركيزها على المساواة وغياب مظاهر الترف. ساحتان خاليتان. مقاهٍ مغلقة. الساحة الرئيسية فيها مجسّمٌ بشعٌ صغير للكرة الأرضية، يلعب فوقه ثلاثة أطفال يمثّلون «الوحدة والإخاء»، شعار يوغوسلافيا الاتحادية.

هل بنوه قبل المجزرة أم بعدها؟

لم تحدث المجزرة في البلدة الوادعة التي تقع في شرق البوسنة، وتسكنها أكثرية مسلمة وأقلية صربية، منذ القرن التاسع عشر؛ وكذلك القرى المحيطة بها. تنعكس الآية في المحيط الأكبر في شرق البوسنة كله. مع بداية الحرب، حاصرت القوات الصربية البلدة والقرى القريبة، للتخلّص من «الأتراك»؛ تركزت الميليشيات المسلمة في البلدة، وهاجر أهل القرى المجاورة إليها. ارتفع عدد السكان من عشرة آلاف إلى ما يقرب الخمسين ألفاً. (الأرقام غير دقيقة). حوصرت البلدة، فأرسلتِ الأمم المتحدة وحدة صغيرة لتقصّي الحقائق. دخل الجنرال الفرنسي فيليب موريلون إليها سنة 1992، وصُدِمَ من الجوع والقتل. أعلنها منطقة آمنة، بتصريحٍ تاريخي: «أنتم الآن في حماية الأمم المتحدة. لن نتخلّى عنكم أبداً». الإعلان المُتسرّع أتى بدون مشاورات كثيرة، وبامتعاض صريحٍ من الأوروبيين والأميركيين. توقّفَ القصف العشوائي، وخفّ الحصار. استلمت المنطقةَ وحدةٌ هولندية لاحقاً، وبقيت القوات الصربية متمركزة على حدود البلدة وضواحيها.

نزلنا إلى مركز الأمم المتحدة الذي يبعد ثلاثة كيلومترات عن البلدة، ويقع في سهلٍ منبسط بين هضابٍ خلّابة. المركز عبارة عن مجموعة مصانع صغيرة من عهد تيتو، أقامت فيه القوات الأممية. بجانبه، شادتْ جمهورية البوسنة مقبرة لضحايا المجزرة. جلبوا كل الجثث التي تعرفوا عليها ودفنوها هنا. بينهما الشارع العريض: مصانع اشتراكية أقامت فيها قوات أممية راقبت المذبحة على مدى أسبوع كاملٍ، وعلى الجانب الآخر الضحايا المجلوبون إلى بلدتهم كي يستريحوا من عناء الطريق.

يزور السياح المقبرة والمركز. فعلنا مثلهم. دخلنا المركز أولاً. بعض المصانع مهجورة، متروكة بالضبط كما تركها تيتو، وخلفاؤه، والقوات الأممية، ثم القوات الصربية، ثم جمهورية البوسنة. فقط، مصنعان تَحوَّلا إلى معارض فنية عمّا حصل. كلها مغلقة هذا الربيع، للإصلاحات أو للتحضير لمعارض جديدة. دخلنا في العتمة. العمال قليلون، يبتسمون ويتركون لكَ حرية الحركة. في الظلمة، رأيت المعرض. قدورٌ قديمة طَبَخَ فيها المحاصَرون طعامهم، وأحذية كثيرة: تعرّفَ الأهلُ على الضحايا من خلال الأحذية بشكل رئيس في البدايات، قبل التحاليل المخبرية للجثث. حذاءٌ أحمر لامع مُترب لطفل صغير، موضوعٌ وحده في صندوق زجاجي. لم أستطع قراءة الشرح الإنكليزي في العتمة، لأفهم سبب عزل الحذاء المسكين عن بقية الأحذية. خرجتُ وأنا أفكر فيما لا يجوز التفكير فيه: أحذية ابني. توجهتُ مباشرةً إلى المتراس الأممي: تركوه بدون تغيير، كما كان، بأحرف كبيرة نافرة عليه UN، كحبّة قيحٍ متورّمة على أرضٍ طاهرة.

بعد ثلاث سنين من الحصار، وفي 11 تموز (يوليو) 1995، اقتحم الصرب نقطةً للأمم المتحدة، وتوجهوا نحو البلدة، بعد أن قصفوها منذ الصباح. هرب الناس. تجمّع الخمسون ألفاً على بوابة المركز الأممي: خلفهم القوات الغازية، وأمامهم كل أمم الأرض. اجتمع الضباط الصرب مع الوحدة الهولندية، وطالبوا بطرد المسلحين المسلمين. الميليشيا المسلحة المسلمة، التي ارتكبت حقيقةً جرائم متعددة -صغيرة العدد مقارنةً بما حصل وبما سيحصل- بحق المدنيين الصرب، وافقَتْ على الشروط المُذلّة، أي أن يُسلّموا أسلحتهم ويغادروا، ويأخذوا معهم معظم الذكور بين الثانية عشرة والسابعة والسبعين من العمر. المهلة ساعات قليلة. صباح اليوم التالي، مشى خمسة عشر ألف رجل الدربَ بين الغابات متجهين نحو توزلا ذات الأكثرية المسلمة. الاتفاقية واضحة: مقابل الانسحاب، تعهّدت الأمم المتحدة والقوات الصربية بسلامة المغادرين جميعاً، وبحماية كل المدنيين الذين بقوا. دخل ما يقرب الخمسة آلاف مدني المركز الأممي في ذلك اليوم، ثم أُغلقت الأبواب نهائياً بحجّة عدم توافر مكان لبقية الناس.

ظهراً، طلب الصرب من الأمم المتحدة ثمن الوقود، ليساعدوهم في تأمين الباصات لنقل كل المسلمين الذين افترشوا الأرض خارج المركز الأممي. تَكرَّرَ هذا الأمر مراراً: الأمم المتحدة تُساعد القوات الغازية، عن طريق تهجير الناس من أرضهم بالباصات. وصباح اليوم التالي، بدأت عمليات النقل. فجأةً، رفض الصرب صعود معظم الذكور المتبقين، وفصلوهم عن عوائلهم.

ابتدأت المجزرة، على خطين.

الخط الأول، الأكبر، اصطياد الرجال الذين غادروا المنطقة عن طريق الغابات. ستة أيام. انتشرت القوات الصربية على الأطراف تصيد وتتسلّى: تأسر بعضهم، تعذّبهم، تعدمهم ميدانياً. صوّروا بعض ما فعلوه. وصلت القافلة هدفها، وانهار الرجال بكاءً: لم يعرفوا عدد القتلى، لم يتوقفوا ليدفنوا أحباءهم، لم يشربوا أو يأكلوا، لم يعرفوا ما حصل في البلدة لأهلهم (قبل زمن الموبايلات). بكى الجميع: المسلّحون، والأطفال، والمراهقون، والعجائز، لأنهم وصلوا بالسلامة.

الخط الثاني، في البلدة. معظم الذكور، الذين فُصلوا عن عوائلهم، قُتلوا في القرى المجاورة. جَمّعوهم بأعداد صغيرة في أماكن متعددة، ثم عذبوهم وقتلوهم. اغتصبوا أعداداً كبيرة من النساء، وقتلوا بعض النساء والأطفال والعجائز، وأحرقوا جميع المساجد والزوايا والأبنية العثمانية في المنطقة. وبعد ثلاثة أيام من خروج المسلحين المسلمين، طردت الأمم المتحدة الخمسة آلاف لاجئ من المركز الأممي -معظمهم نساء وأطفال- بناء على طلب الصرب. الكثير من المطرودين أصبحوا في عداد المفقودين.

ذهبنا إلى المقبرة. أكثر من ثمانية آلاف شهيد. توزيع القبور بسيط. النظافة والعناية جليّة. سيارة شرطة تُرابط على المدخل، أربعاً وعشرين ساعةً يومياً. أسماؤهم كلها مكتوبة. عائلات بأكملها. عشرون، ثلاثون، خمسةٌ وخمسون فرداً من نفس العائلة. أتجوّل وقلبي يغطس في محيط العائلات الكبيرة التي تعطيك المحبة والدفء ومعنى الهوية. القبور تصعد إلى التلة. المقبرة مُسوَّرة. أماكن للاستراحة والجلوس. ثلاث نساء يقفن أمام قبرٍ. يقرأن الفاتحة ويمسحن وجوههن. ثم يقرأنَ الفاتحة أمام القبر المجاور، ويمسحن وجوههن. محجبات، إحداهنّ بمكياج كثيف. الثانية حُبلى. الثالثة مسنّة. يقفن أمام القبر الثالث. ثم الرابع. تبكي الحامل. تضمها الأخرى، وتهمسُ بشيءٍ ما. تنفجران ضحكاً. اعتقدتُ أن المشهد انتهى. كنتُ مخطئاً. يتّجهنّ إلى كتلة أخرى من القبور. يقرأْنَ الفاتحة أمام أكثر من عشر قبور. هذه المرة تبكيان معاً. بحرقة. تقول الحُبلى شيئاً ما، تبتسمان من خلال الدموع، كشمسٍ في يومٍ غائمٍ. المُسنّة تتنهد، وتبتسم بأسى وورع وتسليم طيلة الوقت. تهز برأسها. لا تشارك في الكلام. تتمشّى بين القبور التي تعرفها واحداً واحداً، بثقة وهدوء، كأنها في بيتها.

في الحادي والعشرين من تموز 1995، غادرت قوات الأمم المتحدة المنطقةَ الآمنة، التي أُخليتْ كلياً، قتلاً أو تهجيراً. نثر الصرب بقايا معظم الضحايا في مناطق متفرقة في الغابات، كي لا يتعرّف عليها أهلها. ما زالت أسئلة عمليات التجميع هي الأصعب: هل ندفن شخصاً تعرّفنا بتحليل الـ د. إن. أيه على عظمتين منه، أم ننتظر حتى نجد عظاماً أخرى؟

النصب التذكاري لمذبحة سربرنيتسا (ويكيبيديا)

غادرنا المقبرة، وتوجهنا إلى قرية صربية قريبة. الفقر على الطرقات ينطق بما لا تنطق به الوجوه. صور فلاديمير بوتين. الناس تتلفّت لتحدّقَ بنا. لا يوجد غرباء أو سياح في هذه القرى المنهوكة. نجلس جوعى في مطعمٍ قديم متهالك، الزبائن كهول يشربون كثيراً في الظهيرة. صاحب المطعم لا يتكلّم الإنكليزية. نتفاهم بالإشارات. نأكل حساء السمك وكباب العجل. طعامٌ شهيّ ثقيل. نشرب جعة من جمهورية صربيا. خلف بيوت مهترئة، مئذنةٌ عثمانية، من الجوامع التي أعادوا بناءها في العقد الأخير. يعود مع بيض الفصح الملوّن. يمسك بيضة زرقاء وأمسك حمراء. نضرب البيضتين ببعض. يخبرني بأنني خسرت، لأن بيضتي انكسرت. يخسر صديقي أيضاً أمامه. أُجرّب مع صديقي. آخذ حمراء مرة أخرى. أخسرُ. صاحب المطعم يضحك. وأضحك أنا أيضاً.

يخبر أصدقاءه الزبائن، فيضحكون، وأعتقد أنهم يقولون لنا شيئاً عن عيد الفصح، عن الربيع، وعن أشياء أخرى مشابهة، لمّا ندركها بعدُ.

موستار

على يسار المدخل الرئيس للمدينة القديمة في موستار، يقع فندق ماريوت الكبير القبيح. في الداخل، مدينة عثمانية، تستخدم الحجر في البناء كثيراً حتى في السقوف، بدلاً من الآجر أو الخشب المنتشر في البوسنة. يعطيها ذلك نكهةً أقدمَ وأصلب. عشرات المحال الصغيرة تبيع كل شيء. لا أصالة هنا: منتوجات تركية وشرقية بدون طابعٍ محلي عموماً، من الأقمشة إلى أدوات المطبخ فالنحاسيات، وهذه الأخيرة تتنوّع: القديس جورج يقتل التنين، جسر موستار خلفه مئذنة طويلة جداً (غير موجودة في الواقع)، مساجد، يد فاطمة. كل ما يريده السيّاح. «كيتش»، على ما يقول أصدقائي المثقفون.  يلبس ندّل مطعم شهير ملابس شرقية عجيبة، مستمدة من فيلم علاء الدين من إنتاج ديزني. المحجبات أقل من سراييفو بوضوح. جلسنا في مقهى صغير، والنادلة الشابة تشرح لنا الفارق الهام جداً بين القهوة التركية والبوسنية: يغلي البوسنيون الماء وحده، ثم يضيفونه إلى البن في ركوة منفصلة، ولا يضعون السكر فيها إلا بعد تقديمها لو أرادها الزبون حلوةً. تتكلّم بفخر عن الطعام، وتُميزّه في الهرسك. نأكل «تينيّة»، أي حلويات مصنوعة من التين: تحفة لا مثيل لها، بسكّرها القليل ودهشة اكتشاف قدرة الفاكهة على التجلي جوهراً لا يتجزأ في تركيبات مختلفة، كمونادات لايبنتز.

نتجوّل بين الشرق والغرب، وبينهما الجسر العثماني الشهير. غزا العثمانيون الهرسك (جنوب البوسنة) في القرن السادس عشر، وجعلوا موستار واحدةً من مدنهم المفضّلة في البلقان. نشرب من سبيل ماء. نصعد إلى برج الساعة. كانت أبراج الساعات علامة النهضة الإيطالية الأصلية، وتُعاصرها أبراج مدن البلقان العثمانية. بُنيت موستار على هضبتين متقاربتين بينهما نهرٌ هادرٌ في السفح. نصعد قليلاً: من هنا، ترى الصليب الهائل الحجم على الجبل المقابل، الذي يعلو المدينة كلها: كأنهم صلبوا عليه المسيح فعلاً، أو صلبوا قتلى موستار العثمانية عندما حاصروها. كما ترى أيضاً برج الكنيسة الكاثوليكية الأبعد، الأطول بمرتين أو ثلاث من أطول مئذنة، هناك حيث يسكن معظم الكروات.

صورة: جسر موستار (travelisbeautiful.com)

نتجه إلى الجسر، المَعلَم الرئيس للمدينة كلها، ولحربها، ولحصارها، وللسلام الهشّ القاسي. غطّاسٌ بكرشٍ صغير وأكتاف متهدّلة يجمع المال، قبل أن يقفز بشجاعة متكررة من الجسر إلى النهر. السياح يأخذون الصور. لا يبدو أنهم هنا إلا من أجلها. نعبر إلى الطرف الآخر. مكتبة. نتردّد، ثم ندخل. تقول البائعة إن لديها فيلماً عن الجسر. ثماني دقائق فقط. خمسة يورو للشخص. من أين أنتما؟ سوريا! آه، تكفي خمسة يورو بدلاً من عشرة. نوعٌ من التعاطف الصادق المباشر يسري بين الناس عندما يسمعون ببلدنا. نجلس ونشاهدُ الجسر منذ بدايات القرن العشرين، إلى تدميره على يد الكروات بين الثامن والحادي عشر من أيلول 1993، عن طريق استهدافه بقذائف مستمرة من مناطق بعيدة. ثم إعادة بنائه، والاحتفالات من قبل مسؤولين أوروبيين وأتراك ومحليين.

أسأل عن الأحداث. لم أكن أعرف أن الحرب بدأت هنا مبكراً. تشرح لي. سمراء فاتنة. طويلة، كمعظم السلافيات. تلبس فستاناً أزرق خفيفاً ربيعياً. يكشف القليل من الصدر، والكثير من الرجلين عندما تمشي. شعرٌ أسود فاحم. حاصرونا من جهتين، حاصرونا حتى نهاية الحرب تقريباً. تتكلّم كأن الحصار لم ينته، كأنها يجب ان تخبر الجميع، كأنّها هنا فقط كي تحكي الحصار. تتكلم باسم المُحاصَرين، باسم البوشناق (مسلمي البوسنة)، باسم الضحايا، باسم الإسلام. تعتذر عن لغتها الإنكليزية السيئة. تريد قول الكثير. لا تُسعفها الكلمات. تتنهد، ثم تدمدم، بغموض ميتافيزيقي، «ولكن، أنتم، أنتم السوريون، ستفهمون كل ذلك، بالطبع». ثم تبتسم، بتواطؤ معنا ومع المفقودين والمحاصَرين والشهداء. أنظر إلى المنبر على يميني. تضحك. منبرٌ قديمٌ، من جامعٍ مهدّم. كتبٌ بالعبرية بجانبه، وقرآن بالعربية وآخرُ بالبوسنية. لا يوجد إنجيل، تقول، وتضحك بصخب. نضحك معها. تقول إن الأمور سيئة جداً. لا يوجد سبيلٌ للحياة هنا. لا تعايش، بالطبع؛ الفقر شديد، كل شيء صعب. أفضل شيء السفر. لا شيء يمكن تحقيقه هنا.

نخرج بغصّة، لن يفهمها إلّا هي والمصابون بالحصار.

نجول حول الجوامع الصغيرة، الصامدة الهادئة. معظمها مُغلق خارج أوقات الصلوات الخمس. واحدٌ جَدَّدته الأردن، ثلاثة السعودية. أربعة تركيا. يأتي شاب يضع حلقة لامعةً في أذنه بعجلة: «لماذا أغلقوا الباب؟ أين سنصلّي؟» يغادر مسرعاً، باحثاً عن جامعٍ مفتوح. القبب الثلاثة الصغيرة أمام القبة الكبرى، من بدايات العمارة العثمانية. على السياح أن يدفعوا. المسلمون لا يدفعون للصلاة. ماذا عنّي؟ أدخل جامعاً بدون أن أدفع. أتكلّم العربية الفصحى، فيتركونني مرتبكين. وحدنا من يقرأ الأحرف العربية على الآثار العثمانية. نتسلّى بها. نفهم أقل القليل. شاب تونسي يبيع مناديل ورقية. يجلس خارج الجامع بكسل واسترخاء. سيحاول الوصول إلى أوروبا، على ما يقول. هذه ليست أوروبا، إذن؟ بريء، وهادئ. كل شيء هادئ هنا.

منطقة الهرسك، جنوب البوسنة، مختلطة: أغلبية كرواتية في بعض القرى والبلدات؛ وموستار، أكبر مدن المنطقة، منقسمة بين المسلمين والكروات. عندما تفككت يوغوسلافيا (كلمة «يوغوسلافيا» تعني اتحاد شعوب جنوب السلاف، فهذه الشعوب تكاد تتطابق عرقياً ولغوياً وتاريخياً وجغرافياً وحضارياً)، استولى الصرب على الجيش، وادّعوا أنهم يمثّلون الشرعية، وسيُحاربون الانفصاليين. أعلنت سلوفينيا، ثم كرواتيا، وبعدهما البوسنة، الاستقلال. البوسنة أكثر الجمهوريات اختلاطاً وتعدداً. دخل الصرب مناطق مختلطة جنوب كرواتيا واحتلوها وارتكبوا مجازر واسعة سنة 1992. ثم أرادوا احتلال البوسنة والهرسك كاملةً. حارب الكروات والمسلمون سويةً بقيادةٍ مشتركة على خطوط الجبهات. فجأةً، في بداية 1993، أعلن الكروات جمهوريةً مستقلة في الهرسك، عاصمتها موستار. افتتحوا معسكرات اعتقال، على النموذج النازي، وارتكبوا مجازر سريعة كثيرة. المخطط الصربي-الكرواتي يقتضي تقاسم البوسنة ثم محوها هي وأهلها، «تصحيح خطأ التاريخ»: أربعمائة سنة من الحكم العثماني، أسلمَ خلالها البوشناق. حارب المسلمون بشراسة، ولم يسقط شرق المدينة المسلم حتى مع الحصار الطويل. تبادل الطرفان عمليات الطرد والتهجير والقتل في المناطق المختلطة وسط وجنوب البوسنة.

ندردش حول المآذن القليلة المخروطية التي رأيناها على الطريق. لم أرَ مثلها قطّ، ولا حتى في الكتب أو التلفاز. نغادر المدينة القديمة. ندخل القسم الغربيّ الأحدث. فقيرٌ عموماً. أعلام جمهورية كرواتيا في كل مكان. مركز تسوّق هائل الحجم، بجانب فندق حديث. شوارع هادئة، في بدايات صيفٍ رائق. لا سيّاح هنا. مبانٍ مهدمة على خطوط المواجهة، وأخرى أُعيد بناؤها. قيل لنا إن المدينة منقسمة. الأحياء منقسمة، الأشغال، الشركات، بل حتى المدارس. السلام الثقيل، والوضع الاقتصادي السيء، والمستقبل الغائم، يُرخي بظلاله على كل شيء.

مطرٌ خفيف جداً، كذكرياتٍ ناعمةٍ توحي ولا تتمثّل بصورٍ صُلبة. نعود إلى المدينة القديمة. نمشي في شارع «يونس إمِرِه»، على اسم أشهر شعراء العثمانيين. ثاني أيام عيد الفطر، وعبارة «بيرم شريف» في كل مكان على اللافتات. نجد متحفاً لجرائم الحرب. ندخلُ، متردّدين. نسأل الموظفة عن صلته بمتحف جرائم الحرب في سراييفو. تقول مختلفان تماماً. لطيفة جداً، ومهذّبة. نتشجّع، ونسألها: لماذا لا تتكلمون عن حصار موستار، مثلما يفعلون في حصار سراييفو وحصار سريبرينيتسا؟ رأينا هنا كلمات حيادية: الحرب الأخيرة، الفترة بين 92-95، وغير ذلك من كلام فارغ؟ تقول لا نستطيع، الأمور مختلفة تماماً هنا، علينا أن نحمي التعايش.

أوقفَ الكروات الحرب مع المسلمين سنة 1994، بعد تهديدات أميركية مباشرة. وتعاونوا مع المجتمع الدولي. ثم حرروا أراضيهم من الصرب، الذين هُجّر منهم نصف مليون مدني في أقل من شهر، مع انتهاكات ومجازر متعددة. وحققت القوات المشتركة الكرواتية-المسلمة انتصارات كبيرة في البوسنة. عاد الكروات، مرةً أخرى، شركاء للمسلمين. لاحقاً، حوكم مجرمو الحرب الكروات في لاهاي. مع ذلك، لا يجوز الإشارة إلى حصار موستار في موستار نفسها!

شيءٌ من الثقة في صوتها يعيد لي القليل من الإيمان. مستقلّة وجَسورة ومُتفائلة. سوريون؟ ادخلوا مجاناً. ولكنني لا أستطيع. سينكسر قلبي. لم أزر أي متحف للحرب أو للجرائم، بعد ما حدث في سوريا. تقول يجب أن تعرف. أهزّ رأسي بأسى. تبتسم، فجأةً، بتفهّم، بصفاء العارفين. تسامحني. تحكي أكثر. استهدفوا كل الجوامع والأبنية العثمانية هنا، كلها تهدّمت، في الحصار الذي استمر حوالي السنتين. الكثير منها ما زال مهدّماً. لا يخفي البوشناق حسرتهم من السلام: لا نستطيع التسامح مع الماضي، ولا فهمه، مع الصمت المفروض بالتهديد بتخريب السلام. يجب أن نفعل ما فعلناه في سريبرينيتسا: يجب أن نصرخ: كي لا يتكرر الحصار، أي حصار، في أي مكان.

مطرٌ خفيف، نسمعه يدقدق بحنان.

تُشاور الموظفة الناسَ بما يجب عرضه، وتستشير الضحايا، من الطرفين. ليست مجرّد قطعةً زائدةً في ماكينة جهنمية، كموظفي الغرب القاسي والشرق الفاسد، الذين خَبِرتُهُم في حياتي. شقراء، أقصر مني بقليل. عيونها تحكي مع كلامها المنساب كالماء في النهر الهادر. تختم مع آخر قصةٍ سمعتْها من ضحيةٍ، هنا، على باب المتحف، قبل أيّام قليلة. أجل، وقف كما تقف أنتَ، متردداً. ولكنه دخل، ثم حكى: أتى من ألمانيا مع زوجته وأولاده. كان في الرابعة من العمر سنة 93. لا يذكر شيئاً تقريباً. قتل الكروات أخته الصغرى وأخيه ووالديه. نجا مصادفةً. أخفاه جارٌ كرواتي. الآن، لا يذكر شيئاً من الماضي، إلا المطر في بيت الكرواتي. ولا حتى وجوه أهله، ولا حتى الدم. شيءٌ غامضٌ كلياً، يتحلّى في المطر الماكر، فقط…

في الخارج، نجلس في مقهى قريب لا يطلّ على الجسر، نشرب قهوة بوسنية، ونترك المطر الخفيف يبللنا على مهل.

سراييفو

قرعتُ الباب. لم يردّ أحد. هذه ثالث مرة لا يردّون. أشجّع نفسي، الخوّافةَ عادةً، وأفتحه. أدخل بخطىً متشوّقة متشوّفة. نافورة صغيرة في باحةٍ متواضعة. بابٌ على اليمين وآخر على اليسار. خرطوم أحمر قديم، مقشة صغيرة بنيّة كالتي تستخدمها جدتي، نباتات صغيرة، أكياس كثيرة: فحم أو خشب أو أشياء أخرى، قباقيب، شحّاطات، أحذية، كراكيب كثيرة متناثرة في فوضى محببة هادئة كسولة قلقة تشبه ذكرياتنا عن بلادٍ نائية. على اليمين، التكية النقشبندية، وعلى اليسار بيت الشيخ. أراه من نافذة في التكية يُحضّر الطعام. أراقبه بصمت. شيخٌ في السبعين، مَحنيّ الظهر، بطيءٌ كالأبدية الزرقاء. يراني، فأفزع من اقتحامي خلوته. يفتح الباب، ويرحّب بي بالبوسنية. أقول له بالعربية والإنكليزية ولغة الأيدي العالمية، أريد رؤية التكيّة. تُشرق أساريره بلطفٍ سماوي صدّاح. يسحبني من يدي إلى قلبه.

الفوضى ذاتها في التكيّة. يبدو مَسكناً شخصياً أكثر من بيوت الله الأخرى. مطبخ صغير على اليمين. في الداخل-الجامع، طاولتان على اليمين واليسار: تَمْر، قوارير مياه بلاستيكية، علب عصير برتقال رخيصة الثمن، حلويات بلقانية، لبن، سجائر متناثرة. كلها بكميات صغيرة. لا ينشرح قلبي. رائحة الدخان والتهوية السيئة تثقلان القلب. يبتسم، ويتبعني وأنا أتأمل اللوحات المكتوبة بالعربية. يقول «كوفي»، بفخر. الحائط على اليسار يقتصر على الخط الكوفي، أما على اليمين منوّع الخطوط، وبينهما المحراب الأخضر. شجرة نسب الرسول الكريم. علي وفاطمة هنا وهناك. آياتٌ قرآنية. أسأله متى تقومون بالذكر. يقول: «بيرم، مغرب». إذن، عقب صلاة المغرب أول أيام العيد. أُشير بجسدي لدوران الدراويش. يعبس. لا لا، هؤلاء مولوية. نحن نقشبندية. كلمة «هو» في كل مكان، أكثر من كلمتي «الله» و»محمد». أشير إليها، ثم أرفع إصبعي إلى السماء: «الله؟» يضحك، كأنني فهمتُ أخيراً. ولكنه يهزّ رأسه، ليصحح لي: يضع يده اليمنى على قلبه، ويقول، بتلك الابتسامة العارفة: «هوْ». (بتسكين الواو).

أخرج مذعوراً، مخنوقاً، ملدوغاً. لا شيء في قلبي. ربما، البغض للعالم، وللنَفْس. أَتجوّل في سراييفو. قيل لي، تتفتّح المدينة عن أسرارٍ لا تخفيها، ولكن لا يقرؤها إلا من يقوده قلبه. لأيامٍ أبحث مجاهِداً مجتهِداً. أزور الكنيس اليهودي والكنائس الأرثوذكسية (الصربية) والكاثوليكية (الكرواتية). تتجمّع في المدينة الأديان الثلاثة، والكثير من اللا-دينين. سراييفو إحدى المدن العثمانية التي رحّبت باليهود بعد سقوط الأندلس. الكنيس القديم والبيوت اليهودية هدايا من الوالي. الطابق الثاني والثالث من الكنيس تَحوَّلا إلى متحف: بين الحياة العثمانية والفترة النازية، يتلوّى التاريخ، وأنا أهرب جزعاّ من صور معسكرات الاعتقال. لوحةٌ أخيرة، تحتفي بوصول بعضهم آمنين إلى فلسطين- إسرائيل، على ما تقول اللوحة. الكنيس الثاني، الأكبر والأحدث، بناه معماري تشيكي زمن الإمبراطورية النمساوية-المجرية، ويحمل بصمات شرقية إسلامية، يفخر بها اليهود والبوسنيون!

تُقدّم سراييفو نفسها، بشكل واعٍ ومقصود، على أنها مركز التقاء الشرق والغرب. المحاشي نموذجٌ لهذا اللقاء، المحاشي التي تنتشر في أوروبا الشرقية وتركيا واليونان والبلاد العربية. آكلها بنهمٍ. الحشوة فيها لحم أكثر ورز أقل مما لدينا، وأشهر ما يقدمون محشي البصل الصغير والبندورة. حساء الدجاج (حساء البيك)، وحساء العجل، وحساء السمك، كلها بلدغةٍ حارة ضئيلة مع خضارٍ منوّعة. المشاوي نفسها في إسطنبول أو دمشق. الأكباد والكِلى متوفرة. أتغدّى يومياً في مطاعم تقدّم طبخاً محلياً، وعدد المُفطِرين يقارب الصائمين أو يفوقهم. بعد تجارب متعددة، أعود إلى المحاشي، مراراً. في أحد المطاعم التقليدية الصغيرة بجانب ساحة السبيل-ساحة بشارجيا، يسخر مني الطبّاخ، عندما أطلب حساء معدة العجل. ليستْ لأمثالك من السياح الأوروبيين. أقول، ولكنني من سوريا. يفرح، وأتذوّق دهناً يسبح في المرق، كما لم أتذوقه منذ سهرات مطاعم حي الميدان الدمشقي. أشرب الشاي التركي في مقهىً صغير، يمتلئ بالسياح والسكان المحليين. موعد الإفطار. امرأة بمكياج ثقيل مع ابنتها، تطلبان وجبتي برغر والكثير من البطاطا المقلية من المطعم المقابل. تنتظران ضربة المدفع (المدفع موجود على هضبة قريبة)، تقرأان الفاتحة وتَمسحان الوجه. ثم تأكلان بتأنّ. لا تأنيب على الإطلاق للمفطرين هنا.

تتراكب سراييفو بطريقة غريبة، مركزها يقع على طرفها: هنا بنى العثمانيون مدينتهم، «سراي البوسنة»، كما تَرِدُ في وثائقهم. بداية سهلٍ يمتدّ بين هضابٍ كثيرةٍ خضراء دوماً. توسّعت المدينة بشكل مدهش بعد دخول الإمبراطورية النمساوية-المجرية للبوسنة، باتجاه واحد، في السهل وعلى طول النهر الصغير، إذ لا يمكن التَوسُّع في الاتجاه المعاكس حيث لا سهول للبناء. لاحقاً، أضاف تيتو أبنية اشتراكية كثيرةً، تقع بعد العمارة الأوروبية التقليدية. وهناك الهضاب المعمورة، بمنازلها الصغيرة المشهورة بالجملون القرميدي الأحمر، على مدّ النظر. على معظم الهضاب، رابضَت القوات الصربية طيلة فترة الحصار، والمدينة تحيا على التهريب من الأنفاق، والمساعدات المتقطّعة الأوروبية والأميركية.

في قلب المدينة العثمانية، يقع جامع غازي خسرو بيك، وخانقاه، ومدرسته، وحَمّامه: كلها أوقاف شخصية باسمه. أبوه نبيلٌ بوسني أسلمَ مبكراً جداً، وتزوج ابنة السلطان العثماني في إسطنبول، بعد أن أبلى بلاء عظيماً مع الجيوش العثمانية في غزوات البلقان. عاصر خسرو أعظم مرحلة في تاريخ السلطنة: عصر سليمان القانوني. كل أوقاف غازي خسرو دُمِّرت جزئياً خلال الحرب. الحمام ما زال مهدوماً. دُفن في مقام داخل المسجد، أكبر مسجد عثماني في البوسنة، ولكنه أصغر من جامعنا الأموي. كل المباني الكبرى من زمن الإمبراطورتين صغيرة نسبياً. الأبراج القليلة والمباني الحداثية بدأت تظهر في الثمانينيات، ثم بعد نهاية الحصار، بشكل قبيح، يموّلها الأوروبيون والخليجيون، علامة الرأسمالية الصاعدة في مدينة يشدها الشرق والغرب في كل الاتجاهات، كاليويو يلعب به أطفالٌ عابثون. 

يتذمر إمام مسجد التقيناه، بالعربية الفصحى، من أن تيتو صادرَ بعض الأوقاف الإسلامية. شارع تيتو الشارع الرئيس في سراييفو، وصوره منتشرة كثيراً، في البارات والمطاعم والمحلات. على باب مقهى تيتو، معدات عسكرية استخدمها في نضاله ضد الاحتلال النازي، وفي الداخل، عشرات الصور التي تجسّد غرور البشر الفانين: تيتو في مختبر علمي، في الصين، في أوروبا الغربية، في بدلة رياضية، في ساحة المعركة، يدخن السيجار الكوبي، ينظر على ساعته، يحدّق في الأفق… تقول لي صبية محجبة إن تيتو أفضل ما حظيت به البوسنة: فرض على النساء المسلمات التعليم الإجباري، لأول مرة في تاريخ البلد. ما زال الكثير يحنّون إلى عهدٍ استطاع فيه أصحاب المهن الدنيا شراء سيارة والحصول على عطلةٍ محترمة في مصايف ساحرة. وعلى العكس مما يعتقد الكثيرون، في نهاية الستينيات توسعت اللا-مركزية، وأصبحت البوسنة عضواً كاملاً في الاتحاد اليوغسلافي، وبدرجة أقل، كوسوفو.

في باحة المسجد، عشرات النساء والرجال. حجاب يكشف الشعر، بدون حجاب، محجبات كثر، وعشرات النساء اللواتي يخلعن الحجاب بعد الصلاة، في الباحة أو على مدخل المسجد. كل الأبنية العثمانية، بما فيها جامع خسرو بيك، متواضعة في الداخل: المحراب والمنبر والسقف والقبة والمآذن وغيرها، لا تشي بالغنى وعبث الحكّام المتفاخر. صلاة التراويح تردّ الروح. أقفُ بجانب مصوّر يدخّن، ويراقب. لغة الإمام العربية ممتازة، وصوته حنون: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ. يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ». تكتسي الآية معنى آخر، معنى مختلف، معنى محلّياً تماماً. يذوب المصلّون في المطر الخفيف. عشرات يصلّون تحته، وقلوبهم خاشعة. يوزعون حلويات منوّعة. يلعب طفلٌ بالماء أمام المتوضأ الذي يسيل منه الماء على الأطراف، وتعلوه قبة خشبية ساحرة. لا ينهره أحدٌ.

اتّسم حكم الإمبراطورية النمساوية-المجرية بالتسامح عموماً، واستمعوا لمطالب الناس. يُردّد البوسنيون قصة المكتبة الوطنية، التي قرر الحاكم بناءَها لتكون شاهداً على عظمة الإمبراطورية. اعترض المشايخ والسكان على المخطط الأولي، الذي يجسد عمارة فيينا. فاستدعى الحاكمُ شاباً عبقرياً تشيكياً في السادسة والعشرين من عمره، قدّمَ مخططاً ساحراً، شرقياً، بنكهة يونانية في العواميد الداخلية، وفي معنى البناء نفسه: ولكن الواجهات والزينة الداخلية والخارجية كلها إسلامية. اعتمد أساساً على مُجمّع السلطان حسن في القاهرة، بل لقد نسخ حرفياً واجهاته. والنتيجة أبهرت الشاب والبوسنيين والحكّام: أصبح كارل باريك Karel Pařík معماريَ المدينة الأول والرسمي، وبعدها صمّم أكثر من سبعين مبنىً، كالكنيس اليهودي، وكلية الدراسات الإسلامية، ومبنى المتحف الوطني، وفندق أوروبا: كلها ما زالت معالمَ سراييفو الرئيسية. عاصر المعماري هذا الإمبراطوريتين اللتين بادتا، وعاش هنا بقية عمره، وتابع عمله بدون هوادة لسراييفو، التي ما زالت تحتفي به، بوصفه ابنها البارّ.  

احترقت معظم هذه المباني في الحصار، وقد استهدفها الصرب بشكل مقصود. احترقتِ المكتبة كلياً، واستغرق إعادة افتتاحها أكثر من عقدين. اليوم، تتربع على مدخل المدينة القديمة، أمام النهر، بألوانها الزاهية، وزجاجها المعشّق النافر، وروحها التي تعطي المعنى لسراييفو، ولفكرة البوسنة.

صورة: مكتبة سراييفو (ويكيبيديا)

لم أستيقظ صباح العيد، ولكنني سمعتُ الاحتفالات بالألعاب النارية. امتلأت الشوارع بالناس. زرتُ المقبرة التي تضم رفات شهداء الحصار وتطل على المدينة القديمة، وقرأت الفاتحة. لأول مرة أجد أزهاراً يزرعونها في داخل القبر، المرتفع عن الأرض أكثر بقليل من قبورنا: كأنَّ الشهداء، حرفياً، يُزهرون أمام الأعين الحزينة. عشرات الزوار، يرددون آياتٍ من القرآن، لا يفقهون معانيها. أدور بين الهضاب، والمطر الخفيف لا يني يرشرش حبّه بِرِقّة. أعود إلى شارع تيتو. في نهايته، «النار الأبدية»، أشعلوها لذكرى شهداء الحرب العالمية الثانية، ولا تنطفئ أبداً. كي لا ننسى. بعدها، كرروا شعار: «كي لا ننسى سيربينتسا، كي لا تتكرر المجزرة»، وجعلوه المركز الذي يدور حوله معنى البوسنة. مجنونة تكلّم نفسها. تصرخ في وجهي، أمام الكاتدرائية الكاثوليكية الكبرى. في عزّ الحصار، حافظ البوسنيون على الكنائس والكُنُس. أشهر القادة في الحصار جنرالٌ صربي انشقَّ مبكّراً مع كتيبته ليحمي سراييفو، ودافع ببسالة لا مثيل لها عنها. الشحاذون كثر، ومعظمهم نظيفون ويتمتعون بصحة جيدة. أدخل إلى مقهاي المفضّل. ثلاث صبايا يصمنَ يومياً، واليوم بقيت واحدة، والأخريات ذهبنَ إلى الأهل في العيد. خليجيون بجانبي، يتصارعون حول البقلاوة: هل التركية، أم السورية أفضل؟ الأطفال يريدون كيك شوكولا فرنسي. مسكينة البوسنة، ليست حتى في المنافسة. ولكن، تبقى فكرة الجسر بين الشرق والغرب، التي قدمها إيفو أندريتش بإصرار، على أنها معنى يوغوسلافيا ومعنى البوسنة، بكل خطاياها، قائمة.

أقرر أن أتغدى في مطعم سياحي، يمتلئ بالأجانب. أجلسُ في الشمس. توقَّفَ المطرُ تماماً. النادلة متعجّلة. لا شكراً، لا أريد بيرة. أطلب لحم العجل المطبوخ مع الخضار. يعلوها الهمّ. المطعم ممتلئ عن آخره. لا وقت للابتسام. تركض بين الطاولات. الطبّاخة في الداخل تضحك كثيراً، وتدندن ألحاناً شعبية. الطعام جيد. ربما، لم نكسب شيئاً من كل الحصارات، كما قال ماركو. كلمة «حصار» هذه تُصلي قلوب البوسنيين. حوصروا في الشرق والجنوب وفي العاصمة. حصار غزة، الغوطة، حلب، حمص القديمة. دوماً يتعاطفون بعفوية وبدون شروح أو فزلكات مع المُحاصَرين. أليس هذا ما يجب أن يكون عليه كل الناس؟ تصرخ في وجه طفلٍ يشحذ بين الزبائن. يهرب الطفل إلى أمه. العيد الحقيقي مع الأهل، وليس في المدن القصيّة. أشعر بتأنيب ضمير على سنوات المراهقة التي عَذّبتُ فيها أهلي في العيد، هارباً منهم مراراً. تقول إنها لا تريد طرده، ولكنها تعليمات المدير. في العادة، تُعطيه نقوداً أو طعاماً. ولكن، اليوم عيد: والمطعم ممتلئ عن آخره. إذن، البوسنة مرآة الإسلام والغرب معاً: مرآة الوجه الأبتر. أدخل المطعم لأدفع. أراها، واقفةً على عَجَل، تأكل حلويات العيد: بقلاوة بالجوز. تشرح لي أن الطبّاخة جلبتها من قريتها البعيدة. أعتذر لمقاطعتي لها. بابتسامة صادقة، متعبة، تعرض علي قطعة. ولكنني تذوقتها البارحة. وكرهتها. ماذا أفعل؟ كذبتُ. تعلمت مبكراً أن الكذب أصدق. تناولتُ قطعةً صغيرةً. ابتسمتْ، وركضتْ إلى طاولات السياح. غادرتُ، وأنا أقرأ اللافتة الكبيرة في ساحة السبيل، بالأحرف اللاتينية: «بيرم شريف مبارك أولسون»…