لا شكّ في أنّنا كسوريّين، خلال السنوات الاثنتي عشرة الأخيرة، اختبرنا قُدراتنا كأفرادٍ ومجتمعاتٍ على الصبر والتحمّل والجلَد واحتمال «التروما» والصدمات النفسيّة واختبار الأهوال والصِعاب. فمن تجربة تَحمُّل عنف نظام الأسد المُمنهج ضدّ الأفراد والتجمّعات السلميّة في أول أشهر قيام الثورة في 2011؛ إلى اضطرار التعامل مع نتائج شنّه الحرب بكامل عُدّتها وعتادها على مجتمعاتٍ بأكملها؛ إلى الدخول في أتون تجربة الانسلاخ عن المنزل والحيّ والمدينة والوطن، وتكبّد وعثاء التهجير واللجوء وذُلّه عند الإخوة والأشقّاء، وصعوباته عند الغرباء؛ إلى التأقلم، رويداً رويداً، مع فكرة أنّ خسارتنا لم تكن عملاقةً، فحسب، بل وأنّها ستكون طويلة الأمَد، إن لم تكن مؤبّدة. كلّ هذا حاولنا ونحاول يوميّاً، كلٌّ في منافيه داخل سوريا وخارجها، التعامل معه بدرجاتٍ متفاوتةٍ من القدرة والنجاح.

لم يكن ينقص أيّاً منّا صعوباتٌ جديدةٌ تُضاف على مشقّات قَدَرنا كسوريّين، لكي تختبر صَبرنا وقُدرة تحمّلنا. إلا أنّ الأخوة الأشقّاء في جامعة الدول العربيّة أبَوْا، بالكَرَم المعروف عنهم، إلّا أن يفعلوا ذلك. فكان التسارع والهرولة من ممثّلي النظام الرسميّ العربيّ إلى «طيّ صفحة الماضي» و«إعادة سوريا إلى الحضن العربيّ» هما هديّتهما إلى ملايين من السوريّين، والعرب، كانت خاتمةُ مَشهديّتها هي استضافة بشار الأسد لاستعادة مقعد سوريا في الجامعة العربيّة في اجتماع جدّة، مُنهين بذلك عُزلته شبه-التامّة التي استمرّت اثنَيْ عشر عاماً بعد قرار تجميد عضويّة سوريا فيها. ما هي الأسباب التي دعَت النظام الرسميّ العربيّ إلى تَمثُّل هذه المشهديّة بالتحديد؟ لمَ هذه المبالغة في الحفاوة والترحاب وتسليط الأضواء على عودة الأسد إلى الوقوف بين «أشقّائه» الأوتوقراطيّين؟ هل من رسائل من وراء هذا المشهد؟ إلى مَن تتوجّه هذه الرسائل، بالتحديد، وما الذي تعنيه بالنسبة لنا، نحن، المواطنين السوريّين والعرب؟

الزلزال الأوّل: «الربيع العربي» والقطيعة

مرّت مياهٌ كثيرةٌ تحت جسورٍ كثيرةٍ في سوريا والمنطقة العربيّة، بعد فيضان غضب وإحباط الجماهير العربيّة الذي تمثّل في التظاهرات السلميّة لـ «الربيع العربيّ». فما بدأ بثوراتٍ سلميّةٍ جماهيريّةٍ، فتحت لدى قطاعاتٍ واسعةٍ من المجتمعات العربيّة أبواب الأمل باستعادة زمام السيطرة على مصائرها، وإحداث تغييرٍ في الأسلوب الاستبداديّ المغلق الذي حكَمها عقوداً طوالاً، وتحسين إدارة شؤونها وأوضاعها المعيشيّة؛ سرعان ما غَرِقَ وأَغرقَ هذه المجتمعات في وحول الرمال المتحرّكة للعنف المفرِط الذي استخدمته الأنظمة الاستبداديّة، والتدخّلات الخارجيّة التي عقّدت المشهد المعقّد أصلاً، والثورات المضادّة التي أعادت تركيب البُنى الاستبداديّة بصوَرٍ أسوأ من تلك التي ثارت الناس عليها بالأساس.

ولم يكُن مصير أيٍّ من بلدان الثورات العربيّة بأسوأ ممّا كان عليه في سوريا، حيث لجأ نظام الأسد إلى تفخيخ المجتمع السوريّ وتفجيره من الداخل بتأجيج وتحريض الخلافات المذهبيّة والمناطقيّة، وقصفه (بالمعنى الحَرفيّ والمجازيّ) ببراميل متفجّرةٍ وأسلحة تدميرٍ شاملٍ مُحرّمةٍ في كلّ الشرائع. وكانت النتيجة الكارثيّة التي بات العالم يعرفها ونعرفها كسوريّين جميعاً: ما بين 306 ألف و580 ألف شهيدٍ وقتيل؛ ما يرْبوا عن 5.3 مليون لاجئٍ مسجّلين رسميّاً لدى مفوّضيّة الأمم المتّحدة العُليا لشؤون اللاجئين (UNHCR)؛ ونحو 6.9 مليون مشرّدٍ داخليٍّ و14.6 مليون مواطنٍ داخل حدود سوريا بحاجة المساعدات الإنسانيّة بحسب أرقام مكتب الأمم المتّحدة للشؤون الإنسانيّة (OCHA). هذا كلّه، فيما خلا الأضرار الماديّة الملموسة في منظومة الاقتصاد السوريّ، التي دُمِّرَت بسبب التدمير المباشر والمتعمّد على يد النظام وحلفائه الإيرانيّين والروس، بالدرجة الأولى والكبرى، وعلى يد بقيّة المتحاربين على الأرض السوريّة. فثمّة ما يُقارب 110 ألف مبنىً متضرّرٍ (بحسب تقديرات 2017) من الحرب الطاحنة، 27.7 بالمئة منها دُمِّر تدميراً كاملاً بينما تضرّر 35.3 بالمئة منها ضرراً كلّياً (يجعلها غير قابلةٍ للاستخدام). وعليه، فرغم أنّ كلفة إعادة إعمار ما دُمِّر منذ العام 2012 حتى اليوم موضع اختلافٍ ما بين المراقبين والمختصّين، يبقى من المُتّفَق عليه ضخامتُها. وتَنوس قيمة إعادة الإعمار ما بين التوقّعات «المتفائلة» التي تضعها عند عتبة 400 مليار دولارٍ، وما بين التوقّعات الأكثر سوداويّةً (والأكثر واقعيّةً، في تقديري) عند رقمٍ هائلٍ هو 1.2 تريليون دولار؛ أي ما بين تسعة أضعاف و27 ضعفاً للناتج المحلّي السوريّ عام 2012!

وقد كان التوافق، حتى بداية العام الحاليّ، وبما يشبه الإجماع الرسميّ عربيّاً، على تحميل النظام السوريّ مسؤوليّة الأوضاع المأساويّة التي وصلتها البلاد خلال العقد الماضي. فمن تصريحات وزير الخارجيّة الإماراتيّ عبد الله بن زايد أمام مؤتمر «أصدقاء سوريا» في باريس عام 2012، التي اشتكى فيها من قيام «النظام السوري بالضحك على المجتمع الدوليّ»، إلى تصريحات مندوب المملكة العربيّة السعوديّة لدى الأمم المتّحدة عبد الله المعلّمي وخطاب «لا تصدّقوهم» الشهير؛ بقي الموقف العربيّ الرسميّ سلبيّاً في العلن من نظام الأسد ومن أيّة إمكانيّات للتقارب أو للتعامل أو التنسيق معه.

التصدّع: جفاءٌ مع واشنطن، وتقاربٌ مع موسكو وبكين

بدأ التصدّع في الموقف العربيّ الرسميّ تجاه النظام منذ نهاية عهد أوباما في العام 2015. فقد بدأت التشقّقات في التحالف التقليديّ بين الدول الخليجيّة، والسعوديّة والإمارات بالتحديد، من جهة وواشنطن من جهةٍ ثانيةٍ، تَظهر بوضوحٍ ساعتها. فقد اتّهمت الدول العربيّة واشنطن بالتضحية بالتزاماتها التقليديّة على مذبح اتفاقها النوويّ مع إيران، خصوصاً فيما يتعلّق بالتمدّد الإقليميّ لإيران في كلٍ من اليمن وسوريا. وبلغ غضبها من واشنطن إلى درجة مقاطعة قادة السعودية والإمارات قمّة كامب دايفيد في أيّار (مايو) 2015، ثمّ عدم استقبال الملك السعوديّ لأوباما في زيارته الأخيرة للسعوديّة في 2016. وكانت من نتيجة هذا الاهتزاز شعورُ كِلا البلدَيْن بضرورة البحث عن بدائل في تحرّكاتهما الإقليميّة، وتنافُسهما مع إيران، ومع بعضهما، على الهيمنة الإقليميّة وضرورات الأمن. لم تطرأ تغييرات تُذكَر في هذه العلاقات، إلا في الشكل، خلال عهد ترامب، إذ لم يُطمئن منهجه «التعاقديّ» القائم على تبادل المنافع عِوَضاً عن التحالف الإستراتيجيّ هذه الدول. وقد عبّر اللقاء العلَنيّ والأسلوب المستفزّ لتصريحات ترامب بشأن استثماراتٍ سعوديّةٍ بما يقارب 450 مليار دولارٍ إبّان زيارة وليّ العهد السعوديّ، بصورةٍ فجّةٍ عن التغيير والتدهور في نوعيّة العلاقات. وتستمرّ هذه النزعة مع إدارة بايدن الحاليّة. فقد توعّدَ في حملته الانتخابيّة وبداية عهده بـ«معاقبة الإدارة السعوديّة» على خلفيّة انتهاكات حقوق الإنسان في اليمن وجريمة اغتيال الخاشقجي؛ لكنّه سرعان ما تراجع عن هذه التهديدات. إلّا أنّ الضرر في العلاقات كان قد وقع، وقد فرض على كلٍ من السعودية والإمارات مراجعاتٍ كبرى في إستراتيجيتَيْهما تجاه الملفّات الإقليميّة، وأهمّها الملفّ السوريّ.

فالقيادتان، السعوديّة والإماراتيّة، ترَيان الوضع الإقليميّ من موشور الفرصة المحدودة زمنيّاً للبلدَيْن قبل انطواء مرحلتهما النفطيّة. إذ يسعى كلٌّ منهما إلى تنويع مصادر الدخل وتَوسِعة إطار الاقتصاد وتثبيت ريادتهما في الإقليم لما بعد نضوب ثروتَيْهما النفطيّة، كما ورد بصورةٍ واضحةٍ في برنامج «رؤية 2030» السعوديّ، على سبيل المثال. تسعى السعوديّة تحت قيادة وليّ العهد محمد بن سلمان إلى تَولّي الريادة عربيّاً واحتواء الأدوار الأخرى (الإماراتيّ والقطريّ، بالتحديد) تحت عباءة هيمنةٍ سعوديّةٍ متصاعدة. وهو ما يفسّر التبدّلات المفصليّة المتسارعة في سياسة السعوديّة داخليّاً وخارجيّاً، التي يمكن الاستدلال عليها في التغييرات البنيويّة في إدارة ملفّاتٍ متعدّدة. فبدلاً من الاتّكاء التقليديّ على الولايات المتحدة، يجري التقارب المتسارع مع روسيا والصين على مستوياتٍ متعدّدةٍ، أهمّها الاقتصاديّ والسياسيّ.

على الجانب السعوديّ، ففيما يتعلّق بروسيا، يأتي الاتفاق (ضمن إطار «أوبك بلاس») على المحافظة على معدّلات إنتاج النفط دون زيادة، وبالتالي، مخالفة الرغبة الأميركية المعلَنة بزيادة الإنتاج وخفض الأسعار لمساعدة جهود ضبط التضخّم. ومنها الموقف السعوديّ كوسيطٍ بين روسيا وأوكرانيا، وبين روسيا وبعض الدوائر الغربيّة في معرِض الحرب الروسيّة-الأوكرانيّة، حيث تقف على «حيادٍ» أقرب إلى لحظ المصالح الروسيّة منها إلى مصالح الغرب والولايات المتّحدة. وذلك كلّه انعكس، كذلك الأمر، على موقف السعوديّة بالتحديد فيما يتعلّق بالشأن السوري، حيث تلعب روسيا منذ العام 2015 الدور الرئيس؛ إذ بدأت السعوديّة تُهدّئ من حملتها الإعلاميّة على النظام تباعاً، حتى الوصول إلى اللحظة الحاليّة. أما مع الصين، فقد تصاعدت وتيرة تحسّن العلاقات بين الرياض وبكين حتى تُوِّجَت بزيارة الرئيس الصينيّ شيجينغ بين التي وُقِّعَت فيها اتّفاقيات بقيمة 30 مليار دولار تحت عنوان «مواءمة مبادرة الحزام والطريق [الصينيّة] مع رؤية 2030 [السعوديّة]»، وكانت من نتائجها، مؤخّراً، توقيع اتفاق التهدئة بين السعوديّة وإيران في بكين، وبرعايةٍ صينيّةٍ معلَنةٍ، اعتُبِرَت ضربةٍ معنويّةً للولايات المتّحدة.

الزلزال الثاني: «تمنّعٌ» ثمّ «غزَلٌ» ثمّ «لقاء»

لقد أثّرَ هذان المساران، مسارُ تضعضع العلاقات العربية مع واشنطن ومسار «الانفتاح» على روسيا والصين، على الموقف العربيّ من النظام السوريّ. كل هذا، مُضافاً إلى ما آلت إليه الثورة، ثمّ الحرب التي نتجت عنها، على الأرض في سوريا من انكشافٍ للوضع العربيّ، كانت كفيلةً بطرح خياراتٍ مختلفةٍ على الدول العربيّة. فقد غيّر التدخّل الروسيّ في 2015 موازين القوى على الأرض في سوريا لصالح تثبيت موقف النظام، ثمّ استعادة المبادرة، ثم إنهاء بؤر الصراع الأخطر على موقفه (حلب في 2016، ثمّ الغوطة في 2018). وفرضَ ذلك على الكثير من الأنظمة الإقليميّة إعادة النظر في تحالفاتها في سوريا، باتجاه عكس المسار نحو استعادة العلاقات مع نظام الأسد.

كانت الإمارات العربيّة المتّحدة هي أولى المبادرين بإعادة فتح سفارتها في دمشق، وسرعان ما تبِعتها البحرين في نهاية عام 2018؛ لكنّ هاتَيْن الخطوتَيْن بقيَتا مقتصرتَيْن على الاعتراف الدبلوماسيّ البارد وقليلٍ من الشكليّات، دون تطبيعٍ حقيقيٍ للعلاقات. فسيفُ الاعتراض الأميركيّ وعقوباته بقيا ماثلَيْن. أضف إلى أنّ نظام الأسد كان «سامّاً» ولا يمكن مساسه لسببَيْن بارزَيْن: إيغاله في الجريمة في سوريا وعداؤه اللفظيّ والفعليّ مع العرب خلال فترة الحرب، وتوغّل إيران في كل مفاصل ما تبقّى من النظام في سوريا. اعتُبِر النظام جزءاً من «رزمة» ملفّ العلاقات مع إيران، وكانت المقاربات تجاهه تتعلّق بتطوّراته التي كانت تمرّ بفترةٍ عصيبةٍ للغاية، وبالتحديد فترة انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقية النووية، واغتيال قاسم سليماني وما تبعها من تصعيد. إذ كان يبدو وكأنّ إيران قد تضطرّ إلى دفع ثمنٍ ما في سوريا، ما دفعَ السعوديّة بالتحديد إلى إبداء التشدّد حيال النظام السوريّ. فبقيت العلاقات فاترةً ومحدودةً ومحصورةً بهذين البلدَيْن بسبب «فيتو» سعوديٍّ مُعلَن على إعادة تأهيل النظام. وليس خافياً وجود تنافسٍ بين السعوديّة والإمارات على تبوّءِ الدور الإقليميّ الأبرز، رغم وجود مصالح مشتركةٍ وتنسيقٍ على مستوياتٍ متعدّدة.

لكن يبدو أنّ ظرف الحرب الروسيّة على أوكرانيا، وبالتحديد أَثرها على موقف روسيا في سوريا، وتَمدُّد إيران مرةً ثانية رغم عوامل ضعفها الداخليّة بنتيجة التحرّكات الشعبيّة والاحتجاجات وأثر العقوبات المديد على اقتصادها، غيّرَ البوصلة مرةً أخرى. إذ قام الأسد بزيارة الإمارات في توقيتٍ رمزيٍّ لا يبدو أنّه كان عفويّاً (الذكرى الحادية عشر لقيام الثورة السوريّة)، ولو أنّها كانت تبدو من حيث المظهر «زيارة عمل». لكنّها كانت إيذاناً بكسر العزلة عليه. ويَظهر أنّ السعوديّة، من جهتها، اتّخذت قرارها في منتصف العام 2022 بصورةٍ جدّيةٍ بإنهاء مرحلة التوتّر مع إيران، بهدف تأمين أمنها الإقليميّ وسدّ نزيفها الأمنيّ والماديّ في اليمن، خاصرتها الرخوة. يبدو أن التقييم الإستراتيجيّ السعوديّ مبنيٌّ على تَقبُّل خسارة موقفها بصورةٍ ما في كلٍ من سوريا ولبنان وتركهما للنفوذ الإيرانيّ، مع طلب مقابلٍ في اليمن بالتحديد؛ وشراء «راحة رأسٍ» تسمح بتنفيذ برامج «رؤية 2030» وتكوين منطقة نفوذٍ اقتصاديٍ سعوديٍ ستمنحها، في مقبل الأيّام، قوةً ونفوذاً يغيّر من توازنات القوة تجاه إيران، المُهلهلة اقتصاديّاً بحكم سنواتٍ من العقوبات الدوليّة القاسية وسوء الإدارة الكارثيّ للموارد. وهكذا بدأ التعامل مع ملفّ عودة سوريا إلى «الحضن العربيّ» يُتداوَل في الإعلام العربيّ (والسعوديّ بالتحديد)، وإن بخجلٍ وعلى استحياء.

لكنَّ العام 2023 بدأ بتحرّكٍ إماراتيٍّ مباغتٍ، حين قام وزير الخارجيّة الإماراتيّ عبد الله بن زايد بزيارةٍ رسميّةٍ إلى دمشق التقى فيها رأس النظام؛ إذ يبدو أن «قرون الاستشعار» الإماراتيّة شعرت بتصاعد وتيرة الاتصالات السعوديّة-الإيرانيّة، وأرادت أن تنال قصب السبَق في إرسال الإشارات الإيجابيّة إلى إيران، عن طريق تطبيع وضع نظام الأسد في سوريا. ثمّ بعد شهرٍ من هذه الزيارة، وقع الزلزال في شمال غرب سوريا وجنوب تركيا، ومنحَ جهودَ التطبيع الخجولة دفعةً من الجرأة والعلَنيّة، إذ تسارعت وتائره: فسرعان ما زار الأسد سلطنة عُمان ثمّ الإمارات، حيث مُنِح استقبالاً رسميّاً اتّسم بـ«الحفاوة» وبإطلاق إحدى وعشرين طلقةً ترحيباً بقدومه! وسرعان ما تبِع هذه الزيارات تَقاطُرُ الوفود على سوريا، ورفع وتيرة الحديث عن ضرورة «إنهاء القطيعة» و«إعادة المياه إلى مجاريها»، لتصل إلى زيارة وزير الخارجيّة السعوديّ فيصل بن فرحان إلى دمشق في 18 نيسان (أبريل). هذه الزيارة التي أذِنَت بإعادة النظام السوريّ إلى النظام العربيّ الرسميّ بالصورة التي شاهدناها في قمّة جدّة، وقد تمّ ذلك تحت ذريعةٍ إعلاميّةٍ تتحدّث عن ضروراتٍ واعتباراتٍ إنسانيّة فرضها الزلزال، والحاجة إلى «عون الشعب السوريّ الشقيق» وخلاف ذلك من الأعذار.

«إنّما المُستبدّون في الأرضِ أخوة!»

كل هذا مفهومٌ وممكنُ التبرير باعتبارات الأمن الإقليميّ، أو البراغماتيّة السياسيّة، أو ضرورات التنمية الاقتصاديّة، أو خلافها. فالحقائق على الأرض تقول إنّ نظام الأسد تمكّن من التشبّث بالسلطة بأي ثمنٍ، وبالتضحية بكلّ غالٍ ونفيس: برمي الاستقلال والسيادة الوطنيّة، والارتهان التامّ لأجندات داعمَيْه الرئيسَيْن، روسيا وإيران؛ بتفتيت المجتمع السوريّ طائفيّاً ومناطقيّاً، وتفجير البلاد بالمعنى الفعليّ والمجازيّ؛ وبالإيغال في الجريمة، باستخدام الأسلحة الكيماويّة في حربه على مواطنيه، وباللجوء إلى اقتصاد المخدّرات لمراكمة الثروة وسدّ العجز الماليّ الذي تسبّبت حربه على السوريّين به أساساً. لكنّ الواقع هو أنّه تمكّنَ من التمسّك بالسلطة، وبقي عنواناً لأي طرفٍ يريد التعامل مع الشأن السوريّ بأيّة صورةٍ كانت.

لكنّ المفهوم، والواضح بفجاجةٍ كذلك، هو أنّ الجريمة الموصوفة التي ارتكبها نظام الأسد، والتي امتلأ إعلام «الأشقّاء» العرب الرسميّ بتوصيفاتٍ بالغة الوضوح لها عبر عقدٍ من الزمان، وصمةٌ باقيةٌ لم تتزحزح. وهذا يطرح باب التساؤل: هل كانت هذه الحفاوة والاحتفاء بالنظام حتميّةً؟ هل كانت ضَرباً من ضروب «البراغماتيّة»؟ هل كان لا بدّ من استقبال النظام في محفَلٍ رسميٍّ كهذا، رغم كلّ الانتقادات عن هامشيّة أثره الفعليّ، بهذه الصورة؟ ما هي الرسالة من وراء هذا المشهد، وإلى مَن وُجِّهَت؟أجد أنّ الإجابة على هذه التساؤلات تبدأ بالنفي: نفي أن يكون هذا ضرباً من ضروب «الضرورات تبيحُ المحظورات». إذ كان من الممكن تَفهُّمُ هذه العودة فيما لو تمّت بطريقةٍ مكتومةٍ أو خجولةٍ، مثلاً، وتبريرها بضرورات البراغماتيّة ساعتها؛ إرسال رسالةٍ رمزيّةٍ مفَادُها “«نحن نعلم أنّه مجرم، لكنّنا مضطرّون للتعامل معه.». لكنّ الرسالة الرمزيّة الفعليّة لمشهد القمة العربيّة كانت مُرسلَةً إلى الشعوب العربيّة بالدرجة الأولى: «ها هو ’ربيعكم العربيّ‘ قد تمّ دفنه بصورةٍ نهائيّة. لقد أعدنا عقارب الساعة إلى الخلف، وسنبقى نحكمكم مهما حصل. حتى من يُوغلُ منّا في الجريمة، كما فعل بشار الأسد، مكانه محفوظ بيننا. هذا نادينا، نادي الحُكّام المطلَقين؛ نختلف فيما بيننا، نتصارع، نريد إسقاط واحدنا للآخر؛ لكننا في النهاية متضامنون متكافلون، لأنّ مصالحنا أهمّ من أيّة اعتبارات». كانت هذه الرسالة أشبه بالتمثيل الرمزيّ بالجثّة، تصرّفاً يبدو مستوحىً من ممارسات النظام الأسديّ كما وثّقتها وثائق قيصر الشهيرة. وقد وصلت هذه الرسالة التي كانت أهمّ ما في القمّة، إذ لم ينتج عنها، كعادة القمم العربيّة، أيّة قراراتٍ وازنةٍ أو ذات قيمة. نعم، انتهى «الربيع العربيّ»، لكنّ هذه العودة المُظفَّرة لمجرم حربٍ إلى كنَف «أشقّائه» الشامتين بدماء مئات الآلاف من شعبه هي الدلالة لنا أنّنا، كشعوبٍ، أمام معركةٍ طويلةٍ لنَيْل أبسط حقوقنا من طُغَمٍ تتشبّث بالسلطة بأي ثمن وكُلّ ثمن؛ وأنّ علينا أن نتعلّم من هذه الطُغَم كيف نتكاتف ونتضامن في وقوفنا ضدهم، تماماً كما يفعلون في مواجهتنا.