ليس مُفاجئاً أن قادة الأنظمة العربية ليست لديهم مشكلة مبدئية مع بشار الأسد، فما الذي فعله رئيس النظام السوري سوى أنه استخدم كل ما في جعبته من أسلحة وتحالفات ومذابح لإخضاع محكوميه؛ ليس هذا ممّا يمكن أن يُفسد الودّ بينهم وبينه. لكن مع ذلك، فإن ثمّة ما يُثير الاستغراب في هذا الإصرار على التطبيع معه، لأنه من مألوف السياسة عدم تقديم مكاسب لأطراف أخرى أو خصوم حاليين أو سابقين دون مُقابل، ويبدو صعباً تَصوُّر المُقابل الذي سيُقدّمه بشار الأسد لقاء هذه الخطوة الكبيرة.

بالاستناد إلى البيانات والخطابات العربية الرسمية وشبه الرسمية، يبدو أن المطلوب من بشار الأسد هو إنجاز خطوات ملموسة في ثلاثة ملفّات: تجارة الكبتاغون وعودة اللاجئين وتهديد الاستقرار الإقليمي انطلاقاً من سوريا. الهدفان الأخيران مُشترَكَان مع دول أخرى غير عربية ترغب في التطبيع مع الأسد، وعلى رأسها تركيا، وإن كان «تهديد الاستقرار» يحمل بالنسبة لتركيا معنىً مختلفاً عن ذلك الذي يحمله بالنسبة للدول العربية.

جرى حَشرُ كل هذه المطالب عربياً في مبادرة أردنية مُبهمة حملت اسم «خطوة مقابل خطوة»، ويجري تقديم الأمر في الإعلام على أنه انتصار دبلوماسي، وعلى أنه خطوة أولى ستتبعها خطوات أخرى تتضمّن «تنازلات» من جانب النظام، ما يوحي أن الدول العربية تنتظر من النظام السوري أن يَشرع فعلاً في تنفيذ خطوات تدريجية نحو تحقيق هذه المطالب.

ويبدو واضحاً من سيرة بشار الأسد أنه ليس لديه أي مشروع سياسي سوى البقاء في السلطة، وإذا كان تنفيذ طلبات الدول العربية يضمن سلطته، فلا شكَّ أنه سيعمل بشكل حثيث على تنفيذها. وما زال هناك أمران اثنان فقط يهددان بقاء النظام السوري؛ الأول ضعف الموارد المالية في ظل العقوبات وانهيار البنى التحتية ودمار البلد، والثاني وجود مئات آلاف السوريين والسوريات المناهضين له على الأرض السوريّة وفي الشتات، وكثيرون منهم يعيشون في مساحات خارجة عن سيطرة مخابراته وجيشه في الشمال السوري وفي الخارج، ما يجعلهم تهديداً مُحتملاً في كل وقت، خاصة إذا ما تقاطعت رغباتهم في الخلاص منه مع مصالح ورغبات دول أخرى. يعني الأمر الثاني أيضاً أن بشار الأسد لا يسعه الاستغناء عن الوجود والدعم الإيراني الميداني المباشر، وهو ما يلعب دوراً بارزاً في مآلات التطبيع العربي إذا افترضنا صحّة ما يُقال عن مقاربة عربية تهدف إلى إبعاد الأسد قليلاً أو كثيراً عن إيران.

أما نقص الموارد المالية، فيُعالجه بشار الأسد اليوم بالكبتاغون، ولا شك أنه سيوافق على تقييد تجارة المخدرات المُنفلتة هذه إذا توافرت له مصادر تمويل أخرى «أكثر شرعية» تضمن لنظامه القدر نفسه من الأموال دون مشكلات مع دول الجوار. غير أنه ليس مؤكداً أنَّ الأموال التي قد تدفعها الدول العربية كافيةٌ، في ظلّ العقوبات، لإقناع بشار الأسد بالكفّ عن رعاية تجارة المخدرات. وأما مشكلة السوريين المناهضين لحكمه، فليس هناك حلٌّ واضحٌ لها وليس في مقدوره التعامل معها اليوم سوى بإبقاء الأمور مفتوحة على المجهول وإبقاء الإصبع على الزناد بدعم إيراني روسي. تتعلّقُ هذه المشكلة باثنين من مطالب الدول العربية المُفترَضَة المُشار إليها أعلاه، وهما الكفّ عن تهديد الاستقرار الإقليمي وعودة اللاجئين.

يقتضي إنهاء تهديد الاستقرار أن يتم حل مشكلة النظام مع المناهضين لحكمه دون معارك ومذابح كبرى، وهو ما يعني مُصالحات حقيقية يَأمنُ فيها المعارضون على حياتهم وسلامتهم وأملاكهم. كذلك تتطلب عودة اللاجئين إجراءات مشابهة، يَأمنُ فيها اللاجئون على حياتهم ويَستعيدون من خلالها ممتلكاتهم وقدرتهم على العيش. لكن تنفيذ هذه الإجراءات يرفع من مستوى التهديد الذي تُواجهه سلطة النظام، لأنه يزيد من أعداد مناهضيه على أراضٍ يحكمها، وهكذا يَسعُنا أن نستنتج أنه ليس في وسع النظام أن يفعل اليوم ما يسمح بعودة آمنة للّاجئين، ولا ما يجعل سوريا بلداً لا يُهدد الاستقرار الإقليمي، سواء كان المقصود بتهديد الاستقرار استمرارَ الوجود العسكري الإيراني والتركي أو الاحتمال المستمر لحدوث معارك وموجات لجوء جديدة أو استمرار وجود جماعات مسلحة تشكل خطراً على استقرار دول إقليمية. لا سبيل إلى إنجاز كلّ ذلك سوى باتخاذ إجراءات جدّية في مسار التحوّل السياسي، وهو الأمر الذي خاض بشار الأسد كلّ هذه الحرب كي لا يفعله.

ثمة عواملُ أخرى تَحولُ دون أن يكون لمسار التطبيع العربي والإقليمي مع النظام السوري ثمارٌ ملموسة، لعلّ أبرزها الموقف الغربي الحازم المناهض للتطبيع حتى الآن، وهو موقفٌ مرتبطٌ بدوره بإدراك الدول الغربية أن بقاء النظام هو الذي يُهدّد الاستقرار الإقليمي ويجعل سوريا بلداً مُصدِّراً للّاجئين، وأن التطبيع معه لن يحلّ هاتين المشكلتين بل لعلّه قد يُفاقم منهما.

في مشهد سيكون كابوساً على بشار الأسد ومخابراته، يمكننا أن نتخيل عودة آمنة لجميع الراغبين بالعودة من أبناء وبنات المناطق التي ثارت على النظام. هذا لا يمكن أن يحدث دون أن يكون بدايةً لتحوّل سياسي في سوريا؛ بشار الأسد يعرف هذا جيداً، ويبدو أن الدول الغربية تعرفه، وسيكون الأمر غريباً جداً إذا كانت الدول العربية لا تعرفه. 

ليس لدينا مؤشرات تقول إن بشار الأسد بصدد السير في طريق أي تغيير سياسي، وعلى ذلك فإنه ليس في جعبته ما يُقدّمه للدول العربية اليوم، كما أنه ليس في وسع العرب أن يُقدّموا له الكثير في ظل العقوبات الأميركية المُشدّدة. على ذلك، فإن الأرجح أن الدول العربية لا تتوقع أشياء كثيرة من بشار الأسد، ولعلّه يكفيهم أن يكون حضوره بينهم «تصفيراً للمشاكل» على طريقتهم، حيث المشكلات تكون موجودة بالحديث عنها وتختفي بالتوقف عن الحديث عنها، وحيث يكون التقاط صورة تذكارية جماعية دليلاً رمزياً على ما يعتبرونه دفناً للربيع العربي وطيّاً لصفحته بكل ما فيها.

لن يبقى من قمة جَدّة سوى ذكرى واحدة فقط؛ صورة جماعية لطُغاة يحتضنون واحداً من أكبر مجرمي الحرب وتُجّار الكبتاغون في عالم اليوم.